هدی الطالب الی شرح المکاسب [انصاري] المجلد 1

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الجزائري المروج، السيد محمدجعفر، 1378 - 1288، شارح

عنوان واسم المؤلف: هدی الطالب الی شرح المکاسب [انصاري]/ تالیف السيد محمدجعفر الجزائري المروج

تفاصيل المنشور: بیروت: موسسة التاریخ العربي، 1416ق. = - 1375.

ISBN : 1250ریال(ج.1) ؛ 1250ریال(ج.1)

لسان : العربية.

ملحوظة : الإدراج على أساس معلومات الفيفا.

ملحوظة : ج. 5 (1421ق. = 1379)10000 ریال :(ج. )5ISBN 964-5594-43-x

ملحوظة : ج. 4 (چاپ اول: 1420ق. = 1378)27500 ریال :ISBN 964-5594-28-6

ملحوظة : کتابنامه

عنوان آخر: المکاسب. شرح

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1281 - 1214ق.، المکاسب -- نقد و تفسیر

موضوع : معاملات (فقه)

موضوع : فقه جعفري -- قرن ق 13

المعرف المضاف: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1281 - 1214، المکاسب. شرح

ترتيب الكونجرس: BP190/1/الف 8م 70213 1375

تصنيف ديوي: 297/372

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى

١٤٢٨ه_ - ٢٠٠٧م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

THE ARABIC HISTORY Publishing - Distributing

بيروت - لبنان - شارع دكاش - هاتف ٥٤٠٠٠٠ - ٥٤٤٤٤٠ - ٤٥٥٥٥٩ - فاكس 800717 - ص.ب. ١١/٧٩٥٧

Beyrouth - Liban - Rue Dakkache - Tel: 540000 - 544440-455559 - Fax: 850717 - p.o.box 7957/11

ص: 2

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

الحمد لله رب العالمين والصلاة و السلام على سيد الانبياء و المرسلين محمد و آله الطيبين الطاهرين سيما الامام المبين و غيات المضطر المستكين عجل الله تعالى فرجه الشريف،و اللعن على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين.

و بعد غير خفي على أهل العلم و الفضل أن كتاب «المتاجر» الذي صنفه فخر الطائفة. تاج الفقهاء و المجتهدين، علم العلم و التق، شيخنا المرتضى الأنصاري «نور الله مضجعه» من خير ما ألفه فقهاؤنا الأبرار في قسم المعاملات من الفقه الشريف، لما أودع فيه - بفكره الثاقب - آراء بديعة و أنظار دقيقة و تحقيقات شامخة جعلته محوراً للدراسات العليا في الحوزات من العلمية، و أقبل عليه جهابذة الفقه بالبحث و التدريس، و الشرح و التعليق. و قد كان من فضل الله عليّ أن وفقنى لشرح شطر وافٍ من هذا الكتاب الشريف أثناء اشتغالي ببحثه حينما كنت متشرفاً بجوار باب مدينة علم الرسول «صلى الله عليها و ألهما» و لم يتيسر نشره إلا في هذا الأوان، فأعدتُ النظر فيه - على ما أنا عليه من ضعف الحال و انحراف المزاج - و نهجت فيه منهج شرحي على الكفاية من الفصل بين توضيح المتن و التعليق عليه، عسى أن يكون عوناً لإخواني المحصلين في اتقان مطالبه و تفهم نكاته. و أسأله سبحانه و تعالى التوفيق لإتمامه، و أن يتقبل هذا الجهد بقبول حسن و أن يجعله خير الزاد ليوم المعاد.

قم المقدسة - 17 ربيع الأول 1416

محمد جعفر الموسوى الجزائرى المروج

ص: 3

لفت نظر

كان المأمول العثور على مصوّرة النسخة الأصلية من كتاب «المكاسب» ب-خط شيخنا الأعظم ليعول عليها في الشرح و لئلا يتكلف التلفيق بين الطبعات المختلفة. الا أنه لم يتيسر لنا - مع الأسف - ذلك رغم الفحص عنها، و السؤال ممن له خبرة بالمخطوطات. ولكن حصلنا - والحمد لله - على مصوّرة نسخة معتبرة، وهي المطبوعة عام 1286، و بهامشها تصحیحات بخط سيدنا الاستاذ العلامة الورع آية الله السيد علي النوري تغمده الله ب- ه برحمته، كان يعتمد عليها في التدريس، قائلاً: انها مصححة على نسخة المؤلف بواسطة واحدة أو بدونها - و التردد لبعد العهد - فاعتمدناها دون الطبعات الاخرى. هذا بالنسبة الى ما عدا الأخبار وكلمات

الأصحاب، و أما هما فقد راجعنا المصادر و نبهنا غالباً على موارد الاختلاف.

ص: 4

المقدمه

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه رب العالمين، و الصلاة و السلام على محمد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم إلى يوم الدين.

كتاب البيع (1)

اشارة

______________________________

(1) الذي هو من كتب ثاني الأقسام الأربعة المنقسم إليها الفقه الشريف، و لعلّ التعرض له دون غيره من سائر العقود المعاوضية لأجل كثرة الابتلاء به و دورانه بين الناس، و وقوع أكثر المعاوضات و المبادلات المالية به.

و كيف كان فلا بأس قبل الخوض في تعريف البيع بتقديم أمور:

الأوّل: أنّ العقد عبارة عن الربط الخاص الحاصل بين التزامين، مثلا إذا قال أحد المتعاقدين: «بعت كتابي بدينار» و قال الآخر: «قبلت» فهنا أمور ثلاثة:

أحدها: التزام كل منهما بمبادلة الكتاب بالدينار اعتبارا، و هذان الالتزامان قائمان بهما، و كلّ منهما أمر خارجي حقيقي يتعلق به الإرادة تارة و الكراهة أخرى، و يكون الالتزام الأوّل إحداثا، و الثاني إمضاء، نظير الإعطاء و الأخذ، و الإقباض و القبض، فالالتزام الثاني منفعل بالالتزام الأوّل، و الأوّل فاعل له. و هذا الربط الخاص بين الالتزامين يسمّى عقدا، فلو لم يكن هذا الربط الخاص بين التزامين كما إذا التزم أحدهما ببيع الكتاب بدينار، و التزم الآخر بشراء دفتر بدرهم لم يكن ذلك عقدا، لعدم الربط بينهما، بل كل منهما أجنبي عن صاحبه.

و بالجملة: فالعقد هو الربط الخاص المتحقق بين التزامين، لا الإيجاب و القبول، لأنّهما

ص: 5

..........

______________________________

موضوعان للعقد أي الربط، فإطلاق العقد عليهما مسامحة. و الوجه في هذا الإطلاق المسامحي هو قيام الربط بهما.

فملخص هذا الأمر: أنّ العقد حقيقة هو نفس الربط الحاصل بين الالتزامين لأنفسهما و إن أطلق عليهما مسامحة.

ثانيها: الأمر الاعتباري الذي هو إضافة محضة قائمة بالكتاب و الدينار، المعبّر عنه بمبادلة مال بمال، و لا وجود له في الخارج، و الالتزم- الذي هو الأمر الأوّل- يتعلق بهذه الإضافة، فكل من الالتزامين متعلق بها، فهذه الإضافة ملتزم بها، و هي الأمر المعهود به.

ثالثها: الصيغة الحاكية عن الإيجاب و القبول، فإنّ قوله: «بعت الكتاب بدينار» حاك بالمطابقة عن الأثر- أعني به الأمر الاعتباري- المترتب على البيع، و بالالتزام عن الالتزام النفساني، بقرينة وروده في مقام الإنشاء، و قول الآخر: «قبلت» حاك بالمطابقة عن الالتزام النفساني، و بالالتزام عن الأمر الاعتباري، فالقبول- من هذه الحيثية- عكس الإيجاب، إذ مدلول «بعت» مطابقة مدلول التزامي ل «قبلت» و بالعكس.

و قد ظهر مما بينّاه في هذا الأمر: أنّ البيع القابل للإنشاء بقوله: «بعت» هو الأمر الاعتباري أعني به المبادلة. و أمّا الالتزام النفساني فهو أمر حقيقي خارجي قائم بالنفس، نظير الطلب الحقيقي القائم بها غير القابل للإنشاء. و كذا الصيغة من الإيجاب و القبول، فإنّها أمر خارجي متصرّم الوجود. و عليه فمفهوم البيع هو الإضافة الاعتبارية المحضة أي المبادلة بين المالين، إذ هي القابلة للاعتبار و الإنشاء سواء قلنا بمقالة المشهور من كون الإنشاء- قولا أو فعلا- إيجادا للأمر الاعتباري، أم كونه إبرازا له كما اختاره بعض الأجلّة.

هذا ما يتعلق بأصل العقد من غير فرق بين اللازم و الجائز، و أمّا كونه مطلق العهد أو خصوص الموثّق منه فلا علاقة له بما ذكرناه، و سيأتي تحقيقه إن شاء اللّه تعالى.

الثاني: أنّ العقد الذي يتوقف على إنشاءين يكون على ثلاثة أقسام:

ص: 6

..........

______________________________

أوّلها: العقود الإذنية كعقد الوكالة، و تسمية هذا القسم بالعقد إنّما هي باصطلاح خاص، و هو اصطلاح الفقهاء، إذ العقد بالمعنى اللغوي و العرفي- كما أفيد- هو العهد المؤكد و الالتزام المشدّد، و هذا المعنى مفقود في العقود الإذنية، لأنّ حقيقتها الإذن و الرضا بالتصرف في ما له ولاية التصرف فيه، و ليس فيها إلزام و التزام. و لعلّ وجه التسمية بالعقد هو كونه مرتبطا بشخصين كارتباط العقد بهما.

و كيف كان فليس هذا عقدا حقيقة، فلا يشمله قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فعدم شمول «العقود» لهذا القسم يكون من باب التخصص، لا التخصيص حتى يلزم تخصيص الأكثر.

ثانيها: العقود العهدية التعليقية، و هي التي يكون المنشأ فيها معلّقا على شي ء ب «إن» و نحوها من أدوات التعليق، كالسبق و الرماية و الجعالة، بناء على كونها عقدا منوطا بالقبول و إن كان فعلا، و كالوصية التمليكية بناء على المشهور، فإنّ المنشأ فيها- أعني به الملكية- معلّق على موت الموصى. و على هذا فالعقود العهدية التعليقية عقود حقيقة، لما فيها من الإلزام و الالتزام المنوطين بشي ء يتوقّع حصوله.

ثالثها: العقود العهدية التنجيزية، و هي التي لا يكون المنشأ فيها معلّقا على شي ء، كالبيع و الإجارة و النكاح، فإنّ المنشأ في الأوّل- على المشهور- تمليك العين، و في الثاني تمليك المنفعة، و في الثالث التزويج، و لا تعليق فيما ينشأ في هذه العقود أصلا. و تنقسم العقود العهدية إلى معاوضية مالية و غير معاوضية، فالبيع عقد عهدي تنجيزي معاوضي مالي. و يمتاز عن سائر العقود المالية كالصلح و الهبة بما سيأتي في تعريفه قريبا إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: أنّ الأسباب المملّكة- الموجبة لحصول علقة الملكية بين المال و الشخص- تنحصر في ثلاثة أقسام، إذ السبب إمّا أن يكون قهريّا كالإرث، و إمّا أن يكون اختياريّا، و السبب الاختياري إما أن يكون من الأمور الاعتبارية الإنشائية كالبيع و الإجارة و الهبة، و إمّا أن يكون فعلا خارجيا كالحيازة و إحياء الموات، و لا ترتب بين هذه الأقسام، بل هي في

ص: 7

..........

______________________________

رتبة واحدة، و البيع من القسم الثاني، فإنّه من العقود المعاوضية المالية [1].

______________________________

[1] خلافا لما يظهر من المحقق الايرواني قدّس سرّه من إرجاع جميع النواقل إلى حيازة المباحات، و ترتب سائر الأسباب عليها، و قد أفاد ذلك في تعليقة مفصّلة لا بأس بالتعرض لجملة منها:

أوّلها: أنّ أمّ الأسباب المملّكة هي حيازة المباحات، و كلّ ما عداها من المعاملات الاختيارية و النواقل القهرية- كالإرث- متفرّع عليها وارد في موضوعها، لا أنّها أسباب في عرضها و رتبتها، فكلّ الأموال كانت أجنبية عن الأشخاص، و كانت نسبتها الى الكل نسبة واحدة، و بالحيازة صارت مرتبطة بالأشخاص، و وردت في سلطانها، و مملوكة لها، فالحيازة هي السبب الوحيد في حدوث الملك، و سائر النواقل تنتهي إليها و لو بوسائط، فإن ملكنا شيئا بالشراء فقد ملكناه بحيازتنا للثمن و لو بوسائط، و ان ملكنا شيئا بالهبة أو بالإرث فقد ملكناه بحيازة من انتقل عنه المال إلينا بما أنّ حيازته حيازتنا كما في الإرث، أو بتفويض منه حقّ حيازته إلينا كما في الهبة.

مثلا إذا حاز بالصيد طائرا، و باعه، فالمنتقل إلى المشتري- بحسب اللّب و الواقع- هو سلطنة الحائز، فكأنّ المشتري صار مالكا بالحيازة. هذا إذا لم تكن واسطة بين الحائز و المشتري، و كذا الحال مع فرض الواسطة، كما إذا مات الحائز و انتقل المال الى وارثه فباعه، فإنّ المشتري صار مالكا بالحيازة بواسطة قيام الوارث مقام مورّثه.

و على هذا لا ينبغي جعل الناقل القهري و المعاملات الاختيارية المملّكة في رتبة الحيازة، بل هما متأخران عنها و متفرّعان عليها.

ثانيها: أنّ الملكية كما تحصل بالحيازة تزول بالإعراض عن المال و صرف النظر عنه، فالحيازة و الإعراض متقابلان، كالنكاح و الطلاق بالنسبة إلى علقة الزوجية إيجادا و إعداما.

ص: 8

______________________________

و قد فصّل المحقق الايرواني الكلام في مسألة زوال الملك بالإعراض في رسالة «جمان السلك» المطبوعة مع حاشية المكاسب، فلاحظها.

ثالثها: أن المعاملات الموجبة لنقل الربط و تحويل السلطان من شخص الى آخر تنقسم إلى أقسام، لكون اختلاف بعضها مع بعض تارة في مجرّد العبارة و الألفاظ المنشئة بها، مع اتّحاد الواقع و الحقيقة، و اخرى بحسب المتعلّق، و ثالثة في كون بعضها لنقل ربط خاص، و بعضها لنقل ربط آخر.

أمّا القسم الأوّل- و هو الاختلاف في مجرّد العبارة مع وحدتها جوهرا و حقيقة- فكالبيع و الهبة و الصلح، فكل منها يقوم مقام الآخر، إذ كان المؤدّى واحدا، و الاختلاف في مجرد التعبير، فإذا أراد نقل كتابه إلى زيد بمبلغ كذا جاز له تأدية مقصوده بما يدلّ على كلّ واحد من هذه العقود، لاشتراكها في نقل الملك بالعوض.

نعم تختلف في أنّ الهبة تدل على نقل الملك بالمطابقة، سواء عبّر بها بلفظ التمليك أم الهبة، و البيع و الصلح يدلّان عليه بالكناية و الالتزام. أمّا البيع فلأنّ حقيقته تبديل طرف الإضافة، و لازم هذا التبديل الخاص نقل الملك. و أمّا الصلح فلأنّ حقيقته التسالم، فمعنى قوله: «صالحتك عن هذا بكذا هو: أنّي مسالمك غير منازعك في هذا، و لئن بسطت يدك لأخذ هذا ما أنا بباسط يدي إليك لأمنعك» و هذه العبارة إذا أتى بها في مقام التمليك أفادته بنحو أبلغ.

و على هذا فاختلاف ألفاظ العقود الثلاثة في تأدية نقل الملك بالعوض يكون بالصراحة و الظهور، نظير تأدية معنى واحد بعبارات متفاوتة، كقولك: «زيد جواد، و مهزول الفصيل، و كثير الرماد» إذ المراد الجدّي هو الإخبار عن كرم زيد و سخائه، و هو مدلول مطابقي للجملة الاولى، و كنائي للأخيرتين.

و مقتضى اتحاد البيع و أخويه حقيقة اشتراكها في الآثار و الشرائط، لكن اختلاف التعبيرات المؤدّية إليها صار منشأ لاختلاف الآثار. و لا غرو في ذلك، فإذا أنشأ إعطاء سلطانه

ص: 9

______________________________

لآخر بعوض بلسان التبديل بين الأصل و العوض كان بيعا، و جرى فيه خيار المجلس، و اعتبر فيه معلومية العوضين، و غير ذلك. و إذا أنشأه بلسان التصالح أو بنفس إعطاء السلطنة- لا بلسان آخر- لم يجر فيه أحكام البيع.

و أما القسم الثاني- و هو الاختلاف في المتعلق- فيمكن التنظير له بالبيع و الوديعة مثلا، لكون المقصود بالأوّل نقل الملك، و بالثاني الاستيمان في الحفظ.

و أما القسم الثالث- و هو كون بعض العقود لنقل ربط خاصّ غير ما ينقله الآخر- فكالبيع و الإجارة، فإنّ نقل المنفعة بالبيع و الهبة و الصلح و إن كان صحيحا، و لا يختص البيع بنقل الأعيان كما توهم، إلّا أنّ الفارق بين الإجارة و البيع هو عموم الثاني لنقل العين و المنفعة و الحق، و اختصاص الأوّل- إذا تعلق بالعين- بنقل المنفعة، فإذا أراد نقل رقبة الدار تعيّن التعبير بالبيع، و إذا أراد نقل سكناها تعيّن التعبير بلفظ الإجارة، فالإجارة شأنها نقل ربط خاص غير ما هو شأن البيع، فصحّ أنّ الفرق بين الإجارة و البيع معنوي، لا في مجرد العبارة كما في الفرق بين البيع و أخواته» «1». هذا محصل جملة مما أفاده قدّس سرّه في المطالب الثلاثة، و تركنا جملة أخرى من إفاداته خوفا من الإطالة.

لكن في كلماته قدّس سرّه مواقع للنظر ينبغي ذكر بعضها:

فمنها: ما أفاده في المطلب الأوّل من انتهاء جميع النواقل إلى حيازة المباحات، و وافقه بعض الأجلة كالسيد المحقق الخويي قدّس سرّه على ما في تقرير بحثه الشريف «2».

إذ فيه: أنّ الظاهر عدم انتهاء النواقل إلى الحيازة خاصة، لاختصاص مملكية الحيازة بالمنقول، مثل ما يحاز بالاحتطاب، أو بالصيد أو بالغوص، و أمّا غير المنقول- كالأرض- فالظاهر توقف ملكيتها على الإحياء، و عدم كفاية التحجير و إن أوجب حقّا. بل لا يتمّ ذلك

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 71، لاحظ رسالة «جمان السلك في أحكام الملك» ص 216

(2) مصباح الفقاهة، ج 2، ص 5 الى 7، مستند العروة الوثقى، كتاب الإجارة، ص 358

ص: 10

______________________________

حتى في المنقول كلّيّة، كما في بيع الحرّ عمله للغير، لتصريح المحقق الايرواني قدّس سرّه بجوازه، لكونه من شؤون سلطنته على نفسه، و لا معنى لمالكيّته بالحيازة. و كذا في تملك غنائم الحرب، و استرقاق العبيد و الإماء، لأجنبية ذلك كلّه عن الحيازة المصطلحة.

هذا إذا كان المقصود من كون الحيازة أمّ الأسباب هو الملكيّات المتعارفة بين العقلاء.

و لو كان مقصوده قدّس سرّه إنهاء جميع النواقل إليها حتى ما ليس متداولا فعلا كان أوضح منعا، فإنّ مالكية النبي و الامام «صلى اللّه عليهما و آلهما» للأنفال- كرؤوس الجبال و المعادن و الأرض الميتة التي لا ربّ لها- بالملكية الاعتبارية ابتدائية بتفضّله تعالى، و غير مسبوقة بحيازة و لا بسبب آخر، و من المعلوم أنّ الملكيات المتأخرة بهبة الإمام عليه السّلام و بيعه و وقفه و تحليله لا تنتهي إلى الحيازة التي جعلها المحقق الإيرواني قدّس سرّه أمّ الأسباب المملّكة.

و لو سلّم انتهاء جميع النواقل إلى الحيازة لم يكن ذلك مصحّحا لقيام المنتقل إليه مقام الحائز، على ما صرّح به في آخر كلامه بقوله: «فان ملكنا شيئا بالشراء فقد ملكناه بحيازتنا للثمن و لو بوسائط، أو ملكنا شيئا بالهبة أو بالإرث فقد ملكناه بحيازة من انتقل المال منه إلينا بما أنّ حيازته حيازتنا ..» و ذلك لتوقف مملّكية الحيازة التي هي فعل اختياري على التصدي لها مباشرة أو تسبيبا بالاستنابة. و أمّا مجرّد الشراء من الحائز الفاقد لكل من المباشرة، و التسبيب فلا يوجب صدق الحيازة عليه قطعا خصوصا مع كثرة الوسائط.

و منها: ما أفاده في المطلب الثاني من تقابل الحيازة و الإعراض. إذ فيه: عدم كون الإعراض بنفسه مزيلا لعلقة الملكية الحادثة بالحيازة، و ليس كالطلاق الرافع لعلقة الزوجية الحادثة بالنكاح، بل الظاهر كون الاعراض رافعا للمانع عن تملك الغير بالأخذ و وضع اليد على ما أعرض عنه مالكه، فلو لم يأخذه الغير كان باقيا على ملك المعرض، لوضوح توقف زوال الملك- كإحداثه- على الجعل الشرعي و لو بإمضاء سيرة العقلاء الحاكمة بإباحة تملك الغير لا بزوال ملك المعرض بمجرد الإعراض.

ص: 11

______________________________

و لو شك في ذلك كان مقتضى إطلاق دليل السبب المملّك- أحواليا و أزمانيا- بقاء سلطنة المعرض إلّا ما أخرجه الدليل، و من المعلوم أنّ المتيقن من السيرة في باب الإعراض هو رفع المانع عن تملك الغير، لا كونه بنفسه مزيلا للعلقة و الربط.

و لو فرض كون دليل السبب المملّك لبيّا لا لفظيا حتى تجري المقدمات فيه كان مقتضى استصحاب الملكية بقاءها و عدم زوالها بالإعراض.

و منها: ما أفاده قدّس سرّه في المطلب الثالث من اشتراك البيع و الصلح و الهبة المعوضة في جامع التمليك بالعوض، و افتراقها في مجرد التعبير. و هو كما ترى غير متضح المراد، فان كان مقصوده اتحاد النتائج المترتبة على كلّ منها- و إن تعددت المنشئات حقيقة- كان متينا، إذ لا ريب في حصول هذا النقل الخاص- أعني به نقل الملك بعوض- سواء أنشئ بعنوان البيع أم الهبة أم الصلح. و لا ينافيه اختلاف الآثار و الأحكام بتبع اختلاف المضمون المؤدّي إلى ذلك النقل الخاص.

و إن كان مقصوده قدّس سرّه وحدة هذه العناوين الثلاثة ماهية و حقيقة- فضلا عن اتحاد نتائجها- و كون الاختلاف بينها في مجرّد العبارة كما ربما يستفاد من تنظيرها في إفادة التمليك بعوض بباب الحقيقة و الكناية فهو غير ظاهر، لوضوح مغايرة البيع و الصلح و الهبة مفهوما، فالبيع في حدّ ذاته متقوّم بالمبادلة بين مالين كما سيأتي نقله عن المصباح و مصطلح الفقهاء.

و الهبة هي العطية الخالية عن الأعواض و الأغراض كما في عدة من كتب اللغة، فالمجّانيّة مأخوذة في حقيقتها، و لذا كان العوض- في الهبة المعوضة- في قبال الفعل لا العين، و لازم ذلك صدق العنوان حتى مع تخلّف الموهوب له عن الوفاء بالشرط. فيستند استحقاق ردّ العين الى تخلف الشرط، لا الى انتفاء العنوان. و هذا بخلاف المبادلة في باب البيع، فإنّه لولا العوضان لم يصدق العنوان قطعا.

و أما الصلح فمفهومه- كما قالوا- التراضي و التسالم بين المتنازعين، و هو عقد شرّع

ص: 12

______________________________

لقطع المنازعة، فالمنشأ فيه هو التسالم على مبادلة مالين أو على أمر آخر، و لا ربط له بنفس المبادلة.

و الحاصل: أن البيع و الهبة و الصلح أمور اعتبارية متمايزة حقيقة، و لذا يعتبر في تحقق كل منها في وعاء الاعتبار إنشاؤه بما يصلح عرفا للدلالة عليه صراحة أو ظهورا و لو بمعونة القرينة. و لعلّ اختلاف حقائقها منشأ اختلاف أحكامها كاشتراط الهبة بالقبض، و اختصاص البيع بخيار المجلس و نحوه، و من المعلوم أجنبية هذا المعنى عن إفادة مقصود وحداني بالمطابقة تارة و باللزوم أخرى، كما في الإخبار عن جود زيد بعبارات متفاوتة صراحة و ظهورا.

و وجه الفرق كون المخبر به في المعاني الكنائية واحدا حقيقة، بحيث يكون مدار صدق الخبر و كذبه هو نفس المخبر به كالجود، لا هزال الفصيل و لا كثرة الرماد، و هذا أجنبي عن التمليك المشترك بين البيع و أخويه.

و منها: ما أفاده من تعلق البيع و الهبة و الصلح بكل من العين و المنفعة و الحق. إذ فيه:

أنّه مخالف للمشهور- بل لما تسالموا عليه- من اعتبار كون المعوّض عينا، و إن أصرّ هذا المحقق قدّس سرّه على الأعمية و ادعى القطع بها.

و منها: ما أفاده من «أنّ النسبة بين البيع و الإجارة العموم المطلق، لكون البيع ناقلا للعين و المنفعة، و الإجارة للمنفعة خاصة» و هو لا يخلو من تهافت لكلامه الآتي بعد أسطر من: أنه لو أراد نقل العين تعيّن الإنشاء بعنوان البيع، و لو أراد تمليك المنفعة تعيّن الإنشاء بعنوان الإجارة.

و وجه التنافي ظاهر، إذ بناء على صدق البيع على نقل متعلق السلطان- عينا كان أو منفعة أو حقّا- بعوض لا وجه لتعين نقل المنفعة بعنوان الإجارة، لاقتضاء هذا التعيّن عدم أعمية البيع و اختصاصه بنقل الأعيان.

هذا بعض ما يتعلق بكلام المحقق الايرواني قدّس سرّه و إن أمكن التأمل في بعض آخر من

ص: 13

[تعريف البيع لغة]

و هو (1) في

______________________________

(1) هذا الضمير راجع إلى البيع في قوله: «كتاب البيع» و ليس المراد به فعل البائع.

توضيحه: أن «البيع» يطلق على معان ثلاثة:

الأوّل: فعل البائع- و هو باذل السلعة غالبا- سواء كان بالإنشاء القولي مثل «بعت الكتاب بدينار» أم الفعلي بإعطاء المثمن و أخذ الثمن. و البيع بهذا المعنى يقابل الشراء الذي هو فعل المشتري القابل. و إطلاق البيع على إنشاء الموجب شائع، بل هو المتبادر منه.

الثاني: فعل القابل، و هو معنى حقيقي للبيع أيضا، لكونه من الأضداد كما صرّح به ابن منظور «1» و غيره. و استشهد على إرادة الشراء من البيع بما رواه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، و لا يبع على بيع أخيه، قال أبو عبيد: كان أبو عبيدة و أبو زيد و غيرهما من أهل العلم يقولون: إنما النهي في قوله: لا يبع على بيع أخيه إنّما هو لا يشتري على شراء أخيه، فإنّما وقع النهي على المشتري لا على البائع .. إلخ» «2».

الثالث: المعاملة البيعية المعدودة من العقود المعاوضية، و هي في قبال سائر المعاملات من الصلح و الإجارة. و هذا المعنى شائع في الأدلة و في الكتب الفقهية، و هو المراد في قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و وَ ذَرُوا الْبَيْعَ و في قوله عليه السّلام في دليل خيار المجلس: «وجب البيع» و في قول الفقهاء: «كتاب البيع، أحكام البيع» و نحوها.

و الظاهر أن مقصود المصنف من التعرض لكلام المصباح هو بيان معنى المعاملة البيعية المقابلة لسائر المعاملات كالإجارة و الهبة و الصلح، فلذا يكون المناسب إرجاع ضمير «هو» الى البيع بهذا المعنى، لا بمعنى فعل البائع أو المشتري.

______________________________

إفاداته كجعل مآل عقد النكاح و المزارعة و المساقاة إلى الإجارة، و جعل القرض هبة و استئمانا، فراجع كلامه بتمامه زيد في علوّ مقامه.

______________________________

(1) لسان العرب، ج 8، ص 23

(2) لسان العرب، ج 8، ص 23

ص: 14

الأصل كما عن المصباح (1)

______________________________

تعريف البيع لغة

(1) قال في المصباح: «و الأصل في البيع مبادلة مال بمال، لقولهم: بيع رابح و بيع خاسر، و ذلك حقيقة في وصف الأعيان، لكنه أطلق على العقد مجازا، لأنّه سبب التمليك و التملك، و قولهم: صح البيع أو بطل و نحوه: أي صيغة البيع، لكن لمّا حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه- و هو مذكّر- أسند الفعل إليه بلفظ التذكير» «1».

و يستفاد من كلامه: أن كلمة «البيع» تطلق على أمرين، أحدهما حقيقي، و هو المبادلة بين المالين، و ثانيهما مجازي، و هو العقد المؤلّف من الإيجاب و القبول، من باب إطلاق اللفظ الموضوع للمسبّب على سببه. و على هذا فالمراد بالأصل بقرينة قوله: «أطلق على العقد مجازا» هو المعنى اللغوي الحقيقي الذي كان متداولا في الأيام السالفة بين عامّة الناس. و لعلّ الوجه في التنبيه على مجازية إطلاقه على العقد هو شيوع هذا الإطلاق بحيث ربما يتوهم كون البيع مشتركا بين المبادلة و العقد، أو كونه منقولا عن المعنى الأوّل إلى الثاني [1].

______________________________

[1] و قد يقال: بإمكان إرادة معنى آخر من الأصل «و هو ما كان متعارفا في الأيام السالفة من كون البيع عبارة عن مطلق المبادلة بين الأموال، بديهة أنّه لو كان غرض الفيّومي من هذه الكلمة هو اللغة لوجب أن يصدّر كلامه بلفظ الأصل عند شرح كل مادة ترد عليه. و قد وقع التصريح بما ذكرناه في لسان العرب و مجمع البحرين في مادة المال» «2».

لكن قد يشكل بأنّ كون البيع في الأيام السالفة عبارة عن مطلق المبادلة بين المالين لا ينافي إرادة الموضوع له من «الأصل» بعد مقابلته للمعنى المجازي بقوله: «ثمّ أطلق على العقد مجازا» لصلاحية هذه المقابلة للقرينية على إرادة المعنى بحسب الوضع الأوّلي من كلمة

______________________________

(1): المصباح المنير، ج 1، ص 69

(2) مصباح الفقاهة، ج 2، ص 10

ص: 15

______________________________

«الأصل» بناء على تسليم كون اللغوي من أهل الخبرة بالأوضاع لا بمجرد موارد الاستعمال، كما هو غير بعيد بالنسبة إلى أئمة اللغة الّذين كان دأبهم استكشاف معاني الألفاظ من تتبع موارد الاستعمال و استعلامها من محاورات أهل البوادي و القرى بلا إعمال نظر من أنفسهم حتى يكون إخبارهم حدسيّا.

و أمّا الاستشهاد بما في لسان العرب و المجمع فلم يظهر صراحة كلاميهما في أنّ المراد بالأصل هو المعنى المتعارف في الأيام السالفة- لا المعنى الحقيقي اللغوي- قال في اللسان:

«قال ابن الأثير: المال في الأصل: ما يملك من الذهب و الفضة، ثم أطلق على كل ما يقتني و يملك من الأعيان، و أكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل، لأنها كانت أكثر أموالهم» «1». إذ المذكور في هذه العبارة معان ثلاثة للمال، أحدها الذهب و الفضة، ثانيها كل عين متمولة. ثالثها الإبل. و حيث إن إطلاق المال على الأخيرين حدث في عصر متأخر بمقتضى قوله: «ثم أطلق» كان مقصوده من الأصل هو المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ أوّلا، ثم نقل الى وضع تعيني ثانيا و هو مطلق الأعيان المتموّلة.

و على هذا فلا يبعد أن يراد بالأصل في كلام المصباح و اللسان معنى واحد، و هو الموضوع له، و النكتة في تصدير الكلام بالأصل هو التنبيه على أنّ الموضوع له أوّلا مغاير لما يستعمل فيه اللفظ في عهد متأخر، و أنّ هذا المعنى الحادث إمّا مجاز بعلاقة السببية و المسببية كما في استعمال البيع في العقد، و إمّا حقيقي أيضا من باب النقل أو الاشتراك كما في إطلاق المال على كل عين متمولة. فلو لم يكن للفظ معان متعددة لم يكن وجه لتصدير المعنى بالأصل، كما لم نظفر بذلك في موارد وحدة المعنى. نعم عبارة المصباح لا تخلو من مسامحة سيأتي بيانها ان شاء اللّه تعالى.

______________________________

(1): لسان العرب، ج 11، ص 636

ص: 16

«مبادلة (1) مال بمال» (2).

______________________________

(1) فالبيع اسم للمبادلة التي هي الملتزم بها، لا للعقد الذي هو نفس الالتزامين المرتبطين، و من المعلوم مغايرة الالتزام للملتزم به، لكون الثاني نتيجة للأوّل، فإطلاق البيع على العقد مجاز بعلاقة التسبيب، كما تقدم في كلام المصباح بقوله: «ثم أطلق على العقد مجازا».

(2) قد تقدم آنفا كلام ابن الأثير في معنى المال، و نحوه عبارة مجمع البحرين، لكن فسّره في القاموس بأنّ «المال ما ملكته من كلّ شي ء» «1» و يحتمل التعميم لغير الأعيان، من المنافع و الحقوق، فيكون مخالفا لمن خصّه بالأعيان، كما يحتمل إرادة عدم اختصاص المال بالذهب و الفضة، و شموله لكل عين متموّلة، بلا نظر إلى إطلاقه على المنافع، و على هذا الاحتمال الثاني لا يختلف معنى «المال» بحسب اللغة، لكون «الأعيان» هي القدر المتيقن من «المال».

ثم إنّ مقتضى الجمود على تعريف المصباح اعتبار عينية كلا العوضين في صدق مفهوم البيع.

لكن الظاهر إطلاق المال على ما هو أعم من الأعيان، و صدقه على المنافع أيضا. و لو لم يكن المال حقيقة في الأعم فلا أقل من استقرار اصطلاح الفقهاء عليه، كما يظهر بمراجعة كلماتهم، و لذا حكم المصنف قدّس سرّه بجواز وقوع المنافع عوضا في البيع، و هو كاشف عن إطلاق المال عليها حقيقة كإطلاقه على الأعيان المتمولة. و كذا لا ريب في كون الإجارة من نواقل الملك، مع أنّ العوضين أو أحدهما من المنافع.

نعم تفترق الإجارة عن البيع من جهة المتعلق، فالبيع تمليك عين بعوض، و الإجارة تمليك منفعة كذلك. و سيأتي في المتن اعتبار عينية المبيع [1].

______________________________

[1] بقيت أمور تتعلق بتعريف المصباح:

الأوّل: أنّ المبادلة بين المالين قد تكون خارجية بحسب المكان و الزمان و نحوهما كجعل شي ء مكان آخر كتبديل ثوب برداء، و قد تكون اعتبارية. و لما كان البيع من نواقل الملك تعيّن إرادة المبادلة الاعتبارية في الإضافة القائمة بالمالين، لما أفيد من أنّها من سنخ

______________________________

(1): القاموس المحيط، ج 4، ص 52

ص: 17

______________________________

المعاني التي لا استقلال لها في التحصّل، بل لا بدّ أن تكون بلحاظ أمر كالحكومة و الرئاسة و الملكية، و حيث كانت مضافة هنا إلى المال- بما هو مال- علم منها إرادة التبديل المعاملي، و التسبب الى جعل شي ء مكان شي ء في الملكية أو الحقيّة أو المصرفية، و إن كان أظهر خواص البيع التمليك كما لا يخفى.

ثم إنّه بناء على كون الملكية إضافة اعتبارية، تتحقّق أمور ثلاثة، الأوّل: المضاف إليه، و هو المالك، الثاني: المضاف و هو المال، الثالث: نفس النسبة الخاصة و الإضافة المتحققة بين المالك و المملوك، المعبّر عنها بالملكية.

البيع تبديل الإضافة و طرفها و لا ريب في اقتضاء البيع- و سائر النواقل- التبديل في المضاف أعني به المالين المملوكين، فكلّ من المتعاملين يخلع يده عن ماله و يحلّ ربطه به و يشدّها بعوضه، إنما الكلام في أنّ البيع هل يقتضي بدليّة إحدى الإضافتين عن الأخرى بعد الفراغ عن اقتضائه بدليّة المضاف، أم يؤثّر في بدليّة المضاف خاصة و بقاء الإضافة على حالها؟ ذهب شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدّس سرّه إلى الثاني، و لأجله فسّر تعريف البيع «بالمبادلة بين مالين» بأنّه: تبديل أحد طرفي الإضافة بطرف إضافة أخرى، لا نفس تبديل إضافة بإضافة أخرى.

و محصل كلامه قدّس سرّه: أنّ التبديل إمّا أن يكون بين المالكين أو بين المملوكين، و لا معنى للتبديل بين الملكيتين، فالملكية الاعتبارية تكون كالخيط الذي أحد طرفيه بيد المالك، و طرفه الآخر بالمملوك، ففي باب الإرث يحلّ الربط الملكي عن المورّث و يشدّ بالوارث مع بقاء الربط و المال على حاليهما، و لذا لو كان المال متعلق حق الغير انتقل الى الوارث كذلك.

و في العقود المعاوضية- و كذا الخالية عن العوض كالهبة- يحدث التغيير في الطرف الآخر و هو المملوك، فيحلّ ربط المالك عن ماله و يشدّ بالعوض، و لا يحدث تغيير في المالكين و لا الملكيتين. و هذا هو المقصود من اقتضاء البيع بدلية أحد المضافين عن الآخر،

ص: 18

______________________________

لا بدلية إحدى الملكيتين عن الأخرى.

و يدل عليه أمران، أحدهما: أنّ نفوذ تصرف المالك في ماله بالتصرفات المشروعة يستند إلى قاعدة السلطنة، و من المعلوم أنّ المجعول هو السلطنة على الأموال لا على الملكية الاعتبارية الكائنة بين الملّاك و أموالهم، فلو اقتضى البيع تبديل ملكية بملكية أخرى- لا تبديل مملوك بمثله- لزم إثبات سلطنة المالك على ملكيته، و الملكية هي السلطنة على أنحاء التصرفات في المال، و لا معنى للسلطنة على السلطنة، لما عرفت من أنّ موضوع مثل «الناس مسلطون على أموالهم» هو الأموال لا الأحكام. و لعلّه لهذا يقال بعدم زوال الملكية بالإعراض، إذ لا دليل على ثبوت سلطنة المالك على إزالة ملكيته عن ملكه، و لذا لم يبن الجلّ لو لا الكل على مشرّعية قاعدة السلطنة.

ثانيهما: أنّ الوجدان حاكم بأن فعل المتبايعين نقل الأموال، لا نقل الملكية القائمة بها، فالبائع يعطي المثمن، لا أنه يعطي واجديّته له، و المشتري أيضا يعطي الثمن لا واجديته له.

و كذا الحال في الهبة الخالية عن العوض، فإنّ الواهب ينقل ماله الى المتّهب في عالم الاعتبار، و لازمه انعدام الإضافة الاعتبارية، و حدوث إضافة أخرى بين المتهب و العين الموهوبة، لا أنّ فعل الواهب- ابتداء- نقل إضافته إلى المتهب. هذا محصل ما أفاده مقرر بحثه الشريف «1».

و الإيراد عليه بالنقص «تارة ببيع الكلي الذي لا ريب في صحته مع أنّه لا نقل فيه من طرف إضافة البائع إلى طرف إضافة أخرى، لعدم كونه مملوكا له. و اخرى ببيع آلات المسجد بالغلّة الموقوفة عليه، لعدم خروج شي ء عن طرف إضافة ملكية الى طرف إضافة ملكية اخرى» لعلّه نشأ من عدم ملاحظة تمام كلامه، و أنّ تعريف البيع بتبديل طرفي الإضافة مخصوص بالبيوع المتعارفة بين الملّاك، و مورده الأعيان الخارجية، فموردا النقض خارجان عن حدّ التعريف المتقدم. أمّا بيع الكلّي فقد قال فيه المحقق النائيني: «ليس المعتبر في البيع إلّا كون

______________________________

(1): المكاسب و البيع للعلّامة الحجة الشيخ الآملي، ج 1، ص 86، 87

ص: 19

______________________________

المبيع منتقلا عن البائع إلى المشتري، و هو حاصل بالبيع، و لا يكون لاعتبار الأزيد منه دليل حتى يكون الالتزام به موجبا للإشكال» «1». نعم في تملك البائع للكلي بنفس البيع أو قبله آنا ما كلام لعلّه سيأتي التعرض له في اعتبار عينية المبيع.

و أمّا بيع وليّ الموقوفة فقد أفاد في حلّه بقوله: «إنّ الملكية المعتبرة في البيع عبارة عن السلطنة على البيع، و لذا يصح بيع الولي لماله الولاية على بيعه، مع أنه ليس ملكا له، و المراد بالملك في قوله:- لا بيع إلّا في ملك- هو السلطنة على البيع ..» «2».

نعم يشكل المساعدة على جملة ممّا أفاده الميرزا قدّس سرّه.

منها: «جعل البيع تبديل طرفي الإضافتين، على خلاف باب الإرث الذي يتبدل فيه المضاف إليه بمضاف إليه آخر، مع بقاء نفس الإضافة و المضاف و هو المال على حاليهما، فالبائع يحلّ ربطه بالمثمن و يعقده بالثمن». و وجه الاشكال فيه: أنّ القابل للنقل و إن كان هو المضاف لا الإضافة القائمة به، إلّا أنها تزول قطعا بزوال أحد طرفيها، إذ الإضافات تتشخّص بأطرافها، فحلّ الإضافة من طرف المملوك- و هو المبيع- مع بقائها في طرف المالك- أعني به البائع- محال، ضرورة امتناع بقاء الإضافة المتقومة بطرفين بعد ارتفاع أحدهما، فإذا خرج المبيع عن ملك البائع فلا محالة تزول الإضافة عن البائع أيضا، لتقوّمها به و بالمبيع، فتحدث إضافة أخرى قائمة بالبائع و بالثمن. و كذا الحال في المشتري. و ذلك لتضايف المالكية و المملوكية، و هما متكافئتان في القوة و الفعل. فكما لا يعقل بقاء المملوك بلا مالك- و لو كان كليّا، كما في مالكية السادة للخمس، و الفقراء للزكاة- فكذا لا يعقل بقاء المالك بلا مملوك، فكيف تبقى إضافة المالكية للبائع بعد زوال إضافة المملوكية عن المبيع؟ و عليه فلا بد من الالتزام بتبدل نفس الإضافة القائمة بالبائع و المبيع أيضا، و حدوث إضافة مثلها قائمة بالبائع و الثمن.

و منه يظهر حكم باب الإرث، لاستحالة بقاء المملوكية و الملكية مع انخلاع يد

______________________________

(1) المكاسب و البيع، ج 1، ص 89

(2) المكاسب و البيع، ج 1، ص 89

ص: 20

______________________________

المورّث و قيام الوارث مقامه، فلا بد من حدوث إضافة جديدة أيضا بين الوارث و مال المورّث.

و منها: «الاستدلال على مدّعاه بقاعدة السلطنة و كون الملكية هي السلطنة».

و وجه غموضه أوّلا: منع كون الملك سلطنة، بل هي من لوازمه و آثاره، كما تثبت في غير الملك أيضا على ما سيأتي ان شاء اللّه تعالى في بحث الحقوق من افتراق أحدهما عن الآخر كما في ملك الصبي المحجور عن التصرف في ماله، و سلطنة ولي الموقوفة على التصرف الناقل عند طروء المسوّغ. و كذا عدّ الماتن قدّس سرّه بعض الحقوق سلطنة، مع اختلاف إضافتي الملكية و الحقيّة سنخا. و الاستشهاد بحديث السلطنة غير ظاهر، إذ لو كانت الملكية هي السلطنة- كما تكرر في كلماته- كان الحديث مسوقا لتوضيح الواضح أعنى به «الناس مالكون لأموالهم». و هو مما يأباه الذوق السليم. مضافا الى عدم التزامهم به كما سيأتي تفصيله في أدلة مملكية المعاطاة إن شاء اللّه تعالى. فالصحيح أنّ السلطنة من أحكام الملك لا نفسه، لأنّ المسلّط عليه ليست المباحات الأصليّة، بل بقرينة إضافتها إلى الملّاك هي الأموال المملوكة لهم، فالمقصود كون المالك سلطانا على أنحاء التصرفات المشروعة في ماله و لو بإخراجه عن الملك ببيع أو هبة أو إعراض.

و ثانيا: أنّ المحذور الذي ألجأ هذا المحقق الى جعل البيع تبديل طرفي الإضافة- لعدم سلطنة الناس على الملكية التي هي السلطنة، بل متعلقها الأموال- يترتب على كلامه أيضا، و ذلك لأنّ مقتضى تفسير الملكية بالسلطنة إثبات طرفيها و هما السلطان و المسلّط عليه أي المالك و المملوك، فخلع المال عن طرفية السلطنة تصرّف في موضوعها، و المفروض أن الناس مسلّطون على أموالهم لا على سلطانهم، فلا يتكفل الحديث التصرّف في نفس السلطنة القائمة بطرفين، و المفروض ارتكاب التصرف قهرا بإخراج المسلّط عليه عن طرفية السلطنة، و لازمه كما مرّ آنفا انتفاء أصل السلطنة، مع أنّ إعدام السلطنة ليس مدلول الحديث كما اعترف به.

ص: 21

______________________________

و منها: تفسير الملكية تارة بالجدة كما في قوله: «فالبائع يعطي المثمن لا واجديته له» و اخرى بالإضافة مكرّرا. و التنافي بين الجدة الاعتبارية و الإضافة الاعتبارية واضح، فإمّا أن تكون الملكية اعتبار مقولة الجدة تنزيلا لها منزلة الملكية الحقيقية المفسّرة في كلمات بعضهم بالجدة و ب «له»، و إمّا تكون اعتبار مقولة الإضافة كما مال إليها بعض المحققين قدّس سرّه.

و قد تحصّل: أنّ البيع يفيد بدلية المضاف و المضاف إليه و الإضافة، لما عرفت من أنّ الملكية- و نحوها- من البسائط المتقومة بطرفيها، و يستحيل تبدل الطرف و بقاء الإضافة. و الأمور الاعتبارية و ان افترقت عن المقولات و الحقائق المتأصلة، إلّا أنّها مشاركة لها في جملة من الأحكام كما لا يخفى، و لا فرق في استحالة بقاء الإضافة بدون المضاف بين المقولية و الاعتبارية.

المبادلة بين المالين تحصل بإنشاء البائع الأمر الثاني: أن المبادلة- التي هي البيع حقيقة- هل تتحقق بفعل البائع أم تتوقف على فعل المشتري أيضا؟ الظاهر ذلك، لأنّ ما ينشؤه البائع هو المبادلة، غاية الأمر أن تأثير إنشائه منوط بقبول المشتري.

و بعبارة أخرى: جعل كلّ من المالين قائما مقام الآخر و تلوّن كل منهما بلون الآخر يتحقق بإيجاب البائع، لأنّ تبديل المبيع بالثمن يستلزم العكس، لكون البدلية من المتضايفات، فصيرورة المبيع بدلا توجب بدليّة الثمن أيضا عن المبيع، فإنشاء البائع يوجب اتصاف كل من المالين بالبدلية. لكن تعارف التعبير عن أحدهما بالمعوّض و عن الآخر بالعوض، من جهة أنّ الملحوظ في إنشاء البيع- غالبا- مبدلية المبيع و أصالته، و بدليّة الثمن عنه، كما يدلّ عليه دخول الباء في الثمن في قول البائع: بعتك هذا بدينار مثلا.

و الحاصل: أنّ عنوان المبادلة و المعاوضة يقتضي اتصاف كل منهما بالبدلية. فباب المعاوضة يكون نظير الأبدال العرضية، كخصال الكفارة المخيّرة، لا الأبدال الطولية كالكفارة

ص: 22

______________________________

المترتبة، و الأبدال الاضطرارية كالصلوات العذرية، فإنّها و إن اتصفت بالبدلية، لكن لا تتصف مبدلاتها- و هي الصلوات الاختيارية- بالبدلية، لأنّها واجبات أوّليّة، و ليست هي أبدالا عن الصلوات الاضطرارية التي هي واجبات ثانوية كما لا يخفى.

لا يختص المبادلة في البيع بالإضافة الملكية الأمر الثالث: قد ظهر أنّ المبادلة البيعية تكون في الإضافة المالكية غالبا، و هل يتوقف صدق مفهوم البيع على هذه المبادلة الخاصة بحيث لولاها لم يكن المنشأ بيعا بل معاملة أخرى، أم أنها غير دخيلة في تحقق العنوان؟ الظاهر عدم اعتبار وقوع المبادلة في خصوص إضافة الملكية، لصدق مفهوم البيع على نقل الأعيان الموقوفة العامة بعوض- عند طروء المسوّغ لبيعها- لعدم كون الوقف العام ملكا لأحد، و المتولي الخاص أو الحاكم الشرعي و إن كان سلطانا على البيع، إلّا أنه لا مالك في البين. و كذا في بيع الحاكم الأجناس الزكوية أو حق الامام عليه السّلام، أو اشترى به شيئا- بناء على عدم صيرورته ملكا لأحد، بل جعل لمصرف خاص، فالمبادلة تكون بين إضافة مصرفية من طرف، و إضافة ملكية أو غيرها من طرف آخر.

و عليه فأخذ التمليك في حدّ البيع منزّل على الغالب، و ليس لحصر المفهوم فيه.

اعتبار مالية العوضين و كيف كان فهل يعتبر مالية العوضين في صدق البيع عرفا أم لا؟ و على الأوّل فهل اللازم الاتصاف بها قبل إنشاء المعاملة أم يصح البيع و لو صار مالا بنفس البيع كما هو مبنى التشكيك في مالية عمل الحر قبل المعاوضة عليه، و عدم وقوعه ثمنا في البيع أم تكفي ماليته مطلقا؟ الظاهر اعتبار مالية العوضين و إن كان الاتصاف بها بعد البيع، لصدق المبادلة بين مال و مال، فليتأمل.

و أمّا إنكار أصل المالية بدعوى: «أن المدار على صدق المعاوضة بين شيئين سواء أ كانا

ص: 23

______________________________

مالا عند العقلاء أم لا كالحشرات، فإذا لم يكن المبيع مما يرغب فيه النوع الذي هو المناط في مالية الأشياء لا الرغبات الشخصية و اشتراه بأغلى الثمن صدق عليه مفهوم البيع. كما إذا اشترى أحد تصوير جدّه أو خطّه لرغبته في حفظه، و لم يكن بنظر العقلاء يساوي فلسا صحّ شراؤه.

و المعاملة و إن كانت سفهية، إلّا أنّه لا دليل على بطلانها، بعد ما شملتها أدلة الإمضاء، و الفاسد شرعا معاملة السفيه من جهة الحجر لا المعاملة السفهية. و عليه فأخذ المال في تعريف المصباح مبني على المسامحة، إذ لا تعتبر المالية فيه عرفا و شرعا، و لو سلّم قيام الدليل الشرعي على اعتبار المالية فيه كان ذلك حكما تعبديا غير مرتبط بمفهوم البيع حتى يؤخذ في تعريفه» «1».

فلا يخلو من غموض، و دعوى دخل المالية في مفهوم البيع عرفا قريبة جدّا، و دخلها شرعا في الصحة و النفوذ ليس لتعبد خاص، بل لتوقف صدقه على ذلك، لأنّ المقصود بالبيع هو المعاملة الاعتبارية التي يتداولها العقلاء لغرض تسديد حوائجهم و تمشية أمورهم، و هذا هو موضوع أدلة الإمضاء، و من المعلوم أنّ ما لا يتنافس العقلاء على اقتنائه و لا يرغبون في تحصيله لعدم ترتب فائدة عليه لا يتعاملون عليه، إذ لا غرض يتعلق بالمبادلة بين ما يكون فاقدا لمناط المالية، فيصح سلب عنوان البيع عن تبديل مقدار من الثلج بمثله في فصل الشتاء في منطقة جليدية، و عن تبديل كأس من ماء النهر بمثله على الشاطئ، و نحو ذلك، بل نفس هذا التبديل لغو بحيث لو صدر من بعضهم كان سفهيّا.

و الحاصل: أنّ البيع ماهية اعتبارية تدور في كل مورد مدار اعتبار العقلاء و تبانيهم، و ليس التبديل بين ما لا يتعلّق غرضهم بتحصيله بيعا. و حيث اعتبر مالية العوضين في صدق مفهومه فدخلها في البيع النافذ شرعا أمر مفروغ عنه. و لا أقل من كون الشبهة مفهومية، و لا مجال حينئذ للتمسك بالإطلاقات.

هذا بحسب الكبرى. و أما خصوص المثال المذكور في كلامه قدّس سرّه من بذل الثمن بإزاء

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 2، ص 24

ص: 24

______________________________

اقتناء خط الجدّ و نحوه فيمكن أن يقال: بكونه بيعا، لوجود مناط المالية- و هو الرغبة النوعية- فيه، إذ من المتعارف- لا سيّما في هذا العصر- بذل المال الكثير لاقتناء آثار السلف كتراث يتحفّظ عليه، فشراء شخص خطّ جدّه لا يعدّ بنظر العقلاء سفهيّا بل هو أمر جرت سيرتهم عليه، لما عرفت من أن ما يوجب انحفاظ الخصوصيات و صفات الأب و الجد أو غيرهما- ممّن له علقة طبيعية أو معنوية بمن يطلب تصويره أو خطّه أو سائر آثاره- مال قطعا. و لو نوقش في صدق البيع عليه أمكن جعلها معاملة مستقلة.

و عليه فتعريف المصباح من جهة أخذ المال فيه سليم عن المناقشة.

نعم نوقش فيه بوجوه أخرى:

مناقشات في تعريف البيع بالمبادلة بين المالين أ- أعمية المال من العين و المنفعة منها: ما في حاشية السيد قدّس سرّه من قوله: «ثم لا يخفى ما في تعريف المصباح من المسامحة، لأنّ مطلق مبادلة مال بمال لا يكون بيعا، و إلّا فالصلح و الإجارة و نحوهما كذلك. و أيضا البيع ليس مبادلة بل تمليك عين بعوض .. و أيضا يعتبر أن يكون المبيع عينا، و المال أعم، فيعلم من هذه أنه ليس بصدد بيان الحقيقة إلّا في الجملة ..» «1».

أقول: لا ريب في عدم كون شأن اللغوي تحديد المفهوم من جميع الجهات، خصوصا في الأمور الاعتبارية التي هي من البسائط الفاقدة للجنس و الفصل و نحوهما ممّا يبيّن حقيقة الشي ء و يكشف عنه، كما اعترف السيد قدّس سرّه بذلك في آخر كلامه.

لكن لو فرض كون تعريف المصباح لفظيا لم يرد عليه بعض ما أورده السيّد عليه.

أما الإشكال الأوّل فلا يخلو من تهافت مع الثالث، و ذلك لابتناء النقض بالإجارة على فرض أعمية المال من العين، فلو قيل باختصاصه بها- كما هو مبنى الاشكال الثالث- لم ينتقض

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 53

ص: 25

______________________________

تعريف المصباح بالإجارة، لفرض عدم كونها مفيدة لتمليك العين سواء قيل في تعريفها بأنها تمليك منفعة بعوض، أم بأنها التسليط على العين لاستيفاء منفعتها كما اختاره السيد في العروة.

و على كلّ لا تقع العين طرفا للتمليك إلّا بناء على جعل حقيقة الإجارة «تمليك العين في جهة خاصة» في قبال البيع المفيد لملك العين من جميع الجهات، لكنه لا يخلو من بحث سيأتي التعرض له إن شاء اللّه تعالى.

و الحاصل: أنّ النقض بالإجارة موقوف على أعمية المال من العين، كما هو مبنى الاشكال الأوّل، فلو قيل باعتبار كون المبيع عينا و هو الصحيح- كما أفاده في الاشكال الثالث- لم يبق مجال للنقض بالإجارة كما هو واضح.

و أمّا النقض بالصلح فغير ظاهر أيضا، لما تقدم في ما يتعلق بكلام المحقق الإيرواني قدّس سرّه من أنّ المناط في العناوين المعاملية القصدية هو المنشئات لا النتائج المترتبة عليها، و لمّا كان المنشأ بعقد الصلح نفس التسالم- مهما كان المتسالم عليه- لم ينتقض تعريف البيع به.

و أما الإشكال الثاني- و هو كون البيع تمليكا لا مبادلة- فنوقش فيه بظهور التمليك في المقابلة بين التسليطين لا المالين، و حيث إنّ السلطنة حكم شرعي موضوعه الأملاك لا الأحكام، فإنّ الناس مسلطون على أموالهم لا على أحكامهم، لم تكن قابلة للنقل الى الغير حتى يكون البيع نقلا لها، و إنما القابل له طرف الإضافة و هو المال، و إلّا فالسلطنة و الملكية كجواز شرب الماء أحكام شرعية ليست ممّا يتعلق به السلطان حتى تنتقل إلى الغير «1». هذا محصّل ما في تقرير بحث المحقق النائيني قدّس سرّه.

لكن يمكن أن يقال: بأنّه إن أريد بالتمليك إحداث السلطنة التي هي حكم شرعي، اتجه الاشكال عليه، لكونه نظير إحداث جواز شرب الماء، و هو غير قابل للنقل إلى الغير. و إن أريد به الإضافة الاعتبارية المعبّر عنها بالملكية فالظاهر جواز نقلها إلى الغير بما جعله الشارع ناقلا لها، كما لا مانع من سلبها عن نفسه بالإعراض بناء على زوال الملك به. و المبادلة البيعية و إن

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 34

ص: 26

______________________________

كانت بين المالين، إلّا أنّ أشخاص الملكيات و الإضافات تتغيّر أيضا بعد ما تقدم من تشخّص كل إضافة بطرفيها، و من عدم كون السلطنة هي الملكية بل من آثارها.

نعم يمكن منع إشكال السيد قدّس سرّه بعدم كون إنشاء التمليك جامعا لجزئيات البيع، لاختصاصه بما إذا نقل الملك. و أمّا في مثل بيع العبد تحت الشّدة و بيع آلات البناء لتعمير القناطر و الخانات و المساجد بسهم سبيل اللّه من الزكاة، فلا تمليك في البين إلّا على توجيه لا يخلو من تكلّف.

و على هذا فلو كان مقصود الفيّومي من تعريف البيع بالمبادلة خصوص التبديل الملكي كان إشكال عدم جامعية التعريف باقيا عليه. و لو كان مراده ما هو أعم من ذلك، أي قيام كل منهما مقام الآخر فيما له من الأوصاف- نظير التنزيلات الشرعية كتنزيل الطواف منزلة الصلاة في مالها من الأحكام و الآثار- كان متينا. كما لو باع المتولّي العين الموقوفة- عند طروء مسوّغ بيعها- فإنّها تصير ملكا للمشتري و تكتسب لون الثمن و هو الملكية، كما يكتسب الثمن لون المبيع و يصير وقفا، و من المعلوم كون المبادلة حيثية و إضافة قائمة بالمالين، و هذه الحيثية دعت الى تفسير البيع بالمبادلة. هذا إذا كان مقصود السيد قدّس سرّه أخذ التمليك في مفهوم البيع من جهة كونه من العقود المعاوضية الناقلة للملك.

و إن كان مقصوده لحاظ حيثية إضافة الفعل الى فاعله و مبدأ صدوره و هو البائع المتصدّي لتبديل الإضافة الاعتبارية من دون دخل لقبول المشتري إلّا في التنفيذ و الإمضاء- و هذا يناسبه التعبير بالتبديل دون المبادلة- فسيأتي بيانه في إشكال صاحب الكفاية إن شاء اللّه تعالى.

ب- البيع تبديل بين مالين لا مبادلة بينهما و منها: ما أورده المحقق الخراساني قدّس سرّه على تعريف المصباح بقوله: «التعبير بالمبادلة لا يخلو من مسامحة، و حقّه أن يقال: تبديل مال بمال، فإنه من فعل الواحد، لا الاثنين،

ص: 27

______________________________

فافهم» «1».

و محصله: أن المنسوب إلى مشهور علماء العربية في الفرق بين بابي المفاعلة و التفعيل دلالة الأوّل على قيام المبدأ باثنين و اشتراكهما في صدور الفعل كما هو ظاهر مثل «ضارب زيد عمروا» و تلبسهما بالضرب معا، بخلاف الفعل الثلاثي المجرّد من هذه المادة مثل «ضرب زيد عمروا» الظاهر في قيام المبدأ صدورا بزيد و وقوعا بعمرو. و دلالة الثاني- و هو التفعيل- على قيام الفعل بالفاعل مع لحاظ حيثية التعدية إلى الغير. و حيث إنّ إنشاء البيع يكون بيد البائع فقط و لا دخالة للمشتري فيه سوى الإمضاء كان المناسب التعبير بالتبديل لا المبادلة الظاهرة في تصدّي كلّ من الموجب و القابل لها، هذا.

و اعترض عليه تلميذه المحقق الأصفهاني قدّس سرّه بوجهين، يبتني أحدهما على تصحيح التعبير بالمبادلة على مختار مشهور علماء الأدب، و ثانيهما على مبنى آخر ابتكره في مدلول هيئة المفاعلة و التفاعل.

و محصل هذا الوجه الثاني: أن باب المفاعلة وضع للدلالة على مجرّد تعدية المادة و إنهائها الى الغير من غير فرق بين الأفعال اللازمة و المتعدية، فإنّ صوغها من باب المفاعلة يدل على أنّ حيثية إنهاء المادة إلى شخص آخر ملحوظة فيها. و استشهد على مدعاه بعديد من استعمالات هذه الهيئة في الكتاب العزيز و غيره مع عدم صحة إفادة الاشتراك في المبدأ، أو عدم إرادته، و قد تصدى قدّس سرّه لإثبات مرامه ببيان أو في في تعليقته الأنيقة على الكفاية «2» و قد تعرضنا له و لما يتعلق به في رسالة لا ضرر، فراجع «3».

و لهذا فالأولى الاقتصار هنا على ما أفاده في الوجه الأوّل من الاشكال قال قدّس سرّه: «و يمكن أن يقال: ان التبديل مجرد جعل شي ء ذا بدل، سواء كان له مساس بالغير أم لا، و المبادلة

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 3

(2) نهاية الدراية، ج 2، ص 317، الطبعة الحجرية.

(3) منتهى الدراية، ج 6، ص 566 الى 573

ص: 28

______________________________

تكون بهذا المعنى مع المساس بالغير، و ينسب الفعل المشتق منها إلى من هو الأصيل في التبديل كالموجب في البيع، و مع الأصالة في الطرفين ينسب إليهما التبادل كما هو الفارق بين المفاعلة و التفاعل في فنّ الأدبية، فتبيّن وجه التعبير عن البيع بالمبادلة دون التبديل ..» «1».

أقول: الظاهر أولوية تعريف البيع بالمبادلة سواء أريد به المعاملة البيعية أم فعل البائع و إنشاؤه. أمّا على الأوّل- كما هو الظاهر، إذ المقصود تعريف البيع و تمييز حقيقته عن سائر العقود المالية- فواضح، لقيام هذه الماهية الاعتبارية بطرفين و بمالين و لو كان قبول المشتري مجرد إمضاء و مطاوعة لإيجاب البائع.

و أما على الثاني فلأنه لا بدّ من وفاء التعريف بما يكون دخيلا في المعرّف، و هو في المقام أمران، أوّلهما: أنّ الملحوظ حين إنشاء البيع- غالبا- هو مبدلية المبيع و أصالته، و بدلية الثمن عنه، حيث يعتني المشتري بخصوصية المبيع. لا مجرّد ماليته، بخلاف البائع الذي لا يهمّه إلّا حفظ مالية ماله. فالبيع يمتاز عن سائر المعاوضات بهذه الجهة.

ثانيهما: أن البيع و إن كان من العقود القائمة بطرفين، إلّا أنّ إنشاء ماهيّته يكون بيد البائع، و شأن المشتري المطاوعة و الإمضاء، لا إحداث فرد آخر من المبادلة الاعتبارية.

و المتكفل لهذين الأمرين هيئة المفاعلة لا التفعيل، فإنّها تدل على قيام المبدأ بطرفين مع حيثية أخرى لا تتكفلها هيئة التفاعل بعد تضمن كلا البابين للاشتراك في المادة، و الفارق- كما نسب الى مشهور علماء الأدب- دلالة المفاعلة على انتساب المادة إلى أحدهما بالأصالة و إلى الآخر بالتبع، كما في «ضارب زيد عمروا». و دلالة التفاعل على استواء نسبتهما إليها بلا أصالة من أحدهما و تبعية من الآخر كما في: تضارب زيد و عمرو.

و عليه فتعريف البيع بالمبادلة يدلّ على أنّ الأصيل في التبديل هو البائع، و يكون قبول

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 2

ص: 29

______________________________

المشتري تبديلا ضمنيا تبعيا، فحيثية الأصالة و التبعية الملحوظة في الإيجاب و القبول مدلول عليها بهيئة المبادلة.

و من المعلوم قصور «التبديل» عن إفادة دخل هذه الحيثية في البيع، لما أفاده المحقق الأصفهاني- و يظهر بمراجعة اللغة- من أن التبديل مجرّد جعل الشي ء ذا بدل و لو بتغيير هيئته كتغيير صورة الخاتم بالحلقة، و تغيير صورة الثوب بالرداء، و هذا لا ربط له بالبيع القائم بطرفين. قال في لسان العرب: «و تبديل الشي ء تغييره و إن لم تأت ببدل. و الأصل في التبديل:

تغيير الشي ء عن حاله. و الأصل في الإبدال: جعل شي ء مكان شي ء آخر .. و بادل الرجل مبادلة و بدالا: أعطاه مثل ما أخذ منه ..» «1».

و على هذا فالبيع و إن كان فعل البائع، لكن المفروض مساسه بالغير و هو المشتري، و الدال على هذه الحيثية- مع الأصالة و التبعية- هي هيئة المفاعلة لا التبديل.

كما أنه تستفاد حيثية كون المبيع أصلا و الثمن بدلا من حرف الجر في «بمال» فإنّها للعوض، فتدل على مبدلية المال الأوّل و بدلية المال الثاني عنه. هذا لو لم يدل نفس هيئة المبادلة على لحاظ معوّضيّة المبيع و عوضيّة الثمن، و إلّا كان الدال على هذه الحيثية أمرين أحدهما هيئة المبادلة و ثانيهما حرف الجرّ.

و الحاصل: أنّ تعريف المصباح يتكفل الأمور المعتبرة في البيع من قيامه بطرفين، و كون إنشائه بيد البائع، و من ملاحظة المبيع أصلا و الثمن بدلا، كما ظهر قصور تعريفه بالتبديل عن إفادتها.

و لا فرق فيما ذكرناه- من أولوية المبادلة من التبديل- بين المصير الى ما هو المشهور بين علماء العربية من دلالة المفاعلة على نسبة المادة إلى أحد الطرفين أصالة و إلى الآخر تبعا،

______________________________

(1): لسان العرب، ج 11، ص 48

ص: 30

[اختصاص المبيع بالأعيان]

و الظاهر (1) اختصاص المعوّض

______________________________

اختصاص المبيع بالأعيان

(1) أي: الظاهر من إطلاق «البيع» اختصاص المعوّض بالعين، و مقصوده قدّس سرّه تصحيح تعريف المصباح و عدم كون مطلق مبادلة مال بمال آخر بيعا، بل البيع مبادلة عين متمولة بمال آخر، و يستفاد اعتبار عينية المبيع من نفس عنوان البيع، بحيث لو قال المتكلم: «بعت» استفيد منه نقل عين، و لو قال: «بعت عينا» كان تأكيدا لما دلّ عليه مادة البيع. و لو قال: «بعت كتابا» كان ذكر المبيع لأجل تعيينه، لا لتوقف صحة إطلاق البيع على ذكره حتى يتوهم أعمية المفهوم من تمليك العين و المنفعة.

و الغرض من هذا البحث تحديد موضوع الأدلة المتكفلة لإمضاء البيع و أحكامه و شرائطه، مثل «البيع حلال» و «وجب البيع» إذ يحتمل إرادة المعاوضة التي يكون العوضان عينين، كما يحتمل إرادة ما يكون المعوّض فيه عينا سواء أ كان العوض عينا أم منفعة أم حقّا قابلا للنقل إلى الغير.

و توضيح ما أفاده المصنف قدّس سرّه: أنّ «المال» إما أن يختص بالأعيان ذوات المنافع كما تقدم عن ابن الأثير، و يترتب عليه اعتبار عينية كلا العوضين كما ذهب إليه الوحيد البهبهاني قدّس سرّه لعدم صدق المال على المنافع، و لا أقلّ من الشك فيه. و إمّا أنّ يعمّ المنافع كسكنى الدار و ركوب الدابة و خياطة الثوب. و على هذا الاحتمال الثاني يبتني استظهار

______________________________

و بين ما اختاره نجم الأئمة في شرح الشافية من إنكار هذه الدلالة رأسا، و ظهورها في مجرد المشاركة في المبدأ «1». و ذلك لدلالة الباء الجارة على حيثية معوّضيّة المبيع و أصالته، و بدلية الثمن و عوضيّته عنه.

______________________________

(1): شرح الشافية، ج 1، ص 96

ص: 31

..........

______________________________

المصنف قدّس سرّه اختصاص المعوّض بالعين، لتصريحه بجواز وقوع المنفعة عوضا في البيع، مع وضوح اعتبار المالية في كلّ من الثمن و المثمن.

و لأجل صدق المال على المنافع تصدّى لتمييز البيع- من ناحية المتعلق- عن الإجارة و نحوها من العقود المالية، و قال باعتبار كون المعوّض عينا.

و هذه الدعوى تتوقف على أمرين مسلّمين:

أحدهما: أنّ المتبادر إلى الأذهان في هذه الأعصار من «البيع» هو تمليك العين لا مطلق المال.

ثانيهما: إحراز ذلك في عصر التشريع حتى يحمل إطلاق «البيع» في الأدلة على تمليك خصوص العين، و عدم إطلاقه على تمليك المنافع إلّا بالمسامحة.

و كلا الأمرين مسلّم. أمّا الأوّل فلوجهين: التبادر و صحة السلب، و هما من علائم الحقيقة و المجاز. أمّا التبادر فلأنّ المنسبق من إطلاق «البيع» و مشتقاته هو مبادلة عين بمال، و يكفيه شاهدا تعريفه في كتب الفقهاء بذلك، و جلّهم من أهل اللسان. و أمّا صحة السلب، فلاعترافهم بمجازية استعمال البيع في تمليك المنافع، كما إذا أنشأ تمليك سكنى الدار بقوله: «بعتك سكناها سنة بكذا» و هذا كاشف عن صحة سلب عنوان «البيع» عن تمليك غير الأعيان من الأموال، و عن مجازية إطلاق البيع على تمليك غير الأعيان.

و أما الثاني- أعني به إحراز كون معنى البيع في عصر التشريع تمليك الأعيان- فلأصالة عدم النقل الجارية في معاني اللغات عند الشك في الموضوع له سابقا، و أنّه هل هو المعنى المتبادر من اللفظ فعلا أم أنّه نقل المعنى الفعلي عن الوضع الأوّلي؟ فبناؤهم على التمسك بأصالة عدم النقل لإثبات وحدة المعنى. و عليه يحرز كون معنى «البيع» الوارد في الأدلة الشرعية هو المنسبق الى أذهاننا من تمليك خصوص العين، لا كلّ ما يملك و إن لم يكن عينا.

ص: 32

بالعين (1)

______________________________

هذا منشأ استظهار المصنف قدّس سرّه اختصاص المعوّض بالعين، و قد ظهرت المسامحة في تعريف المصباح، حيث أطلق كلمة «المال» و لم يقيّده- في جانب المعوّض- بالعين.

(1) قد تطلق «العين» و يراد بها ما يقابل الكلّي، أي الأعيان الخارجيّة، و قد تطلق و يراد بها ما يقابل المنفعة و الحق، و المراد بها هنا المعنى الثاني، سواء أ كانت موجودة بالفعل أم ممّا يمكن أن يوجد في المستقبل، فالعين في المقام هي ما إذا وجدت خارجا كانت جسما، و في قبالها المنفعة التي هي عرض قائم بالعين، و حيثيّة فيها توجب بذل المال بإزائها كسكنى الدار و خياطة الثوب و بناء الدار و نحوها.

و الدليل على عموم «العين» للشخصية و الكلية و عدم اختصاصها بالجزئيات الخارجية هو تسالمهم على جواز كون المبيع كلّيا في موارد:

الأوّل: بيع الكلّي في المعيّن، كصاع من صيعان صبرة الحنطة بدينار، فإنّ الصاع منتشر في الصّبرة، و يتعيّن بعد البيع في مقام الوفاء بالعقد.

الثاني: بيع الكلّي المشاع، كبيع نصف الدار بمائة دينار، إذ لا تعيّن للنصف قبل الإفراز و التقسيم، و يتعيّن بالتقسيم.

الثالث: بيع الكلّي الذّمي، و هو على أنحاء، فتارة يكون المبيع كلّيا ثابتا في ذمة غير البائع، كما إذا كان زيد مالكا لمنّ من الحنطة في ذمة عمرو، فيبيعه زيد من بكر، فتشتغل ذمة عمرو لبكر بعد ما كانت مشغولة لزيد. و أخرى يثبت الكلي في ذمة البائع، إمّا بأن يسلّم المبيع حالّا، كم إذا باع زيد منّا من الحنطة، الموصوفة بكذا من عمرو، و يسلّمه بعد العقد. و إمّا بأن يسلّم المبيع بعد مضيّ زمان، كما هو الحال في بيع السلف، كما إذا باع زيد في ذمة نفسه منّا من الحنطة على أن يسلّمها بعد ستة أشهر مثلا.

و صحة البيع في هذه الموارد كاشفة عن عدم اعتبار كون المبيع عينا خارجية متشخصة، بل يكفي وجودها في المستقبل، و لو وجد كان عينا لا عرضا لعين.

ص: 33

فلا يعمّ (1) إبدال المنافع بغيرها (2)، و عليه (3) استقرّ اصطلاح الفقهاء (4).

______________________________

(1) هذا متفرّع على اختصاص المبيع بالعين، يعني: أنّ إبدال المنافع و تمليكها ليس بيعا، بل هو إجارة، فتمليك منفعة الدار- و هي سكناها مدّة عام مثلا سواء أ كان العوض عينا كالدينار و الكتاب، أم منفعة كخياطة الثوب- ليس بيعا، بل لا بد من إنشائه بما يدل على نقل المنفعة، مثل «آجرتك الدار، أو ملّكتك سكناها، أو أكريتك الدار» و لا يصحّ إنشاؤه بمثل «بعتك منفعة الدار أو سكناها مدّة عام مثلا» سواء أ كان العوض عينا كالدينار و الكتاب، أم منفعة كخياطة الثوب، لعدم تعلّق البيع بما عدا العين. نعم لو قصد الإجارة و قيل بصحة إنشاء العقود بالمجازات جاز ذلك، كما سيأتي بيانه في التعليقة إن شاء اللّه تعالى.

(2) أي: بغير المنافع، و هذا الغير هو العوض سواء أ كان عينا أم منفعة أم حقّا.

(3) يعني: استقرّ اصطلاح الفقهاء على اختصاص المعوّض بالعين، حيث جعلوا البيع في قبال الإجارة، و قالوا: البيع لتمليك الأعيان، و الإجارة لتمليك المنافع. و المائز بينهما تعلق البيع بالعين، و الإجارة بالمنافع. و يترتب عليه أنه لو شكّ في صدق عنوان البيع على تمليك غير الأعيان كفى في عدم جواز التمسك بأدلة نفوذ البيع، لكون الشبهة مفهومية، فلا وجه لترتيب الأحكام المختصة به عليه.

(4) كما يظهر بمراجعة كلماتهم في تعريف البيع، و سيأتي طائفة منها في المتن، و هي و إن اختلفت مضامينها من الانتقال و النقل و العقد الدال على الانتقال أو على النقل و غير ذلك، إلّا أنّها تطابقت على أخذ «العين» و اعتبارها في المبيع، فمنها قول شيخ الطائفة قدّس سرّه: «انتقال عين مملوكة من شخص الى غيره بعوض مقدّر على وجه التراضي» «1» و اختاره ابن إدريس و العلامة في كثير من كتبه كالتذكرة و التحرير و القواعد و النهاية «2».

______________________________

(1): المبسوط في فقه الإمامية، ج 2، ص 76

(2) السرائر، ج 2، ص 240؛ تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462؛ تحرير الأحكام، ج 1، ص 164؛ قواعد الأحكام، ص 47؛ نهاية الأحكام، ج 2، ص 447

ص: 34

[استعمال البيع في نقل المنافع]

نعم (1) ربما يستعمل في

______________________________

و منها: قول ابن حمزة: «البيع عقد على انتقال عين مملوكة أو ما هو في حكمها من شخص إلى غيره بعوض مقدر على جهة [وجه] التراضي» «1» و اختاره العلامة في المختلف «2».

و منها: قول المحقق: «أما البيع فهو الإيجاب و القبول اللذان تنتقل بهما العين المملوكة من مالك إلى غيره بعوض مقدّر» «3».

و منها: قول المحقق الثاني: «نقل العين بالصيغة المخصوصة» «4».

و عليه فاختصاص «البيع» بتمليك الأعيان كأنّه من المسلّمات، و لعلّه لذا قال في الجواهر: «ثم لا خلاف و لا إشكال في اعتبار كون المبيع عينا» «5».

نعم ورد تعريفه في بعض الكلمات بنقل الملك: كما في الشرائع و اللمعة، إلّا أنّ المراد بالملك هو العين لا ما يعمّ المنفعة، كما ستقف عليه في التعليقة.

استعمال البيع في نقل المنافع

(1) هذا استدراك على ما نسبه الى الفقهاء من اعتبار كون المبيع عينا. و حاصل الاستدراك: منع اختصاص البيع بكون المعوّض عينا، و منع استقرار اصطلاح الفقهاء على اعتبار عينية المبيع، و ذلك لما يتراءى من استعمال «البيع» في نقل المنافع و بعض الحقوق على حدّ استعماله في تمليك الأعيان، و لا قرينة في ذلك الاستعمال حتى يدّعى مجازيّته. فالظاهر كون الجميع معنى حقيقيّا للبيع، و معه لا وجه لدعوى اختصاص المعوّض بالعين.

و قد ورد استعمال البيع في تمليك ما عدا الأعيان في موضعين:

______________________________

(1): الوسيلة (ضمن الجوامع الفقهية) ص 740

(2) مختلف الشيعة، ج 5، ص 51

(3) المختصر النافع، ص 118

(4) جامع المقاصد، ج 4، ص 55

(5) جواهر الكلام، ج 22، ص 208

ص: 35

كلمات بعضهم في نقل غيرها (1)، بل (2)

______________________________

الأوّل: في كلام غير واحد من الفقهاء كالشيخ و الإسكافي، و الثاني في عدة نصوص.

أمّا الأوّل فقد عبّر شيخ الطائفة قدّس سرّه عن تمليك منفعة العبد المدبّر بالبيع، فقال في المبسوط في مسألة «عدم جواز بيع رقبة العبد المدبّر إلّا إذا أراد نقض تدبيره» ما لفظه: «لأنّ عندنا يصحّ بيع خدمته دون رقبته مدة حياته» «1». و قال في النهاية- في بطلان بيع رقبته:- «إلّا أن يعلم المبتاع أنّه يبيعه خدمته» «2».

و حكي نحو ذلك عن ابن الجنيد، من أنه «تباع خدمته مدة حياة السيد» «3».

و أما الثاني، فقد استعمل «البيع» في روايات متعددة و أريد منه نقل غير العين، كما سنذكرها إن شاء اللّه تعالى.

(1) أي: تمليك غير الأعيان، و هذا الغير هو المنفعة و بعض الحقوق.

(2) هذا إشارة إلى الموضع الثاني- و هو استعمال البيع في النصوص في إبدال غير الأعيان- و الإتيان بأداة الإضراب لأجل التنبيه على أنّ استعمال البيع في كلام بعض الفقهاء في إبدال المنافع يمكن توجيهه بكونه مسامحيّا غير مناف لاستقرار ظهور اللفظ في تمليك الأعيان خاصة، إذ التنافي يترتب على اشتراك المادة لفظا بتعدد الوضع، أو معنى بالوضع لجامع نقل الملك، و أمّا إذا كان اللفظ حقيقة في حصّة من طبيعي النقل و مجازا في حصة أخرى منه بمعونة القرينة لم يكن بأس بكلا الاستعمالين.

و هذا التوجيه- لو تمّ- لا يجري بالنسبة إلى استعمال «البيع» في الكتاب و السّنة في غير نقل العين مجرّدا عن قرينة المجاز، ضرورة وروده في الأخبار في نقل الأعيان و المنافع و بعض الحقوق بوزان واحد. و معه يشكل ما استظهره المصنف قدّس سرّه من اختصاص المعوّض بالعين و استقرار الاصطلاح الفقهي عليه.

______________________________

(1): المبسوط في فقه الإمامية، ج 6، ص 17

(2) النهاية، ص 552

(3) الحاكي هو الشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 233

ص: 36

يظهر ذلك (1) من كثير من الأخبار، كالخبر (2) الدال على جواز بيع خدمة العبد المدبّر (3)، و بيع (4) سكنى الدار التي لا يعلم صاحبها،

______________________________

(1) أي: استعمال البيع في إبدال المنافع.

(2) المراد به الجنس لا الواحد الشخصي، لتعدد الأخبار الدالة على جواز بيع خدمة العبد المدبّر، و هو المملوك المعلّق عتقه على موت مولاه.

(3) كصحيح أبي مريم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «سئل عن رجل يعتق جاريته عن دبر، أ يطأها إن شاء أو ينكحها أو يبيع خدمتها حياته؟ فقال: أيّ ذلك شاء فعل» «1». و الشاهد في تقرير الامام عليه السّلام لسؤال الراوي من إطلاق البيع على تمليك خدمة الأمة و عملها، و لا قرينة في الكلام على مجازية هذا الإطلاق.

و نحوه خبر السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ عليهم السّلام، قال: «باع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خدمة المدبّر، و لم يبع رقبته» «2». و نحوهما غيرهما. و التقريب كما تقدم آنفا.

(4) معطوف على «بيع خدمة» و هذا إشارة إلى المورد الثاني من موارد استعمال البيع في الأخبار في تمليك غير الأعيان، و لا قرينة على مجازية الاستعمال، كمعتبرة إسحاق بن عمّار عن عبد صالح عليه السّلام، قال: «سألته عن رجل في يده دار ليست له، و لم تزل في يده و يد آبائه من قبله، قد أعلمه من مضى من آبائه أنّها ليست لهم، و لا يدرون لمن هي، فيبيعها و يأخذ ثمنها؟

قال: ما أحبّ أن يبيع ما ليس له. قلت: فإنّه ليس يعرف صاحبها و لا يدري لمن هي، و لا أظنّه يجي ء لها ربّ أبدا؟ قال: ما أحبّ أن يبيع ما ليس له. قلت: فيبيع سكناها أو مكانها في يده، فيقول: أبيعك سكناي، و تكون في يدك كما هي في يدي؟ قال: نعم، يبيعها على هذا» «3».

و دلالتها على المدّعى أوضح مما تقدم، لإطلاق الإمام عليه السّلام البيع على تمليك السكنى

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 16، ص 74، الباب 3 من أبواب التدبير، الحديث: 1

(2) المصدر، الحديث: 4

(3) وسائل الشيعة، ج 12، ص 250، كتاب البيع، الباب 1 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث: 5

ص: 37

و كأخبار (1) بيع الأرض الخراجيّة و شرائها.

______________________________

بعد كراهته عليه السّلام بيع الرقبة، و لا قرينة في الكلام على كون الإطلاق بالعناية و المسامحة.

(1) معطوف على «كالخبر الدال ..» و هذا إشارة إلى المورد الثالث مما استعمل فيه البيع في إبدال غير الأعيان، كاستعماله في نقل حقّه من الأرض الخراجية، كما في خبر أبي بردة بن رجاء، قال: «قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال: و من يبيع ذلك؟ هي أرض المسلمين. قال: قلت: يبيعها الذي هي في يده، قال: و يصنع بخراج المسلمين ماذا؟ ثم قال: لا بأس، اشترى حقّه منها و يحوّل حقّ المسلمين عليه، و لعلّه يكون أقوى عليها و أملى بخراجهم منه» «1».

و تقريب الاستدلال: أن الامام عليه السّلام أفاد في جواب السائل حكمين، أحدهما: النهي عن بيع رقبة الأرض، لكونها ملكا لكافّة المسلمين، و ليس لأحد منهم أن يبيعها.

ثانيهما: جواز بيع الحق و شرائه، لقوله عليه السّلام: «لا بأس، اشترى حقّه منها» و المراد بالحقّ هو ماله من جواز التصرف، دون ملكية رقبة الأرض، قال شيخ الطائفة قدّس سرّه: «إن أهل الذمة لا يخلو ما في أيديهم من الأرضين من أن يكون فتحت عنوة أو صولحوا عليه؛ فإن كانت مفتوحة عنوة فهي أرض المسلمين قاطبة، و لهم أن يبيعوها إذا كانت في أيديهم بحقّ التصرف، دون أصل الملك، و يكون على المشتري ما كان عليهم من الخراج كما كانت خيبر مع اليهود.

و ان كانت أرضا صولحوا عليها فهي أرض الجزية يجوز شراؤها منهم إذا انتقل ما عليها إلى جزئه رؤوسهم، أو يقبل عليها المشتري ما كانوا قبلوه من الصلح، و تكون الأرض ملكا يصلح التصرف فيه على كلّ حال» «2».

و على هذا فلمّا كانت ولاية التصرف من منافع الأرض الخراجية و هي ممّا يبذل المال بإزائها صحّ المعاوضة عليها بتفويض حقّ الانتفاع الى الغير. و بهذا يثبت استعمال البيع

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 11، ص 118، الباب 71 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث: 1، و نحوه أخبار أخر وردت في ج 12، ص 274 و 275، الباب 21 من أبواب عقد البيع.

(2) الاستبصار، ج 3، ص 111

ص: 38

..........

______________________________

و الشراء في إبدال المنافع و الحقوق، و عدم اختصاص استعماله بما كان المعوّض عينا.

هذا ما أشار إليه المصنف قدّس سرّه من الموارد الثلاثة، و كذا ورد إطلاق البيع و الشراء على غير تمليك العين، في مواضع اخرى:

منها: جواز نظر مريد التزويج إلى وجه المرأة و محاسنها، كما في معتبرة محمد بن مسلم، قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن رجل يريد أن يتزوّج المرأة أ ينظر إليها؟ قال: نعم، إنّما يشتريها بأغلى الثمن» «1».

و دلالتها على المدّعى ظاهرة، إذ ليس المقصود شراء الرقبة، بل استيفاء منفعة خاصة، فأطلق الشراء- المقابل للبيع- على بذل المال بإزاء التمتع الخاص.

و منها: جواز أخذ الزوجة مالا على إسقاط حقّ القسم، كما في معتبرة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام، قال: «سألته عن رجل له امرأتان، قالت إحداهما: ليلتي و يومي لك يوما أو شهرا أو ما كان، أ يجوز ذلك؟ قال: إذا طابت نفسها و اشترى ذلك منها فلا بأس» «2».

و هي كالرواية السابقة في إطلاق الشراء على نقل غير العين، كرفع اليد عن حقّ القسم.

و الحاصل: أنّ شيوع استعمال البيع و الشراء في الأخبار في غير تمليك الأعيان مانع عن استقرار ظهور «البيع» في الأدلة المتكفلة لأحكامه- كأدلة خيار المجلس- في خصوص مبادلة الأعيان، بل مقتضى القاعدة تعميم المعوّض لمطلق ما يبذل بإزائه المال عينا كان أو منفعة أو حقّا.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 14، ص 59، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث: 1

(2) وسائل الشيعة، ج 15، ص 85، الباب 6 من أبواب القسم و النشوز، الحديث: 2

ص: 39

و الظاهر (1) أنّها مسامحة في التعبير، كما (2) أنّ لفظ الإجارة يستعمل عرفا في نقل بعض الأعيان

______________________________

(1) غرضه قدّس سرّه منع الاستدراك المتقدم بقوله: «نعم ربما يستعمل ..» و توجيه استعمال البيع في الروايات و كلمات بعض الفقهاء في إبدال غير الأعيان. و محصّل التوجيه: أنّ التنافي بين ما ذكرناه من اختصاص البيع بنقل العين و بين استعماله في الكلمات في الأعمّ من ذلك مبنيّ على كونه حقيقيا في كلا المقامين، لصيرورة «البيع» مشتركا بين معنيين أحدهما أخص و هو ما يعتبر فيه عينية المعوّض، و ثانيهما أعم و هو كفاية كونه مالا سواء أ كان عينا أم منفعة أم حقّا، و نتيجة الاشتراك إجمال موضوع الأدلة، لدورانه بين الخاص و العام.

لكنك عرفت آنفا أمارية التبادر و صحة السلب على كون البيع حقيقة في خصوص مبادلة الأعيان بعوض، و هو الذي استقرّ عليه اصطلاح الفقهاء، كاستقرار اصطلاحهم على اختصاص الإجارة بنقل المنافع بعوض. و على هذا يكون استعمال البيع في غير تمليك الأعيان مسامحيّا، كالمسامحة في إطلاق «الإجارة» في بعض الأخبار على تمليك العين. و عليه يتعيّن حمل «البيع» في الأدلة على معناه الحقيقي، إلّا مع قيام قرينة على إرادة المعنى المجازي.

و بالجملة: لا منافاة بين الاصطلاح المزبور و بين استعمال البيع في نقل غير العين، إذ المفروض كون الاستعمال المذكور مبنيّا على العناية و المسامحة، و هو غير قادح في حمل «البيع» على نقل الأعيان خاصة.

(2) غرضه إقامة الشاهد على أنّ الاستعمال المسامحي غير قادح فيما استقرّ عليه الاصطلاح، و حاصله: أنّ البيع الموضوع لنقل العين كما يستعمل مجازا في نقل المنفعة، كذلك الإجارة- التي استقرّ اصطلاح الفقهاء على كونها حقيقة في نقل المنفعة- قد تستعمل مجازا في «تبديل العين بعوض» الذي هو معنى حقيقي للبيع، و لمّا كان الاستعمال في المقامين مبنيّا على العناية و المسامحة، لم يلزم إجمال في أدلة كلا البابين، فيحمل «البيع» بدون القرينة على تمليك العين، و الإجارة كذلك على تمليك المنفعة مع بقاء العين على ملك المؤجر.

ص: 40

كالثمرة على الشجرة (1).

______________________________

(1) مقصوده قدّس سرّه أنّ الإجارة تطلق مسامحة على نقل الثمرة حال كونها على الشجرة، مع أنّ الثمرة عين، فلا بد من نقلها بالبيع لا بالإجارة، فإنّ مقتضى المقابلة للبيع هو إرادة إطلاق لفظ الإجارة على نقل العين، كإطلاق لفظ البيع على نقل المنفعة في روايات بيع خدمة العبد المدبّر و بيع سكنى الدار المجهول مالكها و بيع الأرض الخراجية. و ليس المقصود من استعمال الإجارة في تمليك العين إجارة الشجرة للانتفاع بثمرتها أو إجارة الدار للانتفاع بسكناها، و ذلك لوضوح كون المقصود تمليك منفعة الشجرة و الدار، و هذا هو مورد الإجارة.

و كيف كان فقد ورد استعمال الإجارة- مسامحة- في تمليك العين في معتبرة عبيد اللّه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «تقبّل الثمار إذا تبيّن لك بعض حملها سنة، و إن شئت أكثر.

و إن لم يتبيّن لك ثمرها فلا تستأجر» «1». و الشاهد إنّما هو في استعمال الإجارة في تمليك العين، إذ المراد بالتقبّل بقرينة الذيل- أعني به قوله عليه السّلام: فلا تستأجر- هو الإجارة، فمحصّل معنى الرواية- و اللّه العالم- هو: أنّ الثمار إذا ظهر بعضها جاز بيعها سنة أو أزيد. و إن لم تظهر- و لو بعضها- لم يجز بيعها، و قد عبّر بالإجارة عن نقل العين مسامحة، هذا [1].

______________________________

[1] و على هذا فلا وجه للإشكال على المتن «بعدم العثور على إطلاق الإجارة على نقل الثمرة، لا في الأخبار و لا في كلمات الفقهاء» «2» و ذلك لكفاية رواية الحلبي لإثبات ما أفاده المصنف من استعمال الإجارة في نقل العين مسامحة.

ثم إنّ للسيّد قدّس سرّه كلاما في الحاشية و العروة ينبغي التعرض له، قال في حاشيته على المتن: «الظاهر أنّ المراد إذا آجر الشجرة لثمرتها قبل وجودها، لا بعده، فإنّه لا يصح الإجارة حينئذ، و لا يطلق عليه أيضا لفظها لو ملكها بعنوان البيع مثلا. و أمّا الأوّل فصحيح، و لا يضرّ كونه نقلا للعين، لأنّها تعدّ منفعة للشجر عرفا، كما في إجارة الحمّام المستلزم لإهراق الماء،

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 13، ص 8، الباب 2 من أبواب بيع الثمار، الحديث: 4

(2) محاضرات في الفقه الجعفري، ج 2، ص 15

ص: 41

______________________________

و إجارة الشاة للبنها، و إجارة المرضعة كذلك، فإنّ الإجارة في جميع ذلك صحيحة» «1».

و قال في إجارة العروة: «يجوز استيجار المرأة للإرضاع، بل للرضاع بمعنى الانتفاع بلبنها- و إن لم يكن منها فعل- مدة معيّنة .. إلخ» «2».

و قال فيها أيضا: «يجوز استيجار الشاة للبنها، و الأشجار للانتفاع بأثمارها، و الآبار للاستقاء، و نحو ذلك، و لا يضرّ كون الانتفاع فيها بإتلاف الأعيان، لأنّ المناط في المنفعة هو العرف، و عندهم يعدّ اللّبن منفعة للشاة، و الثمر منفعة للشجر، و هكذا. و لذا قلنا بصحة استئجار المرأة للرضاع و إن لم يكن منها فعل بأن انتفع بلبنها في حال نومها، أو بوضع الولد في حجرها، و جعل ثديها في فم الولد من دون مباشرتها لذلك، فما عن بعض العلماء من إشكال الإجارة في المذكورات- لأنّ الانتفاع فيها بإتلاف الأعيان، و هو خلاف وضع الإجارة- لا وجه له» «3».

أقول: فيما أفاده قدّس سرّه مواقع للنظر:

منها: قوله في الحاشية: «الظاهر أن المراد إذا آجر الشجر لثمرتها ..» إذ فيه: أن مراد الشيخ الأعظم- كما تقدم في التوضيح- هو إطلاق لفظ الإجارة على نقل نفس الثمرة، لا إطلاقها على الشجرة لملكية ثمرتها كما هو صريح كلام السيد في الحاشية، فليس هذا بيانا لمقصود الشيخ، مع أن ظاهره بيان مراده و توضيح مرامه.

و منها: قوله: «لأنها تعدّ منفعة .. إلخ» إذ فيه: أن للمنفعة إطلاقين:

أحدهما: ما يتولّد و يتكوّن من شي ء، كاللّبن و الثمرة المتولدين من الشاة و الشجر، و نحو ذلك من موارد التولّد.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 54

(2) العروة الوثقى، كتاب الإجارة، الفصل السادس، المسألة السابعة، ص 618 من العروة المحشاة المطبوعة في مجلدين.

(3) المصدر، ص 620، المسألة 12 من الفصل السادس.

ص: 42

______________________________

ثانيهما: ما يقابل العين من الحيثية القائمة بها التي تستوفى تارة و لا تستوفى اخرى، كالسكنى القائمة بالدار، و الاستظلال القائم بالأشجار، و التنزّه القائم بالبستان، و نحو ذلك من الحيثيات القائمة بالأعيان.

و لا ينبغي الإشكال في تعلق الإجارة بالمنفعة بهذا المعنى، و إلّا لكانت جلّ الأعيان- بل كلّها- منافع، و جازت إجارة الحيوانات لتملّك نتاجها، و الجارية لتملك ولدها، ضرورة كونها منافع لامّهاتها، لتولدها منها، فإنّ الولد و اللّبن و الثمرة و السّخال و نحوها- ممّا يتكوّن من الأعيان- أعيان في أنفسها و منافع لغيرها، فالبيع الذي هو تمليك الأعيان يوجب نقلها، و الإجارة التي هي تمليك المنافع توجب نقل الحيثيات القائمة بها، فكما لا يصح تمليك الدار و الدكان بلفظ الإجارة فكذلك لا يصح تمليك الثمرة و اللّبن و نحوهما ممّا يتكوّن من الأعيان بلفظ الإجارة.

و منها: قوله: «كما في إجارة الحمّام المستلزم لإهراق الماء» إذ فيه: أن ظاهره كون الماء منفعة للحمّام، كاللّبن و الثمرة اللّذين هما منفعتا الشاة و الشجرة. و هو كما ترى، لعدم صدق المنفعة- بشي ء من معنييها المتقدمين- على الماء. أمّا معناها الأوّل فواضح، لعدم تكوّن الماء من الحمّام ليكون كاللّبن المتكوّن من الشاة.

و أمّا معناها الثاني فلعدم كون الماء عرضا قائما بالحمّام و حيثيّة عارضة له، كسائر منافع الأعيان التي هي أعراض قائمة بمعروضاتها. بل الماء جوهر قائم بنفسه، و ليس عرضا متقوما بغيره، فلا يعدّ منفعة للحمّام، فجعل ماء الحمّام كلبن الشاة و ثمر الشجرة في غير محله، لصدق المنفعة بمعناها الأوّل عليهما، بخلاف ماء الحمّام، فإنّه لا يصدق عليه المنفعة بشي ء من معنييها، هذا.

و منها: قوله: «فإنّ الإجارة في جميع ذلك صحيحة» إذ فيه: أن ظاهره التسالم أو الشهرة على صحة الإجارة في الجميع، مع عدم كونه كذلك، إذ المشهور- كما قيل- المنع عن إجارة الشاة للبنها. و في إجارة الشجرة للثمرة قيل بعدم الخلاف في فسادها. و في استيجار البئر

ص: 43

______________________________

للاستقاء قد حكي أن العلامة في القواعد و موضع من التذكرة، و المحقق الثاني في جامع المقاصد اختارا المنع.

و منها: قوله: «بل للرضاع بمعنى الانتفاع بلبنها و إن لم يكن منها فعل ..» إذ فيه: أنّ الانتفاع تارة يكون بنحو الارتضاع، فتصير المرأة كالدار و غيرها من الأعيان ذوات المنافع، في مقابل الإرضاع، الذي تكون الإجارة له كإجارة العامل للعمل. و اخرى لا يكون بنحو الارتضاع، بأن يحلب في إناء ليشربه الطفل، كحلب لبن البقر و الشاة في إناء ليشرب. و الإجارة صحيحة في الأولى دون الثانية، لكون اللّبن بعد الحلب كالخبز و غيره من الأعيان التي لا يجوز استيجارها، لتلفها بالانتفاع بها، فلا يجوز إجارة الخبز للأكل، و اللبن للشرب، و الحطب و الشمع للإشعال.

و عليه فلا بد من تقييد الانتفاع باللبن بأن يكون بنحو الارتضاع كما هو الحال في التقام الطفل ثدي المرأة و امتصاصه، الذي هو استيفاء لمنفعة المرأة مع بقاء عينها، كاستيفاء سكنى الدار مع بقائها على حالها. فمجرد إطلاق الانتفاع باللبن لا يصحّح الإجارة، لصدق التبعية للعين على اللبن ما دام في الثدي و كونه منفعة لها، و عدم صدقها على اللبن المحلوب في الإناء، و كذا على الثمرة المقتطفة من الشجرة، مع أنّ الإجارة تتعلق بالعين ذات المنفعة، و لا بدّ من بقاء العين التي تعلقت الإجارة بها، و عدم تلفها بالاستيفاء.

و لعلّ ما عن جامع المقاصد- من تعليل بطلان الإجارة للرضاع «بأنّ الإجارة مشروعة لنقل المنافع لا الأعيان، و اللّبن من الثانية» بل قيل: انّه يظهر من محكي التذكرة: «الإجماع على الفساد فيه، و أنّه يتم على قول المخالفين من أنّ الإجارة قد تكون لنقل الأعيان»- ناظر إلى اللبن المنفصل عنها بالحلب في إناء ثم شرب الطفل منه، لا إلى صورة امتصاص المرتضع ثدي المرضعة، لصدق تبعية اللبن للمرأة، فلا مانع من استئجار المرأة لذلك، لأنّها حينئذ بمنزلة الدار و نحوها من الأعيان ذوات المنافع، و لذا يكون الارتضاع مغايرا حكما لشرب لبن المرأة من الإناء، لانتشار الحرمة بالأوّل دون الثاني. و لو كانت الشاة كذلك جاز استيجارها للانتفاع بها

ص: 44

______________________________

بامتصاص ثديها.

و بالجملة: الانتفاع بالعين المستأجرة إن لم يكن متلفا لنفس تلك العين جاز الاستيجار له و إن استلزم الانتفاع بها إتلاف عين اخرى، كالاستيجار على الخياطة المنوطة بإتلاف الخيط، و الاستيجار على إيجاد السّرير أو الباب أو غيرهما ممّا يتوقف العمل على إتلاف عين من الخشب و المسمار، و نحو ذلك.

تحقيق اختصاص المبيع بالأعيان ثم إن تحقيق ما في المتن من اختصاص المعوّض بالعين يستدعي بسط الكلام في مقامين، أحدهما: في أصل اعتبار عينية المبيع، و ثانيهما في عدم الفرق بين الأعيان الشخصية و الكلّية.

أمّا المقام الأوّل، فمحصّله: أنّه لا ريب في اعتبار عينية المبيع عند المشهور، كما يشهد به تعريفهم للبيع بنقل العين و نحوه، بل لا يبعد دعوى تسالمهم عليه. و الظاهر تقوّم صدقه العرفي بذلك، بمعنى عدم إطلاق «البيع» على تمليك غير العين إلّا بالعناية و المسامحة، فيكون أخذها في التعريف ناظرا الى دخلها في المفهوم العرفي الموضوع لأحكام خاصة، لا للتعبد الشرعي، خصوصا مع ما تقدم عن ابن الأثير من عدم إطلاق المال على غير الأعيان المتمولة.

لكن أنكر المحقق الايرواني قدّس سرّه ذلك، و ادّعى القطع بصدق البيع على إبدال المنافع و غيرها، و أنّ معناه نقل متعلق السلطان عينا كان أو منفعة أو حقّا، و لأجله جاز للإنسان أن يبيع نفسه لولا التعبد الشرعي على المنع، و أن يبيع منفعته و عمله، كما جاز أن يشتري نفسه إذا كان مملوكا للغير «1».

و تظهر ثمرة النزاع في إنشاء تمليك المنافع بعنوان البيع، كأن يقول: «بعتك سكنى الدار بكذا» فبناء على المشهور لا ينعقد بيعا، و لا تجري فيه أحكامه المختصة به كخيار المجلس.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 74

ص: 45

______________________________

و صحته بعنوان الإجارة منوطة بدلالة البيع على نقل المنفعة، و على جواز إنشاء العقود اللازمة بالكناية و المجاز كما سيأتي تفصيله في بحث ألفاظ العقود إن شاء اللّه تعالى. و بناء على مختار المحقق الايرواني قدّس سرّه يصح الإنشاء المزبور بعنوان البيع، لصدق «نقل متعلق السلطان بعوض» عليه.

و لمّا كان «البيع» موضوعا لأحكام خاصة تعيّن تحديده و تمييزه عن سائر العناوين المعاملية، فنقول و به نستعين:

قد استدلّ للمشهور بالتبادر عند أهل اللسان، و صحة سلب العنوان عن تمليك ما عدا الأعيان، بضميمة أصالة عدم النقل عن معناه العرفي. و ممّا اشتهر بين الفقهاء جعل الفارق بين البيع و الإجارة كون الأوّل تمليك الأعيان، و الثاني تمليك المنافع.

و يمكن استظهار هذا المعنى من كلماتهم في بابي البيع و الإجارة، أمّا في البيع فلما تقدّم في التوضيح من تعريفه بنقل العين أو بانتقالها أو بالعقد الدال على النقل أو على الانتقال، مضافا إلى تصريح بعضهم كالعلّامة بعدم انعقاده على المنافع. و اشتهار المعنى بين الأصحاب من عصر شيخ الطائفة إلى المتأخرين كاف لإثبات معناه العرفي، و لا يقلّ عن أخبار اللغوي بما استعمل فيه اللفظ. و لعلّه لهذا نفى صاحب الجواهر قدّس سرّه الخلاف في المسألة، بل ادّعى الإجماع صريحا الشيخ الفقيه كاشف الغطاء في شرحه على القواعد معلّقا على قول العلامة «فلا ينعقد على المنافع» بما لفظه: «للأصل، مع القطع بعدم صدق الاسم، لما مرّ، أو الشك فيه، و للإجماع».

و أما في الإجارة فيكفي تصريح العلامة بذلك، حيث قال: «الإجارة عقد يتعلق بنقل المنافع، و ليست بيعا عندنا. و قال الشافعي و أحمد: الإجارة نوع من البيع، لأنّها تمليك من كل واحد منهما لصاحبه .. و هو غلط، لأنّ البيع مختص بنقل الأعيان. إذا ثبت هذا فلو قال في الإيجاب: بعتك منفعة هذه الدار شهرا بكذا، لم يصح عندنا، لما بيّنّا من اختصاص لفظ البيع

ص: 46

______________________________

بنقل الأعيان» «1». و كلمة «عندنا» لا تخلو من ظهور في الإجماع بل هي من ألفاظه. و لا وجه للخدشة فيه بأنه إجماع منقول لا يعتمد عليه، إذ المقصود استكشاف معنى اللفظ عند أهل اللسان، و مثله يثبت بدعوى الاتفاق على مدلول اللفظ.

فإن قلت: لم يثبت الاتفاق على اختصاص البيع بتمليك الأعيان، بل ثبت الخلاف فيه كما يظهر من كلام بعضهم في البيع و الإجارة. أما في البيع فقد عرّفه المحقّق في الشرائع بأنه «العقد الدال على نقل الملك» «2» و تبعه في ذلك جماعة من أساطين الفقه كالمحقق الثاني و الشهيد و الفاضل السبزواري، و الفاضل النراقي «3». و حيث إنّ الملك أعم من العين، فدعوى اختصاصه بالعين كما ترى.

و أما في كتاب الإجارة فقد تردّد المحقق في إنشاء الإجارة بلفظ البيع و لم يحكم ببطلانه، قال: «و لو قال: بعتك هذه الدار و نوى الإجارة لم يصح، و كذا لو قال بعتك سكناها، لاختصاص لفظ البيع بنقل الأعيان. و فيه تردد» «4». كما تردّد الشهيد أيضا في المسألة، و معه لا سبيل لاستكشاف مدلول اللفظ بالاتفاق، بعد وقوع الخلاف فيه بين الفقهاء.

قلت: كلمات هؤلاء الأجلّة- في الموضعين- غير قادحة في دعوى الإجماع على اختصاص البيع بتمليك الأعيان، و إطلاقه على نقل المنافع مجازا. أمّا تعريف البيع بنقل الملك فلا يدلّ على صدق البيع على تمليك المنفعة حقيقة، لكون مرادهم بالملك العين لا ما يعمّ المنفعة، فالمحقق عرّف البيع في المختصر النافع «بالعقد الناقل للعين المملوكة» «5»،

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 291

(2) شرائع الإسلام، ج 2، ص 7

(3) لاحظ جامع المقاصد، ج 4، ص 55، الروضة البهية في شرح اللمعة، ج 3، ص 221؛ كفاية الأحكام، ص 88، مستند الشيعة، ج 2، ص 360

(4) شرائع الإسلام، ج 2، ص 140؛ الروضة البهية في شرح اللمعة، ج 4، ص 328

(5) المختصر النافع، ص 118

ص: 47

______________________________

و المحقق الثاني صرّح بمجازية البيع في تمليك المنفعة «1» كما سيأتي نقل كلامه. و الشهيد عرّفه في الدروس بأنه «نقل العين» «2»، و صرّح في رهنه أيضا «ببطلان رهن المنفعة، لعدم إمكان بيعها» «3». و الفاضل النراقي اعتبر في شرائط العوضين «أن يكونا عينين، فلو كانا منفعة كسكنى الدار مدّة لم ينعقد للإجماع» «4».

و لأجل تسالمهم على الاختصاص و عدم كون المسألة خلافيّة أورد الشهيد الثاني في المسالك على تعريف المحقق بما لفظه: «أن الملك يشمل الأعيان و المنافع، فينتقض في طرده أيضا بالإجارة، فإنّ عقدها أيضا لفظ دالّ على نقل الملك- و هو المنفعة- بعوض معلوم» «5» و بمثله أورد في الروضة على تعريف الشهيد في اللمعة.

و عليه فما ذكروه في تعريف البيع بنقل الملك لا ينافي تسالمهم على اعتبار عينية المبيع.

و أمّا ما ذكروه في الإجارة من التردد في بطلان إنشائها ببيع السكنى فلا يصادم الاختصاص المزبور، و ذلك لعدم كون منشأ التردد احتمال إطلاق البيع على نقل الملك عينا أو منفعة، بل منشؤه الاختلاف في اعتبار الصراحة و الظهور الوضعي في ألفاظ العقود مطلقا أو خصوص اللازمة منها، و عدم تحققها بالمجاز و الكناية و المشترك. و يشهد له بيان الشهيد الثاني في المنع عن إنشاء الإجارة بلفظ العارية، حيث قال: «و لا يخفى أنّ التجوز بمثل ذلك خروج عن مقتضى العقود اللازمة» «6».

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 7، ص 83

(2) الدروس الشرعية، ج 3، ص 191

(3) المصدر، ص 387

(4) مستند الشيعة، ج 2، ص 371

(5) مسالك الافهام، ج 3، ص 146

(6) مسالك الأفهام، ج 5، ص 173

ص: 48

______________________________

و قال في الجواهر في جواز إنشاء البيع بلفظ السّلم: «قولان أشبههما العدم، لأنه مجاز في مطلق البيع، و العقود اللازمة لا تنعقد بالمجازات كما صرّحوا به» «1». و قال المحقق الثاني:

«و إذا قال: بعتك سكناها سنة فقد تجوّز في السّنة، فإنّ السكنى لا يقع عليها البيع إلّا مجازا» «2».

و الحاصل: أنّ اختصاص البيع عندهم بنقل الأعيان و مجازيّته في نقل المنافع من الواضحات، و مقصودهم بيان المتفاهم العرفي بما أنّهم من أهل اللسان، و لذا استند بعضهم إلى التبادر، و عليه فلا وجه لإشكال بعض الأعاظم على الاستناد إلى كلمات الأصحاب «بأن غرضهم بيان موضوع الأثر شرعا، مع أنّ الكلام في تحديد المعنى عرفا» و ذلك لأنّ الاستشهاد بكلماتهم ناظر إلى كونهم من أهل اللسان، لا إلى كونهم فقهاء حتى يكونوا بصدد بيان المعنى الشرعي، بل صرّح بعضهم بأن المعرّف هو المعنى العرفي لكونه المتبادر من اللفظ عند الإطلاق. و احتمال استناده إلى القرائن لا إلى حاقّ اللفظ مندفع بأن الحجة على الوضع عندهم أحد أمرين، تنصيص الواضع، و انسباق المعنى الى الذهن عند سماع اللفظ مجرّدا عن القرينة «3».

و قد تحصّل مما ذكرناه: أن مستند الفقهاء في أخذ العين في البيع هو التبادر عند أهل اللسان، و ليس الغرض تحديد ما هو موضوع الأثر شرعا، بل تحديد معناه العرفي. هذا ما يتعلق بالقول المشهور.

و أمّا القول الثاني- و هو عدم اعتبار عينية المبيع- كما اختاره المحقق الايرواني و غيره فيستدلّ له بإطلاق البيع في الاستعمالات الفصيحة على غير نقل الأعيان بلا قرينة، كما في مثل قوله تعالى أُولٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلٰالَةَ بِالْهُدىٰ «4». فإنّ المقابلة بين البيع و الشراء تقتضي كون المبيع هي الهداية التي ليست من سنخ الأعيان و المنافع التي يبذل بإزائها المال.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 248

(2) جامع المقاصد، ج 7، ص 83

(3) معارج الأصول، ص 50 للمحقق الحلي.

(4) البقرة، الآية: 16

ص: 49

______________________________

و قوله تعالى وَ لَبِئْسَ مٰا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ «1».

و قوله تعالى وَ لٰا تَشْتَرُوا بِآيٰاتِي ثَمَناً قَلِيلًا «2» و غير ذلك من الآيات التي أطلق فيها البيع و الشراء على غير نقل العين، على حدّ إطلاقهما عليها في قوله تعالى وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرٰاهِمَ مَعْدُودَةٍ «3».

و تقدمت روايات بيع خدمة العبد المدبّر و سكنى الدار و نحوهما من إطلاق البيع على نقل المنفعة و الحق بلا عناية. كما تعارف في هذه الأزمنة إطلاق البيع على نقل بعض الحقوق كالسرقفلية، و غيرها. و لا ريب في أن كثرة موارد الاستعمال- المجرّدة عن قرينة المجاز- كاشفة عن أعمية الموضوع له، أو المتفاهم من اللفظ، و أنّ البيع بمعنى نقل خصوص العين صنف خاص من طبيعي النقل المستفاد من إطلاقاته في الكتاب و السنة و المحاورات العرفية.

و لعلّه لهذا ذهب المحقق الأصفهاني قدّس سرّه إلى أنّ البيع العرفي بمعنى نقل العين صنف من مفهومه العام، حيث قال في التسبب إلى حقيقة الإجارة بالإعارة و البيع ما لفظه: «فإنّ أخبار بيع خدمة المدبّر و الإطلاقات الشائعة القرآنية و غيرها من دون عناية أصدق شاهد على أنّ مفهوم البيع عرفا غير مقصور على تمليك العين بعوض، و إن كان البيع المقابل للإجارة المحكوم بأحكام خاصّة صنفا مخصوصا من طبيعي معناه اللغوي و العرفي» «4».

لكنك خبير بأنّ مجرّد شيوع استعمال البيع في غير نقل الأعيان لا يكشف عن أعمية الموضوع له بعد ما عرفت من تبادر صنف خاص الى الذهن، و هو من أمارات الوضع. و يؤيّده تصريح مثل المحقق الثاني بمجازية البيع في تمليك المنفعة.

و عليه فالوضع للأعم أو وضعه تارة للصنف و اخرى لطبيعي النقل منوط بقيام إحدى

______________________________

(1): البقرة، الآية: 96

(2) المائدة، الآية: 48

(3) يوسف، الآية: 20

(4) كتاب الإجارة، ص 8

ص: 50

______________________________

أماراته عليه، و لا يكفي نفس الاستعمال، لما تقرّر من كون أصالة الحقيقة من الأصول المرادية التي يعوّل عليها عند الشك في مراد المتكلم بعد إحراز الحقيقة و المجاز.

و ما نسبه المحقّق الأصفهاني إلى اللغة و العرف محل تأمل، إذ لم أقف على معنى آخر في اللغة أعم من «مبادلة مال بمال» و ظهوره في حصر المعنى فيه لا كونه صنفا من معناه العام ممّا لا ينكر. و كذا في العرف كما تقدم.

مع أنّ لازم وضع البيع لطبيعي التبديل لغة و عرفا إجمال الأدلة المتكفلة لأحكام البيع كآية حلّ البيع و دليل خيار المجلس و نحوهما، لعدم إحراز الموضوع. حيث لا قرينة معيّنة على موضوعية الصنف أو الطبيعي.

و دعوى حمل البيع المقابل للإجارة على نقل العين غير ظاهرة، لفرض تردّد الموضوع في مثل «البيعان بالخيار» بين كون المعوّض عينا و ما يعمّ المنفعة، لفرض صدق البيع على بيع سكنى الدار حقيقة، و يلزمه إجراء أحكامه عليه، و لا أقلّ من كون الشبهة مفهومية، مع تسالمهم على مرجعية تلك الأدلة بلا فحص عن قرينة تعيّن المراد من البيع، و هذا كاف في استقرار ظهور اللفظ عندهم في ما كان المعوّض عينا.

و الحاصل: أنّ ما ذهب إليه المشهور من اختصاص البيع بتمليك الأعيان و نقلها هو المتيقن من مفهومه العرفي.

و لو شكّ في شموله لنقل المنافع امتنع التمسك بالإطلاقات لتصحيحه، للشك في الموضوع حسب الفرض، كما أفاده المحقق النائيني قدّس سرّه «1». و مجرد «صدق العقد العرفي على إنشاء نقل المنفعة بعنوان البيع فيحكم بصحته للأمر بالوفاء بالعقود و تنفيذها» لا يقتضي ترتيب الأحكام المختصة بالبيع عليه. بل يشكل ترتيب آثار الإجارة عليه أيضا، إلّا بناء على دلالة البيع- و لو بمعونة القرينة- على تمليك المنفعة، و على كفاية الإنشاء بالمجازات، و تحقيقه موكول الى بحث ألفاظ العقود.

______________________________

(1): المكاسب و البيع، ج 1، ص 88

ص: 51

______________________________

هذه جملة من الكلام في المقام الأوّل و هو أصل اعتبار العينية في المبيع.

لا فرق في المبيع بين الأعيان الشخصيّة و الكلية بأقسامها و أما المقام الثاني- و هو عدم الفرق في العين بين الشخصية و الكلية بأقسامها- فنخبة الكلام فيه: أنّ الظاهر عدم اختصاص المبيع بالعين الشخصية، فتعمّ الكلّية بأقسامها من المشاع و المعيّن و الدين و الذّمي، لصدق العين المقابل للمنفعة و الحق على جميع ذلك، و ادّعى السيد الطباطبائي قدّس سرّه «الإجماع على الصحة» «1».

و ربما يشكل انطباق مفهوم البيع على الكلّي الذمي، و منشأ الاشكال أمران، أحدهما:

انتفاء الملكية، و هو مشترك بين قسمي الذمي من الدين و الحال، و ثانيهما: انتفاء المالية، و هو مختص ببيع الكلي في ذمة نفسه من دون أن يكون دينا على غيره.

و تقريب الاشكال المشترك هو: انتفاء الملكية مع أن البيع تمليك عين بعوض، و بيانه:

أنّ الملكية تكون من قبيل الأعراض التي لا تتحقق في دار الوجود إلّا في موضوع محقّق، نظير السواد و البياض اللّذين يكون وجودهما المحمولي وجودا نعتيّا لمعروض فعلي. و حيث إنّ الكلّي الذّمي معدوم امتنع اتصافه بالمملوكية، و من المعلوم عدم صدق البيع بانتفاء الملكية التي تقع المبادلة فيها. و لا فرق في هذه الجهة بين الدين و غيره، لأنّ مناط الإشكال امتناع قيام الملكية بالمعدوم، نعم بيع الكلي المشاع و المعيّن سليم عن هذا المحذور، لكون معروض الملكية موجودا بالفعل.

و تقريب الإشكال الثاني- المختص بالكلي الذمي غير الدين- هو: أنّ البيع مبادلة مال بمال، و ظاهره اعتبار مالية العوضين مع الغضّ عن تعلق العقد بهما، و من المعلوم أنّ الكلّي الذمي لا يعدّ مالا قبل البيع، فلا يقال لمن ليس له حنطة: انه ذو مال بالنسبة إلى ألف منّ منها، نعم بعد تمليك كلّي الحنطة للغير يكون المشتري ذا مال في ذمة البائع، لكن المناط في صدق البيع

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 53

ص: 52

______________________________

كون كلّ من العوضين في حد نفسه مالا.

هكذا قرّر السيد قدّس سرّه الإشكالين، و جعل مصبّهما الكلّي الذّمي دينا أو غيره، ثم أجاب عنهما بما سيأتي.

لكن الظاهر أنّ إشكال ملكية المعدوم جار في القسمين الآخرين أعني بهما: المشاع و المعيّن. أمّا في المشاع كبيع نصف الدار فلما قيل من أنّ الوجود مساوق للتعين، و لا تعيّن للكسر المشاع قبل الإفراز، إذ الموجود هو الدار، و النصف بعد التقسيم موجود مستقل لا يصدق عليه النصف. فصحّ أن يقال: الكسر المشاع معدوم فلا ملك حينئذ.

و أمّا في الكلي في المعيّن كصاع من صبرة فكذلك، فإنّ الشي ء ما لم يوجد لم يتشخص، فالوجود مساوق للتشخص، و الصّاع بوصف كليته الصادق على كل واحد من صيعان الصبرة غير موجود بالفعل، لأنّ الموجود أبعاض الصبرة و آحادها، و الواحد الشخصي غير قابل الصدق على الكثير، مع أنّ المبيع حسب الفرض هو الصاع بوصف قابلية الانطباق على كل واحد من الصيعان، و ليس صاعا شخصيا، و لذا لا يملكه المشتري قبل التقسيم و الإفراز.

و الحاصل: أن محذور بيع الكلّي الذمي- أعني به انتفاء معروض الملكية- جار في المشاع و المعيّن، و إن كان الفارق تقيّد المبيع بصنف من الطبيعي و هو المحصور في الدار و الصبرة، و عدم تقيد الذمي به، لكن هذا المقدار من الفرق غير رافع للإشكال.

و الغرض الإشارة إلى عموم المحذور، و تحقيقه موكول إلى مسألة بيع نصف الدار و بيع الصاع.

و كيف كان فيندفع إشكال عدم كون الكلّي الذّمي مملوكا بأنّ الملكية تطلق تارة على الملكية الحقيقية التي يراد بها الإحاطة القيومية المعبّر عنها بالإضافة الإشراقية التي هي إفاضة الوجود على الممكنات، و هذه الإحاطة نظير إحاطة النفس بالصور المخلوقة لها. و الملكية بهذا المعنى ليست من المقولات، بل هي عين الإيجاد.

ص: 53

______________________________

و اخرى على الملكية المقولية المعبّر عنها بالجدة، التي هي هيئة حاصلة من إحاطة جسم بجسم، كإحاطة العمامة بالرأس، و القميص بالبدن، و الملكية بهذا المعنى عرض مقولي يتوقف على محيط و محاط خارجيّين.

و ثالثة على الملكية الاعتبارية، و هي الإضافة الخاصة بين شيئين لوحظ فيها تبعية أحدهما للآخر، كما في قولنا: «الدار لزيد» فإنّ اللّام تحكي عن كون الدار مضافة بالإضافة الملكية التي روعي فيها حيثية التابعية و المتبوعية، فلو كان طرفا هذه الإضافة من سنخ واحد كما إذا كانا جمادين غير صالحين لمتبوعية أحدهما للآخر امتنع اعتبار الملكية، لأنّ جعل أحدهما تابعا للآخر ترجيح بلا مرجّح و خال عن المقتضي.

و عليه فالملكية الاعتبارية- التي هي مدار المعاملات- ليست من الأعراض المقولية المنوطة بوجود موضوعاتها خارجا، فلا تتوقف على وجود معروضها كذلك، بل يكفي في اعتبارها وجود محلها اعتبارا بلحاظ ترقّب حصوله، فيكون كل من الملكية و المملوك- بل و كذا المالك في بعض الموارد ككلّي السيد و الفقير- أمرا اعتباريا، و من المعلوم أنّ العقلاء يعتبرون الملكية للكلّي الذمي- بقسميه- خصوصا الدين، كما يعتبرونها للثمرة المتجددة فيما بعد، و للمنفعة المعدومة، و للأعيان الشخصية الموجودة بالفعل.

و الحاصل: أنّ الملكية الاعتبارية تابعة لاعتبار العقلاء و الشارع، سواء أ كان المملوك فعليّا أم مما يتوقع وجوده، و يكفى شاهدا عليه تعارف بيع السلف عندهم بعد إحراز أهلية المتعهّد، فالبائع مالك لألف منّ من الحنطة في ذمة نفسه و إن لم تكن موجودة بالفعل.

و دعوى: أن الملكية الاعتبارية محقّقة في بيع دين على ذمة الغير، و أما «بيع السلم و نحوه فيشكل، إذ لا مملوك لا خارجا و لا في الذمة. أما انتفاؤه في الخارج فواضح، و أمّا في الذمة فلأنّه لا ملك قبل العقد حسب الفرض، فإن لم يعتبر مالكية نفسه للمبيع لم يكن بيعا، و إن اعتبرها بنفس إنشائه لزم إيجاد موضوع المبادلة بمحمولها المتأخر عنه، و من المعلوم استحالة إيجاد المتقدم بالرتبة بما هو متأخر عنه كذلك» غير مسموعة، لكفاية اعتبار مالكية المبيع آنا ما

ص: 54

______________________________

قبل الإنشاء كما التزموا بها في موارد كالمعاطاة بناء على الإباحة، و شراء العمودين و نحوهما ممّن ينعتق عليه بمجرد الشراء قهرا.

و ما أفاده بعض الأجلة قدّس سرّه من تصحيح بيع الكلي الذمي «بالملكية الرّتبية، نظير فسخ ذي الخيار» «1» فإن كان مراده بالرتبة الملكية الزمانية الآنيّة- حيث لا اعتبار للملكية في غير وعاء الزمان- فهو متين، و لعلّ تنظيره بعود المال الى ملك ذي الخيار بمجرد فسخه الفعلي شاهد على إرادة الملكية الآنيّة. و إن كان مراده بالرتبة ما يصطلح عليها في باب العلة و المعلول، مع وحدة وجودهما زمانا بمقتضى تكافؤ المتضايفين فغير ظاهر، إذ لا علّيّة بين اعتبار ملكية الكلي و بين إنشاء البيع عليه.

هذا كلّه في حلّ الاشكال عن بيع الكلي الذمي من جهة اعتبار ملكية المبيع.

و أما الإشكال الثاني- و هو انتفاء المالية المعتبرة في البيع- فقد أجاب عنه السيد قدّس سرّه بما لفظه: «ان المعتبر في البيع بل سائر التمليكات ليس إلّا كون المتعلق ممّا يتموّل في حدّ نفسه و إن لم يعدّ كونه مالا عرفيّا للمملّك، و من المعلوم أن ألف منّ من الحنطة مال بهذا المعنى» «2».

و ببيان المحقق الأصفهاني قدّس سرّه: ان المالية صفة ثبوتية تنتزع من الشي ء بملاحظة كونه في حد ذاته مما يميل إليه النوع، كالمنّ من الحنطة، فإنّه ليس في حدّ نفسه كالمنّ من التراب. إلّا أنّ المالية كالملكية صفة اعتبارية، و ليست كالأعراض المقولية المنوطة بوجود معروضاتها خارجا، فمنشأ الانتزاع موجود خارجا تارة، و اعتبارا أخرى. و المال بهذا المعنى صادق على الكليات الذمية بلحاظ توقّع وجودها، و لذا يتنافس العقلاء على شرائها سلما «3».

______________________________

(1): جامع المدارك، ج 3، ص 69

(2) حاشية المكاسب، ص 54

(3) حاشية المكاسب، ص 3

ص: 55

______________________________

و لو قيل بأنّ عدم مالية الكلي الذمي ينشأ من تقيده بالذمة المانع عن قابلية وجوده خارجا، و مثله يمتنع اتصافه بالمالية، قلنا: انّ العهدة ظرف للكلي لا قيده حتى يمتنع وجوده العيني، و من المعلوم عدم اقتضاء الظرفية المنع عن قابلية الانطباق على ما في الخارج، و المالية تتوقف على هذه القابلية كما لا يخفى.

و قد تحصّل اندفاع إشكال بيع الكلي من ناحيتي الملكية و المالية معا، هذا. مضافا الى الإجماع المدّعى في كلام صاحب العروة قدّس سرّه.

و قد أجيب عن إشكال الملكية بوجوه اخرى تعرض السيّد لها و لما فيها، و نحن نقتصر على بيان وجهين منها:

الأوّل: ما أفاده الفاضل النراقي قدّس سرّه في تصوير بيع المعدوم كالسّلم بقوله: «قلت: اللازم في البيع تحقق النقل حال البيع، لا تحقق الملك حينئذ، لجواز نقل الملك المتحقق غدا أو بعد شهر اليوم، كما في نقل المنفعة في الإجارة، سيّما إذا لم يكن مبدؤها متصلا بالعقد ..» «1».

و محصله: أنّ محذور بيع الكلي يتوقف على كون البيع نقلا للملك الفعلي، فيشكل حينئذ بامتناع التمليك مع انتفاء المملوك. و لكن البيع نقل الملك، و لا مانع من فعلية النقل و استقبالية المملوك، لعدم كون النقل عرضا حتى تتوقف فعليته على فعلية معروضه و هو الملك، هذا.

و لكنك خبير بأنّه لا وجه للتصرف في معنى البيع بجعله نقلا فعليا و إن كان المنقول معدوما حين النقل، بل يمكن تصحيحه حتى بناء على كون البيع نقلا للملك الفعلي، و ذلك لأنّ الملكية و الزوجية- كما صرّح به الفاضل النراقي بعد أسطر «2»- من الأحكام الوضعية، و من المعلوم أنّها أمور اعتبارية لا ثبوت لها إلّا في أفق الاعتبار بعد تحقق مصحّح الاعتبار عند

______________________________

(1): عوائد الأيام، ص 38

(2) المصدر، ص 39

ص: 56

______________________________

العقلاء و الشرع، و ليست من الأعراض المقولية التابعة لمعروضاتها قوّة و فعلا. و لا ريب في اعتبارهم مملوكية المعدوم بعد تعارف بيع السّلم عندهم، و هو كاشف عن كفاية فرض الوجود لطرف إضافة الملكية في المعاملة عليه، و عدم اعتبار وجوده العيني، و على هذا لم يتوقف تصحيح بيع الكلّي على التصرف فيه بما أفاده الفاضل قدّس سرّه من كون الملكية حكما وضعيّا دائرا مدار الاعتبار، و ليست عرضا مقوليا حتى يتخيل امتناع قيامها بالمعدوم.

مع أنّ عدوله الى جعل البيع نقلا فعليا- و إن كان المنقول استقباليا- غير مجد، أمّا أوّلا:

فلأنّ النقل و إن لم يكن عرضا مصطلحا، إلّا أنّه من المعاني التي لا استقلال لها في التحصّل، بل لا بد أن يكون بلحاظ مكان أو إضافة، فإذا لم تكن إضافة الملكية إلى المعدوم معقولة فالنقل بلحاظها غير معقول أيضا، فكما أنّ الملكية غير فعلية فكذا النقل غير فعلي، و إنّما هو معلّق على أمر متأخر، و من المعلوم مبطلية التعليق إجماعا.

و لو قيل: بأنّ الملكية فعلية، و الموجود بالقوّة هو المملوك، فنقل الملكية فعليّ و لا ربط له بالتعليق، قلنا: إنّ الملكية نسبة خاصة بين المالك و المملوك، و مع انتفاء المملوك حسب الفرض لا يعقل وجود الملكية فعلا، و هذا كرّ على ما فرّ منه.

هذا ما أفاده السيد «1» و المحقق الأصفهاني «2» قدّس سرّهما بتوضيح منّا.

و أمّا ثانيا: فللنقض بما في كلام السيد أيضا من: أن لازم كلام الفاضل قدّس سرّه بطلان البيع إذا تعذّر بعد ذلك تسليم الكلّي، أو أمكن و لم يحصل للبائع، لكونه كاشفا عن أنه باع ما ليس له، و من المعلوم أنّه لا يكون باطلا، بل له خيار تعذر التسليم «3».

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 54

(2) حاشية المكاسب، ج 1، ص 3

(3) حاشية المكاسب، ص 54

ص: 57

______________________________

إلّا أنّه يمكن ذبّه بتصريح الفاضل بدلالة الأخبار على اشتراط المملوكية حال البيع، و إنّما يخرج عنه بدليل كما في بيع السّلم و بيع المعدوم مع الضميمة. و مقتضى هذا البيان الالتزام بصحة بيع الكلّي سلما، و تعذر التسليم لا يستلزم البطلان بل يوجب الخيار.

الوجه الثاني: ما أفاده السيد، قدّس سرّه و محصله: أنّ الملكية و إن كانت من الأعراض الخارجية، إلّا أنّ حقيقتها عين اعتبار العقلاء أو الشارع، فيمكن أن يكون محلّها موجودا في وعاء الاعتبار كالكلي الذمي و المنفعة المعدومة و الثمرة المتجددة، نظير الوجوب و الحرمة، فإنّهما و إن كانا عرضين إلّا أنّهما يتعلقان بكلّي الصلاة و الشرب قبل وجودهما في الخارج «1».

أقول: إن كان مراده قدّس سرّه من كون الملكية عرضا خارجيا ما اصطلح عليه أهل المعقول- أي الماهية التي لو وجدت وجدت في موضوع- في قبال الجوهر توجّه عليه ما أفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه من امتناع الجمع بين كونها عرضا و اعتبارا عقلائيا، لما بينهما من التقابل، فالعرض المقولي أمر واقعي، و الاعتبار المقابل للمقولات لا ثبوت له إلّا في أفق الاعتبار، فعدّها من الأعراض معناه توقف فعليّتها على فعلية معروضها أي المملوك، كما أنّها إن كانت من الاعتباريات المغايرة سنخا للمقولات كان نفس اعتبارها منشأ لترتيب الآثار عليها. و كان المناسب أن يقتصر السيد قدّس سرّه على أن حقيقتها عين اعتبار العقلاء.

و إن كان مراده من العرض معناه اللغوي و هو اللحوق لا العرض المقولي فما أفاده متين، فالملكية نسبة بين المالك و المملوك و يتصف بها المال، و معنى خارجيّتها عدم كونها مجرّد تخيّل كأنياب الأغوال. و لا تنافي حينئذ بين توصيف الملكية بالعرض الخارجي و بالأمر الاعتباري، هذا.

و الإنصاف أن ما ألزمه به المحقق الأصفهاني في محله، لكونه أخذا بظاهر الكلام.

هذا تمام الكلام فيما يتعلق بالمعوّض.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 54

ص: 58

[الثمن في البيع أعم من العين و المنفعة]

و أمّا العوض (1) فلا إشكال (2) في جواز

______________________________

الثمن في البيع أعم من العين و المنفعة

(1) قد عرفت اختصاص المعوّض بالعين، و أمّا العوض فلا يعتبر فيه ذلك، بل يكفي كونه مالا يرغب فيه و يتنافس عليه، سواء أ كان عينا أم منفعة أم حقّا، و حيث إنّ صدق البيع على ما إذا كان كلا العوضين عينا من المسلّمات لم يتعرض له المصنف قدّس سرّه، و إنّما عقد الكلام في مقامات ثلاثة، أحدها: في كفاية كون العوض منفعة، و ثانيها: في حكم عمل الحرّ.

و ثالثها: في جواز جعل بعض الحقوق عوضا، و سيأتي تفصيل الكلام فيها عند تعرض المصنف له إن شاء اللّه تعالى.

أمّا إذا كان العوض عينا فيجري فيه ما تقدّم في المعوّض من الأقسام، من الشخصية و الكليّة بأنواعها.

(2) من هنا شرع المصنف في بيان المائز بين الثمن و المثمن، و هو إشارة إلى المورد الأوّل أعني به البحث عن جواز كون الثمن منفعة، خلافا للوحيد البهبهاني قدّس سرّه القائل باعتبار عينية العوضين معا.

ثم إن المنفعة تطلق على معنيين:

الأوّل: ما يقابل العين، و هي حيثية قائمة بالعين، سواء أ كانت منفعة الأعيان الجامدة كسكنى الدار، أم منفعة الأعيان الناطقة كالأعمال المحترمة التي يعملها الكسوب- حرّا كان أو عبدا- كالخياطة و الطبابة و النجارة.

الثاني: ما يشمل العين، فيكون بمعنى الرّبح و الفائدة، فكما يقال: استفاد بتجارته عشرة دنانير مثلا أو ربح فيها، فكذا يقال: إنه انتفع فيها بعشرة، و من المعلوم أنّ المنفعة بهذا المعنى أعمّ من العين الخارجية و من الحيثية القائمة بالعين.

و المقصود بالمنفعة هنا هو المعنى الأوّل أي ما يقابل العين، كما لا يخفى.

ثم إنّ المصنّف قدّس سرّه حكم بجواز وقوع المنافع ثمنا في البيع سواء أ كانت كسكنى الدار أم

ص: 59

كونها (1) منفعة، كما في غير موضع من القواعد (2) و عن التذكرة (3) و جامع المقاصد، و لا يبعد عدم الخلاف فيه (4).

______________________________

خدمة العبد أم عمل الحرّ، و فصّل في الأخير بين وقوع معاوضة عليه قبل جعله ثمنا في البيع، و بين عدم وقوع المعاوضة عليه قبله، بالجواز في الأوّل و التأمل في الثاني كما سيظهر.

(1) تأنيث الضمير باعتبار الخبر.

(2) قد ظفرت بتصريح العلامة بجواز كون العوض منفعة في موضعين من القواعد، أوّلهما بيع السلف، حيث قال فيه: «و لو كان الثمن خدمة عبد أو سكنى دار مدّة معيّنة صحّ» «1» و من المعلوم عدم الفرق بين بيع السلف و غيره في الحكم.

و ثانيهما: عوض الإجارة، حيث قال: «و كلّما جاز أن يكون ثمنا جاز أن يكون عوضا، عينا كان أو منفعة، ماثلث أو خالفت» «2».

(3) قال في إجارة التذكرة: «مسألة: كلّما جاز أن يكون ثمنا في البيع جاز أن يكون عوضا في الإجارة، لما بينهما من التناسب حتى ظنّا واحدا. فعلى هذا يجوز أن يكون العوض عينا أو منفعة» «3».

(4) أي: في جواز كون العوض منفعة، قال في الجواهر: «و أمّا الثمن فالظاهر من إطلاق الأدلّة و الفتاوى و ما صرّح به في المصابيح من أنّه مطلق المقابل، فيدخل فيه الشخصي و الكلّي، و العين و المنفعة، فيكون البيع بالنسبة إلى ذلك كالإجارة و الصلح يقع بكلّ منهما، و لا فرق بينها من هذه الجهة» «4».

______________________________

(1): قواعد الأحكام، ص 52

(2) قواعد الأحكام، ص 89

(3) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 292، و لا حظ كلام المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 7، ص 103

(4) جواهر الكلام، ج 22، ص 209

ص: 60

نعم (1) نسب (2) إلى بعض الأعيان (3) الخلاف فيه (4).

و لعلّه (5) لما اشتهر في كلامهم من «أنّ البيع لنقل الأعيان».

______________________________

(1) استدراك على نفي البعد عن تحقق الإجماع على وقوع المنفعة ثمنا في البيع، و حاصله:

أنّه نسب الى بعض الأعيان اعتبار كون العوض عينا كالمعوّض، و مع وجود المخالف في المسألة لا تتجه دعوى نفي الخلاف.

(2) الناسب هو الفقيه الكبير الشيخ جعفر النجفي في شرحه على بيع القواعد، قال فيه:

«و منع بعض الأعيان ناش من قول بعض الفقهاء: انه موضوع لنقل الأعيان. و ليس إلّا نظير قولهم: الإجارة موضوعة لنقل المنافع».

(3) و هو الوحيد البهبهاني قدّس سرّه في رسالته الفارسية في المعاملات، قال فيها ما ترجمته:

«و من شرائط البيع كون المبيع و الثمن عينا لا منفعة، إذ البيع انتقال عين بإزاء انتقال عين. و أمّا المنفعة فيمكن انتقالها بعنوان اللزوم بعقد إجارة أو صلح» «1». و وافقه الفاضل النراقي قدّس سرّه «2».

(4) أي: في جواز كون العوض منفعة.

(5) أي: و لعلّ خلاف بعض الأعيان، و مقصوده قدّس سرّه توجيه فتوى الوحيد البهبهاني قدّس سرّه من اعتبار عينية كلا العوضين، و هذا التوجيه مذكور في مفتاح الكرامة و الجواهر «3»، و سبقهما في التنبيه عليه الفقيه الكبير كاشف الغطاء قدّس سرّه. و توضيحه: أنّه يمكن أن يكون خلاف بعض الأعيان ناظرا إلى ما اشتهر في كلمات الفقهاء «رضوان اللّه عليهم» في مقام الفرق بين البيع و الإجارة «أن البيع نقل الأعيان، و الإجارة نقل المنافع» و عليه لا يصدق مفهوم البيع

______________________________

(1): آداب التجارة، ص 25، و هذا نصّ كلامه: و از جملة شرائط بيع آن است كه مبيع و ثمن عين باشند نه منفعت، چه بيع انتقال عين بإزاء انتقال عين است. و أما منفعت پس انتقال آن بعنوان لزوم بعقد إجاره مى شود يا صلح.

(2) مستند الشيعة، ج 2، ص 371

(3) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 148؛ جواهر الكلام، ج 22، ص 209

ص: 61

و الظاهر (1) إرادتهم بيان المبيع، نظير قولهم: إنّ الإجارة لنقل المنافع.

______________________________

إلّا إذا كان كلا العوضين عينا، فمثل «تمليك كتاب بسكنى دار شهرا» ليس بيعا.

(1) هذا ردّ التوجيه المزبور، و حاصله: أنّ المراد بهذه الجملة المعروفة بين الفقهاء تعيين حال المعوّض خاصة، سواء في باب البيع و الإجارة، فمرادهم بوضع البيع لنقل الأعيان هو اعتبار عينية المبيع، كما أنّ مقصودهم بوضع الإجارة لتمليك المنافع هو اعتبار كون المعوّض منفعة، من دون نظر الى بيان حال العوض. و الشاهد على هذه الدعوى تصريح بعضهم- كما تقدم في عبارة قواعد العلامة- بجواز كون عوض الإجارة عينا و منفعة، فإذا آجر داره سنة للسكنى جاز أن يجعل الأجرة مائة دينار، كما جاز أن يجعلها خياطة ثوب أو بناء غرفة، و نحوهما. و هذا كاشف عن كون قولهم: «الإجارة لنقل المنافع» ناظرا إلى المعوّض خاصة، بلا نظر الى العوض، فيتعيّن حينئذ أن يراد بقولهم: «البيع لنقل الأعيان» اختصاص المعوّض بالعين، فالعوض إنّما تعتبر ماليّته سواء أ كان عينا أم منفعة أم حقّا، على خلاف في الأخير سيأتي بيانه.

هذا تمام ما أفاده المصنف في المقام الأوّل مما يتعلق بالعوض، و صار حاصله:

جواز كون المنافع ثمنا في البيع، إلّا صنفا خاصّا منها و هو عمل الحرّ كما سيأتي [1].

______________________________

[1] ما أفاده المصنف قدّس سرّه من نفي الاشكال عن كون العوض منفعة لا بدّ أن يكون لصدق «المال» عليها حتى ينطبق عنوان البيع أي «مبادلة مال بمال» على تمليك عين بمنفعة.

و لكنه ينافيه تردّده في مالية المنافع فيما يتعلق بالمقبوض بالعقد الفاسد من قوله تارة:

«بعد تسليم كون المنافع أموالا حقيقة» و أخرى: «بناء على صدق المال على المنفعة» و إن كان الصحيح ما اختاره هنا، من كفاية كون الثمن منفعة، إذ لا وجه لتخصيص الأموال بالأعيان كما هو ظاهر.

و كيف كان فيمكن الانتصار لمذهب الوحيد البهبهاني قدّس سرّه بوجوه اخرى غير ما تقدم

ص: 62

______________________________

في كلامه من كون البيع لنقل الأعيان.

الأوّل: انصراف أدلة البيع الى المتعارف من البيوع المتداولة بين الناس، من كون الأثمان أعيانا كالدراهم و الدنانير، لا منافع و إن كانت أموالا حقيقة.

و فيه: أن الموجب لانصراف الإطلاق إلى حصة من الطبيعي هو التشكيك في الصدق، لا مجرد غلبة الوجود. فمع الاعتراف بمالية المنافع كالأعيان- و صدق «مبادلة مال بمال» حقيقة على تمليك عين بمنفعة- لا وجه للشك في شمول الأدلة له كما هو واضح. نعم لا بأس بهذا الانصراف في مثل أدلة مانعية لبس ما لا يؤكل في الصلاة عن أجزاء الإنسان مع كونه من أفراده.

الثاني: الترديد في صدق «المال» على المنفعة، إمّا للجمود على ظاهر كلام ابن الأثير و غيره من عدم تسلّم صدقه على المنفعة، فيتوقف صدق البيع على كون العوضين من الأعيان.

و إمّا لأنّ المنافع معدومة حال العقد، و لا مالية للمعدوم، كما لعلّه يستفاد من كلام الشهيد قدّس سرّه في قواعده من أنّ «مورد الإجارة العين لاستيفاء المنفعة، لأنّ المنافع معدومة» «1».

و فيه: أنّ المال صادق عرفا على المنافع بل الحقوق أيضا، فلو شكّ في سعة مفهومه لها لغة كفى التعويل على معناه لدى العرف العام، مع أنّ ظاهر القاموس تعميم المال للمنافع، لقوله:

«ما ملكته من جميع الأشياء» إلّا أن يدّعى عدم إطلاق الشي ء إلّا على الأعيان، فليتأمّل.

و أمّا مجرد كون المنفعة معدومة فلا يقتضي سلب المالية عنها، لما تقدم في بيع الكلي من أن المناط في الملكية و المالية وجود مصحّح الاعتبار العرفي أو الشرعي، لا وجود ذات المال و الملك خارجا. و عليه فسكنى الدار مثلا مما يبذل بإزائه المال و يرغب فيه، و معه لا وجه لنفي مالية المعدوم و لا ملكيته بقول مطلق.

الثالث: أن المنافع غير مملوكة، و هو إشكال حكاه المحقق الأصفهاني قدّس سرّه في

______________________________

(1): القواعد و الفوائد، ج 2، ص 272، القاعدة: 264

ص: 63

______________________________

بيعه و إجارته عن بعض أهل الدقة- و وافقه بعض الأجلة- من المنع عن جعل المتعلق في إجارة الأعيان هو المنفعة، بل لا بد أن يكون تمليك العين في جهة خاصة. و محصل الاشكال:

أن المقصود من تمليك المنفعة تسليط الطرف المقابل على حيثية من حيثيات العين ذات المنفعة كالدار للسّكنى فيها، و الدابة للركوب عليها. و هذا مما يمتنع تحققه، لعدم كون السكنى من أعراض الدار حتى تكون مملوكة لمالك الدار بتبعها، بل هي عرض قائم بالساكن، و عرض الساكن لو كان مملوكا لكان لموضوعه لا لغيره، و إذا لم يملكه الموجر فكيف يملكه المستأجر؟

و لأجله لا بد من تعريف الإجارة بأنها «تمليك العين في جهة خاصة في مدة مخصوصة» في قبال البيع الذي هو تمليك العين من جميع الجهات بلا تقيد بجهة و لا مدّة «1».

و هذا الاشكال- لو تمّ- منع عن تمليك المنفعة وحدها، بل يتعين تمليك العين في جهة استيفاء منفعتها، و لا فرق في كون الاستيفاء عرضا قائما بمن يستوفيها- لا بالعين التي تقع موردا للإجارة- بين جعل المنفعة معوّضا كما في باب الإجارة، و بين جعلها عوضا كما في البيع. و لا يقدح اختلافهما في قصر السلطنة في الأوّل على حيثية معيّنة من العين، و شمولها في الثاني لجميع شؤونها، و وجه عدم الفرق استحالة تمليك المنفعة وحدها.

و أجاب عنه المحقّق الأصفهاني قدّس سرّه بمنع مبنى العدول عن تعريف المشهور للإجارة إلى تعريفها بتمليك العين في جهة خاصة. و محصّل ما أفاده:- بتوضيح منّا- أنّ سكنى الدار ليست عرضا قائما بالمستأجر خاصة حتى يتوهم عدم مملوكيتها للموجر حتى يمتنع تمليكها للمستأجر، بل سكنى الدار كما هي مبدأ لعنوان الساكنية المنتزع من ذات الساكن- أي المستأجر- كذلك هي مبدأ لعنوان المسكونية المنتزع من الدار، كما هو حال كل عنوانين متضايفين، فما هو من شؤون الدار و حيثياتها هي حيثية المسكونية، لا حيثية

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 7 (رسالة الحق)، كتاب الإجارة، ص 5

ص: 64

______________________________

الساكنية التي هي عرض قائم بالمستأجر. غاية الأمر أن حيثية المسكونية لها نحوان من الوجود.

أحدهما: وجودها الاستعدادي القائم بالدار على حدّ وجود المقبول بوجود القابل كالنطفة و الطفل، و هو في الدار قابليتها للسكنى، و هذا أمر قارّ غير متدرج في الوجود، و باق ما دامت الدار باقية على حالها و لم تسقط عن قابلية السكنى فيها.

و ثانيهما: وجودها الفعلي أي المنفعة التدريجية، حيث إنّ فعليّتها تكون بفعلية مضايفها القائم بالمستأجر في مقام الاستيفاء، و من المعلوم أنّ متعلق الإجارة هو هذه الحيثية التي تكون من شؤون الدار، و لا ريب في أن شؤون العين قابلة لعروض الملكية لها بتبع مملوكية العين.

و الحاصل: أنّ مورد الإجارة هو حيثية المسكونية الفعلية المضايفة للساكنية الفعلية، و ما هو من أعراض المستأجر حيثية الساكنية، و ليست هي محطّ النظر.

هذا مضافا إلى: أن حقيقة السكنى- التي هي مبدأ عنواني الساكنية و المسكونية- و إن كانت هي عين الكون في الدار، و هو عرض لذات الكائن لا للدار، إلّا أنّ هذا العرض حيث إنه من الأعراض النسبية التي لها نسبة إلى غير موضوعاتها- في قبال الأعراض غير النسبية- جاز أن يكون زمام أمره بيد مالك الدار، و لا نعني بالملكية إلّا ذلك.

فتحصّل: أن منافع الأعيان مملوكة بتبع الأعيان، لكونها من شؤونها و حيثياتها. و عليه فلا وجه للتحاشي عن تعريف الإجارة بتمليك المنفعة.

و لو فرض تسليم الاشكال فتعريفها «بتمليك العين من جهة» لا يجدي في دفع الغائلة، إذ لو كان معروض الملكية نفس تلك الجهة- كالسكنى في الدار- لا العين عاد محذور تعلق الملكية بالمنفعة. و لو كان معروضها نفس العين المخصّصة بجهة بما هي مقيّدة بها لزم اجتماع ملكين استقلاليين على عين واحدة. و تقيّد مملوكيتها للمستأجر بجهة، و إطلاقها للموجر لا يوجب تعدد الموضوع. و دعوى خروجها عن ملك الموجر موقّتا، و صيرورتها ملك

ص: 65

______________________________

المستأجر خاصة فلا يلزم اجتماع مالكين على عين واحدة، ممنوعة، للقطع بمشروعية التصرفات المالكية فيها للموجر من بيعها و هبتها و سائر الآثار المترتبة على ملك الموجر لها غير المزاحمة لانتفاع المستأجر بها. و كلّ ذلك دليل على بقاء الرقبة على ملك الموجر «1».

و نتيجة هذا البحث: أنّ المنع عن وقوع المنافع عوضا في البيع و معوّضا في الإجارة ممّا لا وجه له، لا من جهة التشكيك في ملكية المعدوم، و لا في مالية المنفعة.

و لو انتهى البحث الى الشك في صدق المال على المنفعة لزم الاقتصار على القدر المتيقن من مفهوم البيع و هو عينية كلا العوضين، لكون الشبهة مفهومية، و في مثلها لا مجال للتمسك لنفيه بإطلاق ما دلّ على حلية البيع- كما في بعض الكلمات- لكون الشك في موضوع الدليل حسب الفرض.

نعم لا بأس بالتمسك لصحة هذه المعاوضة بما دلّ على وجوب الوفاء بالعقود، و بحليّة الأكل بالتجارة عن تراض و نحوهما من العمومات، و إن لم يترتب عليها الأحكام المختصة بالبيع.

هذا بناء على عدم كون عنوان «العقد» مشيرا إلى خصوص العقود المتعارفة في عصر التشريع، و إلّا امتنع التمسك بالآية أيضا لمشروعية تمليك العين بالمنفعة ما لم يحرز التّعارف في ذلك العصر. إلّا أنّ الحمل على المشيرية مخالف لظهور العناوين المأخوذة في الخطابات في الموضوعية، كما هو ظاهر.

هذا كله فيما يتعلق بجعل المنفعة عوضا، و سيأتي الكلام في المقام الثاني و هو عمل الحر.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 7 و 8 (رسالة الحق)؛ كتاب الإجارة، ص 5

ص: 66

[جواز وقوع عمل الحرّ ثمنا في البيع]

و أمّا (1) عمل الحرّ

______________________________

جواز وقوع عمل الحرّ ثمنا في البيع

(1) استدراك على قوله: «و أمّا العوض فلا إشكال في جواز كونه منفعة» و عمل الحرّ و إن كان صنفا من طبيعيّ المنفعة، إلّا أنّ وجه إفراده بالبحث هو الشبهة في ماليّته، بخلاف سائر المنافع التي لا ريب في ماليّتها. و قد أشرنا إلى أنّ الثمن إمّا أن يكون عينا أو منفعة أو عمل حرّ أو حقّا، و تقدم الكلام في مطلق المنفعة، و جواز وقوعه عوضا، و يقع الكلام في المقام الثاني و هو استثناء عمل الحرّ عن حكم كلّي المنفعة، للشك في صدق مفهوم «المال» عليه.

و توضيح ما أفاده المصنف قدّس سرّه: أنّ منفعة الآدمي- التي يقصد جعلها ثمنا في البيع- إمّا أن تكون خدمة مملوك، و إمّا أن تكون عمل حرّ، و الثاني إمّا أن تقع المعاوضة عليه قبل البيع، و إمّا لا، فالأقسام ثلاثة:

الأوّل: أن تكون المنفعة عمل مملوك كما إذا أراد السيّد شراء كتاب و جعل ثمنه خدمة مملوكه يوما، و لا شبهة في صحة هذا البيع، لكون الثمن مالا مملوكا بتبع ملك رقبته، و من المعلوم سلطنة السيّد على أنحاء التصرفات المشروعة في ماله، و منها جعل عمل عبده أو أمته ثمنا في شراء سلعة.

الثاني: أن تكون المنفعة عمل حرّ قد عومل بها، كما إذا آجر زيد نفسه لخياطة ثوب عمرو بدينار، و صارت الخياطة مملوكة للمستأجر في ذمة أجيره، فإذا اشترى المستأجر كتابا من بكر صحّ جعل عوضه الخياطة التي يملكها في ذمة زيد، و تصير مشغولة حينئذ لبكر بعد ما كانت مشغولة لعمرو. و الوجه في الصحة كون هذه المنفعة الخاصة مالا مملوكا للمستأجر، و لا يعتبر في البيع إلّا صدق «مبادلة مال بمال» و المفروض تحققه في عمل الحرّ بعد وقوع معاوضة عليه بإجارة أو صلح.

الثالث: أن تكون المنفعة عمل حرّ و أريد جعله ثمنا في البيع ابتداء من دون سبق معاوضة عليه، و هذا هو مورد البحث فعلا، كما إذا اشترى الحرّ الكسوب كتابا و جعل ثمنه

ص: 67

..........

______________________________

خياطة ثوب، بأن يقول البائع: «بعتك كتابي بخياطة هذا الثوب» و قبله المشتري. و في صحة هذا البيع وجهان أحدهما الصحة، و الآخر البطلان.

و وجه الأوّل: انطباق تعريف البيع عليه، إذ المراد بالمال كل ما يتنافس العقلاء عليه و يبذلون بإزائه شيئا، عينا أم منفعة أم عمل حرّ أم خدمة عبد، و من الواضح صدق المال على عمل الحرّ كخياطته و نجارته سواء وقعت معاوضة عليه أم لم تقع، فالمناط كون العمل في حدّ نفسه مما يرغب فيه النوع. و لولاه لزم بطلان إجارة عمل الحرّ، لوضوح اعتبار مالية المنفعة في باب الإجارة أيضا، مع أنّه لا ريب في صحتها. و من المعلوم أن وزان الإجارة وزان البيع في مبادلة الأموال، غايته أن هذا يفيد تمليك الأعيان، و تلك تفيد تمليك المنافع.

و وجه الثاني:- و هو البطلان- احتمال اعتبار مالية العوضين- في حدّ ذاتهما- قبل ورود البيع عليهما، لظهور تعريف المصباح في وقوع المبادلة بين شيئين اتّصفا بالمالية مع الغض عن المعاوضة، و من المعلوم أن عمل الحرّ- قبل المعاوضة عليه بإجارة أو صلح- ليس مالا، بل ماليته تتوقف على المعاوضة عليه، فالخيّاط بمجرد معرفته بالخياطة ليس ذا مال، و إنّما يصير كذلك إذا ملّك عمله للغير بعوض.

و يكشف عن عدم مالية عمل الحرّ- في حد ذاته- ما ذكروه في مسائل:

الأولى: في الاستطاعة المالية للحج، حيث لا يعدّ الكسوب المحترف مستطيعا من ناحية كسبه و صنعته، و تتوقف استطاعته المالية على أن يؤجر نفسه للغير- قبل الحج- بما يفي بمئونة حجه، فلو خرج مع الرّفقة و لا يجد ما يحجّ به لا يجب عليه أن يؤجر نفسه في الطريق بما يكفي لنفقته، لأنّه تحصيل للاستطاعة، و من المعلوم عدم وجوب تحصيلها.

و لو كان نفس عمل الحر و صنعته مالا- سواء آجر نفسه للغير أم لا- لكان مستطيعا قبل الإجارة و واجدا لما يحجّ به، و وجب عليه إجارة نفسه مقدمة لأداء الحج الواجب عليه.

ص: 68

فان قلنا (1): إنّه قبل المعاوضة عليه (2) من الأموال فلا إشكال، و إلّا (3)

______________________________

الثانية: في ضمان حابس الحرّ الكسوب لمنافعه الفائتة منه في الحبس، حيث فصّلوا بين كون المحبوس أجيرا لغيره- قبل الحبس- فيضمنها الحابس، و بين عدم كونه أجيرا فلا يضمنها. و لو كان ذات عمله و منفعته متصفة بالمالية لزم تغريم الحابس مطلقا، و لم يبق وجه للتفصيل المزبور.

الثالثة: في حجر المفلّس، حيث إنه محجور بالنسبة إلى أمواله، لتعلق حق الغرماء بها، و ليس محجورا بالنسبة إلى أعماله. و لو كانت أعماله أموالا لكان محجورا بالنسبة إليها أيضا.

و الحاصل: أن الترديد في صدق المال على عمل الحرّ- قبل المعاوضة عليه- يكفي في المنع عن جعله عوضا في البيع، و لا يلزم الجزم بعدم ماليّته، لوضوح مانعية الشك في المالية عن التمسك بإطلاق أدلة الإمضاء، لكونه من الشك في موضوع الدليل.

________________________________________

جزائرى، سيد محمد جعفر مروج، هدى الطالب في شرح المكاسب، 7 جلد، مؤسسة دار الكتاب، قم - ايران، اول، 1416 ه ق

هدى الطالب في شرح المكاسب؛ ج 1، ص: 69

هذا توضيح كلام المصنّف قدّس سرّه في عمل الحرّ. و محصله: عدم صلاحية عمل الحر لوقوعه ثمنا في البيع، و ذلك لمقدّمتين:

الاولى: عدم كون عمله في حدّ نفسه مالا، و البيع مبادلة بين مالين.

ثانيتهما: أنّه يعتبر مالية العوضين قبل البيع، و لا يكفي اتصاف عمل الحرّ بالمالية بنفس البيع.

و قد ظهر مما ذكرناه وجه تقييد العمل بكونه عمل الحرّ، و هو الاحتراز عن عمل العبد، فإنّه مال مملوك لمولاه بلا ريب كما تقدم.

(1) هذا وجه تصحيح جعل عمل الحرّ- كسائر المنافع- ثمنا في البيع، و كأنّه قال: «و أما عمل الحر ففيه وجهان فان قلنا ..» و كيف كان فقد عرفت توضيح وجه الصحة بقولنا:

«و وجه الأوّل انطباق تعريف البيع عليه .. إلخ».

(2) هذا الضمير و ضمير «انه» راجعان الى عمل الحرّ.

(3) أي: و إن لم نقل بكون عمل الحر مالا في حد نفسه- بل تتوقف ماليته على المعاوضة عليه- أشكل وقوعه ثمنا في البيع. و قد عرفت وجه الاشكال بقولنا: «و وجه الثاني-

ص: 69

ففيه (1) إشكال، من حيث احتمال اعتبار كون العوضين في البيع مالا قبل المعاوضة (2)، كما يدلّ عليه (3) ما تقدّم عن المصباح [1].

______________________________

و هو البطلان- احتمال اعتبار ..».

(1) أي: ففي جواز كون عمل الحرّ عوضا في البيع إشكال، منشؤه احتمال اشتراط البيع بمالية العوضين ذاتا، لا حدوث المالية لهما أو لأحدهما بالبيع.

(2) أي: قبل المعاوضة البيعية، يعني: سواء استؤجر على عمله قبل البيع أم لم يستأجر عليه، فليس المراد بكلمة «المعاوضة» هنا مطلق المعاملة، إذ لو آجر الحرّ نفسه لخياطة ثوب فقد صحّ أنه عاوض على عمله، فيقع عمله المملوك للمستأجر عوضا عن المبيع.

(3) أي: على اعتبار كون العوضين مالا قبل إنشاء البيع. و وجه دلالة تعريف المصباح عليه هو: أن «مبادلة مال بمال» مؤلّفة من موضوع و محمول، فالموضوع هو المالان، و المحمول هو المبادلة بينهما، و لا ريب في ظهور التعريف في وقوع المبادلة بين المالين الفعليين، لا بين ما سيصير مالا بنفس البيع، و لو فرض عدم هذا الظهور كان نفس الشك في الموضوع كالقطع بانتفائه في عدم جواز التمسك بدليل الإمضاء.

______________________________

[1] لا يخفى ظهور المتن في أن المراد بعمل الحرّ هو فعله بمعناه المصدري كما مثّلنا له بالخياطة و نحوها من الحرف، كما أنّ منشأ تردّد المصنف قدّس سرّه في كونه عوضا في البيع هو عدم اتصافه بالمالية قبل المعاوضة عليه، لا عدم كونه ملكا.

و قد يقال: إنّ المقصود من العمل معناه الاسم المصدري، و هو أثره ككون الثوب مخيطا، و توضيحه: أن المالية صفة وجودية تنتزع من الموجود، و فعلية الأمر الانتزاعي و شأنية منشئه غير معقولة، و العمل المتصف بالمالية بعد المعاوضة عليه هو الأثر، ضرورة كون العمل قبل الشروع فيه و بعد الفراغ منه معدوما، و هو في حال التلبس به معدوم أيضا بمقتضى تدرجه في الوجود و عدم كونه قارّا، و المعدوم ليس بمال. فما يقبل الاتصاف بالمالية

ص: 70

______________________________

هو أثره المحسوس كالخياطة و الصباغة، و هذا بخلاف ما لا يبقى أثره كصلاة الأجير و صومه، فإنّ صدق المال عليه مشكل، هذا ما قيل.

لكنك خبير بإمكان اتصاف المعدوم بالمالية و المملوكية، كما في الكلي المبيع، و الثمن في النسيئة، و المنفعة المتدرجة الوجود في باب الإجارة. و لو سلّم قيامهما بالموجود العيني لا الاعتباري لم يكن وجه لصرف العمل عن معناه الحدثي إلى أثره بعد ظهور الكلام بل صراحته في إرادة جعل العمل- بما هو صنف من طبيعي المنافع- عوضا في البيع، و من المعلوم كون المنفعة متصرّمة الوجود لا قرار لها، و لازمه الالتزام بمنع مالية مطلق المنافع، لا خصوص عمل الحرّ، و هو كما ترى.

ثم إنّ الاشكال في عمل الحرّ كما ينشأ من الترديد في ماليته أو الجزم بعدمها، فكذا ينشأ من انتفاء ملكيته، لعدم كونه مضافا إليه بإضافة الملكية الاعتبارية، مع أنّ البيع مبادلة المالين في الملكية، و يظهر من بعض أهل النظر حمل المتن- من الشك في المالية- على انتفاء الملكيّة بين الحرّ و عمله، و إن كان هذا التنزيل خلاف الظاهر جدّا.

و كيف كان فالمسألة ذات وجوه:

أحدها: كون عمله مالا مطلقا سواء أ كان قبل المعاوضة عليه أم بعدها، كما يظهر من تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدّس سرّه «1».

ثانيها: عدمه كذلك.

ثالثها: التفصيل بين وقوع المعاوضة عليه و عدمه كما في المتن.

رابعها: التفصيل بين عمل الكسوب و غيره كما مال إليه السيد قدّس سرّه «2».

و لا يبعد أن يقال بمالية عمله مطلقا، لصدق حدّ المال عليه من «كونه شيئا يبذل بإزائه المال» أو «شيئا يدّخر لوقت الضرورة و الحاجة» أو «شيئا يجري فيه الشّح» فعمل الحرّ كعمل

______________________________

(1): المكاسب و البيع، ج 1، ص 92

(2) حاشية المكاسب، ص 55

ص: 71

______________________________

العبد في الرغبة و النفع و الأثر، فكما لا تكون المعاملة على خدمة العبد سفهية، فكذا على عمل الحرّ، و لذا يصحّ جعله صداقا في النكاح، و أخذ العوض بإزائه في الإجارة و الصلح.

و الجزم بعدم ماليته قبل المعاوضة عليه أو الشك فيها إمّا أن يكون لاختصاص المال بالأعيان ذوات المنافع، و إمّا أن يكون لتقوّم مالية الشي ء بوجوده فعلا لا قوّة. و كلاهما ممنوع كما مرّ آنفا، و في بحث جعل مطلق المنفعة عوضا في البيع.

بل يمكن الالتزام بصحة وقوعه عوضا في البيع- قبل المعاوضة عليه- مع اعتبار مالية العوضين، لكفاية ماليّته بنفس البيع كما تقدّم في تصوير الملكية الآنامّائية في بيع الكلّي سلفا و نحوه.

و أما إشكال عدم تملك الإنسان لعمل نفسه بالملكية الاعتبارية ففيه:- بعد تسليم اعتبار الملكية بهذا المعنى في صحة المعاوضة- أنّ البيع مبادلة مال بمال، لا مبادلة مال مملوك بمثله، بشهادة جواز بيع الوقف عند طروء المسوّغ، و شراء الحاكم الشرعي آلات البناء للمساجد مثلا بسهم سبيل اللّه، مع أنه ليس ملكا لأحد.

و عليه فلا مانع من جعل عمل الحرّ عوضا في البيع بعد صدق المال عليه عرفا.

و أمّا ما تقدم في التوضيح- من الاستشهاد على عدم مالية عمله قبل المعاوضة عليه بمسألة الاستطاعة و ضمان الحابس و نحوهما- فلا ينفي ماليته، بل مالكيته لعمله بالملكية الاعتبارية العقلائية.

توضيحه: أمّا الاستطاعة فلأنّها- كما يظهر من أخبارها- منوطة بوجدان نفقة الحج فعلا من الزاد و الراحلة و نحوهما من المؤن، و عدم كفاية مجرّد التمكن من تحصيلها، ففي معتبرة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام تفسير السبيل بقوله عليه السّلام: «أن يكون له ما يحجّ به» «1» و في معتبرة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في تفسير آية الاستطاعة: «من كان صحيحا في بدنه

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 8، ص 22، كتاب الحج، الباب 8 من أبواب وجوب الحج و شرائطه، الحديث: 3

ص: 72

______________________________

مخلّى سربه، له زاد و راحلة» «1» و نحوهما غيرهما «2»، و ظهور اللام في الملك مما لا ينكر، و من المعلوم أنّه لا يصدق على أرباب الأعمال- قبل المعاوضة عليها- أنّهم مالكون للأموال.

و إضافة العمل الى الحرّ ليست كإضافة الكتاب الى زيد اعتبارا في «كتاب زيد» بل من إضافة العرض الى موضوعه في القيام به تكوينا. نعم للحرّ سلطنة على تمليك عمله للغير، لكونها- كما أفيد- من مراتب سلطانه على النفس بجميع شؤونها.

فان قلت: إنّ مقتضى نصوص الاستطاعة و إن كان ملك الزاد و الراحلة فعلا، و عدم كفاية القدرة على تحصيلها في وجوب الحج، إلّا أنّ الحرّ الكسوب و ذا الصنعة ممّن يستطيع الحج أيضا، و ذلك لأنّ الأخبار المفسّرة للاستطاعة كما ورد فيها ما يكون ظاهرا في ملك النفقة فعلا كقوله عليه السّلام: «له ما يحج به» كذلك ورد فيها كفاية وجدان المؤن، كما في رواية حذيفة بن منصور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «انّ اللّه عزّ و جلّ فرض الحجّ على أهل الجدة ..» «3».

و مادة الوجود و الوجدان و إن كانت ظاهرة في حصول الشي ء فعلا، فهي مساوقة لقوله عليه السّلام: «له ما يحج به». إلّا أنّ هذا المضمون ورد أيضا في نصوص زكاة الفطرة الظاهرة في حصر المكلّفين في صنفين، أحدهما من يجب عليه أن يزكّي و هو «الواجد و الغني و ذو المرّة»، و ثانيهما من لا يجب عليه ذلك، و هو «الفقير و من لا يجد».

ففي رواية عبيد اللّه بن ميمون عن أبي عبد اللّه عن أبيه عليهما السّلام: «قال: ليس على من لا يجد ما يتصدّق به حرج» «4». و في رواية الفضيل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قلت له: لمن تحلّ

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 8، ص 23، الباب 8 من أبواب وجوب الحج و شرائطه، الحديث: 7

(2) المصدر، الحديث: 1 و 4 و 9

(3) وسائل الشيعة، ج 8، ص 11، الباب 2 من أبواب وجوب الحج و شرائطه، الحديث: 2، و نحوه الحديث 4 و 5

(4) وسائل الشيعة، ج 6، ص 223، الباب 2 من أبواب زكاة الفطرة، الحديث: 2

ص: 73

______________________________

الفطرة؟ قال: لمن لا يجد، و من حلّت له لا تحلّ عليه، و من حلّ عليه، لم تحلّ له» «1».

و ظاهرهم حمل الوجدان على التمكن و القدرة على تحصيل المال، لا مالكيّته فعلا، قال السيد قدّس سرّه في العروة: «و كذا لا يجوز- يعني أخذ الزكاة- لمن كان ذا صنعة أو كسب يحصّل منهما مقدار مئونته» «2» و مقتضاه عدم كون الحرّ المحترف فقيرا مستحقا للزكاة، بل هو غني بمجرّد تمكنه من الكسب و إعمال صنعته، و أنّ فقده للنقد ليلة العيد لا يقدح في غناه و واجديته لما يتصدّق به، و لا يوجب فقره و استحقاقه للزكاة.

و عليه فليكن المراد من الوجدان في نصوص الاستطاعة المالية مجرّد القدرة على تحصيل الزاد و الراحلة، لا مالكيتهما فعلا بملك النقد و الثمن.

و الحاصل: أنه لا وجه للتفكيك بين الاستطاعة و الزكاة، فإمّا أن يراد من كلمة «يجد» في المقامين فعليّة المال، التي مقتضاها عدم وجوب الزكاة على الكسوب، بل هو مستحق لها، و إمّا أن يراد منها في المقامين ما يعمّ القدرة على التحصيل، و لازمه وجوب الحجّ على الكسوب الفاقد للنقود، القادر على تحصيلها بالعمل في الطريق.

قلت: لا منافاة بين المقامين، لأنّ «الجدة و الوجود و الوجدان» و ما يشتق منها غير ظاهرة في الغنى و إصابة المال فعلا، بل قد يراد بها ذلك و قد يراد بها اليسار و التمكن، و التعيين منوط بالقرينة. و كذلك وردت في اللغة، ففي اللسان: «التهذيب: يقال: وجدت في المال- وجدا و وجدا و وجدا و وجدانا و جدة أي: صرت ذا مال .. و الوجد .. اليسار و السعة» «3». و في المفردات: «و يعبّر عن التمكن من الشي ء بالوجود، نحو: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، أي: حيث رأيتموهم .. فلم تجدوا ماء: فمعناه: فلم تقدروا على الماء، و قوله: من وجدكم أي:

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 6، ص 224، الحديث 9

(2) العروة الوثقى، ج 2، ص 306، كتاب الزكاة، الفصل السادس في أصناف المستحقين.

(3) لسان العرب، ج 3، ص 445

ص: 74

______________________________

تمكنكم و قدر غناكم، و يعبّر عن الغنى بالوجدان و الجدة، و عن الضالّة بالوجود ..» «1».

و في بعض أخبار التيمم تفسير وجدان الماء بالتمكن منه و لو بالشراء مع عدم إصابته فعلا، كرواية الحسين بن أبي طلحة عن العبد الصالح عليه السّلام: «قال: فان لم تجدوا بشراء و بغير شراء» «2» فالقدرة على تحصيل الماء بالشراء وجدانه حقيقة.

و الحاصل: أن هذا المبدأ يستعمل تارة في حضور الشي ء فعلا و القدرة الفعلية على التصرف فيه، و اخرى في التمكن من تحصيله مع فقده فعلا. و يتوقف استظهار كلّ منهما على قرينة معيّنة.

و عليه فلا وجه لجعل نصوص الاستطاعة و زكاة الفطرة من باب واحد، لفرض إجمال مادة الوجدان و الوجود، و احتمال إرادة اليسار و الغنى الفعليين، و إرادة القدرة على تحصيله.

و من المعلوم أنّ النصوص المشتملة على «لام» الملك كقوله عليه السّلام: «له ما يحج به» ظاهرة جدّا في إصابة المال و القدرة الفعلية على التصرف فيه، و عدم كفاية التمكن من تحصيله، فتكون قرينة على المراد من «الجدة» في الأخبار المشتملة عليها. و لذا قال السيد قدّس سرّه في باب الاستطاعة: «إذا لم يكن عنده الزاد، و لكن كان كسوبا يمكنه تحصيله بالكسب في الطريق لأكله و شربه و غيرهما من بعض حوائجه هل يجب عليه أو لا؟ الأقوى عدمه، و إن كان أحوط» «3».

و هذا بخلاف باب زكاة الفطرة، إذ لم يرد فيها ما يصرف اللفظ عن ظهوره في التمكن من التحصيل، و لذا أفتوا بعدم كون الكسوب مستحقا للزكاة لكونه ممّن يجد المال.

و الحاصل: أن عمل الحرّ و إن كان مالا عرفا، إلّا أنّه لا يوجب الاستطاعة، من جهة اعتبار وجدان المال فعلا فيها، إمّا بملك أو بإباحة كما في الحج البذلي.

و أما فرع ضمان حابس الحرّ ظلما لما فات من منافعه عنه في الحبس، فتفصيله: أنّ في

______________________________

(1): مفردات ألفاظ القرآن، ص 513

(2) وسائل الشيعة، ج 2، ص 998، الباب 26 من أبواب التيمم، الحديث: 2

(3) العروة الوثقى، ج 2، ص 430، كتاب الحج، الفصل 2 (شرائط وجوب الحج) الشرط الثالث، المسألة: 5

ص: 75

______________________________

المسألة قولين:

أحدهما:- و هو المشهور بل المدّعى عليه الإجماع- عدم ضمان منافعه.

و ثانيهما: الضمان، ذهب إليه المحقق الأردبيلي «1»، و وافقه جمع من أعيان الفقه كالوحيد البهبهاني و السيد الطباطبائي.

قال في الشرائع: «و لو حبس صانعا لم يضمن أجرته ما لم ينتفع به، لأنّ منافعه في قبضته» «2». و علّق عليه صاحب الجواهر قدّس سرّه بقوله: «فضلا عن غير الصانع، بلا خلاف أجده فيه. بل في الكفاية: هو مقطوع به في كلام الأصحاب، و إن عبّر في التذكرة بلفظ الأقوى مشعرا باحتمال الضمان فيه. بل في مجمع البرهان: قوة ذلك، لقاعدة نفي الضرر مع كونه ظالما و عاديا، فيندرج في قوله تعالى فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ و جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا و غيرهما مما دلّ على المقاصّة و العقاب بمثل ما عوقب به، فالضمان حينئذ لذلك، لا للغصب الذي لا يقتضيه باعتبار عدم كون المغصوب مالا تتبعه منافعه و لو شرعا في الدخول تحت اليد و اسم الغصب و غيرهما. و حكاه في الرياض عن خاله العلّامة في حواشيه عليه، حيث قال: إن ثبت إجماع على ما ذكره الأصحاب، و إلّا فالأمر كما ذكره الشارح، و مال إليه في الرياض، حيث يكون الحابس سببا مفوّتا لمنافع المحبوس ..

إلخ» «3».

و المستفاد منه أنّ في المسألة قولين كما تقدم بيانه. و المهمّ صرف النظر إلى أدلتهما، فنقول: يمكن أن يستدل على الضمان بوجوه:

الأوّل: ما في كلام المحقق الأردبيلي قدّس سرّه من الآيات الدالة على جواز الاعتداء بمثل ما اعتدى، و جواز سيئة سيئة مثلها، و جواز القصاص بالعقاب بمثل ما عوقب به، بتقريب: أن

______________________________

(1): مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 513

(2) شرائع الإسلام، ج 3، ص 185

(3) جواهر الكلام، ج 37، ص 39

ص: 76

______________________________

حبس الحرّ ظلما اعتداء عليه و عقاب و سيئة، فيجوز المقاصّة و العقاب بمثل ما عوقب به «1».

هذا.

لكن الظاهر أنّ الحكم الوضعي- أعني به الضمان- أجنبي عن مساق الآيات، لكون العقاب بالمثل عبارة عن إيجاد عمل مماثل لما عوقب به، و من المعلوم أنّ العقاب بالمثل هو الحبس و نحوه من الاعتداء الذي وقع عليه.

إلّا أن يقال: بصحة إطلاق العقاب و السيّئة على كلّ من الحرمة الوضعية و التكليفية، لأن كلّا منهما سيّئة و اعتداء، و عليه فالحابس ضامن، لكون ضمانه مماثلا لحبسه.

الثاني: ما في كلامه أيضا من الاستناد إلى قاعدة نفي الضرر، فإنّ تفويت المنفعة بلا تدارك ضرر منفيّ في الشريعة المقدّسة، و هو أيضا مفروض فيما إذا كان الضرر مسبّبا عن الحبس، كتسبب الضرر عن استعمال الماء في الوضوء.

إلّا أن يقال: إنّ المقام من عدم النفع، لا الضرر الذي هو النقص، فلا يصح التمسك بقاعدة الضرر لإثبات الضمان.

و أمّا منع جريانها في أمثال المقام بدعوى: «أنّها نافية للأحكام التي ينشأ منها الضرر كوجوب الوضوء و لزوم العقد، و عدم الضمان ليس حكما شرعيا حتى تجري فيه القاعدة» فغير مسموع، لأنّ العدم غير القابل للرفع بالقاعدة هو العدم الواقعي كعدم الوجوب و عدم الحرمة، لانتفاء الجعل الشرعي، و أمّا عدم الحكم إنشاء كأن يقول الشارع: «لا يجب أو لا يحرم» فهو لكونه مجعولا شرعيا تجري فيه الأحكام الثانوية، لوضوح كون الأعدام بعد التشريع مجعولة و لو بالإمضاء، فإبقاء الشارع لها جعلها بقاء لا إخبار ببقاء الأعدام الواقعية على حالها كما زعمه بعض. و هذا المقدار من الجعل كاف في نفيها بالقاعدة الامتنانية التي تقتضي حكومتها تقييد إطلاق كل ما يصح أن ينسب الى الشارع. و من المعلوم أنّ الحكم بعدم ضمان المنافع الفائتة في الحبس ضرر على الحرّ الكسوب الذي لو لا حبسه لكان يعوّضها بالمال.

______________________________

(1): مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 513

ص: 77

______________________________

و عليه فالشبهة المانعة عن جريان القاعدة هنا هو كون الفائت منفعة، و لا يصدق «النقص» الذي هو المناط في جريانها.

و إن أمكن الخدشة فيه باختلاف الموارد، فقد يكون المحبوس ثريّا بحيث يعدّ الفائت منه مدة حبسه منفعة، و لا يبدو نقص في أمواله أصلا. و قد لا يكون كذلك، بل عليه العمل في كل يوم لإعاشة عياله بحيث يلزمه الاستدانة مدة حبسه للإنفاق عليهم، فإنّه لا ريب في صدق النقص عليه حينئذ، و لا مانع من جريان القاعدة في حقه.

الثالث: قاعدة التفويت أعني بها المنع عن الوجود، فإنّ الحبس يمنع عن وجود المنفعة، فيضمنها الحابس. و هذا يفرض فيما لو كان فوات المنفعة مسبّبا عن الحبس، لا عن تساهل المحبوس، كما إذا حبسه الظالم في مكان يمكنه العمل فيه، لكنه أهمل و لم يعمل باختياره و إرادته، لا لمانعية الحبس عن عمله، لأنّ التفويت إيجاد المانع عن الوجود، و عنوان المانع لا يصدق إلّا بعد وجود المقتضي- و هو إرادة الوجود- إذ العدم يستند إلى أسبق علله أعني به عدم المقتضي، لا إلى وجود المانع، و لذا لا يصحّ أن يستند عدم احتراق الثوب مثلا إلى الرطوبة مع عدم وجود النار، بل يستند إلى عدم المقتضي له كما لا يخفى.

و قد ظهر أنّ المناط في ضمان المنافع الفائتة هو صدق التفويت أي المنع عن الوجود، في قبال قاعدتي الاستيفاء الذي هو استخراج المنافع من القوة إلى الفعل، و الإتلاف الذي هو إعدام الموجود، هذا.

و لا يخفى أنّهم عبّروا- في قبال فوت منافعه في الحبس- تارة بالانتفاع كما في الشرائع، و اخرى بالاستخدام كما في الإرشاد، و ثالثة بالاستعمال كما في شرحه للمحقق الأردبيلي «1»، و رابعة بالاستيفاء كما في التذكرة، و الكل صحيح.

لكن في عبارة التذكرة مسامحة، حيث قال: «منفعة الحرّ تضمن بالتفويت لا بالفوات ..» «2»

ثم فسّر التفويت بالاستيفاء و الاستعمال، و الفوات بمجرد عدم تحقق المنفعة.

______________________________

(1): مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 513

(2) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 382

ص: 78

______________________________

و الظاهر أنّ هذا مجرد اصطلاح، و إلّا فظاهر التفويت هو الفوت المستند الى قاهر خارجي، بخلاف الفوت الظاهر في عدم المقتضي لوجود المنفعة، و الأمر سهل.

الرابع: ما أفاده سيّدنا الخويي قدّس سرّه من السيرة العقلائية القطعية على تضمين مانع الحرّ الكسوب عن عمله بحيث لولا منعه عنه لكان يكتسب المال «1».

و الظاهر استقرار سيرتهم على التغريم و عدم اقتصارهم على مجرّد اللّوم و التوبيخ، فالمناقشة في أصل السيرة لا تخلو من مكابرة. إنّما الكلام في الإمضاء. و لا يبعد كونها من السّير المرتكزة عندهم مرّ الأعصار، من حيث كون الإنسان مدنيّا بالطبع مع الغضّ عن تديّنه بشريعة، و ليست من السّير الحادثة بعد عصر التشريع حتى يدّعى توقفها على الإمضاء، بل الردع عنها منوط بالبيان، و حيث لا رادع شرعا عنها فهي ممضاة، مضافا الى وفاء الأدلة المتقدمة بإمضائها.

نعم لو نوقش في الأدلة المتقدمة و تمّ الإجماع المتضافر نقله في الكلمات على عدم الضمان أمكن جعله رادعا عن هذا البناء العملي. لكن الاعتماد عليه مشكل كما سيأتي.

هذا كله في أدلة الضمان، و قد ظهرت تماميتها في نفسها لولا وجود المعارض و هو الدليل النافي للضمان.

و يستدل على عدم الضمان- كما في الجواهر- تارة بنفي الخلاف، بل دعوى قطع الأصحاب بذلك كما في كفاية الفاضل السبزواري قدّس سرّه من قوله: «و المقطوع به في كلام الأصحاب أنّه لو حبس صانعا حرّا مدّة لها اجرة لم يضمن أجرته ما لم يستعمله، لأنّ منافعه في قبضته» «2». و نحوه كلام العلامة في التذكرة.

و اخرى: بأن منافعه تابعة لما لا يصحّ غصبه، فأشبهت ثيابه و أطرافه.

و ثالثة: بأنّ منافعه في قبضته، لأنّ الحرّ لا يدخل تحت اليد المضمّنة، فمنافعه تفوت

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 2، ص 36

(2) كفاية الأحكام، ص 255؛ تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 382

ص: 79

______________________________

تحت يده، فلم يجب ضمانها، بخلاف الأموال، هذا.

و الظاهر رجوع هذا الوجه الى سابقه، لأنّ تبعية المنافع لما لا يصح غصبه- كالحرّ- تستلزم كون المنافع تحت قبضة نفس الحرّ، هذا.

و كيف كان ففي الوجوه المتقدمة ما لا يخفى. أمّا الإجماع ففيه: أنه لا عبرة به حتى لو سلّم اتفاق الكلّ على الفتوى، لكونه معلوم المدرك، و ذلك لتعليل عدم الضمان في كلام المجمعين بمثل «لأنّ منافعه في قبضته» أو «لأنّ الحرّ لا يدخل تحت اليد». و من المعلوم ظهور التعليل في أنّ المتفق عليه ليس عدم ضمان منافع الحرّ بعنوانه، بل المجمع عليه كبرى عدم ضمان ما لم يقع تحت اليد، فطبّق هذا العموم على منافع الحرّ. و لا ريب في أنّ مثله غير مجد، إذ لا يستند القائل بالضمان إلى قاعدة اليد حتى توجب المناقشة في الضمان اليدي إنكار أصل الضمان المستند إلى وجوه اخرى. و لذا ذهب المحقق الأردبيلي قدّس سرّه الى الضمان، لجواز الاعتداء على الظالم بمثل ما اعتدى، و لدفع الضرر و نحوهما، مع اطلاعه على كون المسألة اتفاقية بينهم، لقوله: «و لعلّهم ليس لهم خلاف فيه» «1».

و الحاصل: أنّ حجية الإجماع تتوقف على كشفه عن رأي المعصوم عليه السّلام أو عن حجة معتبرة، و المفروض استناد المجمعين في المقام الى قصور حديث «على اليد» عن شموله للمنافع، و من المعلوم عدم منافاته لما إذا قيل بالضمان بدليل آخر غير اليد.

و أما الوجه الثاني- و هو تبعية المنافع لما لا يصح غصبه- ففيه: أنّ الضمان المدّعى ليس لتبعية المنافع للمغصوب حتى يقال: إن الحرّ لا يصح غصبه، بل لقاعدة التفويت و غيرها مما ذكر.

و أما الوجه الثالث- و هو أن منافعه في قبضته- ففيه: أن منافعه تفوت بالتفويت الذي هو من موجبات الضمان، و هذا أجنبي عن التعليل بعدم دخول الحر تحت اليد، إذ ليس الإشكال في الضمان من ناحية دخول المنافع تحت اليد و عدمه حتى يقال: بعدم دخولها تحتها

______________________________

(1): مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 513

ص: 80

______________________________

تبعا لعدم وقوع نفس الحرّ تحت اليد.

و الاشكال على ضمان المنافع الفائتة بغير استيفاء تارة بعدم كونها مالا، لأنّ المالية صفة وجودية و لو بوجود منشأ انتزاعها، فلا تنتزع من المعدوم. و اخرى بعدم صدق المال عرفا على عمل الحر، و لذا لا يقال: إنه ذو مال، و لأجله لا يصدق عليه المستطيع حتى يجب عليه الحج، و لا يضمن عمله إذا حبسه الظالم، إلّا إذا قدّر بمال كما إذا صار أجيرا للغير، فإنّ عمله حينئذ مال له كما لا يخفى.

مندفع، إذ في الأوّل: أنّ الوجود ليس مقوّما لمالية المال، و لذا يحمل عليه الوجود تارة و العدم اخرى، فيقال: المنّ من الحنطة مثلا موجود أو معدوم، فلو كان الوجود مقوّما لها لم يصح حمل الوجود و العدم على الشي ء المتصف بالمالية كالمنّ من الحنطة، و عليه فالمقوّم للمالية هو الوجود الاعتباري لا الخارجي.

و الحاصل: أنّ الذمة أو الخارج ظرف لوجود المال لا مقوّم لماليته.

و في الثاني:- بعد النقض بالمبيع و الثمن الكليين الذميين و المنافع العملية في الإجارة- أنّ غاية ما يقتضيه هذا الوجه هو نفي إضافة الملكية الاعتبارية، و عدم كونه ذا مال، لا نفي المالية. و ذلك لأن المالية و الملكية اعتباران عقلائيان، تنتزع الاولى من الشي ء باعتبار ما فيه من الخصوصية الذاتية الموجبة لميل الناس إليه و تنافس العقلاء عليه، و بذلهم الأموال بإزائه، فإنّ المنّ من الحنطة في حدّ نفسه ليس كالمنّ من التراب في انتزاع اعتبار الماليّة عن الأوّل باعتبار ما فيه من الخصوصية، دون الثاني. و المالية و إن كانت صفة وجودية، لكنّها اعتبارية، و الشي ء المتصف بالمالية الذاتية يكون موجودا تارة، و معدوما أخرى.

نعم فعلية بذل العقلاء مالا بإزائه موقوفة على تقدير وجوده في الذمة، أو تقدير وجوده بوجود العين كالمنفعة التي هي من حيثيات العين و شؤونها.

و تنتزع الثانية- أعني بها إضافة الملكية الاعتبارية- من كون الشي ء المسمّى بالمال مضافا إلى شخص بالأصالة كمالكية السيّد لرقبة مملوكه، أو بالتبع كمالكيته لمنفعة عبده بتبع

ص: 81

______________________________

رقبته. فالمنّ من الحنطة قبل التعهد، و المباحات قبل الحيازة و عمل الحرّ قبل المعاوضة عليه أموال، و ليست أملاكا بالملكية الاعتبارية، و إن كان بعضها كعمل الحرّ مضافا الى صاحبه بالملكية الذاتية التكوينية، فإنّ عمل كل شخص و نفسه و ذمّته مملوكة له ملكية ذاتية، و هذه المرتبة من الملكية فوق الملكية الاعتبارية و دون الملكية الحقيقية التي هي له تعالى بما أنه فاعل ما منه الوجود، و لأوليائه عليهم السّلام بما أنّهم فاعل ما به الوجود.

و المراد بالملكية الذاتية السلطنة على التصرف في نفسه و شؤونها، لحكم الوجدان و الضرورة و السيرة العقلائية بتسلط كل أحد على عمل نفسه و ما في ذمته، و أنّ له السلطنة على تمليك عمله بالإيجاد و غيره، و بيع ما في ذمته، و هذه السلطنة ممضاة شرعا و غير مردوع عنها. فالسلطنة الذاتية موضوع للسلطنة على إيجاد الملكية الاعتبارية إلّا ما خرج بالدليل، كعدم سلطنته شرعا على التمليك الاعتباري بالنسبة الى بعض المملوك الذاتي كالخمر المصنوع له، و آلات اللّهو التي صنعها، فإنّ الشارع ألغى الملكية الاعتبارية فيها.

و بالجملة: فالملكية الذاتية لعمل الحر ثابتة، دون الملكية الاعتبارية، إذ لا مجال لها مع الملكية الحقيقية، للغويتها و كونها من تحصيل الحاصل.

و قد تحصّل مما ذكرناه أمور:

الأوّل: أنّ عمل الحرّ مال عرفي مملوك له بالملكية الذاتية التكوينية التي هي السلطنة على النفس و الذمة بتمليك عمله و ما في ذمّته للغير، و ليس مملوكا له بالملكية الاعتبارية.

فيشترك عمل الحرّ و العبد في المالية و الملكية الذاتية، و يفترقان في إضافة الملكية الاعتبارية، حيث إنّ عمل العبد- مع كونه مملوكا لنفسه ذاتا- مملوك لسيده تبعا لرقبته بالملكية الاعتبارية، كسائر الأعيان المملوكة له كالدار و الدابة و نحوهما. بخلاف عمل الحرّ، فإنّه مملوك له بالملكية الذاتية دون الاعتبارية، إلّا بعد تمليكه للغير بإجارة أو غيرها، فإنّه يصير حينئذ مملوكا للمستأجر كمملوكية عمل العبد لمولاه. و مقتضى مملوكية عمل العبد لمولاه وجوب الحج على المولى إن كان عمله مساويا لمال يفي بالحج، و اجتمع سائر شرائط وجوبه.

ص: 82

______________________________

الثاني: أن عمل الحرّ مال عرفا، فلا مانع من جعله ثمنا في البيع الذي هو مبادلة مال بمال، إذ ليست الملكية الاعتبارية شرطا في صحة البيع العرفي و لا الشرعي، فليس البيع مبادلة مال مملوك بالملكية الاعتبارية بمال كذلك، بل هو مبادلة المالين العرفيين.

الثالث: أنّ عدم حصول الاستطاعة- التي يترتب عليها وجوب الحج- بعمل الحرّ إنّما هو لأجل دخل الملكية الاعتبارية أو الإباحة في حصول الاستطاعة، و عدم كفاية الملكية الذاتية في حصولها، فراجع نصوص الاستطاعة كما أشرنا إلى بعضها.

الرابع: أنّ مقتضى مالية عمل الحرّ عرفا ضمانه بالتفويت، إلّا أنّه قد ادّعي ظهور أدلة الضمان في اعتبار إضافة الملكية الاعتبارية فيه، و لذا قال في الشرائع في عبارته المتقدمة:

«لو حبس صانعا لم يضمن أجرته ما لم ينتفع به .. إلخ». لكنه يشكل المساعدة عليه، لأنّ حكمه بالضمان في صورة انتفاع الحابس به إن كان لأجل كون المنفعة ملكا اعتباريا للحرّ، ففيه ما لا يخفى، لما عرفت من أن مالكية الشخص لعمله ذاتية لا اعتبارية.

و إن كان لأجل كفاية الملكية الذاتية في الضمان و عدم إناطته بالملكية الاعتبارية فقد ثبت المطلوب.

و الحاصل: أنّ قاعدة اليد أو الإتلاف أو الاحترام أو غيرها من موجبات الضمان- لو سلّم دلالتها على اعتبار الملكية الاعتبارية في الضمان- يمكن أن يقال: إنّ مقتضى الجمع بينها و بين ما دلّ على جواز الاعتداء بالمماثل و التّقاص به و نحوه مما يدل على الضمان من دون تقييد بالملكية الاعتبارية هو: أن المضمون لا بد أن يكون مضافا إلى شخص أو هيئة حتى تقوم تلك الإضافة بالمضمون به، فإذا أتلف الزكاة أو الخمس أو عوائد الوقف الخاص- كالوقف على الذريّة، و مثله الوقف على العناوين كالفقراء و الزّوار و العلماء- قامت إضافة الوقفية ببدل التالف، و يتصف البدل بالعنوان الذي كان قائما بالمبدل التالف.

و لا فرق بين كون الإضافة ذاتية و اعتبارية، إلّا إذا ألغى الشارع ماليّة المملوك الذاتي كالخمر، فإنّ المسلم إذا صنعه كان مالكا لها بالملكية الذاتية، لكن الشارع أسقط ماليّتها المعتبرة

ص: 83

______________________________

في الضمان، فلا يضمنها المسلم إذا غصبها من مسلم. فالملكية الذاتية توجب الضمان ما لم يلغ الشارع ماليّة المملوك الذاتي. و لذا نقول بضمان منافع الحرّ إذا استوفاها الحابس، مع أنّ عمل الحرّ قبل وقوع المعاوضة عليه- مع كونه مالا- ليس ملكا لأحد بالملكية الاعتبارية.

و لو كان الضمان منوطا بالملكية الاعتبارية لزم الاقتصار في ضمان الحابس على ما إذا قدّر عمله بإجارة أو صلح، و عدم تضمينه بمجرد الاستيفاء. مع أنّ ضمانه في مورد الانتفاع به لعلّه إجماعي عندهم، مستدلّين عليه «بأنه أخذ منه ماله بلا عوض، فكأنّه غصب منه مالا و حقّا أو أتلفه، فيضمن».

مع أن الضمان لو كان دائرا مدار غصب المال المضاف الى مالكه بالملكية الاعتبارية أو إتلافه توجه سؤال الفرق بين استخدام الحرّ قهرا و استعماله و بين منعه عن العمل، إذ المفروض عدم كون عمله ملكه بالملكية الاعتبارية ما لم تقع معاوضة عليه، بل هو مملوك له ذاتا، فكيف يحكم بضمان الحابس لو استعمل الحرّ؟

و قد مرّ أن سبب الضمان غير منحصر في اليد حتى يوجّه ضمان الحابس في صورة الاستخدام بوضع اليد العادية عليه، دون ما إذا منعه عن العمل، لعدم صدق وضع اليد عليه هذا.

الخامس: أنّ عمل الحرّ الصانع المحبوس مضمون على الحابس إذا لم يكن مانع عن وجود عمله إلّا الحبس، بمعنى أن يكون المقتضي لوجوده- و هو إرادة الحرّ لإيجاد العمل- موجودا، و لم يكن مانع عن وجوده إلّا الحبس بحيث يتصف الحبس بالمانعية و التفويت، و يستند العدم إليه لا إلى عدم المقتضي.

و لا فرق في ذلك بين الحبس و المنع، لوحدة المناط و هو المانعية.

و عليه فما في الجواهر من قوله: «أما لو منعه من العمل من غير حبس، فإنّه لا يضمن منافعه وجها واحدا، لأنّه لو فعل ذلك بالعبد لم يضمن منافعه فالحرّ أولى». و كذا ما ذكره بقوله:

«على أن التسبيب الذي ذكره- يعني صاحب الرياض- إنّما يقتضي الضمان إذا تعلق بتلف الأموال، و منفعة الحرّ معدومة، فلا يتصور التسبيب لتلفها». الى أن قال ما محصله: «انّه لو بني

ص: 84

______________________________

على شمول قاعدة الضرر و غيرها من الآيات للفرض و هو ضمان عمل الحرّ المحبوس لأثبتت فقها جديدا، لاقتضائها الضمان بالمنع عن العمل أو الانتفاع بماله، و غير ذلك مما عرفت عدم القول به من العامة الذين مبنى فقههم على القياس و الاستحسان، فضلا عن الإمامية الّذين مبنى فقههم على القواعد المقرّرة الثابتة من أهل بيت العصمة عليهم السّلام، فلا وجه للضمان في الفرض كما قطع به الأصحاب، لأنّ الحرّ لا يدخل تحت اليد على وجه تدخل منافعه معه كالمال و لو شرعا، بل منافعه في قبضته كثيابه باقية على أصالة عدم الضمان و ان ظلم و أثم بحبسه أو منعه» «1» في غاية الإشكال، لعدم استلزام القول بالضمان فقها جديدا، فإنّ التفويت من موجبات الضمان. و معدومية عمل الحر لا تقتضي سقوطها عن المالية كما مرّ مفصّلا، و الإجماع المدّعى على نفي الضمان في الحبس و المنع معلوم المدرك، فلا يصلح للاعتماد عليه و لا لردع السيرة العقلائية على تغريم المانع عن الكسب و العمل.

كما أنّ تخصيص السيرة- في كلام السيد الخويي قدّس سرّه- بالمنع دون الحبس لم يظهر له وجه، إذ لا فرق في بنائهم على التغريم بين الحبس و مجرد المنع عن العمل. و لو أريد رعاية الإجماع المنقول على عدم الضمان في الحبس فقيل بالضمان في المنع خاصة دون الحبس ففيه ما لا يخفى، ضرورة ظهور كلام العلّامة قدّس سرّه في التذكرة «بعدم الضمان وجها واحدا»- مع تعبيره بالأقوى في الحبس- في اتّفاق عامّة المسلمين على نفي الضمان في المنع دون الحبس، و مثله أولى بالرعاية في الفتوى، و عدم مخالفته.

و لعل مقصوده قدّس سرّه من المنع عن العمل ما يشمل الحبس، أي تفويت المنافع عليه قهرا، و هو مورد بناء العقلاء على الضمان، و قد أمضاه الشارع و لو بعدم الردع، بعد ما عرفت من قصور ما استدل به على نفي الضمان.

هذا تمام الكلام فيما يتعلق بعمل الحر.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 37، ص 40

ص: 85

[أقسام الحقوق و وقوعها عوضا في البيع]

اشارة

و أمّا الحقوق (1) [الأخر]

______________________________

أقسام الحقوق و وقوعها عوضا في البيع

(1) معطوف على قوله: «و أمّا عمل الحرّ» و مقصوده قدّس سرّه تحقيق حال الحقوق من حيث قابليتها لوقوعها عوضا في البيع و عدمها. و قد أشرنا في شرح قوله: «و أما العوض» الى: أنّ الثمن في البيع- بعد عدم اشتراطه بكونه عينا- يجوز أن يكون منفعة، و وقع الخلاف بينهم في عمل الحرّ و الحقوق، و قلنا: إنّ البحث يقع في مقامات ثلاثة، و تقدّم الكلام في مقامين، و هما كون العوض منفعة و حكم عمل الحر، و انتهى البحث الى المقام الثالث، و هو ما عنونه بقوله:

«و أما الحقوق».

ثم إنّه ينبغي بيان أمور ثلاثة قبل شرح المتن، فنقول و به نستعين:

الأمر الأوّل: أنّ كلمة «الأخر» موجودة في بعض النسخ المصحّحة دون جميعها، و الأولى حذفها، لعدم سبق ذكر لبعض الحقوق حتى يحترز بها عن سائر الحقوق. و على فرض وجودها في النسخة الأصليّة بقلم المصنف أعلى اللّه مقامه لا بدّ من توجيهها إمّا بالاحتراز عن العين و المنفعة، لكونهما من الحقوق بالمعنى الأعمّ حيث يقال: يحقّ للمالك أن ينتفع، و للحرّ المختار أن يعمل، فالمراد بالحق هو الثبوت. و إمّا بالاحتراز عن خصوص عمل الحرّ إذا استحقه شخص بالإجارة و نحوها من المملّكات، فيكون عمل الحرّ بعد تملّك الغير له من الحقوق، يعني يستحقه المستأجر.

و كلا الأمرين لا يخلو من تكلف. و احتمل بعض الأجلّة قدّس سرّه أن كلمة «الأخر» لم تذكر هنا، و إنّما يناسب وقوعها أوّل القسم الثالث، بأن كانت العبارة هكذا ..: «و أما الحقوق فان لم تقبل المعاوضة .. و أما الحقوق الأخر القابلة للانتقال كحق التحجير ..» و الأمر سهل بعد وضوح المطلب.

الأمر الثاني: في معنى الحق، و لم يظهر من المتن تعريف عام لكافّة الحقوق، لكنه في القسم الثاني منها جعل الحقّ سلطنة فعلية، فبناء على هذا التفسير يكون ذو الحق سلطانا على المتعلق، و أدنى مراتب السلطنة هو جواز إسقاط حقه على ما ذكره قدّس سرّه في الخيارات. كما في

ص: 86

..........

______________________________

مثل حق الخيار في العقود اللازمة أو الجائزة، فإنّ ذا الخيار إمّا مالك لأمر العقد من حيث الفسخ و الإمضاء، و إما لمتعلقه من حيث الرد و الاسترداد.

و الحقّ- بناء على كونه سلطنة- يشارك الحكم المصطلح من التكليفي و الوضعي في كونه مجعولا شرعيا تأسيسا أو إمضاء، و يفارقه في أنّ الملحوظ في الحقوق نوع سلطنة على المتعلق، بخلافه في الحكم، حيث لا يعتبر فيه إلّا الرخصة و عدم المنع من الشي ء، مثلا يطلق على جواز فسخ العقد بالخيار: أنه حقّ، و على جواز الرجوع في الهبة: أنّه حكم.

و الوجه فيه أنّ ذا الخيار اعتبره الشارع مسلّطا على أمر العقد، و من آثار سلطنته جواز إسقاطه و رفع اليد عنه. و لكن الجواز في الهبة حكمي، بمعنى أنّ الشارع رخّص للواهب في الرجوع عن هبته، كترخيصه في سائر المباحات، و لم يعتبر سلطنة على الرجوع، و لذا لا يرتفع هذا الجواز الحكمي بإسقاط الواهب، بل يبقى ما دامت العين الموهوبة باقية بعينها.

هذا معنى الحق، و قد ذكرناه بنحو الإجمال و الإشارة، و إن شئت الوقوف على أنظار الأعلام في تعريفه فلاحظ التعليقة الآتية إن شاء اللّه تعالى بعد الفراغ من توضيح المتن.

الأمر الثالث: في ما هو المقصود من جعل الحق ثمنا في البيع، إذ يحتمل فيه وجهان:

أحدهما: أن يراد بالحق نفس الإضافة الاعتبارية المعبّر عن بعض أقسامها في المتن بالسلطنة الفعلية، و معنى وقوع الحقّ عوضا في البيع تفويض هذه السلطنة الاعتبارية إلى البائع بدلا عن سلطنته على المبيع، فإذا باع زيد كتابا من عمرو و جعل عمرو ثمنه حقّ الخيار الثابت له في معاملة أخرى، انتقل حقّ الخيار إلى زيد، و صار كتابه ملكا لعمرو.

ثانيهما: أن يراد بالحق متعلقة، بدعوى عدم قابلية نفس الحق- بمعنى الإضافة و السلطنة- للنقل إلى الغير، لأنّ الإضافة نسبة قائمة بين طرفيها- و هما من له الحق، و ما يتعلق به الحق- سواء أ كان عينا كالأرض المحجرة التي هي متعلق حق المحجّر، أم منفعة أم عمل حرّ. هذا.

و الظاهر أنّ مقصود المصنف قدّس سرّه من البحث عن حكم جعل الحقوق عوضا هو

ص: 87

..........

______________________________

الاحتمال الأوّل، و ذلك لوجهين:

الأوّل: أنّه قدّس سرّه تعرّض لحكم العوض في البيع، و أفاد جواز كونه عينا- كالمعوّض- و منفعة- عدا عمل الحر- ثم تعرّض للبحث عن قابلية الحقوق لوقوعها عوضا و عدمها.

و هذا يقتضي أن يكون مراده من الحق نفس الإضافة أي السلطنة، إذ لو كان مقصوده منه متعلّقه لما كان وجه لإفراد الحقوق بالبحث، فإنّ متعلق الحق إمّا عين كما في مثل حق التحجير و الرّهانة، و إمّا منفعة كما في مثل حقّ الاستمتاع بالزوجة، و إمّا عمل حرّ كما في مثل حق الولاية و حق الحضانة، و ليس متعلق الحق أمرا خارجا عن هذه الأقسام حتى يختص بالبحث و النظر. و عليه فعقد أحكام الحقوق على حدة كاشف عن أنّ المبحوث عنه قابلية نفس الحق لوقوعه عوضا، لا متعلقة.

الثاني: أنّ المصنف قدّس سرّه استشكل في وقوع الحقوق عوضا في البيع- حتى ما يقابل بالمال في الصلح كحق التحجير- بدعوى اعتبار المالية في العوضين، و هي مشكوكة الصدق على الحقوق. و لو كان محطّ البحث و النزاع متعلّق الحق لما كان وجه للتشكيك في ماليّة حق التحجير، إذ لا ريب في ماليّة الأرض المحجّرة و تنافس العقلاء عليها، فلا بد أن يكون المقصود من الحق المشكوك ماليّته هو نفس الإضافة الاعتبارية لا متعلّقه.

و بهذا ظهر غموض ما في بعض الكلمات من «أن المراد عوضية متعلقات الحقوق بدعوى عدم قابلية نفس الحق للعوضية و المعوّضية» و ذلك لأنّه على فرض تسليمه ليس بيانا لما أفاده المصنف كما تقدم.

إذا عرفت ما ذكرناه فنقول: اختلف الفقهاء قدّس سرّهم في صحة جعل الحقوق عوضا في البيع، فذهب الشيخ الفقيه كاشف الغطاء قدّس سرّه الى المنع مطلقا، و اختار صاحب الجواهر قدّس سرّه الجواز كذلك. و فصّل المصنف بين أقسام الحقوق فجزم بالمنع في قسمين منها- و هما ما لا يقبل المعاوضة و ما لا يقبل النقل- و تردّد في القسم الثالث و هو ما يقبل الانتقال القهري و النقل بالصلح، و إن كان مآله الى عدم وقوعه عوضا كالقسمين الأوّلين:

كما أنّه قدّس سرّه تعرّض في القسم الثاني للفرق بين بيع الدين ممن هو عليه و بين نقل الحق

ص: 88

[القسم الأول الحقوق غير القابلة للإسقاط]

فإن لم تقبل (1) المعاوضة (2) بالمال كحقّ الحضانة و الولاية (3) فلا إشكال (4).

______________________________

الى من عليه الحق، بجواز الأوّل دون الثاني، و سيأتي توضيح تمام ما أفاده بعونه تعالى.

القسم الأوّل: الحقوق غير القابلة للإسقاط

(1) هذا هو القسم الأوّل من التقسيم الثلاثي للحقوق بنظر المصنف، و ضابطه- على ما قيل- كل حقّ روعي فيه مصلحة غير من قام به الحق كحقّ الحضانة التي لوحظ فيه مصلحة الطفل من حيث تربيته و إصلاح شأنه، و كحقّ الولاية المراعى فيه مصلحة المولّى عليه و غبطته، فليس زمام الحق في هذين الموردين بيد من له الحق و هو الامّ و الولي كالأب و الجد حتى يجوز لكل منهما التصرف فيه بنقله الى الغير أو إسقاطه للتخلص من تبعاته. فإذا اشترت الامّ سلعة لم يجز لها جعل الثمن حق حضانتها لولدها، و كذا لا يجوز للولي جعل حق ولايته ثمنا لمتاع يشتريه من المولّى عليه.

و الوجه في عدم جواز جعل هذا القسم عوضا هو: أنّ البيع مبادلة مال بمال، و تمليك للغير، و هو غير محقّق فيما كان الثمن هذا الصّنف من الحقوق، لفرض قيامه بذي الحق و عدم انفكاكه عنه، فهو غير قابل للإسقاط عمّن عليه الحق فضلا عن أن ينتقل الى غيره.

(2) ظاهر كلمة «المعاوضة» هو المبادلة بين المبيع و بين الحق، لكنه غير مراد هنا بقرينة ما سيأتي في القسم الثاني من الحق غير القابل للنقل، فيكون المقصود بالمعاوضة هو إسقاط الحق، و إطلاق المعاوضة عليه من جهة وقوع إسقاط الحق عوضا عن المبيع.

(3) أي: حق الولاية للحاكم الشرعي و لسائر الأولياء كالأب و الجدّ له.

(4) يعني: فلا إشكال في عدم وقوع هذا القسم عوضا في البيع، لعدم دخول شي ء في ملك البائع الذي خرج المعوّض عن ملكه.

ص: 89

[القسم الثاني الحقوق غير القابة للنقل]

اشارة

و كذا (1) لو لم تقبل النقل

______________________________

القسم الثاني: الحقوق غير القابلة للنقل

(1) يعني: و كذا لا إشكال في عدم وقوع القسم الثاني من الحقوق عوضا في البيع.

و المقصود بهذا القسم هو الحقّ الذي استفيد من دليله جواز إسقاطه مجّانا و مع العوض، لكنه لا يقبل الانتقال الى الغير بحيث يقوم الحق بالمنتقل إليه على نحو قيامه بالمنتقل عنه.

و مثّل المصنف قدّس سرّه له بحق الخيار و حق الشفعة، كما إذا باع زيد كتابه من عمرو بدينار على أن يكون له الخيار إلى شهر مثلا، ثم أراد شراء سلعة من عمرو- و هو من عليه الخيار- بجعل الثمن حقّ الخيار الذي كان له في بيع الكتاب بدينار.

و الوجه في عدم قابلية هذا القسم من الحقوق لوقوعه عوضا هو: تقوّم مفهوم البيع بالتمليك من الطرفين، و حيث إنّ مثل حق الخيار لا ينتقل الى الغير، لامتناع اتحاد المسلّط و المسلّط عليه- كما سيأتي توضيحه- لم يصح جعله عوضا. نعم لا بأس بأخذ المال بإزاء إسقاطه عمّن عليه الخيار، لكونه قابلا للإسقاط، بخلاف القسم الأوّل الذي دلّ دليله على عدم سقوطه عمّن يقوم به فضلا عن انتقاله الى الغير.

فإن قلت: لا وجه لجعل القسم الأوّل مقابلا للقسم الثاني، فإنّ ما لا يقبل المعاوضة لا يقبل النقل المعاوضي إلى الغير. و عليه فكل حقّ استفيد من دليله عدم قابليته لأخذ العوض بإزائه كان غير قابل للنقل أيضا، و كلّ حقّ دلّ دليل تشريعه على عدم نقله عمّن له الحق فهو غير قابل للمعاوضة عليه. و عليه ينبغي جمع القسمين تحت عنوان واحد، و هو ما لا يقبل المعاوضة و النقل.

قلت: قد أفاد بعض أجلة المحشين قدّس سرّه- و تقدمت الإشارة اليه- إنّ المعاوضة أعم من النقل، فالمراد بالحق غير القابل للمعاوضة هو ما لا ينتقل الى الغير، و لا يجوز إسقاطه أصلا سواء أ كان الإسقاط مجانا أم بإزاء عوض. و المراد بالحق غير القابل للنقل هو القابل لأخذ العوض بإزاء إسقاطه.

و عليه فمحصّل الفرق هو قابلية القسم الثاني للإسقاط مطلقا، و عدم قابلية القسم الأوّل له كذلك، فلا تداخل بين القسمين. كما أنّ القسم الثالث في كلام

ص: 90

[الفرق بين إسقاط الحق و بيع الدين]

كحق الشفعة (1) و حق الخيار، لأنّ (2) البيع تمليك الغير.

و لا ينتقض (3) ببيع الدّين

______________________________

المصنف قدّس سرّه هو القابل للإسقاط و للانتقال القهري بالإرث، و للنقل الاختياري ببعض وجوهه كالصلح، و لكن يشكل جعله ثمنا في البيع.

(1) و هو استحقاق الشريك الحصّة المبيعة في شركته، كما إذا كانت الدار مشتركة بين زيد و عمرو، فباع زيد حصّته من بكر، فيحدث لعمرو حقّ على البيع الواقع بين زيد و بكر، و يجوز له دفع الثمن الى بكر و ضمّ الحصة المبيعة إلى حصته. فلو اشترى عمرو من بكر كتابا فهل يجوز له جعل ثمنه حقّ شفعته من الدار حتى لا يتمكن من فسخ العقد الواقع بين زيد و بكر أم لا؟ قد أفاد المصنف قدّس سرّه عدم جوازه، لما تقدم من إناطة البيع بانتقال كل من العوضين الى ملك الآخر، و حيث كان الحق قائما بصاحبه بحيث لا ينتقل الى غيره- و إن جاز إسقاطه- لم يتحقق الانتقال الملكي.

(2) هذا تعليل لعدم قابلية وقوع مثل حقّي الشفعة و الخيار- مما يقبل الإسقاط و لا يقبل النقل الى الغير- عوضا في البيع، و محصله: كون البيع من نواقل الأملاك، فإذا تعذّر انتقال الحق الى غير من له الحق لزم كون المبيع بلا عوض، و من المعلوم عدم صدق مفهوم البيع عليه حينئذ.

الفرق بين إسقاط الحق و بيع الدين

(3) يعني: و لا ينتقض عموم قولنا: «لأن البيع تمليك الغير»- في مقام تعليل عدم قابلية القسم الثاني من الحقوق لوقوعه عوضا- ببيع الدين ممّن هو عليه، إذ لا تمليك فيه، بل هو إسقاط لما في ذمة المديون.

و لا يخفى أن كلام المصنف هنا إلى آخر القسم الثاني من الحقوق تعريض بما أفاده صاحب الجواهر قدّس سرّه من تصحيح جعل الحقوق عوضا في البيع، خلافا لشيخه الفقيه كاشف الغطاء، و لمسيس الحاجة الى توضيح الأمر لا مناص من بيان مرام كل منهم قدس اللّه أسرارهم الزكيّة، فنقول و به نستعين: إنّ هنا مطالب ثلاثة، أوّلها كلام كاشف الغطاء، ثانيها مناقشة

ص: 91

..........

______________________________

صاحب الجواهر فيه، ثالثها تحقيق المصنف.

أما الأوّل، فقد ذكر فيه الفقيه الكبير في شرحه على القواعد ما لفظه: «و أما الحقوق فالظاهر أنّها لا تقع ثمنا و لا مثمنا» و مقتضى إطلاقه عدم قابلية شي ء من الحقوق لوقوعها ثمنا في البيع. و أمّا عدم كونها مثمنا فمن مسلّماتهم، لاختصاص المعوض بالعين، فليس نقل المنفعة و الحق بيعا عندهم.

و أما الثاني، فقد قال فيه في الجواهر: «نعم في شرح الأستاد اعتبار عدم كونه- أي الثمن- حقّا، مع أنه لا يخلو من منع، كما عرفته من الإطلاق المزبور المقتضي لكونه كالصلح الذي لا إشكال في وقوعه على الحقوق، فلا يبعد صحة وقوعها ثمنا في البيع و غيره، من غير فرق بين اقتضاء ذلك سقوطها كبيع العين بحق الخيار و الشفعة على معنى سقوطهما، و بين اقتضائه نقلها كحقّ التحجير و نحوه. و كأنّ نظره في المنع إلى الأوّل، باعتبار كون البيع من النواقل لا من المسقطات، بخلاف الصلح. و فيه: أنّ من البيع بيع الدين على من هو عليه، و لا ريب في اقتضائه حينئذ الإسقاط و لو باعتبار أن الإنسان لا يملك على نفسه ما يملكه غيره عليه، الذي بعينه يقرّر في نحو حقّ الخيار و الشفعة، و اللّه أعلم» «1».

و لا بأس بتوضيحه، فنقول: قد أفاد صاحب الجواهر قدّس سرّه أنّ المراد بالثمن في باب البيع- على ما صرّح به السيد بحر العلوم قدّس سرّه في مصابيحه- هو مطلق المقابل للمثمن، لا خصوص العين الشخصية، و لذا جاز أن يكون العوض عينا كلّية و منفعة. و كذا يجوز كونه حقا سواء أ كان قابلا للنقل الى الغير كحق التحجير، أم لا و لكن جاز إسقاطه كحق الشفعة.

و الدليل على جواز كون الحقوق ثمنا وجوه ثلاثة:

أحدها: إطلاق أدلة صحة البيع كقوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ لاقتضائه حليّة كل ما صدق عليه البيع عرفا، و لم ينهض دليل على تقييد الحلية و الصحة بما إذا لم يكن العوض

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 208، 209

ص: 92

..........

______________________________

حقّا حتى يدّعى بطلان عوضية الحقوق.

ثانيها: إطلاق الفتاوى بصحة البيع سواء كان العوض عينا أم منفعة أم حقّا. و ظاهره دعوى اتفاق الفقهاء على ذلك.

ثالثها: الاستشهاد بما ذكروه من جواز الصلح على العين بحق الخيار و الشفعة و التحجير، و إن كانت ثمرة الصلح على الحقوق مختلفة، فإذا صالح الكتاب على حقّ التحجير انتقل الحق من المتصالح الى المصالح، و إذا صالح الكتاب على حقّ الخيار سقط الحق و لم ينتقل الى المصالح. و لمّا كان الصلح على الحقوق نافذا شرعا فليكن بيع الأعيان بالحقوق صحيحا أيضا.

و لعلّ نظر كاشف الغطاء- المانع من جعل الحقوق عوضا في البيع- الى خصوص الحقوق التي لا تنتقل الى الغير كحقّ الشفعة القائم بشخص الشريك، لا إلى مطلق الحقوق حتى ما كان قابلا للنقل الى الغير كحق التحجير.

و الفارق بين البيع و الصلح بنظره قدّس سرّه- حيث يجوز الصلح على مطلق الحقوق سواء القابل منها للإسقاط فقط أم القابل له و للنقل الى الغير، و لا يجوز جعلها ثمنا في البيع- هو كون البيع من نواقل الملك، و هو غير صادق على ما إذا كان العوض حقّا لا يقبل النقل إلى الغير كحق الخيار، إذ لا يتحقق النقل الملكي من الجانبين. و هذا بخلاف الصلح، فإنّه من المسقطات، لا من النواقل، فيجوز جعل الحق غير القابل للنقل عوضا عن المتصالح عليه، و يكون أثره سقوط الحق عمّن عليه الحق و هو المصالح.

كما إذا صالح من عليه حق الشفعة مع من له الحق على كتاب بعوض حقّ الشفعة، فإنّه صلح نافذ، و أثره سقوط حق الشريك، و زوال سلطنته على حلّ عقد شريكه مع المشتري.

ثم أورد صاحب الجواهر على شيخه الفقيه قدّس سرّهما بالنقض عليه ببيع الدين، حيث يظهر به عدم كون الفارق المذكور بين البيع و الصلح مانعا عن جعل الحقوق عوضا في البيع.

و تقريب النقض: أنّه إذا كان زيد مديونا لعمرو بمائة منّ من الحنطة جاز لعمرو أن يبيع هذا المملوك الذمي من زيد، بأن يقول له عمرو: «بعتك ما أملكه في عهدتك بدينار» و يقول

ص: 93

..........

______________________________

زيد: «قبلت» و لا ريب في صحة بيع الدين ممّن هو عليه، مع عدم ترتب النقل من طرف البائع إلى المشتري، لعدم إعطائه إياه شيئا، و إنّما أسقط دينه المستقرّ على عهدة زيد، و فرغت ذمّته عما اشتغلت به لعمرو.

و عليه فإذا كان أثر البيع في بعض الموارد إسقاط الدين كان كالصلح في إفادته النقل تارة و الإسقاط أخرى. و هذا النقض كاشف عن بطلان عموم التعليل المتقدم في المتن من «أن البيع تمليك الغير» لما عرفت من صحة بيع الدين، مع أنّ التمليك يكون بدينار من طرف المشتري فقط- و هو المديون- لا من الجانبين. هذا توضيح ما أفاده صاحب الجواهر في تصحيح جعل الحق القابل للإسقاط عوضا في البيع.

و نتيجة هذا البيان: أنّ القسم الثاني من الحقوق يجوز كونه ثمنا في البيع، و ليس البيع منوطا بالمبادلة الملكية من الطرفين، بل يكفي تمليك أحدهما، و إسقاط الآخر لحقّه، بشهادة مشروعية بيع الدين ممن هو عليه، مع انحصار أثره في السقوط و فراغ ذمة المديون.

و أما الثالث: و هو إشكال المصنف على صاحب الجواهر قدّس سرّهما فمحصله: أنّ النقض ببيع الدين ممّن هو عليه ممنوع، للفرق بينه و بين وقوع الحق عوضا، و بيانه: أنّ تحقق عنوان البيع في جميع الموارد منوط بالانتقال الملكي من الجانبين، و هذا المعنى حاصل أيضا في بيع الدين من المديون، و ذلك لأن الدائن يملّك دينه للمديون، و يتملك المديون لما في ذمة نفسه، لكن لما لم يعتبر العقلاء مالكية الإنسان لما في ذمة نفسه دائما فلذا يتملك المديون دينه آنا ما، ثم يسقط عما في ذمته. لا أنّ البيع يفيد سقوط الدين كما زعمه صاحب الجواهر. بل المديون يتملّك الدّين ثم يسقط عن عهدته.

و عليه فالتعليل المتقدم و هو «أن البيع تمليك الغير» كبرى تامة لم يرد عليها تخصيص، لا ببيع الدين و لا بغيره. و هذا بخلاف الصلح على الحق الذي أثره سقوطه عمّن عليه الحق، لعدم توقف الصلح على النقل و الانتقال الملكي، بل يكفي نفس الصلح في ترتب السقوط عليه.

و بعبارة أخرى: الذي يقتضيه البيع في جميع الموارد حدوث تمليك الغير لا بقاؤه،

ص: 94

ممّن (1) هو عليه، لأنّه (2) لا مانع من كونه (3) تمليكا، فيسقط (4)، و لذا (5) جعل الشهيد

______________________________

و الذي يقتضيه نقض صاحب الجواهر ببيع الدين هو امتناع بقاء تملّك الإنسان لما في ذمة نفسه، لا حدوثه. و مع اختلاف الاقتضاءين لا مانع من الالتزام بصحة بيع الدين ممّن هو عليه، لكونه كسائر أفراد البيع تمليكا من الطرفين هذا.

و قد ظهر الفرق بين المقيس- أعني به الحق القابل للإسقاط دون النقل- و بين المقيس عليه أعني به بيع الدين، فإنّ الدين قابل لدخوله في ملك المديون آنا مّا- أي حدوثا- و إن امتنع بقاؤه على ملكه، بخلاف الحق غير القابل للنقل، فإنّ عدم قابليته للدخول في ملك من عليه الحق حدوثا و بقاء مانع عن جعله عوضا في البيع المتوقف على التمليك من الجانبين.

و عليه فقياس الحق بالدين مع الفارق. هذا توضيح ما أجمله المصنف قدّس سرّه في المتن من النقض ببيع الدين و الجواب عنه.

(1) يعنى: المديون.

(2) الضمير للشأن، و هذا تعليل لقوله: «و لا ينتقض» و قد تقدم تقريب عدم ورود النقض بقولنا: «ان تحقق عنوان البيع في جميع الموارد منوط بالانتقال الملكي .. إلخ».

و محصله: أنّ المعتبر في البيع- سواء أ كان المبيع عينا شخصية أم كلّية- هو حدوث ملكية العوضين للمتبايعين، و أمّا بقاؤها فغير معتبر فيه، و من المعلوم حدوث تملك المديون لما في ذمة نفسه آنا ما، و سقوطه في الآن اللاحق غير قادح في تحقق عنوان البيع. و هذا المناط غير محقّق في نقل الحق الى من عليه الحق، لاستحالة اجتماع المتقابلين- و لو آنا ما- و هما من له الحق و من عليه الحق.

(3) أي: كون بيع الدين من المديون تمليكا للمديون، و أثره فراغ الذمة.

(4) الفاء تدل على ترتب سقوط الدين- عن الذمة- على تملكه فورا، و هذا النحو من الملك يعبّر عنه بالملكية الآنيّة.

(5) يعني: و لأجل أنّه لا مانع من كون بيع الدين مفيدا للملكيّة الآنيّة جعل الشهيد،

ص: 95

في قواعده (1) الإبراء مردّدا بين الإسقاط و التمليك.

و الحاصل (2): أنه يعقل أن يكون مالكا لما في ذمّته، فيؤثّر

______________________________

و غرض المصنف تأييد ما ذكره- في جواب صاحب الجواهر قدّس سرّه- من أن مالكية المديون لما في ذمة نفسه آنا ما و سقوط الدين بعده ليست محالا بل ممكنة، فإنّ الشهيد قدّس سرّه جعل إبراء الدائن لما يملكه في ذمة مديونه مردّدا بين كونه إسقاطا لما في ذمته ابتداء، أو تمليكا له، ثم سقوط الدين عن الذمة في الآن الثاني. و لو لم يكن أصل تملك المديون لما في ذمة نفسه ممكنا لم يكن وجه لهذا الترديد، إذ لا يعقل الترديد بين ما هو ممتنع و ما هو ممكن، فالترديد بين شيئين كاشف عن إمكان كليهما، و عدم كونهما من المحالات. و عليه فبيع الدين من المديون يفيد الملكية آنا ما فيسقط، و ليس أثر البيع هو السقوط من أوّل الأمر كما زعمه صاحب الجواهر قدّس سرّه حتى يكون إسقاط الحق مثل بيع الدين.

(1) ذكر الشهيد ذلك في قاعدة عنونها بقوله: «قد تردّد الشي ء بين أصلين يختلف الحكم فيه بحسب دليل الأصلين، منه الإقالة .. و من المتردّد بين الأصلين: الإبراء، هل هو إسقاط أو تمليك؟» «1».

(2) هذا تقرير آخر لما أفاده من عدم جواز جعل القسم الثاني من الحقوق ثمنا في البيع، و جواز بيع الدين ممن هو عليه، توضيحه: أنّ الفرق بين الحق و الملك ينشأ من مغايرتهما جوهرا و ذاتا، و لذا يترتب عليه استحالة انتقال الحق ممّن له الحق الى من هو عليه، و إمكان مالكية الإنسان لما في ذمة نفسه آنا ما.

و الدليل على الفرق ما أفاده بقوله: «و السّر» و بيانه: أنّ هذا القسم من الحقوق نوع من أنواع السلطنة الاعتبارية، و هذا المبدأ لا يتعدى بنفسه بل بحرف الاستعلاء، كما ورد في النبوي: «الناس مسلطون على أموالهم» و مقتضى هذه التعدية تقوّم السلطنة بطرفين، أحدهما سلطان و الآخر مسلّط عليه، و هما متقابلان يستحيل اجتماعهما في شخص واحد.

______________________________

(1): القواعد و الفوائد، ج 1، ص 291، رقم القاعدة: 102.

ص: 96

..........

______________________________

و على هذا فلو صحّ وقوع مثل حق الخيار عوضا في البيع بأن ينتقل الى من عليه الخيار لزم كون شخص واحد مجمعا لعنوانين متقابلين «و هما المسلّط و المسلّط عليه» و استحالته من الواضحات. مثلا: حقّ الخيار سلطنة على من عليه الحق بحلّ عقده، كما إذا تبايع زيد و عمرو دارا بألف دينار، و شرط زيد لنفسه الخيار، أي السلطنة على إقرار العقد و فسخه، فإذا اشترى من عمرو كتابا و جعل ثمنه الخيار- الثابت له في بيع الدار بالألف- لزم صيرورة عمرو- و هو من عليه الحق- مجمعا لعنوانين متقابلين آنا ما أي كونه من له الحق و من عليه الحق، أو السلطان و المسلّط عليه، و قد تقرّر استحالة اجتماع المتقابلين في واحد شخصي و لو في لحظة واحدة.

و هكذا الكلام في حق الشفعة، إذ مناط الاستحالة في المقام كون هذا الحق سلطنة، و السلطنة بحسب طبعها تقوم بطرفين، و يمتنع قيامها بواحد و لو آنا ما.

و هذا بخلاف الملكية، فإنّها تتعدّى بنفسها الى المملوك، و لا تتعدى بحرف الاستعلاء، فيقال: «ملك زيد الدار» فهي إضافة اعتبارية- لا مقولية- و علاقة يعتبرها العقلاء و الشارع بين المالك و المملوك، و لا يتوقف وجودها في وعاء الاعتبار على قيام المبدأ- أي الملكية- بشي ء آخر يكون هو المملوك عليه. و حيث كانت الملكية ربطا و نسبة صحّ اعتبارها في شخص واحد بأن يكون هو من له الملك و من عليه الملك- أي مالكا و مملوكا.

و عليه لا مانع من مالكية الإنسان لما في ذمة نفسه، لتحقق المغايرة المعتبرة بين المالك و المملوك، لكون المالك نفسه، و المملوك المال الذي في ذمته، و هما متغايران.

و بهذا البيان يظهر غموض تنظير صاحب الجواهر «أعلى اللّه مقامه» جواز جعل الحق- القابل للإسقاط عوضا في البيع- ببيع الدين لمن هو عليه. لما عرفت من أنّه يعتبر في البيع حصول التمليك من الطرفين سواء أ كان مستمرا أم زائلا كما في بيع الدين للمديون، و هذا التمليك الآنيّ لا يتحقق في نقل الحق إلى من عليه الحق، لاستحالة اجتماع المتقابلين و لو آنا ما، فإنّ اجتماع المسلّط و المسلّط عليه في شخص واحد يرجع الى التناقض و هو كونه سلطانا و غير سلطان، و هو كما ترى.

ص: 97

تمليكه (1) السقوط، و لا يعقل (2) أن يتسلّط على نفسه.

و السّر (3): أنّ مثل هذا الحق (4) سلطنة فعلية (5) لا يعقل قيام طرفيها بشخص واحد (6)، بخلاف الملك، فإنّه نسبة بين المالك و المملوك (7)،

______________________________

(1) يعني: أن تمليك البائع دينه للمديون أثره سقوط الدين عن ذمة المديون.

(2) يعني: أنّ ما ذكرناه- من حدوث الملكية في بيع الدين ثم سقوطه- غير جار في القسم الثاني من الحقوق، لأنّ انتقال الحق الى من عليه الحق- و لو حدوثا- يستلزم صيرورة شخص واحد سلطانا و مسلّطا عليه، و من المعلوم عدم الفرق في استحالة اجتماع المتقابلين بين الحدوث و البقاء.

(3) قد عرفت أنّه تعليل للفرق بين بيع الدين و بين عوضيّة الحق، و قد أوضحناه آنفا بقولنا: «و الدليل على الفرق ما أفاده بقوله: و السر .. إلخ».

(4) أي: القسم الثاني من الحقوق، كحق الخيار و الشفعة مما يقبل الإسقاط دون النقل.

هذا بناء على النسخة المصحّحة المعتمد عليها.

و إن كانت العبارة: «أن الحق سلطنة ..» فلا بد أن يكون اللام للعهد الى قسم خاص من الحقوق، و هو الذي يكون محل النزاع بين صاحب الجواهر و المصنف قدّس سرّهما، كالقسم الثاني من الحقوق، و ليس مقصوده تفسير مطلق الحقوق بالسلطنة الفعلية المتقومة بتعدد طرفيها، لوضوح أن حق التحجير لا يقوم بشخصين.

(5) التقييد بالفعلية في قبال السلطنة الشأنية الموجودة في الملك كما في موارد الحجر، فإنّ الصبي و السفيه مالكان لأموالهما بالملكية الاعتبارية، إلّا أنّه لا قدرة لهما- فعلا- شرعا على التصرف فيهما، للحجر. و عليه فالسلطنة و إن كانت أثرا مشتركا بين الحق و الملك، إلّا أنّها في الحق فعليّة و تتقوّم بطرفين، و في الملك أعم من الشأنية و الفعلية، فيصح اعتبار الملكية و لو لم تحدث قدرة فعلية على التقليب و التقلب في المملوك.

(6) لما عرفت من استحالة اجتماع المتقابلين.

(7) و هذه النسبة الاعتبارية مغايرة طبعا للحق، فيصح اعتبارها بين المالك و المملوك و إن اجتمعا في شخص واحد.

ص: 98

و لا يحتاج (1) إلى من يملك عليه حتى يستحيل (2) اتحاد المالك و المملوك عليه، فافهم (3) [1].

______________________________

(1) يعني: لا يتوقف اعتبار الملكية- في جميع مواردها- على وجود مملوك عليه، و ان احتيج إليه أحيانا، و هذا في قبال الحق المتوقف- بحسب طبعه- على وجود مسلّط عليه.

ففي المقام إذا باع الدائن دينه من المديون لا تتوقف مالكية المديون لما في ذمة نفسه على وجود مملوك عليه، بل يكفي وجود طرفين أحدهما المالك، و الآخر المال المملوك، و سيأتي مزيد توضيح له في التعليقة إن شاء اللّه تعالى.

(2) إذ لو توقّفت الملكية على وجود المملوك عليه استحال بيع الدين من المديون، كما استحال انتقال حق الشفعة ممّن له الحق إلى من عليه الحق، لوحدة المحذور- أعني به اجتماع المتقابلين في واحد- في كلا المقامين.

(3) لعلّه إشارة إلى: أنّ استحالة قيام طرفي السلطنة بشخص واحد إنما تلزم إذا لم يكن نقل الحق إلى من هو عليه إسقاطا له، إذ بناء عليه لا يلزم امتناع اتّحاد السلطان و المسلّط عليه.

نعم يلزم إشكال اتحادهما بناء على كون نقل الحق الى من هو عليه تمليكا له.

إلّا أن يقال: إنّ لزومه مبني على بقاء الحق بعد انتقاله إلى من عليه الحق، و أمّا بناء على سقوطه عنه بالتمليك كترتب سقوط الدين عن المديون على مجرّد تمليكه- كما أفاده المصنف قدّس سرّه- فلا يلزم محذور الاتّحاد أصلا.

أو إشارة إلى: أنّ الحق هو الملك، و السلطنة تكون من أحكامه، لا أن الحق نفس السلطنة، كما سيأتي في التعليقة إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

[1] ما أفاده المصنف قدّس سرّه في القسم الثاني من الحقوق- و هو ما لا يقبل النقل الى الغير- قد ناقشه المحققون من المحشين بوجوه، بعضها ناظر إلى تنظير الحق ببيع الدين، و بعضها إلى منع إطلاق قيام الحق بطرفين، و بعضها الى توقف بيع الدين على وجود من يملك عليه، فيكون كالحق، و بعضها إلى أصل تصوير الملكية- و لو آنا ما- في بيع الدين حتى يترتب عليه السقوط.

فمنها: ما أفاده السيد قدّس سرّه تارة: بأنّ تعليل امتناع جعل الحق عوضا بمحذور استحالة

ص: 99

______________________________

المتقابلين أخصّ من المدّعي: الذي هو عدم قابلية الحقوق لوقوعها ثمنا في البيع سواء أ كان البائع من عليه الحق أم غيره، و محذور الاتحاد يقتضي تخصيص المنع بما إذا انتقل الحقّ إلى من عليه الحق، لا إلى غيره.

و اخرى: بعدم لزوم محذور اتحاد المتقابلين لو انتقل الحق إلى من هو عليه، لعدم قيامه بشخصين في مثل حقّ الخيار و الشفعة، لكون متعلق الحق في الشفعة عقد الشريك مع المشتري لحصته، و في حقّي الخيار عقد من عليه الخيار، و عليه فلا موضوع لاستحالة اجتماع المتقابلين في شخص واحد.

و ثالثة: بأنّ التفرقة بين الملك و الحق بجعل الأوّل نسبة و الثاني سلطنة غير مجد في تصحيح بيع الدين ممن هو عليه مع اعتبار ترتب الملك على البيع، و ذلك لتوقف الملك في بيع ما في الذمم على مملوك عليه، إذ لا بدّ من التزام الذمة القابلة للتعهد بالوفاء بالكلّي، و يعود حينئذ محذور اجتماع المسلّط و المسلّط عليه في واحد، لفرض لزوم مغايرة المالك للمملوك عليه و تعددهما. و عليه فجعل الملك نسبة اعتبارية غير نافع لحلّ الإشكال في بيع الدين ممن هو عليه «1». هذا.

أقول: أمّا الإشكال الأوّل فتفصيله: أنه إن كان مقصود المصنف قدّس سرّه منع جعل الحق عوضا في البيع مطلقا سواء أ كان ممّن هو عليه أم من غيره تمّ ما أفاده السيد قدّس سرّه من الأخصية.

و إن كان مقصوده البحث مع صاحب الجواهر- القائل بجعل الحق عوضا عن مبيع يبذله من عليه الحق على وجه الاسقاط- لم يتّجه عليه هذا الاشكال، لكون النظر حينئذ مقصورا على ردّ مقالة الجواهر، فالنقض على المصنف- بما إذا كان البيع من غير من عليه الحق- في غير محلّه، لكونه أجنبيّا عن مورد كلام الجواهر، و إن كان أصل المطلب حقّا.

و بعبارة أخرى: محطّ الاستدلال باستحالة اجتماع المسلّط و المسلّط عليه هو صورة

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 57

ص: 100

______________________________

انتقال الحق الى من هو عليه، و ليس انتقاله إلى الأجنبي موردا للبحث حتى يورد على المصنف بالأخصية. نعم عدم جواز جعل الحق عوضا لغير من عليه الحق و إن كان صحيحا، لكنه لا بمناط اتحاد من له الحق و هو من عليه، بل بمناط عدم قابلية الحق للنقل و التمليك إلى الغير.

و أما الإشكال الثاني- و هو تعلق حقّي الخيار و الشفعة بالعقد لا بمن هو عليه- ففيه: أن مثل حقي الشفعة و الخيار و إن لم يكن كحق القصاص في تعلّقه بشخصين، فطرف الحق هو العقد كما صرّح به المصنف في الخيارات، لا السلطنة على استرداد العين، إلّا أنّ السلطنة على فسخ عقد الغير سلطنة عليه حقيقة، لاستلزام الاستيلاء على حلّ العقد- و هو الالتزامان المرتبطان- للسلطنة على الملتزم و العاقد، و معه يعود محذور اتّحاد المسلّط و المسلّط عليه عند نقل مثل حق الخيار الى من هو عليه. و كذا الحال في حق الشفعة، فإنّ السلطنة على عقد الشريك مع المشتري سلطنة على المشتري حقيقة و بلا عناية، فتأمّل.

و أما الإشكال الثالث- و هو توقف ملك الكلي على من يملك عليه- فيمكن أن يقال: إنّ توقف الملك في الكليات الذمية على مغايرة المالك للمملوك عليه و إن كان صحيحا، لكن الظاهر أنّ مقصود المصنف من نفي الحاجة الى المملوك عليه في المقام هو ملاحظة واقع الأمر بعد انتقال الدين إلى المديون، لا قبله، و المتوقف على المملوك عليه هو الدين كما إذا تعهّد البائع بالكلي سلفا أو حالا لغيره، فالمالك هو المشتري و المملوك هو الحنطة مثلا، و المملوك عليه هو البائع، و هذا مسلّم. لكن إذا باع المشتري ما يملكه في ذمة البائع من نفس البائع لا من الأجنبي لا تتوقف مالكية المديون لما في ذمة نفسه آنا ما- ثم سقوطه- على طرف آخر.

و بهذا يسلم كلام المصنف عن الاشكال، و لا مجال لتنظيره ببيع الحق ممن هو عليه في استلزامه الاستحالة. إلا أن يناقش في أصل تصوير مالكية الإنسان لما في ذمة نفسه بالملكية الاعتبارية.

و منها: ما أفاده المحقق الخراساني قدّس سرّه- مضافا إلى إشكال الأخصية المتقدّم في كلام صاحب العروة- من وجهين:

أحدهما: أنّ مورد الكلام هو عدم صحة جعل الحق عوضا في البيع، فلا يناسبه التعليل

ص: 101

______________________________

بقوله: «لأن البيع تمليك الغير» لعدم دلالته على لزوم النقل من طرف الثمن أيضا، كما لا يناسبه النقض ببيع الدين أصلا، لعدم كونه بصدد بيان عدم وقوعه عوضا، إذ المفروض كون الدين مبيعا لا ثمنا.

و ثانيهما: أنّ الحق ليس بنفسه سلطنة، بل هي من آثاره، كما تكون لازمة للملك أيضا، فلو امتنع اتّحاد طرفي الحق لاستحالة اجتماع المتقابلين لزم في بيع الدين ممّن هو عليه أحد محذورين، إمّا اتّحاد المسلّط و المسلّط عليه لو حصلت السلطنة للمديون بصيرورته مالكا لما في ذمته، و إمّا تفكيك الملكية عن السلطنة التي هي أثرها لو قيل بأنّ الحاصل في بيع الدين من المديون هو مجرد الملكية و السقوط، لا السلطنة على نفسه حتى يترتب عليه اجتماع المتقابلين المحال «1».

أقول: أمّا الإشكال الأوّل فالظاهر عدم وروده على المتن بناء على مبناه من أنّ إنشاء التمليك في البيع يكون من الطرفين، و إن كان من طرف المشتري ضمنيّا كما صرّح به المصنف في الجواب عن النقض الرابع على تعريف البيع بإنشاء تمليك عين بمال. و عليه يكون تعليل عدم وقوع الحق- غير القابل للنقل- عوضا في البيع بقوله: «لأنّ البيع تمليك الغير» في محله، لعدم تمكن المشتري من تمليك الثمن- و هو الحق- للبائع، لفرض عدم قابليته للنقل، فلا يتحقق مفهوم المبادلة المأخوذة في تعريف المصباح.

و أمّا نقض عدم وقوع الحق ثمنا ببيع الدين ممن هو عليه فالمقصود منه النقض بالأولوية، لأنّ كل من اكتفى بالإسقاط في ناحية المعوّض الذي هو المبيع الملحوظ فيه الأصالة فقد اكتفى بالإسقاط في طرف العوض- الذي هو مورد البحث- بطريق أولى، فتأمل.

مضافا إلى: أنّ مقصوده منع تنظير صاحب الجواهر سقوط الحق ببيع الدين.

و أما الإشكال الثاني فالظاهر. وروده على المتن، فإنّ الملك الاعتباري- بأيّ معنى فسّر-

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 4

ص: 102

______________________________

موضوع للسلطنة كما يقتضيه مثل ما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قوله: «الناس مسلّطون على أموالهم» فلو امتنع قيام طرفي السلطنة الفعلية- في الحق- بواحد من جهة استحالة اجتماع المتقابلين لزم امتناعه في الملك أيضا، كما أنّه لو أمكن تصوير قيامه بشخص واحد- كما سيأتي في كلام المحقق الأصفهاني- جرى ذلك في الملك أيضا.

و الحاصل: أن الحق و الملك بوزان واحد إمكانا و امتناعا.

و منه يظهر أن المناقشة فيه «بأنّ الحق سلطنة اعتبارية هي من الأحكام الوضعية كاعتبار الملكية، و جواز التصرف تكليفا و وضعا يعبّر عنه بعنوان السلطنة، لا أنه هناك سلطنة اعتبارية حتى يكون في كل ملك اعتبار الملكية و اعتبار السلطنة» «1» غير ظاهرة، لكون المجعول نفس السلطنة في مورد الملّاك بالنسبة إلى أموالهم، و لو كانت عنوانا مشيرا إلى مشروعية التصرفات تكليفا و وضعا كانت حكما مشتركا بين الملك و الحق، إذ لا يراد من كون الحق سلطنة إلّا جواز تصرّف ذي الحق في حقه.

و الحاصل: أنّ السلطنة أثر مشترك بين الملك و الحق، و هي إمّا اعتبار وضعي، و إمّا عنوان جامع بين أنحاء التصرفات، فلا وجه للتفكيك بين الملك و الحق بجعل السلطنة في الملك نفس الجواز تكليفا و وضعا، و في الحق اعتبار السلطنة.

هذا بناء على الاقتصار على ما في المتن من كون الملك نسبة اعتبارية منتزعة من جواز التصرف و نحوه من الأحكام التكليفية كما هو مبناه المصرّح به في باب الاستصحاب و غيره من انتزاع الأحكام الوضعية من التكليفيات، و ليست مستقلة بالجعل، كما أنّ الملكية ليست عنده كالطهارة و النجاسة من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع- على ما نسبه السيد إليه.

فعلى كلّ تكون السلطنة على التقليب و التقلب من آثار الملك و أحكامه.

و أمّا بناء على ما أفاده المصنف قدّس سرّه في رسالة قاعدة «من ملك» من التصريح بكون الملكية سلطنة فعلية، فالإشكال آكد، لمساوقة اعتبار الملكية لاعتبار السلطنة على المملوك،

______________________________

(1): حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني، ج 1، ص 13

ص: 103

______________________________

و لذا تكون سلطنة الصبي و المحجور على ماله شأنية لا فعلية، و حينئذ يكون محذور استحالة قيام طرفي الملك بواحد- كما في مالكية المديون لما في ذمة نفسه آنا ما- محذور اجتماع المسلّط و المسلّط عليه في واحد.

و على كلّ حال فالسلطنة ملحوظة في الملك سواء أ كان حقيقته إضافة اعتبارية أثرها السلطنة، أم كانت نفس السلطنة الاعتبارية، هذا.

و الحاصل: أنّ إشكال المحقق الخراساني وارد على المتن و لا دافع له.

هذا مضافا الى ما في تفسير مثل حق الخيار بالسلطنة الفعلية من إشكال آخر، و هو:

أنه لا خلاف في كونه موروثا، فلو ورثه الصبي كان كسائر ما يرثه مما له سلطنة اقتضائية عليه لا فعلية، و سلطنة وليّه الفعلية لا ربط لها به. و دعوى انتزاع سلطنته من جواز تصرف الولي ممنوعة، إذ لا معنى لقيام الأمر الانتزاعي بالصبي و نحوه من القصّر، و قيام منشأ الانتزاع بمن له الولاية.

و منها: ما أفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه من وجهين:

أحدهما- بتوضيح منّا-: أنّ منشأ استحالة انتقال الحق إلى من هو عليه تضايف عنواني السلطان و المسلّط عليه، و المتضايفان متقابلان لا يجتمعان في واحد. لكنه ممنوع، لعدم اقتضاء مطلق التضايف للتقابل، بل إنّما هو شأن قسم خاص منه، و هو المتضايفان المتغايران وجودا كالعلة و المعلول و التقدم و التأخر، و أمّا العالمية و المعلومية و المحبية و المحبوبية فيقومان بوجود واحد بلا ريب.

و حقيقة السلطنة- كالملكية الحقيقية- تكاد أن تكون من القسم الثاني، إذ ليست حقيقة السلطنة إلّا كون الشخص قاهرا على شخص، و كون الغير طوع إرادته في حركاته و سكناته، و من المعلوم أنّ أولى الأشخاص بهذا المعنى هو الإنسان بنفسه، فإنّه لا يتحرّك إلّا بإرادة نفسه، فهو مسلّط على نفسه حقيقة. و لا محذور في ذلك بعد كون مرتبة من النفس قاهرة على مرتبة اخرى منها، كما هو المشاهد في أصحاب الرياضات و المجاهدين بالجهاد الأكبر لأجل قهر

ص: 104

______________________________

النفس و جعل زمامها بأيديهم و طوع إرادتهم.

و عليه فالسلطنة الحقيقية- فضلا عن الاعتبارية- لا تتوقف على تعدد الطرف حتى يلزم المحال من اجتماعهما في شخص واحد.

و دعوى توقف السلطنة على تعدد الوجود- و امتناع قيامها بواحد- لأنّ خصوصية الاستعلاء المقتضية لكون السلطان فوقا على المسلّط عليه موجبة لمغايرتهما وجودا، لاستحالة كون الشخص فوق نفسه، فيتجه كلام الماتن من عدم معقولية قيام طرفي الحق بواحد (ممنوعة) بأنّ السلطنة هي القهر و الاستيلاء، و لا تتوقف بحسب طبعها على تعدد الوجود، و إن كانت كذلك في بعض الموارد كما في السلطان و رعيّته، و لكن لا تتوقف عليه في مثل كون النفس بمرتبة مريديتها قاهرة على مرتبة انفعالها و إطاعتها.

ثانيهما: أنّ محذور الاستحالة- على فرض ثبوته- إنّما هو في السلطنة الحقيقية، لا الاعتبارية التابعة للأثر المصحّح للاعتبار، فكما يعقل مالكية الإنسان لما في ذمة نفسه، و أثرها السقوط، فكذا في السلطنة الاعتبارية. و كما أنّ اعتبار هذا المعنى لغو في السلطنة بدون أثر السقوط كذلك في الملكية.

و عليه لا مانع من أن يعتبر الشارع من عليه الخيار مسلّطا و مسلّطا عليه، إذ الكلام في السلطنة الاعتبارية. و امتناع اجتماع طرفي السلطنة الحقيقية في واحد لا يقتضي امتناعه في أمثال المقام، لكون التضايف و التقابل من خصوصيات دار الوجود لا المفاهيم الاعتبارية.

نعم يشكل أصل اعتبار الملكية في بيع الدين كي يترتب عليه السقوط من جهة أنّ سقوط ملكية ما في الذمة إن كان لعدم أثر لاعتبار كون الإنسان مالكا لما في ذمته فلا يبقى، ففيه:

أنّ الحدوث كالبقاء في الامتناع و الإمكان. و إن كان السقوط بنفسه أثر الملكية ففيه: أنه لا يعقل أن يكون الشي ء علّة لعدم نفسه.

و الظاهر ورود هذين الإشكالين على المتن من عدم معقولية اتّحاد طرفي السلطنة.

و دعوى أجنبية بيع الحق ممن هو عليه عن سلطنة مرتبة النفس على مرتبة اخرى، لأن

ص: 105

______________________________

مقتضى سلطنته على العقد تمكّنه من حلّه و إقراره، و مقتضى كونه ممّن عليه الحق عدم نفوذ تصرف فيه، و لا معنى لاعتبار قبض اليد و بسطها معا، (غير مسموعة) بما تقدم في بيان المحقق الأصفهاني قدّس سرّه من دوران الأمور الاعتبارية مدار الأثر المصحّح، و حيث التزم شيخنا الأعظم بمالكية المديون لما في ذمة نفسه آنا ما فليكن الأمر كذلك في انتقال الحق إلى من هو عليه.

و منها: ما أفاده العلامة الشيخ البلاغي قدّس سرّه من منع تصوير مالكية الإنسان لما في ذمة نفسه آنا ما، و ذلك لأنّ المقصود بها هنا هي الملكية الاعتبارية التي يكون المرجع في سعة دائرة اعتبارها و ضيقها العقلاء، و من المعلوم أنّ الذمّة بنفسها ليست وعاء تميّز حصة من الكلّي للأغراض و الأحكام من دون سائر حصصه، و إنّما يكون منشأ اعتبار مملوكية ما في الذمة التزام صاحب الذمة به، و استحقاق الغير لأدائه. و هذا المعنى غير محقّق في مالكية الإنسان لما في ذمة نفسه، إذ لا يستحقه الغير، و لا التزام بأدائه له. و عليه فلا منشأ لانتزاع ملك الدين عند العقلاء، و لا لما يترتب عليه من السقوط «1».

و هذا الاشكال لا يخلو من وجه، و لأجله يتفصّى عنه في مسألة بيع الدين تارة بالالتزام بالإبراء بالعوض دون التمليك، و كفاية هذا المقدار في صدق مفهوم البيع. و اخرى بأنّ الملكية الحاصلة في بيع الدين هي الذاتية لا الاعتبارية، فالإنسان كما يملك نفسه و أعماله و منافعه كذلك يملك ما في ذمة نفسه حقيقة لا اعتبارا. و ثالثة بالتهاتر، و سيأتي تحقيق الكلام عند تعرض المصنف للنقض الثاني على تعريف البيع إن شاء اللّه تعالى، فانتظر.

لكن تنزيل قول الماتن هنا: «لا مانع من كونه تمليكا فيسقط» على الملكية الذاتية- كما في تقرير بعض الأعاظم قدّس سرّه «2»- لا يخلو من نظر، لأنّ شيخنا الأعظم قدّس سرّه جعل الفارق بين الملك و الحق كون الأوّل نسبة و الثاني سلطنة فعلية، و هذه المقابلة تقتضي إرادة الإضافة

______________________________

(1): التعليقة على المكاسب، ص 4

(2) مصباح الفقاهة، ج 2، ص 39

ص: 106

[القسم الثالث الحقوق القابلة للانتقال]

و أمّا (1) الحقوق القابلة

______________________________

القسم الثالث: الحقوق القابلة للانتقال

(1) هذا بيان حكم القسم الثالث من الحقوق من حيث وقوعها ثمنا في البيع و عدمه.

و قد أشرنا إلى أنّ المصنف قدّس سرّه لم يجزم ببطلان ذلك، بل تردّد فيه و إن كان مآله إلى عدم جواز جعله عوضا.

و محصل ما أفاده في الإشكال على وقوعه عوضا هو: أنّ مثل حق التحجير و إن كان قائما بشخص المحجّر كسائر الحقوق القائمة بذويها، إلّا أنه يجوز نقله الى الغير بصلح و نحوه و يصحّ أخذ المال بإزائه، فالمحذور المتقدم في القسمين الأوّلين- من عدم قابليتهما في حد ذاتيهما للنقل إلى الغير- غير جار في هذا القسم. إلّا أنّ المانع من جعله عوضا في البيع هو الخصوصية الملحوظة في مفهوم البيع لغة و عرفا، و هي وقوع المبادلة بين مالين، و صدق «المال» على الحقوق غير ظاهر لو لم يكن ظاهر العدم، و عليه فلا يجوز جعلها عوضا في البيع.

أمّا أخذ «المال» في معنى البيع لغة فلما تقدم في تعريف المصباح له بقوله: «مبادلة مال بمال» فلو لم تحرز مالية العوضين لم تكن المبادلة بينهما بيعا.

و أمّا أخذه في مفهومه عرفا- مضافا إلى استكشافه بقول اللغوي- فلما يظهر من تعريف الفقهاء للبيع العرفي، كما تقدّمت جملة منها عند البحث عن اعتبار عينية المبيع، و قد

______________________________

الاعتبارية التي تكون بين الملّاك و أموالهم سواء أ كانت فعلية كما في ملك غير المحجور عن التصرف، أم اقتضائية كما في ملك القصّر ممن لا سلطنة له فعلا على التصرف في ماله.

و عليه فيكون مقصود الشيخ قدّس سرّه من مالكية المديون لما في ذمة نفسه هو الملكية الاعتبارية لا الذاتية، فتوجيه معقولية ملك المديون للدين «بأنه من شؤون سلطنة النفس على ذمته و عمله ذاتا لا اعتبارا» لعلّه من التوجيه الذي لا يرضى به صاحبه.

و أما أصل تصوير مالكية الشخص لما في ذمة نفسه فسيأتي في نقوض تعريف المصنف للبيع إن شاء اللّه تعالى.

ص: 107

للانتقال (1)- كحقّ التحجير (2) و نحوه (3)- فهي و إن قبلت

______________________________

عرفت أيضا أن الموضوع للأدلة المتكفلة لأحكامه هو ما يصدق عليه البيع عرفا، إذ لا حقيقة شرعية و لا متشرعية له.

و يدلّ على اعتبار مالية العوضين أيضا ما أفاده الفقهاء (قدّست أسرارهم) في موضعين:

أحدهما: في شرائط العوضين من البيع، و ثانيهما: في شرائط الأجرة في كتاب الإجارة.

و عليه فلا يجوز جعل هذا القسم من الحقوق أيضا عوضا في البيع.

ثم إنّ المصنف قدّس سرّه لم يتعرّض لوجه جواز جعل هذا القسم ثمنا، و لعلّه لكون «المال» المأخوذ في تعريف البيع و سائر العقود المعاوضية عبارة عن مطلق ما يتنافس عليه العقلاء و إن لم يكن عينا و لا منفعة، و من المعلوم كون الحقّ مما يبذلون شيئا بإزاء نقله و إسقاطه و إراحة أنفسهم عنه، كم يبذلونه بإزاء ما اشتغلت ذممهم به من أموال الناس عينا و معنى.

و بعبارة أخرى: يكون أخذ «المال» في تعريف البيع منزّلا على الغالب من البيوع المتعارفة بين الناس، و مثالا لكل ما للشخص سلطنة عليه، و هذا المعنى العام صادق على الحقوق أيضا، لأنّها أموال عرفا.

(1) قد يراد بالانتقال ما يعم النقل الاختياري بالبيع و الشراء، و القهري بالإرث، و قد يراد به ما يخصّ النقل القهري، كما يختص النقل بالاختياري و مقصود المصنف قدّس سرّه من الانتقال هو الأوّل، لقوله بعده: «قبلت النقل و قوبلت بالمال في الصلح».

هذا بيان المراد، و لكن الانصاف مقابلة الانتقال للنقل، لاختصاصه بالناقل القهري كاختصاص النقل بالاختياري.

(2) فيجوز للمحجّر نقل حقّه إلى الغير، و يصير المنقل إليه- كالأصيل- أولى من غيره في تملك الأرض بالإحياء، و لا يجوز للأجنبي مزاحمته فيه.

(3) كحق الرهانة و القصاص و الشرط كما قيل «1».

______________________________

(1): حاشية السيد الطباطبائي على المكاسب، ص 56

ص: 108

النقل (1) و قوبلت بالمال في الصلح (2)، إلّا (3) أنّ في جواز وقوعها (4) عوضا للبيع إشكالا، من (5) أخذ المال في عوضي المبايعة لغة (6) و عرفا (7)، مع (8) ظهور كلمات الفقهاء عند التعرض

______________________________

(1) يعني: فلا يرد الإشكال على هذا القسم بما أورد على القسمين المتقدمين من قوله:

«لأن البيع تمليك الغير» إذ المفروض قابلية قيام القسم الثالث- من الحقوق- بالغير، فالإشكال في عوضيه هذا القسم من الحقوق لا بد أن يكون من ناحية الشك في صدق «المال» عليه.

(2) قال في الجواهر- في مسألة جواز الصلح على عين بعين أو بمنفعة، و بالعكس- ما لفظه: «للعمومات المقتضية لذلك، و لغيره من الصلح عن الحق إسقاطا أو نقلا، كحق الخيار و حق التحجير و حق الشفعة، بل الظاهر أنّها- أي عمومات الصلح- تقتضي صحة الصلح عن كل حق حتى يعلم عدم جواز إسقاطه أو نقله شرعا» «1».

(3) هذا استدراك على قوله: «و ان قبلت النقل و قوبلت بالمال في الصلح» و محصّله:

التفرقة بين باب البيع و الصلح، للاغتفار فيه بما لا يغتفر في البيع، فجواز الصلح عن الحقوق لا يقتضي جواز وقوعها عوضا في البيع.

(4) أي: وقوع الحقوق القابلة للانتقال.

(5) هذا وجه عدم الجواز، و قد تقدم توضيحه بقولنا: «و محصل ما أفاده في الإشكال على وقوعها عوضا في البيع .. إلخ».

و وجه الإشكال أمران، أحدهما: دخل مالية العوضين في مفهوم البيع العرفي و اللغوي، و ثانيهما: ظهور كلمات الفقهاء في ذلك في موضعين.

(6) فإنّ ظهور تعريف المصباح للبيع- بالمبادلة بين مالين- في اعتبار المجانسة بين العوضين في الماليّة ممّا لا ينكر.

(7) لتسالمهم على دخل ماليّة العوضين في مفهوم البيع عرفا.

(8) هذا هو المنشأ الثاني للإشكال في وقوع الحقوق عوضا في البيع، و هو الاستشهاد بكلمات الفقهاء في موضعين.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 26، ص 230

ص: 109

لشروط العوضين (1)، و لما (2) يصحّ أن يكون اجرة في الإجارة في (3) حصر الثمن في المال.

______________________________

(1) هذا هو الموضع الأوّل من كلمات الفقهاء، و هو بحث شرائط العوضين في البيع.

(2) عطف على «لشروط» أي: عند التعرض لما يصحّ اجرة في باب الإجارة، و هو الموضع الثاني من كلمات الفقهاء.

(3) متعلق ب «ظهور كلمات الفقهاء» أي: أنّ الكلمات ظاهرة في انحصار ثمن البيع و اجرة الإجارة في المال، و هو مشكوك الصدق على الحقوق القابلة للانتقال.

و قد تحصّل: أن المصنف قدّس سرّه فصّل في جعل الحقوق عوضا في البيع بين صور نقتصر على ذكر مهماتها:

الاولى: إن لا يكون الحق قابلا للمعاوضة- بمعنى عدم كونه ممّا يقبل الإسقاط و النقل الاختياري و الانتقال القهري، إذ المعاوضة لا بدّ و أن تكون بإزاء النقل أو الإسقاط- كولاية الأب و الجدّ و الحاكم على ما قيل. و حكم هذه الصورة أنه لا يصح جعله عوضا في البيع، لكون البيع من النواقل المعاوضية.

و الظاهر أنّ هذه الصورة خارجة عن مورد النزاع بين المصنف و بين صاحب الجواهر قدّس سرّهما القائل بجواز جعل الحقوق عوضا في البيع، كما لا يخفى وجهه.

الثانية: أن يكون الحق قابلا للإسقاط دون النقل كحق الشفعة، فجعله عوضا عن المبيع قد يكون بنحو النقل إلى من عليه الحق، كأن يقول البائع: «بعتك هذا الكتاب بحقّ الشفعة الذي لك عليّ». أو إلى غير من عليه الحق، كأن يقول البائع: «بعتك هذا الكتاب بحقّ الشفعة الذي لك على زيد على أن ينتقل الحق إليّ». و قد يكون بنحو الإسقاط.

فإن كان بنحو النقل لم يصح جعله عوضا في البيع مطلقا- سواء أ كان البائع من عليه الحق أم غيره- إذ المفروض عدم قبوله للنقل، و البيع من النواقل، فجعله عوضا بنحو النقل مساوق لكون البيع بلا ثمن، فلا بد أن تكون هذه الصورة أيضا خارجة عن مورد كلام الجواهر بجواز جعل الحق عوضا في البيع.

و إن كان بنحو الإسقاط، فتارة يكون البائع من عليه الحق كأن يقول البائع: «بعتك

ص: 110

..........

______________________________

هذا الكتاب بأن يسقط ما لك من حقّ الشفعة عليّ». و اخرى يكون أجنبيّا، كأن يقول البائع لصاحب الحق: «بعتك هذا الكتاب بأن يسقط ما لك على زيد من حقّ الشفعة».

فإن كان البائع من عليه الحق ففساد البيع فيه مبنيّ على كون البيع هو النقل من الطرفين، كما هو مقتضى تعليل المصنف قدّس سرّه لذلك بقوله: «لأن البيع تمليك الغير». و أمّا بناء على عدم اعتبار النقل من الطرفين في البيع و كفاية مطلق انتفاع المتبايعين بالعوضين- أو انتفاع أحدهما بأحد العوضين- في تحقق البيع و لو بنحو الإسقاط و تخليص نفسه عن حق الغير، حيث إنّه انتفاع عقلائي مرغوب فيه عندهم، فلا مانع من صحته.

و حيث إنّ المصنف اعتبر في البيع النقل من الطرفين التزم بالفساد، و صاحب الجواهر لمّا لم يعتبر النقل من الطرفين- و اكتفى في تحقق البيع بمطلق الانتفاع بالعوضين، أو أحدهما و إن لم يكن بنحو الانتقال- حكم بالصحة، هذا.

و إن كان البائع أجنبيّا عمّن عليه الحق، ففساده مبنيّ على اعتبار أحد أمرين في صحة البيع، إمّا النقل من الطرفين كما هو مذهب المصنف قدّس سرّه، و إمّا الانتفاع بالعوضين و لو بغير النقل كما هو مذهب الجواهر. و كلاهما مفقود فيما إذا كان البائع أجنبيّا عمّن عليه الحق، ضرورة عدم نقل المشتري شيئا إلى البائع، إذ المفروض كون العوض إسقاط الحق لا نقله، و من المعلوم أن البائع الأجنبي عمّن عليه الحق لا ينتفع بإسقاطه، فالبائع لا ينتقل إليه الحق، و لا ينتفع أيضا بإذهابه، فلا يصح البيع.

و عليه ينبغي إخراج هذه الصورة أيضا عن مورد نزاع صاحب الجواهر و المصنف، لاقتضاء مذهب كل منهما بطلانه، لفقدان شرط صحته من النقل من الطرفين، أو الانتفاع بالعوضين و لو بغير الانتقال فيما إذا كان البائع غير من عليه الحق، هذا.

الثالثة: أن يكون الحق قابلا للنقل و مقابلته بالمال في الصلح، لأجل قابليته لكلّ من النقل و الإسقاط، كحق التحجير، فإن جعل عوضا عن المبيع على وجه الإسقاط، جرى فيه ما تقدم من بطلان البيع على مذاق المصنف، لفقدان النقل من الطرفين المعتبر في البيع

ص: 111

..........

______________________________

سواء أ كان البائع من عليه الحق أم غيره. و صحته على مذاق صاحب الجواهر القائل بكفاية انتفاع كل من المتبايعين بالعوضين و لو بغير الانتقال إن كان البائع من عليه الحق. و بطلانه إن كان البائع أجنبيّا، إذ لا ينتفع البائع بشي ء من أنحاء الانتفاعات بإسقاط الحق عمّن هو عليه.

و إن جعل الحقّ عوضا عن المبيع على وجه النقل- سواء أ كان البائع من عليه الحق أم أجنبيّا- فقد استشكل فيه المصنف قدّس سرّه بعدم وضوح صدق المال على الحق، مع لزوم اعتبار مالية كلا العوضين في البيع، فمقتضى أصالة الفساد في العقود فساد البيع.

و لو كان البائع أجنبيا ففي صحة البيع إشكال آخر، و هو عدم انتفاع البائع بعوض المبيع بنحو من الأنحاء. إلّا أن يكون في انتقال حق التحجير الى الغير- بهذا البيع- غرض عقلائي، فلا مانع من صحته حينئذ.

فاتضح من جميع ما ذكرناه: أنّ المصنف قدّس سرّه يمنع جعل الحقوق بأسرها عوضا عن المبيع، للإشكال في صدق المال على الحقوق، و لكون البيع من النواقل، و الأوّل جار في جميع الحقوق، و الثاني في خصوص الحقوق غير القابلة للنقل، فلاحظ و تأمّل.

ص: 112

نظرة في الحقوق أقسامها وأحكامها

قد يعد الحق عند جمع من الأعاظم نوعاً من الملك أو مرتبة منه، فينبغي البحث أولاً في تعريف الملك، ثم في ماهية الحق و أقسامه وأحكامه، فيقع الكلام في موضعين:

الموضع الأول: في الملك

إختلفت كلماتهم في تعريف الملكية الإعتبارية المنشأة في المعاملات على أقوال. منها: ما اختاره المصنف قدس سره في المتن من أنها نسبة بين المالك و المملوك. وينبغي أن تكون منتزعة من الحكم التكليفي كجواز التصرف، بناءً على ما حققه في الأصول من عدم تأصل الأحكام الوضعية في الجعل.

ومنها: ما إختاره في رسالة من ملك في من يصح منه الإقرار بالملك من أنها سلطنة فعلية كما تقتضيه اللغة و احترز بها عن إقرار الصبي بما يملكه، إذ ليست سلطنته إلا بالاقتضاء،

فراجع.

و منها: أنها سلطنة و لعل المراد بها ما يعم الفعلية والشأنية، إختاره جمع، منهم السيد قدس سره ، حيث قال تارة في تفسير الحق: «سواء جعلناه إضافة و نسبة بين الطرفين، أم سلطنة كما في الملك، و أخرى في تعريف الملكية: «و يمكن أن يقال: إن الملكية هي نفس السلطنة الخاصة لا العُلقة الملزومة لها ب.

______________________________

أ. رسالة من ملك» المطبوعة مع عدة رسائل فقهية أخرى ، ص 184

ب حاشية المكاسب . ص 57 (آخر (الصفحة) و ص 58

ص: 113

و منها: أنها مرتبة من مقولة الجدة، كما في تقرير بحث شيخ مشايخنا المحقق النائيني قليل من: «أن الملكية في باب الأموال عبارة عن مرتبة من مقولة الجدة، أي: إعتبار كون شيء لشيء آخر»أ.

و منها: أنها إضافة، كما ربما يظهر من المحقق الخراساني في باب الأحكام الوضعية، حيث قال: «ان الملك يقال بالاشتراك على ذلك - أي الجدة المقولية - و على إختصاص شيء بشيء خاص»ب.

و منها: أنها برزخ بين الإعتبارات الذهنية الصرفة و هي الوجودات الإدعائية كأنياب الأغوال العارية عن الحقيقة، الزائلة بالغفلة وذهول النفس و بين الإضافات المقولية و النسب الخارجية، كما في تقرير شيخنا المحقق العراقي قدس سره ج.

ومنها: أنها تساوق الإحتواء و الوجدان تقريباً، كما مال إليه المحقق الإصفهاني قدس سره الورد .

ومنها: أنها إحاطة وسلطنة، كما في تقرير السيد الخوئي قدس سره ه.

ومنها غير ذلك مما يقف عليه المتتبع.

الظاهر أنّ التعاريف المذكورة تقريبية، لوحظ في كل منها حيثية من حيثيات الملك و أثر من آثاره. و لعل الأقرب - بالنظر إلى ورود هذه المادة في الإستعمالات الفصيحة هو الوجدان، فإنه المنسبق منه الى الذهن سواء في الملك الحقيقي و الإعتباري الذي هو مورد البحث، فقد تكرّر في الذكر الحكيم التعبير بعدم الوجدان فيمن لا يستطيع الهدي، و في الكفارة ،المرتبة قال عز من قائل: ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج )و . و فمن لم

______________________________

أ. المكاسب والبيع ، ج 1 ، ص 84

ب.كفاية الاصول، ج 2، ص 307 المطبوعة مع حواشي العلامة المشكيني.

ج. نهاية الافكار . ج 4 ، ص 102

د. حاشية المكاسب ، ج 1، ص 7

ه. مصباح الفقاهة ، ج 2، ص 44

و . البقرة الآية : 196:

ص: 114

يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله ) أ. و ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم ) ب.

و روي عنه صلى الله عليه واله : «الى الواجد بالدين يُحل عرضه و عقوبته »ج و المقصود به المماطلة بالدين مع القدرة على أدائه. ووَرَدَ في النصوص المفسرة للاستطاعة المالية التعبير بالواجد وأهل الجدة كما أريد بها الغنى و اليسار فيمن يجب عليه زكاة الفطرة، وقد تقدم جملة منها د.

و عرفه اللغويون بالإحتواء و هو إحراز الشيء بحيث يتمكن المالك من التصرف في ملكه، ففي اللسان نقلاً عن ابن سيدة: «الملك و الملك و الملك: إحتواء الشيء، و القدرة على الإستبداد به» ه و نحوه في القاموس وغيره و الإحتواء و إن لم يكن بنفسه منسبقاً إلى الذهن، لكن تقييد المفهوم بالقدرة على الإستبداد به في التصرف يجعله بمعنى الوجدان تقريباً و يدل على أخذ خصوصية في الملك بها تكون أضيق مفهوماً من الوجدان، و هي كون المالك متبوعاً و من ذوي الإرادة والعقل، فلا يقال للدار الواجدة للبيوت: «أنها مالكة لبيوت خمسة وإنما يقتصر على التعبير عنها بالوجدان.

ولا فرق في دخل هذه الحيثية في مفهوم الملك بين مطابقاته التكوينية و الإعتبارية، كما سيظهر.

كما أنه لابد من تنزيل كلام اللغوي على الغالب لظهوره في دوران صدق الملك مدار سلطنة المالك فعلاً على التصرف في مملوكه و عدم كفاية السلطنة الشأنية فيه، و من المعلوم أن لازم هذه صحة سلب الملك عن القاصر المحجور عن التصرف في ماله، مع أنه لا ريب في صدق الملك عليه حقيقة عرفاً و شرعاً. أما عرفاً فلأنّ المحاكم العرفية المانعة عن تصرف

______________________________

أ :النساء الآية : 92 ،

ب: المائدة . الآية : 5

ج: وسائل الشيعة . ج 13، ص 90 . الباب 8 من أبواب الدين و القرض ، الحديث : 4

د: راجع الصفحة 73

ه:لسان العرب ، ج 10، ص 492

ص: 115

الأطفال في أموالهم قبل بلوغ الثامنة عشر من العُمر تلتزم بمالكيتهم لما يرثونه من الأموال و أما شرعاً فلوضوح حكمه بمالكية الصبي - بل الجنين - لحصته من تركة مورثه.

و المستفاد مما ذكرناه كفاية السلطنة الإقتضائية في الملك و إن كانت السلطنة الفعلية للولي، و بطلان تعريفه بها.

بل قد يقال بأجنبية مفهوم الملك عن السلطنة حتى الشأنية، إذ الملك يتعدى بنفسه، و السلطنة تتعدى بحرف الإستعلاء، فلا ترادف بين مفهوميهما. وعليه فالملك الإعتباري أمر آخر، و من أحكامه - عرفاً و شرعاً - السلطنة على أنحاء التصرفات.

وبالجملة: فالملك العقلائي و الشرعي هو الوجدان كما مال إليه المحقق الإصفهاني له . وليكن المراد به إعتبار الواجدية، لوضوح كون الملك مفهوماً عاماً له مطابقات حقيقية و جعلية. و المقصود بالبحث هنا و إن كان تعريف الملك الإعتباري، إلا أنه لما كان وجوداً إدعائياً للملك الحقيقي كان المناسب الإشارة الى مطابقاته، فنقول: يطلق الملك على معان:

إطلاق الملك على معان أربع

الأوّل: الملكية الحقيقية و الإصافة الإشراقية، حيث يكون المالك قيوماً على مملوكه بحسب ذاته و جميع شؤونه و له السلطنة الحقيقية عليه، و الإحاطة التامة به كما في ملك الباري جلّت عظمته لما سواه، قال عز من قائل: (و عنت الوجوه للحي القيوم و قد خاب من حمل ظلماً ) أ و القيوم هو القائم الحافظ لكل شيء، و المعطي له ما به قوامه و ذلك هو المعنى المذكور في قوله تعالى: ( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) ب.

و مثلوا للملك بهذا المعنى في عالم الممكنات بوجدان النفس الناطقة للصور الادراكية المرتسمة في صفعها، حيث إن النفس واجدة لها حقيقةً، و هي قيومها، بحيث تنمحي عنها

______________________________

أ: طه . الآية : 111

ب :مفردات ألفاظ القرآن الكريم . ص 417

ص: 116

بالغفلة و الذهول و النفس وإن كانت جوهراً موجودة لنفسها في نفسها، لكنها قائمة بغيرها - أي بارئها و موجدها - فلذا كانت الصور قائمة بذلك الغير.

و كيف كان فالملك بمعنى الإضافة الإشراقية مخصوص بالباري جل وعلا، و هو أمر تكويني خارج عن أفق المقولات فضلاً عن الإعتبار. ويثبت بالتبع و في مرتبة تالية لأوليائه من النبي صلى الله عليه واله والأئمة المعصومين عليهم أفضل الصلاة و السلام، لكونهم مجاري فيضه و مجالي نوره فَلَهم السلطنة المعنوية على جميع الموجودات، وبهذا الإعتبار بهم تتحرك المتحركات و تسكن السواكن، قال المحقق الإصفهاني: «فإن الممكنات كما أنها مملوكة له تعالى بإحاطته الوجودية على جميع الموجودات بأفضل أنحاء الإحاطة الحقيقية، كذلك النبي النبي صلى الله عليه واله والأئمة علیهم السلام لكونهم علیهم السلام من وسائط فيض الوجود، فلهم الجاعلية و الإحاطة بذلك الوجه، بمعنى فاعل ما به الوجود، لا منه الوجود، فإنّه مختص بواجب الوجود، و لا بأس بأن تكون الأملاك و ملاكها مملوكة لهم بهذا الوجه، كما في قولهم علیهم السلام : الأرض كلها لنا، وإن لم تكن مملوكة لهم بالملك الإعتباري الذي هو موضوع الأحكام الشرعية أ.

الثاني : الملك الذاتي، و هو حيثية وجودية هي قيام وجود شيء بشيء بحيث يختص به في التصرف فيه كيف شاء، و مثلوا له بمالكية الإنسان لنفسه و أعضائه و منافعه و أعماله. أما مالكيته لنفسه فلأن وجدان كل موجود لنفسه ضروري الثبوت له كوجدان كل ماهية لنفسها. و أما مالكيته لفعله فلان زمامه بيده الصدور عنه بإرادته وإختياره، فهو أملك بفعله من غيره لأن سلطنته على فعله من شؤون سلطنته على نفسه.

و هذا النحو من الملكية قد يتحقق بين شخصين إذا كان أحدهما طوع إرادة الآخر في حرکته و سکونه، كما حكاه تعالى عن الكليم بالنسبة الى هارون على نبينا و آله و عليهما الصلاة و السلام» بقوله: ( لا أملك إلا نفسي و أخي ) إذ لا يراد به الإضافة الإعتبارية بين السيد و العبد، بل المراد به إنقياد هارون له بحيث تكون أفعاله بإرادة أخيه علیهم السلام والملكية بهذا المعنى حقيقية لا إعتبارية و لا ،مقولية و تسميتها بالذاتية دون الحقيقية لأجل إختصاص الملك

______________________________

أ حاشية المكاسب ، ج 1، ص 212

ص: 117

الحقيقي بالإشراق و الإيجاد.

الثالث : الملك المقولي، أي ما يُعد في فن المعقول من الأعراض النسبية، المعبّر عنه بالجدة أيضاً، قال في الأسفار و ممّا عُدّ من المقولات الجدة و الملك، و هو هيئة تحصل بسبب كون جسم في محيط بكله أو بعضه، بحيث ينتقل المحيط بانتقال المحاط، مثل التسلح و التقمص و التعمم و التختُم و التنعل، وينقسم الى طبيعي كحال الحيوان بالنسبة إلى إهابه و غير طبيعي كالتسلح و التقمص ... الخ أ.

و جَعَل في شرح الهداية ملكية الباري تعالى من الإختصاص الطبيعي، ككون القوى للنفس.ب.

و إدراج ملك الباري تعالى في الجدة مجرّد إصطلاح، لا بمعنى إنقسام الملك المقولي الى الطبيعي و الإعتباري، لوضوح أن المبدأ الأعلى جل و علاه و فعله الإطلاقي المعبر عنه بالإضافة الإشراقية جلّ أن يندرج تحت المقولات التي هي أجناس الماهيات الامكانية من الجواهر و الأعراض. بل الأمر كذلك في ملك النفس لقواها، فإنه حيثية وجودية، و الوج--ود مطلقاً ليس بجوهر و لا عرض إلّا بالعرض و التفصيل في محله.

و المقصود أن بعض الأمثلة المذكورة في مقولة الجدة - بمعنى الهيئة التكوينية الحاصلة للجسم بسبب إحاطة جسم آخر به - أجنبي عنها، فمالكية النفس للقوى مثلاً مصداق للملكية الحقيقية، كما أن مالكية زيد للفرس إعتباري، لا ربط لها بالموجودات الحقيقية المنحصرة في الجواهر و الأعراض. إلا أن يراد من مالكية زيد للفرس الهيئة الحاصلة من ركوبه عليه .

الرابع : الملك الإعتباري و هو وجود إدعائي تنزيلي للملك الحقيقي أو المقولي.

و ليس المراد بالإعتبار هنا ما يصطلح عليه في فنّ المعقول من إطلاقه تارةً على الإعتبارات الذهنية، سواء أكان ظرف العروض والإنصاف الذهن كالكلية والجنسية، فانّهما مفهومان

______________________________

أ .الأسفار الأربعة ، ج 4 . ص 223

ب. شرح الهداية الأثيرية ، ص 274

ص: 118

عارضان لمعروض ذهني، أم كان ظرف العروض الذهن و ظرف الإنصاف الخارج كالوجوب و الإمكان، و هما من المعقولات الثانية في قبال المعقولات الأولى كالانسان و الحجر من

المفاهيم الماهوية.

و أخرى على الأصالة و الاعتبارية في بحث أصالة الوجود أو الماهية، حيث إنّ مقصود هم بالإعتبارية تحقق الشيء بالعرض في قبال ما يكون تحققه بالذات، فبناءً على أصالة الوجود تُنسب الآثار الخارجية الى الوجود حقيقة و أصالة، و إلى الماهية بالعرض. و ينعكس الأمر بناءً على أصالة الماهية و إعتبارية الوجود. و على كُلُّ فإعتبارية الوجود أو الماهية تغاير الإعتبارية بالمعنى الأول، فإنّ الماهيات أمور ،حقيقية، وليست كالوجوب و الإمكان المنتزعين من ذات الممكن و الواجب.

بل المراد بالاعتبار هنا هو الفرضُ و التنزيل، أي: جعل ما ليس مصداقاً حقيقياً لمفهوم مصداقاً له إدعاء وتنزيلاً، ثم استعمال اللفظ فيه نظير المجاز العقلي و الحقيقة الإدعائية في كلام ،السكاكي و يترتب عليه كون استعمال اللفظ في الفرد الإدعاني حقيقة لا بالعناية، فيقال: ان «الأسد» موضوع للحيوان الشجاع، إلا أن له مصداقين أحدهما حقيقي، و الآخر فرضي تنزيلي و هو الرجل الشجاع و استعمال اللفظ في الفرد الإدعائي أجنبي عن إستعماله في غير ما وضع له، لكونه إستعمالاً في ما ينطبق عليه المفهوم و إن كانت مصداقيته له إدعائية لأجل ترتيب آثار المصداق الحقيقي الواقعي - أو أظهر خواصه - على الفرد التنزيلي.

والحاصل أن الملكية العقلائية تكون من سنخ المعاني الإدعائية التي يعتبرها العقلاء لنظم شؤونهم الإجتماعية إقتصادياً وسياسياً كالزوجية و الحرية و الرئاسة و الحكومة ونحوها، ويكون وعاء تقررها الإعتبار الذي هو برزخ بين الوجودين الذهني و العيني، و يترتب على وجودها في ذلك الصُّقع أحكام و آثار ..

و حقيقة الإعتبار توسعة في المفاهيم الحقيقية و إعطاء حكم المعتبر عنه للمعتبر له، کاعتبار زيد رئيساً على قومه، فإن معناه تنزيله منزلة الرأس من الجسد، فالملكية الإعتبارية إعتبار للملك الحقيقي أو لمقولة الجدة كما سيظهر ، يعني: أنه لو وجد في الخارج لكان مصداقاً المقولة الجوهر أو الكيف أو الجدة، أو الإضافة، لكنه لا حظ له من الوجود الخارجي حتى

ص: 119

يكون مصداقاً حقيقياً للمقولة.

و الإعتبار بهذا المعنى يسري الى سائر المقولات أيضاً، فالأسد» مثلاً مُطابقه الحقيقي هو الحيوان المفترس، الذي هو نوع من الجسم النامي، الذي هو نوع لمطلق الجسم، و هو نوع من مقولة الجوهر. و مطابقه الإعتباري هو الرجل الشجاع كزيد، مع أنه مباين له حقيقة، لكونه نوعاً آخر من الحيوان وكذا البياض فإنّه عرض متأصل و مطابقه الحقيقي نوع من مقولة

الكيف المبصر المفرق للبصر ، ويعتبرونه لغير الجسم، فيقال: «قلبه أبيض» و المقصود منه بيان

أمر معنوي.

و الفوقية مثلاً إضافة حقيقية في مقولة الاين عند كون جسم في أين بالنسبة الى جسم آخر بينه و بين الأرض. ولكنها تطلق على المجردات تنزيلاً وإدعاء، فيقال: «علم زيد فوق علم عمرو و هكذا في سائر المقولات. فالعمى مثلاً هو عدم البصر في المحل القابل له، مع إطلاقه

في الذكر الحكيم على الضلال المقابل للهداية و الرشد.

و الغرض من ذكر المعاني الإعتبارية هو النظر في ما ذهب إليه شيخنا الأعظم و من تبعه من دعوى إنتزاع الملكية من التكليف، لكونها من الإعتباريات الذهنية التي يمتنع جعلها إستقلالاً كما سيأتي بيانه.

ثم إنه ينبغي تتميم البحث في الملكية بالتعرض إجمالاً لأمور:

الأمر الأوّل : أنّ إطلاق الملك على الموارد الأربعة المتقدمة حقيقي لا عناية فيه أصلاً، ولكنه ليس من إطلاق الكلي المشكك على جزئياته، إذ التشكيك صدق طبيعة واحدة على أفرادها بالتفاوت بأولية و شبهها و ليس مطلق عموم المفهوم من التشكيك، إذ لا جامع أصيل بين كل ما ينطبق عليه الملك حتى يكون صدقه على بعض أولى من صدقه على غيره، و ذلك لأن مطابقات الملك أمور متباينة بالذات لا تندرج تحت طبيعة واحدة، فمالكية الباري تعالى بإضافته الإشراقية وإحاطته الوجودية في مرحلة فعله بايجاد الممكنات، و من المعلوم أن الوجود مطلقاً ليس بجوهر ولا عرض إلّا بالعرض، فكيف بالوجود المطلق؟ و الملك بمعنى الجدة عرَضَ نسبي، و هو و إن كان موجوداً خارجاً بوجود ناعتي، إلا أنّ

الماهيات أمور عدمية و إن لم تكن أعداماً.

ص: 120

و الملكية الإعتبارية لا خارجية لها أصلاً، و لذا عدوها دون مرتبة المقولات التي هي أجناس للموجودات الإمكانية؟ و مع تباين هذه المطابقات لا وجه لدعوى صدق الملكية عليها بالتشكيك.

ولا ينافي تباين هذه الموارد سنخاً صدق المفهوم عليها حقيقةً، بلحاظ سعته و عمومه لمراتب الموجودات، فينطبق على الموجود في وعاء الإعتبار و على المقولة، و على ما هو خارج عن أفق المقولات طُرّاً. و نظيره العلم فإنّه بمعنى الحضور، و هو مفهوم عام صادق على مقولات مختلفة و على ما هو خارج عن حدود المقولة، فحضور الصورة المجردة للجوهر العاقل من مقولة الكيف على المشهور و علم الجوهر النفساني بذاته من مقولة الجوهر النفساني و علم العقل بذاته من مقولة الجوهر العقلاني، و علمه تعالى بذاته وبمصنوعاته في مقام ذاته وجود واجبي خارج عن أفق المقولات، بل علمه الفعلي في مقام الإيجاد بعين الوجود المنبسط، و هو لا جوهر ولا عرض أ.

و بهذا يظهر غموض ما في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس سره و تقرير السيد المحقق الخوني قدس سره من كون الملكية ذات مراتب أربع أطلق عليها بالتشكيك ب لما تقدم من أن الحقائق المتباينة بالذات لا تندرج تحت جامع أصيل مع أنّ جعلها مراتب لمقولة الجدة لا يخلو من تأمل آخر، إذ ليست مالكية الباري تعالى للعالم إلا بالإشراق، مع أن الجدة المقولية هي الهيئة الحاصلة للجسم بسبب إحاطة جسم آخر بكله أو بعضه. كما أن كون الملكية الإعتبارية مرتبة لمقولة الجدة محل بحث كما سيأتي. الأمر الثاني: قد تقدم أن الملكية العقلانية و الشرعية ليست من الأمور الإعتبارية بحسب اصطلاح أهل المعقول، كالكلية و الجنسية لأنها عوارض ذهنية لمعروضات ذهنية، و الملكية الشرعية و العرفية من عوارض الموجودات الخارجية سواء وجدت بالفعل أم بالقوة، إذ الموصوف بالمالكية زيد الخارجي لا الذهني و الموصوف بالمملوكية هو العين

______________________________

أ نهاية الدارية . ج 5 ، ص 116

ب المكاسب والبيع ، ج 1 ، ص 84 ؛ مصباح الفقاهة ، ج 2، ص 20 و 44

ص: 121

الخارجية أو المنفعة المتدرجة في الوجود.

وكذا ليست من سنخ المقولات العرضية سواء الموجود بوجود ما بحذائه أو الموجود بوجود منشأ إنتزاعه كمقولة الإضافة، وذلك لأنّ الأعراض المقولية برمتها يتوقف وجودها الناعتي على وجود معروضاتها خارجاً. و الملكية الإعتبارية لا تتوقف فعليتها على موضوع ،محقق، فقد يعتبرها المعتبر في ظرف عدم أحد طرفي الاضافة أو كليهما، فتتعلق الملكية بالمعني المفعولي - أي المملوكية - بالكلي الذمي في بيع السلف، للاجماع على صحته. و كذا تتعلق في أبواب الضمانات بالمثل أو القيمة، و ربما لا يكون له وجود خارجي. كما أن الملكية بالمعنى الفاعلي - أي المالكية - تتعلق بطبيعي السيد و الفقير في بابي الخمس و الزكاة.

و عليه فتمام المناط في الاعتبارات الوضعية التي منها الملكية هو اعتبار من بيده الأمر عند تحقق الجهة المقتضية للاعتبار و الجعل من عقد أو حيازة مباح أو إحياء موات أو موت مورث و نحوها. ولا يعتبر فعلية طرفي إضافة الواجدية في جعلها كما عرفت.

و حيث كانت الملكية الادّعائية التنزيلية خارجة عن حدود المقولات العرضية فهل هي اعتبار لمقولة الكيف أو الاضافة أو الجدة أو غيرها؟ لا يبعد أن تكون إعتبار الواجدية، من جهة تبعية المملوك للمالك وكون زمامه بيده و بهذا اللحاظ لا مانع من جعلها إضافةً إعتبارية لما بينهما من الربط و التفصيل في محله.

الأحكام الوضعية مجعولة بالأصالة أم منتزعة من التكليف

الأمر الثالث : في أن الأحكام الوضعية كالملكية و الزوجية و الحرية هل هي منتزعة من الأحكام التكليفية في مواردها، أم هي بأنفسها قابلة للجعل ؟ نُسب الى شيخنا الأعظم قدس سره إمتناع تأصلها في الجعل، و كونها منتزعة من التكليف، و الأولى نقل كلامه، قال في بحث الإستصحاب عند التعرض لكلام الفاضل التوني في الأحكام الوضعية ما لفظه: «فان لوحظت المعاملة سبباً لحكم تكليفي كالبيع لإباحة التصرفات و النكاح لإباحة الإستمتاعات، فالكلام فيهما يعرف مما سبق في السببية و أخواتها. وإن لوحظت لأمر آخر كسببية البيع للملكية و النكاح للزوجية و العتق للحرية و سببية الغُسل للطهارة، فهذه الأمور بنفسها ليست أحكاماً

ص: 122

شرعية. نعم الحكم بثبوتها شرعي، و حقائقها أمور إعتبارية منتزعة من الأحكام التكليفية، كما يقال: الملكية كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به و بعوضه ... و إما أمور واقعية كشف عنها الشارع، فأسبابها على الأول في الحقيقة أسباب للتكليف، فيصير سببية تلك الأسباب في العادة كمسبباتها أموراً إنتزاعية .

و ظاهره التردد في كون الملكية و نحوها من الوضعيات إعتباراً ذهنياً منتزعاً من التكليف، أو أمراً واقعياً كشف عنه الشارع بما أنه محيط بحقائق الأمور، كإخباره عن الطهارة و النجاسة اللتين هما حالتان في الجسم الطاهر و النجس.

و بناءً على كلا شقي الترديد يتعين صرف الأدلة المتكفلة لترتيب أحكام تكليفية على الملكية - بمجرد إنشائها - عن ظاهرها إلى أن المجعول بها نفس التكاليف التي هي منشأ الإنتزاع لفرض عدم قابلية الإعتبارات الوضعية للجعل الإستقلالي.

و اختار هذا المسلك جمع من الإعيان كالمحققين الميرزا الآشتياني و الإيرواني بل إستدل عليه و شيّد أركانه الميرزا الآشتياني بتمهيد أمور ستة مدعياً أنها مجموع إفادات شيخنا الأعظم في مجلس الدرس والكتاب و ملخصه أن الأحكام الوضعية كالسببية و الشرطية والملكية إعتبارات منتزعة من التكليف إذ الأمر الإعتباري لا يقبل الوجود الخارجي، و إنما يكون وجوده باعتبار المعتبر، بحيث لو لم يعتبره لم يكن شيئاً مذكوراً، مع أن الحكم الذي يُنشؤه الحاكم موجود خارجي، فكيف يوجد بالإعتبار بعد وضوح تباين الوجودات؟ ب

و كذا الحال لو كانت الاحكام الوضعية من الامور الواقعية التي كشف عنها الشارع كالملكية التي هي علقة واقعية بين المالك و المملوك، وكالطهارة و النجاسة اللتين هما حالتان في الطاهر و النجس لما عرفت من أن الحكم الشرعي فعل قائم بالحاكم، و هذه الأمور على التقدير المذكور - من الاوصاف الكامنة في متعلقاتها واقعاً، فيستحيل قيامها بالحاكم. نعم قد

______________________________

أ: الرسائل ، ص 603 ، طبعة مؤسسة النشر الاسلامي بقم المقدسة.

ب راجع بحر الفوائد ، ج 3، ص 65 الى 69 ، ونهاية النهاية للمحقق الايرواني ، ج 2، ص 188 - 189

ص: 123

يصير الحكم كاشفاً عن وجودها الواقعي بمقتضى علمه، فهو إخبار حينئذ عن وجودها، لا جعل له بالجعل الشرعي هذا.

و بناءً على مسلك الإنتزاع فالمجعول بالأصالة هو التكليف كجواز أنحاء التصرفات في المال حيث ينتزع منه الملكية، وكحلية النظر والإستمتاع المنتزع منها الزوجية، وهكذا. و يكفي في الإنتزاع وجود حكم تكليفي في المورد سواء أكان منجزاً أم معلقاً على أمر غیر حاصل فعلاً، فتنتزع ملكية البالغ من خطابه الفعلي بجواز التصرف، و تنتزع ملكية القاصر كالصبي من خطاب تعليقي كقول الشارع : إذا بلغت جاز لك التصرف ولا منافاة بين فعلية الامر الإنتزاعي و تعليقية منشئه، اذ المهم وجود الحكم التكليفي القابل لأن ينتزع منه الإعتبار الوضعي سواء أكان منجزاً أم معلقاً.

هذا محصل ما أفاده شيخنا الأعظم، وقرره عليه تلميذه الأجل قدس سرهما بل زاد الميرزا الآشتياني: إنتزاع ضمان الصبي بالإتلاف من خطاب و ليه فعلاً بدفع غرامة ما أتلفه المولى عليه، حتى لا يلزم التفكيك بين الأمر الإنتزاعي و منشئه بجعل الأول فعلياً تنجيزياً، و الثاني تقديرياً، هذا.

أقول: الظاهر أنّ منشأ إنكار قابلية الأحكام الوضعية للجعل الاستقلالي هو مقايستها بالإعتبارات الذهنية باصطلاح أهل المعقول، كما يشهد بها تنظير الملكية بالسببية و الشرطية، مع وضوح الفرق بين الإعتبار باصطلاح الأصولي بينه باصطلاح غيره، فالمقصود بالإعتباريات التي منها الأحكام الشرعية هو الوجود الإدعائي التنزيلي. و عليه فالحق هنا ما صنعه المحقق الخراساني قدس سره من التفصيل بين ماعد من الوضعيات بأن بعضها وجودات ذهنية تتقوم بالتصور و تنعدم بالغفلة و الذهول، و بعضها إعتبارات عقلائية وشرعية موطنها وعاء الإعتبار. و ليست الملكية و الزوجية من قبيل السببية

حتى يحكم عليهما بعدم قابليتهما للجعل.

وكيف كان فقد أورد على مسلك الإنتزاع بوجوه:

الأول: ما أفاده المحقق الإصفهاني قدس سره في مواضع من كلماته، و محصله - بتوضيح منا - أن الحكم التكليفي ليس عين الحكم الوضعي و لا منشأ إنتزاعه، و لا مصحح إنتزاعه. فلا معنى

ص: 124

للقول بالإنتزاع.

اما عدم كون الحكم التكليفي - كاباحة التصرف في المال - عين الحكم الوضعي كالملكية، فلأن حقيقة الملكية إما النسبة بين المالك والمملوك و إما الإحتواء أو السلطنة أو الواجدية، وليس شيء منها عين مفهوم إباحة التصرف كما لا يخفى.

و أما عدم كون التكليف منشأ الإنتزاع فلوجهين أحدهما: أن الأمر الإنتزاعي كالفوقية ليس إلا حيثية القبول القائمة بالمتحيّث، و لازمها صحة حمل العنوان الإشتقاقي - المأخوذ من الأمر الانتزاعي - على المتحيث بها أعني به منشأ ،إنتزاعه بلحاظ تلك الحيثية، كصحة حمل عنوان «الفوق على السقف لأجل قيام مبدئه - أي الفوقية القائمة بقيام إنتزاعي - بالسقف. و من المعلوم عدم تحقق هذا الملاك في المقام، لأن الحكم التكليفي - مثل جواز التصرف الذي فُرِض كونه منشأ الإنتزاع - لا يحمل عليه عنوان المالك و المملوك. و يستكشف من عدم صحة الحمل أن مبدأ العنوانين المتضايفين غير قائم بجواز التصرف بقيام إنتزاعي.

و دعوى كون الملكية جواز التصرف والمالك من يجوز له التصرف و المملوك ما يجوز فيه التصرف فينتزع الملك بتبع إنشاء التكليف ممنوعة بأن الملكية لو كانت إباحة التصرف كان ذلك عدولاً عن الإنتزاع الى دعوى العينية، و هو ممنوع، بعدم الترادف، مضافاً الى كونه خلاف الفرض ثانيهما: أنّ الأمر الإنتزاعي تابع لمنشأ إنتزاعه فعليّة وقوة، و من البديهي إعتبار الملكية و الزوجية للصغير مع ارتفاع قلم التكليف عنه. و جعل منشأ الإنتزاع خطابه التعليقي المتوقف فعليته على البلوغ كما ترى لامتناع إنتزاع الملكية و الزوجية الفعليتين - لترتيب آثارهما عليهما - من الخطاب التقديري الذي لاحظ له من الوجود الفعلي.

كما أن تصحيحه بما أفاده المحقق الآشتياني قدس سره من «انتزاع ملكية الصبي من خطاب وليه باباحة التصرف فيه و إنتزاع ضمانه لما أتلفه من خطاب الولي فعلاً بالتغريم غير ظاهر إذ لا يعقل قيام الحيثية المصححة للانتزاع بشيء، و الإنتزاع من شيء آخر.

و توجيه كلام الشيخ الأعظم قدس سره من قابلية الخطاب التعليقي لانتزاع الملكية فعلاً للصبي منه للفرق بين الأضافة المقولية وبين الاعتبارات الشرعية، فلا مانع من صحة إنتزاع

ص: 125

الملكية والزوجية من التكليف المتوقف فعليته على البلوغ، فإن للحكم التعليقي حظاً من الوجود في صقع الإنشاء، فلا بأس بانتزاع ضمان الصبي فعلاً لما أتلفه من خطاب الشارع بعد بلوغه : «أغرم ما أتلفته حين صباك، ممنوع ، فإنّ تبعية الأمر الإنتزاعي لمنشئه حكم عقلي لمطلق وجود الإضافة، فالإضافة المقولية تتوقف على منشأ متأصل، والإضافة الإعتبارية على منشأ إعتباري، و ليس قيام الأمر الانتزاعي بمنشئه من أحكام الوجود الحقيقي حتى يتوهم إمتناع تسريته الى الإعتباريات.

هذا مضافاً إلى إباء صراحة ما قرره الميرزا الآشتياني قدس سره عن هذا الحمل، فإنّه جَعَل الملكية و السببية و الشرطية من وادٍ واحد و قال بأنها إعتبارات ذهنية.

هذا كله في إستحالة كون التكليف منشأ الإنتزاع.

و أما عدم كون الحكم التكليفي مصحح الإختراع فلأن لازمه كون الملكية مثلاً من المقولات الواقعية الموجودة في جميع الأنظار كسائر المقولات التي لا خلاف فيها بين نظر و نظر آخر، و من المعلوم توقف العَرَض المقولي على معروض موجود، مع أنّه لا شبهة في قيام الملكية العرفية و الشرعية بالمعدوم كما تقدم.

و على هذا فإن أراد شيخنا الأعظم قدس سره بقوله: «الملكية كون الشيء بحيث يجوز الإنتفاع به و بعوضه» و حدتهما مفهوماً، وحكايتهما عنده عن حقيقة واحدة، فقد عرفت منعه، فإن الملكية هي النسبة أو السلطنة، وهما غير إباحة التصرف مع أنه رجوع عن دعوى الإنتزاع الى العينية.

و إن أراد كون التكليف منشأ الإنتزاع كما هو ظاهره، فالمفهومان ،متباينان و لكنهما متصادقان في الوجود، ففيه ما عرفت من إنتفاء ملاك الإنتزاع بين التكليف و الوضع.

و منه يظهر الإشكال في إنتزاعها من العقد القولي أو الفعلي. مضافاً الى أن نسبة العقد الى الملكية نسبة المسبب الى سببه، بناءً على المشهور من كون ألفاظ العقود أسباباً لعناوينها، والسبب مباين لمسببه كما لا يخفى أ.

______________________________

أ حاشية المكاسب ، ج 1 ، ص 6 ، نهاية الدراية ، ج 5 . ص 114 و 115

ص: 126

هذا محصل ما اعترض به المحقق الإصفهاني على إنكار قبول الأحكام الوضعية للجعل المستقل، و إنتزاعها من التكليف أو العقد. و هو في غاية المتانة.

الثاني: ما في تقرير شيخنا المحقق العراقي قدس سره و محصله: منافاة ظواهر الأدلة الشرعية التي جعلت الملكية و الزوجية ونحوهما من الإضافات الإعتبارية فيها موضوعات لأحكام تكليفية، كقوله علیه السلام : لا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره إلا بطيبة نفسه - لانتزاع تلك الإعتبارات من التكاليف، لوضوح أن موضوع الحلية هو الملك أي المال المضاف الى الغير، فلو كانت الملكية منتزعة من التكليف، فإما أن تنتزع من تكليف آخر، أو من نفس الحكم بحرمة التصرف، المتأخر عنها رتبة.

و كلاهما محال. أما الأول، فلاستلزامه إجتماع المثلين أحدهما التكليف الثابت في الرتبة السابقة، و هو محقق الأضافة وثانيهما التكليف المترتب عليها المدلول عليه بقوله:

لا يحل».

و أما الثاني فلاستلزامه تقدم المتأخر، لفرض أن مثل جواز التصرف متأخر عن الملكية رتبة، لتأخر كل حكم عن موضوعه كذلك، فلو كان هو محقق الإضافة ومنشأ الإنتزاع لزم تقدمه على الأمر الإنتزاعي كتقدم وجود العلة على معلولها رتبة، مع أن جواز التصرف متأخر عنها. و إستحالة إجتماع المتقابلين في واحدٍ من الأمور الواضحة سواء في التكوينيات و الإعتباريات.

و عليه يتعين القول بأن الملكية و نحوها من الإعتباريات المتأصلة بالجعل، ولا وجه للتكليف و إتعاب النفس لإثبات انتزاعيتها من التكليف مع أنه لا تكليف في مثل من حاز ملك».

الثالث: ما في التقرير المذكور أيضاً من أن الملكية و نحوها إعتبارات متداولة بين العقلاء من ذوي الأديان و غيرهم ممن لا يلتزم بشريعة، فلو كان مُصحح إعتبارها الخطاباتِ التكليفية الشرعية لزم عدم وجودها في حقهم، و عدم ترتيب الأثر على معاملاتهم، و هو كما

ص: 127

ترى، فلا مناص من القول بأن هذه الأمور مجعولة بالإستقلال، قد أمضاها الشارع، هذا أ.

أقول: أما الوجه الأول - مما أفاده شيخنا العراقي - فهو و إن كان متيناً في نفسه، إلا أنه لابد أوّلاً من إثبات أجنبية الإعتباريات العقلانية عن الأمور الإنتزاعية عند أهل المعقول فمجرد مخالفة مسلك الإنتزاع لظواهر الأدلة الشرعية لا يكفي في نفي نظر الشيخ الأعظم و من وافقه لتصريح الميرزا الآشتياني بلزوم التصرف في ظهور الأدلة المتكفلة لأحكام تكليفية مترتبة على مثل الملكية و الزوجية و عليه فالمهم على القائل بأصالتها في الجعل إبطال الانتزاع حتى تصل النوبة الى إبقاء ظواهر الخطابات على حالها.

و أما الوجه الثاني فيمكن أن يقال فيه: إنّ كون الملكية و الزوجية من الإعتباريات المتداولة بين العقلاء حتى غير ذوي الأديان لا يكشف عن أصالتها في الجعل بالعقود المتعارفة بينهم و غيرها من الأسباب و لا يبطل به مسلك الإنتزاع، فإنّ المقصود من التكليف الذي يفرض منشأ للانتزاع ليس خصوص الحكم المتعبد به عند الكل، فإن الخطابات عامة لجميع المكلفين سواء من تديّن منهم بها و من لم يكن كذلك. و الحاصل: أنّ الأمور الإعتبارية لو قيل بانتزاعيتها من التكليف كانت الأحكام المشتركة بين الجميع منشأ الإنتزاع و إن لم يلتزم بها بعضُهم.

هذه جملة من الكلام في الملكية. و تلخص مما ذكرناه أمور: الأول: أن الملكية العرفية و الشرعية خارجة عن حدود المقولات، فإن موطنها وعاء الإعتبار - باصطلاح الأصولي - لا الإعتبار عند أهل المعقول بما له من الإطلاقات. الثاني: أن الملكية ليست مشتركة معنوية مقولة على مواردها بالتشكيك بل هي مفهوم عام يكون مطابقها إشراقاً تارة، وجدة مقولية أخرى، و إعتباراً عقلانياً أو شرعياً ثالثة. الثالث: أن الملكية إعتبار الواجدية و هي متأصلة في الجعل إما بجعلها تأسيساً أو إمضاء لما عند العرف و لا تنتزع من التكليف و لا من العقد. هذا كله في الموضع الأول، و هو البحث عن الملك.

______________________________

أ نهاية الأفكار . ج 4 . ص 103

ص: 128

الموضع الثاني في الحق

و استقصاء جهات البحث فيه يتم في طي مقامات:

المقام الأوّل: في بيان ماهيته و حقيقته.

فنقول: عرفه جمع من اللغويين بما يقابل الباطل، ففي القاموس و اللسان أنه «ضد الباطل، و في الصحاح «أنه خلافه»أ ، قال ابن منظور: «حق الأمر و يحق حقاً و حقوقاً: صار حقاً وثبت. قال الأزهري: معناه وجب يجب وجوباً. وفي التنزيل: قال الذين حق عليهم القول، أي: ثبت. ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، أي: وجَبَت و ثَبَتَت ... ب .

و عرفه الراغب بأن أصل الحق المطابقة و الموافقة، و يُطلق على أمور أربعة أحدها مُوْجِدُ الشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، فيطلق عليه تعالى كما في قوله

جل و علا ثم رُدُّوا الى الله مولاهم الحق.

ثانيها الموجد - بمعناه المفعولي - بحسب ما تقتضيه الحكمة، ففعله تعالى حقّ، كما في قوله عز من قائل : ما خلق الله ذلك إلا بالحق.

ثالثها: الإعتقاد بشيء ثابت في نفسه كالثواب والعقاب و حوادث القيامة.

رابعها الفعل و القول الواقع بحسب ما يجب و بقدر ما يجب وفي الوقت الذي يجب كقوله تعالى: ﴿ حقت كلمة ربك، و حق القول مني ) ج .

ولا يبعد أن يكون معناه المصدري الثبوت - كما احتمله المحقق الإصفهاني - و رجوع سائر معانيه إليه من باب إشتباه المفهوم بالمصداق، ومعناه الوصفي هو الثابت، فإطلاقه عليه جل و علا لكونه ثابتاً بأفضل أنحاء الثبوت الذي لا يُخالطه عدم و لا عدمي هذا بحسب اللغة. و أما بحسب الإصطلاح الفقهي فهل هو إعتبار للثبوت الواقعي أم أمر آخر؟ قد تقدم

______________________________

أصحاح اللغة ، ج 4 . ص 1460

ب لسان العرب . ج 10، ص 49. القاموس المحيط ، ج 3، ص 221

ج مفردات ألفاظ القرآن الكريم . ص 125

د حاشية المكاسب ، ج 1، ص 9 (رسالة الحق).

ص: 129

في بحث الملك أن حقيقة الإعتبار هو الإدعاء وفرض الوجود لما لاحظ له من الوجود العيني فيقال: إن الملكية الإعتبارية إعتبار الواجدية، في قبال الواجدية الحقيقية في مثل مالكية النفس للقوى، و الإعتبار يدور مدار ترتب الأثر. و عليه يقال: إن الحق الإعتباري ليس إعتباراً للثبوت الواقعي للغوية إعتبار الثبوت المطلق كلغوية إعتبار ثبوت شيءٍ لشيء ، فليس المراد من مثل حق التحجير إعتبار ثبوت الأرض المحجرة ولا ثبوتها للمحجر، بل المقصود إثبات سلطنته عليها أو ملكه لها أو أولويته بها من غيره، فالمعنى الواقع في حيز الإعتبار هو الملكية و نحوها لا مجرد الثبوت، و يستكشف منه عدم كون الحق المصطلح إعتباراً للثبوت الواقعي. مضافاً إلى أنّ الثبوت مفهوم عام يصح إطلاقه على كل ما له تقرر في نفس الأمر، فالملك والحكم التكليفي حقٌّ أي ثابت في وعاء الإعتبار و التشريع، و منه قولهم في باب القضاء للمدعي حق الإستحلاف و زائد الصلاة حق الله لثبوتها على المكلف بنفس إيجابها عليه .

فيعلم من هذا أن الحق المصطلح إعتبار آخر أخص من مفهوم الثبوت، ويقع الكلام في أنه إعتبار الملك أو السلطنة أو الأولوية و ما شابه ذلك أو غيرها؟ لم نقف في كلماتهم على تحديد جامع و مانع كما سيظهر بعد التعرض لجملة من الضوابط المذكورة :فمنها ما نُسب الى المشهور من كون الحق سلطنة، وربما تُقيّد بالفعلية في بعض أقسامها كما تقدم في المتن بالنسبة الى حق الخيار و الشفعة. و اختاره جمع منهم السيد في أوّل كلامه وإن عرفه في آخره بأنه نوع من الملك. فقال ما محصله: إن الحق نوع من السلطنة على شيءٍ متعلق بعين كحق التحجير، أو غير عين كحق الخيار في العقود اللازمة، أو على شخص كحق القصاص و عليه فالحق مرتبة ضعيفة من الملك و نوع منه و صاحبه مالك لشيء يكون أمره إليه بخلاف الحكم، فإنه مجرد إعتبار الرخصة مثلا بلا إعتبار السلطنة كما في جواز الرجوع في العقد الجائز. و قال في آخر البحث: «و بالجملة: الحق نحو من الملك، بل هو ملك بحسب اللغة، وكونه في مقابل الملك إصطلاح عام أو خاص، و لا بد له من متعلق، سواء جعلناه إضافةً و نسبةً

ص: 130

بين الطرفين، أو سلطنة كما في الملك .

و مقتضى تفسير الحق بالملك و الملك بالسلطنة كون الحق سلطنة، لا إعتباراً مغايراً للملك.

و منهم المحقق الإيرواني من حيث إنه جَعَل الفارق بين الملك و الحق سعة دائرة متعلق السلطان وضيقها، فالشيء إذا كان متعلق سلطنة الشخص بجميع حيثياته كان ملكاً، و إن كان متعلقها ببعض شؤونه كان حقاً، نظير الأمة و الزوجة، فالأولى ملك سيدها، لأن له أنحاء التصرفات فيها من البيع و الهبة و المباشرة و الزوجة متعلق حق الزوج، إذ ليس له إلا السلطنة على البضع ..

و لكنك خبير بأنهم إن أرادوا بالسلطنة ما تكون فعلية غير مقترنة بالمانع فهو و إن كان صادقاً على كثير من الحقوق، لكنه ينتقض بما تسالموا عليه من إنتقال حق الخيار بالارث إذا كان الوارث صبيّاً غير مميز لحجره عن التصرف في كل ما انتقل اليه من مورثه و دعوى أن سلطنة القاصر سلطنة وليه ممنوعة بأن المحجور مسلوب السلطنة لا مفوّضها، و لا منشأ آخر السلطنة الولي.

و إن أرادوا بالسلطنة ما هو أعم من الفعلية والإقتضائية - فالصبي غير المميز و إن لم يكن سلطاناً فعلاً، لكنه لا مانع من جعله سلطاناً شأناً، و تتوقف فعليته على زوال المانع و هو الصبا، و بهذا الإعتبار يصح قيام وليه مقامه لتشريع أصل السلطنة في حقه - ففيه : أن الإعتبار هو الإدعاء و التنزيل المنوط بترتب الأثر، كما في تنزيل الطواف منزلة الصلاة لمشاركته لها في بعض أحكامها، فلو فرض سلب جميع آثار المنزل عليه لغا الإعتبار. و لما لم تكن للصبي سلطنة على فسخ عقد مورثه وإمضائه ولا على إسقاط حقه و لا نقله الى الغير - بناء على كونه من الحقوق القابلة للنقل الى غير من عليه الخيار - لم يكن مُصحح الإعتبار و التنزيل موجوداً حتى يتفضى به عن محذور تفسير الحق بالسلطنة الفعلية الى جعله سلطنة إعتبارية. و عليه

______________________________

أ. حاشية المكاسب . ص 55 و 57

ب حاشية المكاسب ، ج 1، ص 73

ص: 131

فلابد من كون الحق إضافة أخرى قد يكون ملزوماً للسلطنة و قد لا يكون . إلا أن يقال: ان السلطنة مجعولة للصبي فعلاً و إن لم يكن قادراً على الإعمال بنفسه مبل

كان الأمر مفوّضاً الى الولي، فالسلطنة الفعلية بيد الولي .

و أما ما أفاده المحقق الإيراوني فينتقض بمثل حق التحجير الذي التزم قدس سره بجواز أنحاء التصرفات فيه بالبيع و الهبة ونحوهما من النواقل، إذ لو كان الفارق بين الحق والملك راجعاً الى متعلق السلطان لا نفسه كان حقُّ التحجير من الملك المصطلح لا من الحقوق، مع أنه قدس سره جعله من الحقوق، و لذا إعترض على المصنف قدس سره في تردده في صدق المال عليه.

و قد تحصل أن تعريف الحق بالسلطنة لا مانع ولا جامع.

و منها: ما اختاره جمع من الأعيان من كون الحق نوعاً من الملك أو مرتبة منه - على اختلاف بينهم في التعبير - فمنهم السيد الطباطبائي قدس سره في كلامه المتقدم، و منهم شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس سره في بعض تعابيره، حيث فسّره بالملكية الناقصة و بالمرتبة الضعيفة من الملك، وإن عرّفه في موضع آخر تارة «بالسلطنة الضعيفة» و أخرى «بالإعتبار الخاص الذي أثره السلطنة الضعيفة على شيء، و مرتبة ضعيفة من الملك.

منهم سيدنا الأستاد قدس سره حيث فسره بالملك، و جعل الفارق بينهما إختلاف المملوك، و محصله: أن إضافة الملكية - و هي التابعية و المتبوعيّة - سنخ واحد في الملك و الحق لا تحادهما مفهوماً، و اختلافهما مورداً، و ذلك لأنّ طرف إضافة الملكية إما عين و إمّا عَرَضْ ومعنى، وكلّ منهما على ثلاثة أقسام، فالعين إما خارجية كالدرهم و الدار، و إما ذمية كالمبيع الكلي في باب السلف و الثمن الكلي في النسيئة، وإما لا هذا و لا ذاك، بل كحق الجناية المتعلق بالعبد الجاني، و حق الزكاة المتعلق بالنصاب، على بعض الأقوال.

و العرض و المعنى إما أن يكون ذمياً كعمل الحر الأجير للغير، وإما أن يكون قائماً بعين خارجية من دون توقف الإعتبار على الإضافة الى ذمّةٍ، كمنافع الأعيان المملوكة كالدار و العبد، حيث إن تعلق الملكية الإعتبارية بها منوط بقابلية العين للمنفعة، و يكفي إعتبار ملكية العين في

______________________________

أ منية الطالب ، ج 1 ص 41 و 42. تقريرات المكاسب للعلامة الأملي ج 1 ، ص 84 و 87

ص: 132

إضافة المنفعة إليه بخلاف مثل عمل الحُرّ، فإن ملكيته الإعتبارية متوقفة على وقوع عقد عليه كالإجارة والصلح . و إما أن يكون إعتبار الملكية موقوفاً على إضافته إلى مالك، و وجود مصحح الإعتبار كحق الخيار القائم بالعقد، و حق الشفعة القائم بالمبيع، و حق القسم القائم الزوج، ونحوها من الحقوق، فاعتبار الخيار لأحد المتعاملين منوط بوجود غبن أو شرط أو عیب و نحوها كما أن الشركة في مثل الدار تصحح إستحقاقه لحصة شريكه المبيعة من الأجنبي. إذا عرفت هذه الأقسام السنة فاعلم أن إضافة الملكية في جميعها على حد سواء، فلا فرق بين أن تقول: زيد مالك للدينار الشخصي أو الكلي، أو لمنافع الدار التي إستأجرها، أو لعمل أجيره كخياطته، أو لأخذ المبيع المشاع بالشفعة، أو للاقتصاص من الجاني المتعمد، أو لاستيفاء دينه من العين المرهونة، أو للمضاجعة مع زوجته، أو للتصرف في الأرض المحجرة و لا تتفاوت إضافة الملكية بالشدة والضعف، نعم تسمى في قسمين منها - و هما ثالث أقسام العين و المعنى - بالحق. فالحقِّ الإصطلاحي عين أو معنى متعلق بغيره على نحو يتوقف إعتباره على إعتبار ملكية لمالكه، فاعتبار حق الجنابة مثلاً منوط بالجناية المصححة لاضافة ملكية الإقتصاص، وإعتبار حق الخيار منوط بإضافة ملكيته لذي الخيار بسبب مثل الغبن و الشرط و المجلس، هذا.

و يختلف الحق عن الذميات - حيث إنها أملاك و ليست بحقوق - بأن الذمة ظرفها لا ،موضوعها، و لذا لا يكون الدين المستقر في ذمة الحُرّ من الحقوق، فلا يسقط بانعدام ذي الذمة، بل يُقضى من تركته أو غيرها، بخلاف الإقتصاص القائم برقبة الحُرّ الجاني حيث يسقط بموته، هذا .

أقول: الظاهر أنّ التابعية و المتبوعية أوسع مفهوماً من الملكية، لشمولها لتصرفات الأولياء فيما لهم الولاية عليه، كتصرف الفقيه الجامع للشرائط في سهم الإمام عليه الصلاة و السلام من الخمس - على ما مال إليه قدس سره في خمس المستمسك - و أنه ولي على مصرفه

______________________________

أ نهج الفقاهة . ص 6 إلى 8

ص: 133

و على الجهات المتعلقة به أ ، و كتصرف ولي الموقوفة في عوائدها، و كتصرف الأب و الجد له في مال الصبي، و غيرهم من الأولياء، إذ لا ريب في سلطنتهم على التصرفات، و نفوذها شرعاً، فإنّ الأموال والأملاك تابعة للأولياء مع عدم كونهم مالكين لها.

و لو أريد من التابعية في الملكية خصوص الذاتية فسلطنة الأولياء و إن كانت خارجة عن دائرة الملكية لفرض كونها بالعرض، وتكون التبعية الذاتية للمولى عليه، إلا أنه ينتقض بمثل حق الإختصاص بالخمر المنقلب عن الخل المعدّ للتخليل، حيث إن التبعية موجودة قطعاً، مع عدم الملكية المصطلحة، بشهادة تصريحهم بأن الخمر الكذائي ليس بملك، بل للمسلم نحو إختصاص به و لو جعلنا التبعية أعم مما هو بالذات وبالعرض لانتقض بتصرفات الأولياء.

و الحاصل أنه إن أراد قدس سره من التبعية الإعتبارية خصوص الذاتية إنتقض بحق الإختصاص بالخمر، وكذلك بحقِّ التحجير، فإنّهم جعلوا هذا الحق مقابلاً للملك، وقالوا بتوقف تملك الرقبة على إحيائها، وليس له قبل الإحياء إلا الأولوية بها. و إن أراد قدس سره منها ما يعم التبعية بالعرض إنتقض بتصرف الأولياء، فإنّ الملك تابع للولي شرعاً و عرفاً، مع أن إضافة

الملكية للمولى عليه دون الولي.

و هذا كاشف عن عدم كون الملكية الإعتبارية بمعنى التابعية، بل إعتبار الواجدية فالمالك من يكون واجداً لشيءٍ إعتباراً، سواء أكانت له السلطنة على التصرف في مملوكه أم لا.

هذا بالنسبة إلى أصل جعل الحق من أقسام الملك.

و منه يظهر حال تعريفه بالمرتبة الضعيفة منه. إذ فيه: أن الملكية الإعتبارية هي إعتبار الواجدية، و هي ليست ذات مراتب حتى تسمى مرتبة منها بالملك، و مرتبة أخرى بالحق. نعم لو كانت الملكية إعتباراً لمقولة الكيف أمكن تفاوت أفرادها بالشدة و الضعف لكية إعتباراً إعتباراً لمقو لكن الظاهر عدم كونها منها.

و أما ما أفاده المحقق النائيني قدس سره قال فمقتضى تعريف الحق بالسلطنة موافقته لما نسب الى

______________________________

أ مستمسك العروة الوثق . ج 9 ص 584.

ص: 134

المشهور فيه و مقتضى تعريفه بالملكية الناقصة و الضعيفة - مع تفسير الملكية باعتبار مقولة الجدة - هو كون الحق مرتبة ضعيفة من هذه المقولة، و أثرها السلطنة. و هو موقوف على جريان الإشتداد والمرتبة في هذه المقولة. و مقتضى كلامه الآخر من كون الحق إعتباراً وضعياً مغايراً للملك و السلطنة هو العدول عما اشتهر في تعريف الحق بالسلطنة، والميل الى ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من كونه إعتباراً خاصاً - مجهول الكنه - له آثار منها السلطنة، قال قدس سره :

هو ... إعتبار خاص له آثارٌ ،مخصوصة منها السلطنة أ.

و هو و إن كان سليماً عما يرد على تعريفه بالملك والسلطنة، إلا أن ظاهره كون ذلك الإعتبار الخاص واحداً سنخاً، فينطبق على أنحاء الحقوق، لكونها مصاديقه و موارده، و الأثر المشترك بينها سلطنة ذي الحق على شؤونه، و أقل مراتبها الإسقاط وإخراج نفسه من طرفية الإضافة. ولابأس به في مثل حق الخيار والشفعة و الرهانة و القصاص، إلا أنه لا يجري في مثل حق الولاية و الحضانة، بل يُشكل حتى في حق الخيار الذي يرثه القاصر، إلا بأن تكون سلطنة الولى سلطنة المولى عليه لا غيرها.

ومنها: ما اختاره المحقق الإصفهاني قدس سره - بعد تعذر تصور جامع لشتات الحقوق حتى ينطبق الحق عليها إنطباق الكلّي على مصاديقه - من أنه مشترك لفظي، فهو في كل مورد نحو من الإعتبار له أثر مخصوص و لأجله تختلف آثار الحقوق فحقُ التولية و الولاية و الرهانة و الإختصاص و الوصاية إعتبار لنفس هذه الأمور، و الإضافة بيانية، فحق الولاية للأب و الجد و الحاكم إعتبار ولايته على التصرف فيما يتعلق بالمولى عليه، و حق الرهانة إعتبار كون العين وثيقةً للدين أو محبوسة عليه، و أثره جواز إستيفاء الدين منه و حق الإختصاص نفس إعتبار إختصاصه بالخمر لسبق ملكه له قبل إنقلابه عن الخل الى الخمر و حق الوصاية إعتبار كون الشخص نائباً في التصرف عن الموصي. و حق التحجير إعتبار كون المحجر أولى بالأرض من غيره في تملكها بالإحياء.

و حق الخيار و الشفعة والجناية إعتبار للسلطنة، فحق الشفعة إعتبار للسلطنة على ضمّ

______________________________

أ حاشية المكاسب . ص 4

ص: 135

حصة الشريك الى حصة نفسه ببذل مثل الثمن للمشتري و حق الخيار إعتبار للسلطنة على الفسخ. وحق الجناية إعتبار للسلطنة على الإسترقاق، و حق الإقتصاص هو اعتبار كونه سلطاناً شرعاً، وهكذا أ .

ومنها: ما اختاره السيد المحقق الخوئي قدس سره من عدم مغايرة الحق للحكم سنخاً، فالكل أمور إعتبارية إعتبرها الشارع المصالح خاصة، و أن الحق المصدري بمعنى الثبوت، والوصفي بمعنى الثابت و يصح إطلاقه على كل أمر متقرر في وعائه المناسب له. وإنما الفارق بين الحق و الحكم إختلاف آثارهما لاذاتهما، فالمجعول الشرعي إن كان قابلاً للاسقاط كان حقاً مصطلحاً، وإن لم يكن قابلاً له سُمِّي حكماً، لأن زمام الأمور الشرعية بيد الشارع حدوثاً و بقاء، فإن حكم ببقائه بعد إسقاط المكلف له كان حكماً، وإلا كان حقاً، و هذا المقدار من التفاوت في الأثر لا يوجب إختلافهما ماهية.

و يشهد له أن جواز فسخ العقد في الهبة الجائزة و في العقد الخياري إعتبار شرعي واحد ، و إنما يطلق الحكم على الأول بلحاظ عدم تأثير اسقاطه في ارتفاعه، و يطلق الحق على الثاني بلحاظ إنتهاء أمده باسقاط من له الخيار وكذا لا فرق بين جواز قتل الكافر الحربي و قتل الجاني قصاصاً، فالجواز في الجميع معنى واحد و إن اختلف أثرهما. و أما فرق الحق و الملك فهو أن متعلق الحق فعل من الافعال و متعلق الملك أعم من العين الخارجية و الفعل. ب

أقول: إن أريد بالحكم مطلق ما هو مجعول للشارع - سواء أكان تكليفاً أم وضعاً و سواء أكان إلزاماً أم ترخيصاً فلا إشكال في شموله للحق، فإنه إعتبار وضعي تأسيسي أو إمضائي، كغيره من الإعتبارات التي تنالها يد الجعل و لو إمضاء كالملكية و الزوجية و الحرية، فالحكم بهذا المعنى العام صادق على الحق و الملك و التكليف على حد سواء. و إن أريد بالحكم ما يقابل الحقَّ و الملك - كما هو المقصود من تقسيم الأمر الإعتباري

______________________________

أ: حاشية المكاسب . ص 4 و 5 و 10 و 11

ب : مصباح الفقاهة ، ج 2، ص 45 إلى 48 . المحاضرات ، ج 2، ص 20 و 21

ص: 136

الى هذه العناوين الثلاثة - فلا إشكال في مباينتها، لأن الحق - كما قالوا - متقوم بقابليته للإسقاط و سلطنة ذي الحق عليه، و هذا بخلاف مثل حلية الماء و الحنطة، فإنّها أحكام على موضوعاتها، و لا إضافة تُصحح إعتبار سلطنة أو ملك للمحكوم عليه.

و التعبير ب- الزيد شرب الماء كما أن له حل العقد و الإقتصاص من الجاني و إن كان صحيحاً، إلا أن اللام في حلية شرب الماء تكليفاً للتعدية و الظرف لغو، لتعلقه بمقدر مثل «يحل و يجوز، كما هو الحال في إضافة الحلية الى الأعيان في الذكر الحكيم، قال عز من قائل:

أحلت لكم بهيمة الأنعام ، و لكن الظرف في إعتبار حلية العقد مستقر، و يدل على اعتبار إضافة خاصة كالسلطنة أو الملك.

و على هذا فما أفاده قدس سره - من كون الحق حكماً حقيقة لأنه أمر إعتباري كاعتبار اللابدية و الحرمان في باب التكاليف، ولأنّ الحق بمعناه الوصفي بمعنى الثابت، و هو صادق على الحكم والحق - غير ظاهر ضرورة أن مجرّد إعتبارية الحق لا يوجب وحدته مع الحكم و لا مغايرته مع الملك لوضوح أن الإعتبارات الوضعية متقومة أيضاً بالجعل و لو إمضاء، مع أنه قدس سره الحكم بمغايرة الحق للملك، لكونه سلطنة أو إحاطة. لكنك خبير بصدق «الثابت» على الملك الإعتباري كصدقه على التكليف المحض و على الحق أيضاً، إذ المناط في جميعها هو التقرر في الوعاء المناسب له.

و منه يظهر أنّ الحق المصطلح ليس بمعناه اللغوي أي الثابت لكونه مفهوماً عاماً منطبقاً على الجواهر و الأعراض فضلاً عن الموجود الادعائي، هذا.

مضافاً إلى أن جعل الحق هنا مقابلاً للملك الذي هو السلطنة والاحاطة ينافيه تصريحه في مسألة قيام حق القصاص بمطلق الوجود من الولي أو بصرف الوجود منه أو بالمجموع - بأنه سلطنة منحلة بعدد أولياء الدم. و هذا عدول الى جعل هذا الحق بمعنى السلطنة كما ذهب إليه المشهور، و المحقق الإصفهاني الذي جعله مشتركاً لفظياً. و إلى أن جعل الحق عبارة عن الجواز واللزوم الشرعيين القابلين للاسقاط قد يشكل

______________________________

أ المائدة ، الآية : 1

ص: 137

بتسالمهم على ثبوت الحق في موارد إنتفاء التكليف مما يكشف عن تغاير سنخ المجعول، فإذا كان حق الخيار بمعنى جواز فسخ العقد تكليفاً لَزِم إنعدامه بما يوجب زواله كالسفه الطارىء، الرافع للجواز التكليفي، فإنّه لا يُسقط حقه، و إنما يقوم وليه مقامه.

ولا يبعد أن يقال انه إن أريد بالحق المصطلح مفهومه العام الصادق على مطلق المجعولات الشرعية - ولو إمضاء - حتى إذا لم يقبل الإسقاط، فمن المعلوم أنه ليس نوعاً من الملك و لا مرتبةً منه ولا سلطنة ولا مرتبة منها، بل ينبغي تعريفه بما له ثبوت في وعاء الإعتبار، سواء لوحظ فيه حيثية التفويض الى المكلف في إبقائه و رفعه، أم لا، فيطلق الحق على وجوب الصلاة وإباحة شرب الماء و حرمة الربا وجواز فسخ العقد و نحوها على حد سواء، لكونها أموراً إعتبارية.

و إن أريد بالحق المجعول الذي إعتبر فيه سلطنة ذي الحق أو كونه مفوّضاً أو كونه أولى به من غيره بحيث كان زمامه بيده و هو المسمى في كلام الشهيد بحق العبد في قبال حقه تعالى - فمن المعلوم أنه لا ينبغي تعريفه بما هو ثابت في وعاء الإعتبار لما عرفت من شموله المطلق المجعول. بل إما أن يختص بالمجعول الذي استفيد من دليل اعتباره نحو سلطنة أو أولوية، وحينئذ تخرج جملة معتد بها من الحقوق عن حريم البحث لفرض عدم قابليتها للإسقاط.

و إما أن يلتزم بما سلكه المحقق الإصفهاني من إنكار معنى وحداني للحق و كونه مشتركاً لفظياً بين شتات الحقوق، فكل حق إعتبار خاص له أثر مخصوص، فكما لا جامع بين

وجوب الصلاة و بين حق التحجير سوى كونهما مجعولين شرعيين، فكذا لا جهة مشتركة بين حق الحضانة و حق الخيار إلا الثبوت في وعاء الإعتبار، مع أنهم عدوا حق الحضانة من الحقوق

بالمعنى الأخص - المقابلة للحكم و الملك.

و يتوقف حل الاشكال على الإلتزام بالإشتراك اللفظي، أو جعل مثل حق الولاية و الوصاية والأبوّة إعتباراً وضعياً أجنبياً عن الحق المصطلح، حيث لا دخل لإرادة المكلف في بقائها و ارتفاعها .

أو يقال: إن الحق بمعنى الأولوية منطبق على الكل، و مقتضاه جواز الإسقاط و النقل، إلا

ص: 138

أن للمنع الشرعي مجالاً آخر، فتأمل.

هذا بعض الكلام في ماهية الحق، و امتيازه ثبوتاً عن الحكم و الملك.

و أما الفارق الإثباتي فمنوط بالفحص التام عن دليل كل واحد من الأمور المعدودة من الحقوق سواء أكانت تأسيسية أم إمضائية.

و قد يقال في ضابطه: إن دليل التشريع إن كان متكفلاً لإثبات شيء من عين أو فعل على المخاطب كان ظاهراً في الحكم، كقوله تعالى شأنه (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) أ، و قوله عز من قائل: والله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) ب . و إن كان متكفلاً لإثبات شيءٍ كذلك له كان ظاهراً في الحق، مثل ما ورد في مملكية الحيازة من قول أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين: «اللعين ما رأت، و لليد ما أخذت »ج، فإن العين المباحة الأصلية المقصودة ب- «ما» الموصولة حمل المكلف عليها، وصارت تحت يده و نحوه ما ورد في الخيارات، كقول الصادق علیه السلام في رواية الحلبي: «في الحيوان كله شرط ثلاثة أيام للمشتري، و ما رواه محمد بن مسلم عن أبي عبدالله علیه السلام ، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه واله : البيعان بالخيار حتى يفترقا .

ولكنه لا يخلو من غموض، إذ المثبت له إن كان عيناً كان ظاهر اللام ملكيتها للحائز و ليست حقاً مصطلحاً. و إن كان معنى كان أعم من الحق، لاحتمال كونه حكماً، إذ لا فرق بين قولنا: للمغبون حل العقد» و «لزيد شرب الماء مع أن مدلول الأول حق، والثاني حكم و عليه فمجرد كون لسان الدليل إثبات شيء للمكلف لا يدل على أن المجعول حق.

فالإنصاف أنه لم يُحرّر الى الآن ضابط إثباتي للحق و الحكم، و إن كان الفرق بينهما ثبوتاً من الواضحات فتمييزهما في مقام الإثبات لابد وأن يكون بالنظر إلى خصوصيات

______________________________

أ: البقرة الآية : 233

ب آل عمران الآية : 97

ج : الكافي، ج 6 . ص 223 . كتاب الصيد ، باب صيد الطيور الأهليه الحديث: 6

د وسائل الشيعة ، ج 12، ص 349 ، الباب 3 من أبواب الخيار ، الحديث 1

ه وسائل الشيعة، ج 12، ص 345 الباب 1 من أبواب الخيار ، الحديث : 1

ص: 139

الموارد والأدلة، هذا.

ولا يبعد أن يقال: - و إن كان محتاجاً إلى الدقة والتأمل فيه - إن مفاد الدليل إن كان ثبوت حكم لعين أو فعل من دون إضافته إلى فاعل ما، كأن يقال: «الماء أو شربه حلال، و المعاطاة جائزة، و التدبير و المضاربة و الوكالة ونحوها من العقود والإيقاعات جائزة كان ظاهراً في الحكم لظهور الدليل في كون الجواز حكماً للطبيعة من حيث هي مع الغضّ عن كل شخص. و أن اشتمال الخطاب أحياناً على أشخاص لأجل الإمتنان أو غيره من النكات كقوله تعالى:

أُحِلَّت لكم بهيمة الأنعام و لذا كان الظرف لغواً لا مستقراً.

و إن كان مفاد الدليل إثبات شيءٍ لشخص، فان كان ذلك الشيء عيناً خارجية أو ذمية كان ظاهراً في الملك. و إن كان معنى كان حقاً، مثل للمغبون حل العقد، و هذا الظاهر متبع حتى

يثبت خلافه.

هذا بعض الكلام في المقام الأول.

المقام الثاني: في أقسام الحقوق

و حيث عرفت الفرق بين الحق و الحكم ثبوتاً، وعدم إنطباق أحدهما على الآخر، فاعلم أنّ الفقهاء رضوان الله عليهم» قيموا الحق باعتبار قابليته للسقوط بالإسقاط و عدمها، و نقله الاختياري مع العوض و بدونه و عدمه وإنتقاله القهري بالموت و نحوه و عدمه على أنحاء شتى. وقبل التعرض لها لا بأس بالتنبيه على أمر ربما يكون دخيلاً في وضوح الحال، فإنّ كثيراً مما ذكروه من الحقوق خارج عنها و مندرج في الحكم، و ذلك الأمر هو ملاحظة ما ورد في الروايات من إطلاق الحق على كثير من الأحكام، فلاحظ باب جوامع الحقوق من كتاب العشرة من الوسائل، الذي هو مختصر من جوامع الحقوق المدوّنة في بحار الأنوار، فإن الحق أطلق في تلك الروايات على حكم الأب بالنسبة الى الولد و بالعكس، و على عبادة الله سبحانه و تعالی و عدم الإشراك له و على ولاية الحاكم والسلطان، و على الماء وكيفية شربه من الكوز و غيره مما لا ينطبق عليه ضابط الحق المصطلح.

و بالجملة: يظهر بمراجعة الروايات المشتملة على إطلاق الحق على الحكم أن التقسيم الى ما لا يسقط بالإسقاط وإلى ما يسقط به و يجوز نقله ليس في محله، لأن ما لا يسقط بالإسقاط

ص: 140

ينافي ما ذكروه من القاعدة المسلمة بينهم، و هي أن لكل ذي حق إسقاط حقه.

و لا يندفع هذا التنافي إلا بإخراج ما لا يسقط بالإسقاط كحق الأبوة و الولاية و حق ،السلام على ما حكاه الفقيه المامقاني قدس سره عن بعض المشايخ ، و حق الرجوع في الطلاق الرجعي، و غير ذلك عن حريم الحق موضوعاً، وإدراجه في الحكم.

نعم من لم يلتزم بتلك القاعدة كالمحقق الإصفهاني صح له تقسيم الحقوق الى ما لا يسقط بالإسقاط و إلى ما يسقط به، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

إن قلت: إن تقسيم الحقوق الى ما يسقط بالإسقاط و ما لا يسقط به لا ينافي تسلم قاعدة لكل ذي حق إسقاط حقه لكونها من العمومات القابلة للتخصيص، فتخصص بالحقوق غير

القابلة للإسقاط ، فكأنه قيل: كل حق قابل للاسقاط إلا حق الأبوة وحق السلام و غير ذلك. قلت :أولاً: منع كون ما لا يسقط بالإسقاط حقاً، لاباء الروايات الدالة على الحقوق عن حملها على الحق المصطلح و هو السلطنة و تفويض الأمر والأولوية، بل هي أحكام إلزامية أو ترخيصية أو وضعية سُمِّيت بالحق، فلا تندرج في قاعدة ان لكل ذي حق إسقاطه حقه حتى يلتزم بالتخصيص لأجل دلالة الروايات على عدم سقوطها بالإسقاط، بل الشك في إنطباق الحق المصطلح عليها كاف في عدم جريان التخصيص في القاعدة، لوضوح كون التخصيص إخراجاً حكمياً متوقفاً على مصداقية الفرد الخارج بالتخصيص للعام، وحينئذ يدور الأمر بين التخصيص و التخصص، و يتعين تقديم الثاني و عليه فلو شك في صدق الحق على ما لا يقبل الإسقاط كان مقتضى عكس القاعدة خروجه عنه موضوعاً لا حكماً.

و ثانياً: أنه لو سُلّم شمول الحق لما لا يقبل الإسقاط قلنا: إن قاعدة «سلطنة كل ذي حق على إسقاط حقه من العمومات الآبية عن التخصيص لظهوره في علية عنوان الحق للسلطنة على إسقاطه، نظير قبح الظلم، و أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» و «أنه لا يطاع الله من حيث يعصى الى غير ذلك من العمومات الآبية عن التخصيص، خصوصاً بملاحظة ما اشتمل عليه من تقديم ما حقه التأخير، فإن تقديم الخبر على المبتدأ يوجب خصوصية في الكلام

______________________________

أ غاية الآمال، ص 171

ص: 141

و يورث تأكيداً في ثبوت المحمول للموضوع.

و ثالثاً: ان البناء عل-ى ك-ون م-ا لا يقبل الإسقاط حقاً يستلزم تخصيص الأكثر المستهجن، و لا مناص منه إلا باختصاص الحق بالمجعول الذي جاز لمن ثبت له بعض أنحاء التصرفات وأقلها الإسقاط فتلخص: أن ما لا يقبل الإسقاط ليس حقاً، بل هو حكم، فحق الأبوة والسلام و الحضانة والولاية و نحوها مما لا يقبل الإسقاط غير مندرجة في الحق المصطلح حتى يصح تقسيم الحق الى ما يقبل الإسقاط و ما لا يقبله.

و المنافاة المذكورة - و هي إدراج ما لا يقبل الإسقاط في الحق، مع تسليم قاعدة وان لكل ذي حق إسقاط حقه» - باقية على حالها، و لا يمكن دفعها عمّن التزم بها، ثم قسم الحقوق

إلى ما لا يقبل الإسقاط وإلى ما يقبله، فلاحظ و تدبّر.

و منه يظهر غموض ما صنعه جمع منهم الشهيد و المصنف يا من إلتزامهما بهذه القاعدة مع تقسيم الحق المقابل للحكم الى ما يقبل الإسقاط و ما لا يقبله.

أما الشهيد الليل فقد جَعَل الفارق بين حق الله و حق العبد قابلية الثاني للاسقاط دون الأول، حيث قال في قواعده و الضابط فيه أنّ كلّ ما للعبد إسقاطه فهو حق للعبد، و ما لا فلا كتحريم الربا والغرر ...الخ أ . إذ ظاهر المقابلة و التمثيل لحكم الله تعالى بحرمة الربا أنّ ما لا يسقط بالإسقاط لا يكون من حقوق العبد بل من حقوقه تعالى المعبر عنها بالحكم، و مقتضاه الإلتزام بقابلية مطلق الحقوق للإسقاط، لكونها راجعة الى العبد و زمامها بيده. مع أنه لو قسم الحق - المقابل للحكم - من حيث القابلية للاسقاط و عدمها الى قسمين و المنافاة كما ترى. و أما المصنف من فقد تقدم منه في المتن تقسيم الحقوق الى ما لا يقبل المعاوضة بالمال، و ما لا يقبل النقل، وما ينتقل قهراً و يُنقل بالصلح، والقسم الأول هو ما لا يقبل الإسقاط، على ما استفاده محققوا المحشين، بشهادة تمثيله بحق الولاية و الحضانة. و هذا التقسيم منافٍ لتصريحه - في مسقطات خيار المجلس - بسقوط الحق بالإسقاط للقاعدة المتقدمة، قال: «و

______________________________

أ القواعد و الفوائد ، ج 2، ص 43 ، القاعدة : 161

ص: 142

من المسقطات إسقاط هذا الخيار بعد العقد... الى أن قال: ويدل عليه بعد الاجماع فحوى ما يجيء من النص ... مضافاً الى القاعدة المسلمة من أن لكل ذي حقٌّ إسقاط حقها و التهافت واضح، إذ لو كان قوام الحق بقبوله للاسقاط وكونه أدنى مراتبه لم يبق مجال لإدراج ما لا يقبل الإسقاط في الحقوق، ثم البحث عن وقوعها عوضاً في البيع و عدمه. إلا أن يُعوّل في دفع هذا التنافي على تصريح السيد قدس سره بأن جملة مما عُد من الحقوق ليست منها حقيقةً، بل هي أحكام، إذ ليس المجعول فيها سلطنة لذي الحق و لا ملكاً لهب. فبناءً على هذا التوجيه لا مانع من تقسيم ما يُسمّى بالحق إلى أقسام ستة، و منها ما لا يسقط بالإسقاط، ضرورة كون المقسم ما يستعمل فيه كلمة الحق، لا ماهيته التي فسرها السيد كالمصنف قدس سره بالسلطنة.

هذا كله بناءً على كون قاعدة لكل ذي حق إسقاط حقه حجة شرعاً، فلو نوقش فيها سنداً أو دلالة كان الحكم بعدم قابلية بعض الحقوق للاسقاط منوطاً بإحراز علية العنوان، و دوران الحق ،مداره، دون ما كان مقتضياً له كما سيأتي.

وقد ناقش المحقق الإصفهاني قدس سره فيها تارة بمنعها سنداً، لعدم ورودها في آية و لا رواية، ولا هي معقد إجماع حتى يؤخذ بعمومها أو إطلاقها، و عليه فالحق ينقسم حقيقة الى ما يقبل الإسقاط و إلى ما لا يقبلهج، و أخرى دلالة، بناءً على إستفادتها من فحوى قوله صلى الله عليه واله :

الناس مسلطون على أموالهم لا قتضائه سلطنة الناس على حقوقهم بالأولوية القطعية. و محصل المناقشة منع الفحوى، و ذلك لأن مفاد الحديث سلطنة المُلاك على أموالهم لا على ملكياتهم حتى تثبت لهم السلطنة على حقوقهم بالأولوية، بيانه: أن الملكية تنحل إلى أمرين، أحدهما الإضافة المعبر عنها بالملكية، وثانيهما المضاف و هو المملوك، وكذلك الحق ينحل الى الإضافة و إلى طرفها من عين أو عقد أو فعل تعلق به الإعتبار الحقي. و السلطنة على

______________________________

أ المكاسب المطبوعة مع حاشية العلامة الشهيدي ، ص 221

ب حاشية المكاسب . ص 56

ج حاشية المكاسب ، ج 1، ص 13 ، رسالة الحق.

ص: 143

المملوك إنما تقتضي اخراجه عن طرفية الإضافة، فتنقطع نفس الإضافة بالتبع، فإذا أبرأ الدائن حقه أو أعرض المالك عن العين المملوكة كان معناه إخراج المال عن طرفية إضافته، فتزول

ملكيته لا متناع بقائها بدون طرف و هذا هو مقتضى السلطنة على المملوك بالتصرف فيه و عدم سلطنة المالك على نفس الملكية.

و لكن هذا المعنى لا يجري في الحق، ضرورة أن ما يقصد إسقاطه هو نفس الحق لا متعلقه من المال والعين و الفعل، و من المعلوم أن سلطنة ذي الحق على إزالة نفس الإضافة - المعبر عنها بالحق - أجنبية عن مفاد الحديث الدال على سلطنة الناس على أموالهم - لا على ملكياتهم - حتى يبقى مجال للتمسك بالفحوى أ.

لكن يمكن أن يقال: أما الخدشة في مستند قاعدة «الكل ذي حق إسقاط حقه» فيجاب عنها بأن هذا المضمون وإن لم يرد في آية ولا رواية ولا معقد إجماع معتبر، إلا أنها من القواعد العقلائية المرتكزة عندهم، ويكفي في إمضاء الشارع لها عدم ردعه عنها، بل يمكن إستفادة إمضائها مما ورد في سقوط خيار الحيوان بالتصرف فيه من قوله علیه السلام : فذلك رضاً منه بتقريب أن المناط في سقوط الخيار هو رضا المشتري بالبيع سواء أظهره بالتصرف أو بإسقاط حقه. و يتعدى من حق الخيار إلى الحقوق الأخر التي استفيد من أدلتها جعل التفويض و الأولوية لشخص بحيث يكون لرضاه دخل في زوال سلطنته على المتعلق. ولا مانع من الالتزام بشمول القاعدة للحق المصطلح.

و يؤيد إرتكازية القاعدة - بل يدل عليها - اعتماد الأصحاب عليها و ارسالها إرسال المسلمات، كما يظهر من تعبير العلامة قدس سره في التذكرة و غيرها من قوله في سقوط خيار المجلس بالاسقاط «و لأنه حقه أسقطه فسقط كالدين و نحوه في حق الشفعة و غيرها فراجع. و عليه فدعوى كون القاعدة من الإرتكازيات العقلائية غير المستحدثة كارتكازهم

______________________________

أ: حاشية المكاسب ، ج 2، ص 26

ب : تذكرة الفقهاء ، ج 1 ، ص 522 ، وكذلك لاحظ ص 517 و ص 604

ص: 144

على العمل بظواهر الألفاظ و بخبر الثقة قريبة جداً، مضافاً الى إنتفاء الرادع أو ما يصلح للرادعية.

نعم لا ريب في أن موضوع سلطنة ذي الحق على إسقاط حقه ليس خصوص الحق المصطلح المقابل للملك و الحكم، بل يعم الذميات كالديون و هو الذي يعبر عنه الفقهاء

بالإبراء في قبال الاسقاط الذي خصصوا إطلاقه بمثل حق الشفعة و الخيار والقصاص. و أما الخدشة في الفحوى التي ادعاها المصنف في خيار المجلس، فيمكن التخلص عنها :أولاً: بامكان كون القاعدة بنفسها مورد التسالم، لا كونها من شؤون سلطنة الناس على أملاكهم حتى تتجه المناقشة بالفرق بين إبراء الملك وإسقاط الحق.

و ثانياً: بأن إسقاط الملك و الحق من وادٍ واحد و ذلك لأن إسقاط الحق إما أن يراد به إخراج المتعلق عن طرفية الإضافة الحقية، كما التزم به المحقق الإصفهاني في رسالة الحق حيث قال - بعد نفي كون الإسقاط مطلقاً بمعنى العفو - ما لفظه: «ثم إن الإسقاط هل هو بمعنى رفع الإضافة أو إخراج الشخص أو الطرف عن الطرفية للإضافة، ربما يترجح الثاني ... أ.

و عليه لا يبقى فرق بين إبراء الملك وإسقاط الحق، لاشتراكهما في إخراج المضاف عن طرفية الإضافة، وتزول الإضافة حينئذ بتبع زوال الطرف فلو كان مفاد قاعدة السلطنة سلطنة المالك على التصرف في مملوكه بإخراجه عن ظرفية علقته كانت سلطنة ذي الحق على إسقاط حقه أيضاً بمعنى إخراج المتعلق عن طرفية إضافة الحقية، لا بمعنى إعدام نفس الإضافة إبتداءً حتى يختلف الملك عن الحق.

وإما أن يراد به إعدام نفس الإضافة وقطع العلقة إبتداءً كما لعله يستفاد من كلماتهم، إلا أنه لا يوجب وهنا في الإستدلال، لإمكان كون الإبراء في باب الكليات المملوكة في الذمم متعلقاً بنفس الملكية لا إخراجاً للطرف.

و لا يبعد دلالة حديث السلطنة على أنّ كلّ ما يُعد من شؤون الملك عرفاً كان متعلق سلطان المالك؛ حتى قطع نفس الإضافة، وسيأتي في أدلة مملكية المعاطاة الكلام في مفاد

______________________________

أ حاشية المكاسب ، ج 1، ص 11

ص: 145

قاعدة السلطنة إن شاء الله تعالى.

و قد تحصل أنّه لا مانع من التشبث بقاعدة لكل ذي حق إسقاط حقه و الحكم بعدم حقية ما لا يقبل الإسقاط فيختص الحق بما كان المجعول سلطنة أو أولوية أو نحو إختصاص يوجب كون زمامه بيده، و المعوّل في ذلك كله أدلة الحقوق، و ذلك نظير حق القصاص و حق الخيار والشفعة و حق التحجير. و حق الإسترقاق على رقبة العبد الجاني و نحوها. أما حق القصاص فلأن المجعول هو سلطنة ولي الدم على القاتل ظلماً، سواء أكان حق القصاص نفس هذه السلطنة أم كانت من آثاره وأحكامه .

و أما حق الخيار فلأن المستفاد من الأخبار جعل المختارية و تفويض أمر العقد فسخاً و إمضاء إليه، فالخيار هو التفويض في ترجيح أحد الأمرين.

و أما حق الشفعة فالمستفاد من رواية الغنوي أ أولوية الشريك بالحصة المبتاعة و أحقيته بها، و استيلاؤه على إنتزاعها من يد المشتري ببذل مثل الثمن إليه. و أما حق التحجير فالمستفاد من دليله إعتبار أولويته من غيره بتملك الأرض بالإحياء و إن لم تكن ملكاً مصطلحاً له قبل الإحياء.

و أما حق الجناية فالمجعول هو تفويض أمر قتل الجاني و إسترقاقه إلى ولي الدم. ب

ثم إنه لو لم تتم القاعدة المذكورة التي هي كالقرينة الحافة بأدلة الحقوق، أو قلنا بكون الحقوق إعتبارات متفاوتة لكل منها أثر مخصوص كما اختاره المحقق الإصفهاني قدس سره فتنقسم الى ما يسقط بالإسقاط و ما لا يسقط به و الضابط المذكور في كلام بعض الأعلام كالسيد صاحب البلغة قدس سره : هو أن ما كان العنوان الموجب للحق علة تامة له إستحال إسقاطه ونقله، لاستحالة تخلف المعلول عن علته التامة، و إن كان مقتضياً له، فإما أن يقترن بمانع عن النقل والإسقاط كما إذا تقوم الموضوع بعنوان خاص أو تقيّد مورد الحق و متعلقه بقيد يوجب

______________________________

أ وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 316. الباب 2 من كتاب الشفعة ، الحديث : 1

ب وسائل الشيعة ، ج 19 ، ص 73 ، الباب 41 من أبواب قصاص النفس.

ص: 146

تضيق دائرته لم يقبل النقل و الإنتقال، وإما أن لا يقترن بمانع فيقبل الإسقاط و النقل، هذا.أ و هذا الضابط الثبوتي و إن كان متيناً في نفسه، لكنه لا يجدي في مقام الإثبات لو لم يستظهر من نفس دليل الحق العلية والاقتضاء. إذ لا معين لكون الموجب لولاية الحاكم مثلاً علة تامة و لحق الخيار و الشفعة مقتضياً، مع اقتضاء أصالة الموضوعية في العناوين المأخوذة في الخطابات دخلها بأنفسها في الأحكام المترتبة عليها و عدم إنفكاكها عنها. و حملها على المشيرية الى أمر آخر هو موضوع الحكم واقعاً خلاف الأصل لا يُصار إليه بلا قرينة، و من المعلوم إستحالة تخلف الحكم عن موضوعه

و لأجله تصدّى المحقق الإصفهاني قدس سره لاستظهار ضابط إثباتي ينتفع به لو شك في قابلية المجعول للاسقاط أو النقل، و محصله بعد إنكار اقتضاء طبع الحق لقابلية الإسقاط أن

المرجع في ذلك دليل الحق و مناسبة الحكم والموضوع و الحكمة الباعثة على الجعل و التشريع، فإن روعي في مقام الجعل مصلحة ذي الحق كالإرفاق به اقتضت مناسبة الحكم

و الموضوع جواز إسقاطه. و إن روعي فيه غبطة الغير ومصلحته لم يجز إسقاطه، بل يقوم

بذي الحق، خاصة. هذا بحسب الكبرى. و أما في مقام التطبيق على أنحاء الحقوق فسيأتي التعرض لبعض كلامه قدس سره في ذلك ان شاء الله تعالى .

و حيث إنك عرفت اقتضاء طبع الحق لقبول الإسقاط كان الأولى إخراج ما لا يقبله عن التقسيم، لكن لا بأس بذكره تبعاً للقوم، أو بناءً على عدم تقوم الحق بالملكية و السلطنة، بل هي إعتبارات وضعية مختلفة ذاتاً و أثراً، والمرجع في ذلك دليل كل واحد من الحقوق و القرائن المكتنفه به فنقول و به نستعین و بولیه صلى الله عليه واله عجل فرجه الشريف نستجير:

القسم الأول: ما لا يقبل الإسقاط و النقل الإختياري و الإنتقال القهري.

و عُدّ منها حق الأبوة و النظارة والولاية والوصاية و الحضانة و الضابط فيه ما روعي فيه مصلحة غير من له الحق فمثل حق ولاية الحاكم غير قابل للسقوط و النقل. أما عدم قبوله

______________________________

أ : بلغة الفقيه . ص 5 ، الطبعة الحجرية .

ص: 147

للسقوط فلأن الملحوظ في مقام الجعل مصلحة المولى عليه، وكذا في حق الوصاية المجعول لأجل القيام بشؤون الموصي.

و أما تقوم الحق بنفس العنوان المأخوذ في الدليل و عدم قبوله للنقل إلى الغير فلأنّ موضوع الولاية الشرعية هو الفقيه الجامع للشرائط. فلا معنى لنقله إلّا لمثله، ولكنه لا يعقل نقله إلى حاكم آخر، لفرض كونه بنفسه مشمولاً لأدلة الولاية العامة، فلا معنى لتفويضها إليه من قبل حاكم آخر.

و كذا خصوصية تعيين الوصي من بين الأشخاص - في نظر الموصي - مانعة عن نقل الحق إلى غيره إلا مع إيصاء الموصي بذلك.

و هكذا حق الحضانة المجعول للأم لأجل مصلحة الطفل وتربيته، و ظاهر مكاتبة أيوب بن نوح «المرأة أحق بالولد إلى أن يبلغ سبع سنين، إلا أن تشاء المرأة » أ وإن كان جواز رفع اليد عن حقها إن شاءت. لكن لا أظن الإلتزام بمضمونه، فنفس حكمة الجعل تقتضي عدم قبوله للإسقاط.

القسم الثاني: ما يقبل السقوط دون النقل و الإنتقال كحق الغيبة و الشتم و الإهانة، بناءً على كونها من الحقوق التي لا ترتفع بالتوبة فقط، بل لابد من إرضاء صاحبها وإبرائه. أما كونها من الحقوق فلأنها ظلم وإيذاء، ولا ريب في قبحه عقلاً، وشرعاً، للنصوص الدالة على «أن من حق المؤمن على المؤمن أن لا يغتابه» ب و «أن حرمة عرض المسلم كحرمة دمه و ماله »ج و نحوهما، فلاحظ.

و أما توقف إرتفاعها على إبراء ذي الحق فللمستفيضة المعتضدة بالأصل الدالة على أنّ الغيبة لا تُغفر حتى يغفرها صاحبها و للنبوي: من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو

______________________________

أ وسائل الشيعة ، ج 15، ص 192 . الباب 81 من أبواب أحكام الاولاد ، الحديث : 6

ب وسائل الشيعة ، ج 8، ص 543 الباب 122 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث : 4

ج: المصدر ، ص 610 . الباب 158 من أبواب العشرة.

د: وسائل الشيعة ، ج 8، ص 298 ، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث : 9

ص: 148

مال فليستحللها من قبل أن يأتي يوم ليس هناك درهم و لا دينار، فيؤخذ من حسناته، فان لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فيتزايد على سيئاته أ. و النبوي الآخر: «من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله صلاته ولا صيامه أربعين يوماً و ليلة، إلا أن يغفر له صاحبه، ب. الى غير ذلك من الروايات و الأدعية الدالة على كونها من الحقوق التي يتوقف إرتفاعها على إبراء ذي الحق، و عدم كفاية التوبة و التفصيل موكول الى محله .

القسم الثالث ما يقبل الإسقاط والنقل الى آخر ينطبق عليه العنوان أيضاً و لا ينتقل بالموت، كحق القسم في الزوجات، أما جواز إسقاطه فلأنه مقتضى كونه حقاً للزوجة، فإذا طابت نفسها بعدم إستيفائه كان لها ذلك و أما عدم الإنتقال بالإرث فلأنه حق للزوجة مادامت حية وكانت في حبالة زوجها، فإذا ماتت لم يكن لها شيء حتى ينتقل الى الوارث. و أما جواز نقله الى زوجة أخرى فلعله مما لا خلاف فيه، إنما الكلام في جواز أخذ العوض بازائه و عدمه، قال العلامة في قواعده و لو وهبت ليلتها من ضرتها فللزوج الإمتناع، فانْ قَبِلَ فليس للموهوبة الإمتناع ولا لغيرها، و ليس له المبيت عند غير الموهوبة أو الواهبة... الى أن قال: ولو عاوَضَها عن ليلتها بشيءٍ لم يصح المعاوضة، لأن المعوّض كون الرجل عندها و هو لا يقابله عوض، فترد ما أخذته، ويقضى، لأنه لم يسلم لها العوض ج.

و علل الشهيد الثاني في الروضة فتوى الشهيد - في اللمعة و لا يصح الإعتياض عن القسم بشيءٍ من المال - بما لفظه : «لأن المعوّض كون الرجل عندها، و هو لا يقابل بالعوض، لأنه ليس بعين و لا منفعة. كذا ذكره الشيخ قدس سره و تبعه عليه الجماعة. و في التحرير نسب القول إليه ساكتاً عليه، مُشيراً بتوقفه فيه أو تمريضه و له وجه، لأن المعاوضة غير منحصرة فيما ذكر، و لقد كان ينبغي جواز الصلح عليه كما يجوز الصلح على حق الشفعة والتحجير ونحوهما من الحقوق. و حيث لا تجوز المعاوضة فيجب عليها ردّ العوض إن كانت قبضَته، و يجب عليه

______________________________

أ : كشف الريبة ، ص 110

ب مستدرك الوسائل، ج 9، ص 122 ، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث : 34

ج قواعد الأحكام، ص 164

ص: 149

القضاء لها إن كانت ليلتها قد فاتت، لأنه لم يسلم لها العوض، أ.

و قال في كشف اللثام - في ذيل تعليل القواعد المتقدم آنفاً - ما لفظه: «و فيه تردد، لمنع الحصر، و لأن علي بن جعفر علیه السلام سأل أخاه علیه السلام ، عن رجل له إمرأتان، فقالت إحداهما: ليلي و يومي لك يوماً أو شهراً أو ما كان أيجوز ذلك؟ قال: إذا طابت نفسها و اشترى ذلك منها فلا بأس ب.

و هذا مما تقتضيه القاعدة في الحقوق التي جُعل فيها السلطنة لذي الحق أو الأولوية بالشيء، فيجوز له إسقاطه ونقله الى الغير بعد إحراز قابليته له عرفاً، سواء أكان مع العوض أم .بدونه. نعم لو استفيد من الدليل تَقَومُ الحق بعنوان لا ينطبق على غير ذي الحق أو المماثل له تعين تخصيص جواز النقل بما اذا كان المنتقل إليه مماثلاً لمن له الحق كالضرة في حق القسم الصدق عنوان الزوجة على كل واحدة من الضرات.

و عليه فما في بعض الكلمات من تجويز نقل هذا الحق الى الأجنبي ليكون له الاسقاط أو النقل و إن لم يتمكن من إستيفاء الحق بنفسه للمنع الشرعي لا يخلو من غموض، لكون الأثر المطلوب من المعاوضة إباحة التصرف فيما إنتقل الى كلُّ من المتعاملين ، و من المعلوم أن مضاجعة الزوجة مع الأجنبي مما يأباه العقلاء فضلاً عن الشرع، فعدم قابلية خصوص حق القسم للنقل الى الغير عرفاً يكون من باب قصور المقتضي لا للمانع الشرعي.

و بالجملة : لولا النّص الخاص و هو رواية علي بن جعفر الدال على جواز نقل حق

القسم إختياراً لكان ذلك مقتضى القاعدة في كل مجعول أحرز كونه حقاً لا حكماً. و عليه فلا فرق في جواز النقل الإختياري بين المجاني و المعاوضي. فعدم القابلية ينشأ من قيام الحق بشخص خاص كالوصي و الناظر و المتولي للموقوفة، حيث إن للموصي عناية بشخص الوصي، والواقف يجعل التولية لشخص خاص من حيث إنه خاص، لا من حيث إنّه إنسان أو عالم مثلاً حتى يكون قابلاً للنقل الى الغير.

______________________________

أ الروضة البهية ، ج 5 ، ص 4240423

ب كشف اللثام ، ج 1 ، ص 63 و 64

ص: 150

.

لكن تَقُومُ الحق بصاحبه لابد أن يستفاد من نفس الدليل بماله من الخصوصيات المكتنفة به، أو من دليل خارجي، فمع الشك يرجع الى عموم قاعدة سلطنة ذوي الحقوق في حقوقهم.

القسم الرابع ما يقبل السقوط و النقل - مجاناً و مع العوض و الإنتقال كحق التحجير، بل حق الخيار والشفعة ونحوهما.

أما حق التحجير فلأن ما اعتبره الشارع فيه هو كونه أولى بالأرض المحجرة بتملكها بالإحياء، و عدم جواز مزاحمة الغير له، فللمحجر إسقاط أولويته بمعنى إخراج الأرض عن طرفية الإضافة الخاصة المعبر عنها بالأولوية، ويرتفع المانع حينئذ عن تملك الغير بإحيائها و عمارتها. كما أن له نقل أولويته إلى الغير مجاناً أو مع العوض، و كذا تنتقل الى الوارث، فيقوم مقام مورثه في أولويته بالأرض.

و أما حق الشفعة و الخيار فقد حكم المحقق الإصفهاني قدس سره بجواز الإسقاط والانتقال، و منع من نقلهما. أما جواز الإسقاط في باب الخيار فلأن مصلحة الإرفاق بالبايع أو بالمشتري أو بهما معاً أوجب إعتبار السلطنة لهم على فسخ البيع و إمضائه رعاية لذي الحق، لا لمن عليه الحق كما كان في حق الولاية و الحضانة و من المعلوم أن لصاحب الحق إسقاط حقه.

و كذا في حق الشفعة، فإنّ حكمة الجعل - و هي عدم تضرر الشريك ببيع حصة شريكه ممن لا يلائمه أحياناً - أو جبت جعل حق إنتزاع الحصة من المشتري ببذل مثل الثمن إليه، فلذي الحق إسقاط حقه كما إذا لم يكن تضرُّرٌ في البين، أو تحمل الضرر.

و أما الإنتقال بالإرث فلأنه مقتضى قيام الوارث مقام مورثه فيما كان له من مال و حق كما يدل عليه ماورد من أن كل ما تركه الميت من مال أو حق فلوارثه».

و أما عدم جواز النقل فلان حق الخيار ثبت لعنوان البيع والمغبون وصاحب الحيوان و من له الشرط و نحوه من العناوين و هذا العنوان كما يحتمل كونه معرفاً كذلك يحتمل كونه مقوماً، والمجدي في جواز النقل إحراز المعرفية و مع عدمه يقتصر على نفس العنوان المأخوذ في أدلة جعل الخيار.

و أما حق الشفعة فلأن حكمة التشريع هي عدم تضرر الشريك، دون غيره، فلا معنى

ص: 151

لنقله الى الأجنبي أو إلى الشريك. أما الأجنبي فلعدم تضرره و أما المشتري فلأنه قد تملك الشقص بشرائها من أحد الشريكين فلا معنى لتملكه له مرة أخرى بانتقال الحق إليه أ، هذا.

أقول: لا ريب في أن القرائن المكتنفة بالكلام توجب ظهوراً ثانوياً في توسعة موضوع الحكم تارة و تضييقه أخرى، إن كانت تلك القرائن بمثابة يصح للمتكلم الإعتماد عليها في إفادة مراده الجدّي، وإلا فالمتبع بحسب الأصل العقلاني المتسالم عليه هو الظهور الأولي مالم تقم على خلافه حجة أقوى كما في موارد حمل الظاهر على النص أو الأظهر.

و على هذا فحكمة تشريع حق الشفعة و إن كانت سد باب تضرر الشريك أحياناً، إلا أنّ النسبة بين موارد مشروعية هذا الحق و الضرر عموم من وجه فقد يجتمعان، و قد يتضرر ولا شفعة كما في زيادة الشركاء على إثنين، وكما في الشركة في غير الأرضين و الدور على ما تضمنته عدة من النصوص ب . و قد يثبت الشفعة مع إنتفاء الضرر كلية، بل ربما كان المشتري أنفع للشريك من شريكه السابق.

و عليه فلا سبيل لجعل التضرر قرينة على عدم قابلية الحق للنقل الى الغير. خصوصاً بناءً على ميل هذا المحقق في قاعدة لا ضرر إلى مختار الفقيه شيخ الشريعة قدس سره من : أن قضاء النبي صلى الله عليه واله بالشفعة لم يكن مذيلاً بلا ضرر، وإن وردا مجتمعين في رواية عقبة بن خالد عن الصادق علیه السلام: «قضى رسول الله صلى الله عليه واله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين و المساكن، و قال: لا ضرر ولا ضرار ، ج. لكنه من الجمع في الرواية لا من الجمع في المروي حتى يكون ملاك الجعل المنّة على الشريك بنفي الضرر عنه خاصة.

كما أن حكمهم بثبوت حق الشفعة مطلقاً حتى مع عدم التضرر بشركته مع المشتري - بل مع الإنتفاع به كاشف عن عدم دوران الحق مدار التضرر أصلاً. و عليه فليس من ثبت له الحق إلا عنوان الشريك، وكما يحتمل كون العنوان معرفاً فكذا يحتمل كونه مقوماً، و معه لم

______________________________

أ حاشية المكاسب ، ج 1 ص 12

ب وسائل الشيعة : ج 17، ص 320 و 322 ، الباب 7 و 8 من أبواب الشفعة.

ج وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 319 ، الباب 5 من كتاب الشفعة ، الحديث : 1

ص: 152

يكن الحكم بانتقال الحق الى الوارث بذلك الوضوح. فلو فرض كون الضرر حكمة الجعل كان كتعليل وجوب الإعتداد على الزوجة بمنع إختلاط المياه، و المناسبة تقتضي تضيق موضوع الحكم بمن يتمشى فيه إحتمال الإختلاط، مع أنهم تسالموا على وجوب العدة على الزوجة مطلقاً و لو مع القطع بانتفاء الإختلاط . و هذا كاشف عن عدم كون حكمة التشريع موجبةً

للتوسعة والتضييق في جميع الموارد .

فالمهم في الحكم بجواز الإسقاط والنقل و الإنتقال ملاحظة دليل الحق كرواية الغنوي عن أبي عبد الله علیه السلام بعد سؤاله عن مورد الشفعة، فقال علیه السلام: «الشفعة في البيوع إذا كان شريكاً فهو أحق بها بالثمن، و ورد هذا التعبير في بعض الأخبار، كما دلّ على هذا الحق في بعض النصوص كلمة اللام الذي قد يُدعَى ظهوره في الملك، فلاحظ روايات الباب و من المعلوم أن تفويض الأمر الى الشريك وكونه أولى بحصة شريكه التي باعها ظاهر عرفاً في قابلية إسقاطه ونقله و إنتقاله.

و أما في حق الخيار فالحكمة و إن كانت هي الإرفاق بذي الخيار، إلا أن إلغاء خصوصية العناوين المأخوذة في الأدلة «كالبيع، و المشتري، و صاحب الحيوان» و نحوها - حتى يترتب عليه قابلية إسقاطها و إنتقالها دون نقلها لا يخلو من تأمل.

فالأولى إستظهار القابلية من لسان الدليل المتكفل للسلطنة على ترجيح أحد الطرفين من الفسخ و الإمضاء، كقوله صلى الله عليه واله: البيعان بالخيار حتى يفترقا، و صاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام، ب. و كتعليل سقوط خيار الحيوان إن أحدث المشتري في الحيوان حدثاً قبل إنقضاء الثلاثة بما روي عن الصادق علیه السلام : فذلك رضى منه فلا شرط »ج . فإن ظهوره العرفي في كون المجعول حقاً مما لا يُنكر .

و على هذا فلا يبعد جواز نقل حق الخيار إلى الغير كجواز إسقاطه، فيكون للمنتقل إليه

______________________________

أ. وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 316 ، الباب 2 من كتاب الشفعة . الحديث : 1

ب وسائل الشيعة ، ج 12، ص 345 الباب 1 من أبواب الخيار ، الحديث : 1

ج المصدر ، ص 351 ، الباب 4 من أبواب الخيار . الحديث : 4

ص: 153

السلطنة على أمر العقد فسخاً و إمضاء، أو على الإسترداد فجواز نقل الخيار إلى الأجنبي کجواز جعله له ابتداءً في ضمن العقد. نعم لابد من ترتب غرض عقلائي عليه، وإلا فالعوضان يعودان الى مالكيهما لا إلى من إنتقل الحق إليه. و لذا قد يشكل نقل حق الشفعة الى الأجنبي. إلا أن يراد منه التوكيل في إعمال الحق، كما إذا لم يتمكن الشفيع - لجهة من الجهات - من ضمّ

الحصة الى ملكه.

و الحاصل أن مجرد أخذ عنوان خاص في دليل الخيار والشفعة لا يمنع عن قبول النقل الى الغير، إلا بإحراز كون العنوان مقوماً، فهما نظير الحبوة المخصوصة بالولد الأكبر من بين

الورثة، و لكن لا مانع من سلطنته على نقلها الى غيره ببيع أو هبة أو صلح.

و أما حقُ الرهانة فهو حق متعلق بالعين المرهونة لاستيفاء الدين منها. و حيث إن غير الدائن لاحق له فيها فقد يشك في جواز نقله، إلا أن يكون من باب التوكيل في الإنقاذ و استيفاء الدين منها. نعم لا مانع من إنتقاله بالموت فيكون الوارث قائماً مقام الدائن في جعل العين وثيقةً لدينه المستقر في ذمة المديون. هذا بعض الكلام في أقسام الحقوق بلحاظ ما يستفاد من أدلتها من قبولها للسقوط

و النقل و الإنتقال .

المقام الثالث: في حكم الشك في كيفية الجعل، فتارة يكون الشك في أن المجعول حكم - بمعناه الأخص المقابل للحق - أو حق، و أخرى في قابلية الحق للسقوط، و ثالثة في

قابلية نقله و انتقاله .

أ - حكم الشك في أن المجعول حق أو حكم

أما الأوّل: فإن كان لدليله عموم أو إطلاق أخذ به و مقتضاه إحراز إطلاق المجعول و عدم سقوطه بالإسقاط، ويندرج في الحكم المصطلح المقابل للحق، و لا بأس بالتعرض البعض ماعُدّ مثالاً للمسألة.

فمنه ما اذا شك في أن جواز أكل المارة من الشجرة الممرور بها حق يسقط بالإسقاط أو حكم يبقى بعد إسقاط المار.

ص: 154

و إن كان دليله مجملاً، فإن كان في المورد عام فوق كان هو المرجع كحرمة أكل أموال الناس بالباطل، و القدر المتيقن من دليل التقييد أو التخصيص هو المارّ الأكل للثمرة، فيبقى غيره مندرجاً في عموم حرمة الأكل، و نتيجته عدم بقاء الجواز بعد إسقاطه. و لو منع من مرجعية الآية الشريفة هنا أمكن الرجوع الى عموم النهي عن التصرف في مال الغير بدون إذنه و رضاه، لأنه من الشك في التقييد الزائد على جواز التصرف - للمار - في ملك غيره. و إن لم يكن في المورد عام فوق كان المرجع إستصحاب بقاء المجعول، و نتيجته بقاء الحق بعد إسقاطه، بناءً على حجية الإستصحاب في الشبهات الحكمية.

و منه: ما إذا شك في بقاء سلطنة ولي الدم على القاتل عند إسقاط حقه من القصاص، فمقتضى إطلاق قوله تعالى : ( ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً )أ أبقاء الجواز بعد

إسقاطه لإطلاق السلطنة المجعولة لحالتي الإسقاط و عدمه. ولو نوقش في إطلاق الآية كان المرجع إستصحاب بقاء المجعول بناء على جريانه في

الشبهات الحكمية فيترتب عليه جواز الاقتصاص بعده.

و أما ما أفاده السيد المحقق الخوئي قدس سره من مرجعية عموم الآيات و الروايات الدالة على حرمة قتل النفس المحترمة، كقوله تعالى : ( و من يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها )ب و قوله عزّ من قائل : ( و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق )ج، و کالروايات المتضافرة المروية في أبواب قصاص النفس د . و بها يثبت عدم جواز الإقتصاص بعد إسقاطه ه، فلا يخلو من تأمل، فإنّ العام و إن كان حجة في غير القدر المتيقن من التخصيص بالمجمل، كما إذا تردد الفاسق بين مرتكب خصوص الكبائر و مطلق المعصية فإن عموم أكرم العلماء» يُعين حكم مرتكب الصغيرة، فيجب إكرامه، و يكون الخارج عن

______________________________

أ الاسراء ، الآية : 25

ب النساء الآية : 95

ج الأنعام ، الآية : 152

د راجع وسائل الشيعة ، ج 19، ص 10 الی 20 الباب 1 و 2 و غيرهما من أبواب قصاص النفس

ه مصباح الفقاهة . ج 2 . ص 48 و 49

ص: 155

حكم العام خصوص مقترف الكبيرة.

إلا أن تطبيقه على مثل حق القصاص بعد الإسقاط لا يخلو من شيء، وذلك لأن الآيات و الروايات الناهية عن سفك الدماء محفوفة بقرينة قطعية من أول الأمر مانعة عن إنعقاد الإطلاق فيها لمن يُقتل قصاصاً، فإنّه من مرتكزات العقلاء و من أحكام الشرائع السابقة، خصوصاً بملاحظة مثل قوله تعالى : ( و جزاء سيئة سيئة مثلها )أ وقوله تعالى : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) ب و ما دل على حرمة الإسراف في القتل، و الكُلّ شاهد على أن حرمة قتل المؤمن والوعيد بخلود القاتل في النار غير ناظر إلى حكم وليّ الدم الذي يأخذ بحق قصاصه. وليس القتل بسبب حقٌّ كالقصاص مندرجاً في عموم النهي عن قتل المؤمن حتى يرجع إليه لو شك في بقاء السلطنة على القاتل بعد الإسقاط.

و بعبارة أخرى إرتكازية حق القصاص عند العقلاء - بقرينة وروده في الشرائع السابقة و إباء سياق ما دلّ على حرمة قتل المؤمن متعمداً عن التخصيص، وكون تضيق المحمول من أقوى القرائن على تضيق الموضوع و تقيده بغير القتل القصاصي - تقتضي خروج القتل قصاصاً عن عموم النهي موضوعاً، وليس مندرجاً فيه حتى يرجع اليه في الشك في التقيد الزائد و المستفاد منها أنّ القتل قد يكون بحق كما في الأخذ بالقصاص، و قد لا يكون بحق و هو الذي توعد عليه بالخلود في النار. و أنهما متقابلان لا يندرج أحدهما في الآخر.

ومنه: ما إذا شك في بقاء حقي الخيار و الشفعة بعد الإسقاط كبقاء الجواز الحكمي في رجوع الواهب عن هبته و ارتفاعهما لكونهما من الحقوق التي يكون زمامها بيد ذي الحق، و قد أفاد قدس سره تقولون أنه لا إطلاق في دليل ثبوتهما لذي الخيار و الشفيع، بل المرجع الإستصحاب بناءً على حجيته في الشبهات الحكمية و على تقدير عدم حجيته فيها فالعمومات الدالة على حرمة أكل مال الناس من دون رضاه محكمة ج.

______________________________

أ: الشورى ، الآية : 4

ب: البقرة الآية : 194

ج مصباح الفقاهة ، ج 2، ص 49

ص: 156

أقول: أما إنكار إطلاق دليل حقي الخيار والشفعة فغير ظاهر، فإنه كما يتمسك بإطلاق ما روي عنه صلى الله عليه واله : «من سبق إلى مالم يسبقه إليه مسلم فهو له و يلتزم ببقاء أولويته بما سبق إليه من المكان سواء أسقط حقه أم لم يسقطه، كما اعترف قدس سره، فكذا لامانع من الأخذ باطلاق قوله علیه السلام : « البيعان بالخيار ما لم يفترقاء سواء أسقط أحدهما أو كلاهما حقه أم لم يُسقطه و كذا قوله صلى الله عليه واله في حق الشفعة: «فهو أحق به» مع وضوح كون الإسقاط في كلا المقامين من الحالات المتبادلة المندرجة في الدليل.

و أما الحكم بمرجعية الإستصحاب أولاً ثم عموم حرمة أكل مال الغير بالباطل فلا يخلو من غموض، إذ مع فرض وجود العموم الذي هو حجة في ماعدا القدر المتيقن من دليل المخصص - أعني به الأخذ بحقي الخيار والشفعة و عدم إسقاطهما - لا يبقى مجال للرجوع الى الأصل العملي، وبيانه أن لدليل حرمة الأكل عموماً أفرادياً و إطلاقاً أزمانياً و أحوالياً، فلا يجوز للبائع التصرف في ما إنتقل عنه الى المشتري، و لا للشريك التصرف في حصة المشتري التي إشتراها من شريكه. و إجمال المخصص - و هو دليل تشريع الخيار و الشفعة - يقضي بالأخذ بالقدر المتيقن منه و هو إعمال ذي الخيار و الشفيع حقهما، وإنتزاع ما كان بيد من عليه الخيار و المشتري. وأما إذا أسقطا حقهما وأرادا الأخذ به بعده كان عموم حرمة الأكل حاكماً بعدم الجواز.

هذا ما تقتضيه الصناعة، لكنه مجرد فرض، إذ لا وجه للشك في أن المجعول في مورد القصاص و الخيار و الشفعة هو السلطنة والأولوية المعبر عنهما بالحق المقابل للجواز الحكمي و من المعلوم كون أدنى مراتبه قابلية سقوطه بإسقاط من له الحق. هذا كله في حكم الشك في السقوط و البقاء، و مرجعه الى الشك في كون المجعول حقاً مصطلحاً أو حكماً.

ب - حكم الشك في قابلية الحق للإسقاط

و أما الثاني و هو الشك في قابلية الحق للسقوط بعد إحراز عدم كونه حكماً مصطلحاً

______________________________

أ: مستدرك الوسائل، ج 17 ، ص 112 ، الباب من أبواب إحياء الموات ، الحديث : 4

ص: 157

فإن قلنا باقتضاء قاعدة لكل ذي حق إسقاط حقه عدم حقية ما لا يقبله فهو، وإلا فإن أمكن رفع الشك بالرجوع إلى دليل الحق و لو بمعونة القرائن المكتنفة به و إستفادة قيام الحق بشخص ذي الحق كالوصي والمتولي للموقوفة و الناظر عليها، أو قيامه بعنوان خاص كالفقيه أو روعي فيه مصلحة الغير كما في حق الحضانة، فالظاهر عدم قابليته للسقوط، لظهور العنوان في دوران الحق مداره.

و إن لم يمكن إستفادة شيء من ذلك كان مقتضى جريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية بقاءه و عدم سقوطه.

ج - حكم الشك في قابلية الحق للانتقال

و أما الثالث: و هو الشك في إنتقال الحق قهراً بموت و ارتداد فنقول: إن أمكن إستفادة الحكم من الدليل و الخصوصيات المكتنفة به فهو و إلا يجرى الإستصحاب فيه و يحكم بعدم سقوطه بالموت، الذي هو من قبيل الشك في رافعية الموجود، و هو مورد تسالمهم على حجية الإستصحاب. فلو شك في إنتقال حق الخيار و الشفعة و التحجير الى الوارث لم يكن مانع من الإلتزام بانتقاله.

و مناقشة المصنف قدس سره في هذا الإستصحاب بما أفاده في أحكام الخيار بقوله: «و التمسك في ذلك - أي في قابلية حق الخيار للانتقال - باستصحاب بقاء الحق، و عدم إنقطاعه بموت ذي الحق أشكل لعدم إحراز الموضوع، لأن الحق لا يتقوم إلا بالمستحق، غير ظاهرة، لاعترافه قدس سره بأن هذا القسم من الحقوق سلطنة، وهي كالملك قابلة للانتقال القهري و الشك إنما هو في رافعية الموت لها كالشك في إطفاء الريح الخفيفة للسراج مع إستعداد نورها للبقاء لوجود الوقود. فيندرج هذا الحق ببركة الإستصحاب في «ما تركة الميت».

و الإشكال في جريانه بعدم إحراز الموضوع - لتقوم الحق بالمستحق - ممنوع بالنقض بأملاكه، لتقومها بالمالك، مع أنه لا ريب في إنتقالها الى الوارث.

و حله أن سبب الإنتقال الى الوارث بقاء الملك أو الحق إلى زهوق روح المورث، والأوّل محرز بالإستصحاب، و الثاني بالوجدان.

ص: 158

بل لا يبعد الإستغناء عن الإستصحاب في المقام بناءً على كون الحق سلطنة فعلية، أو إضافة إعتبارية أخرى أثرها السلطنة، فإنّه كالملك مشمول لإطلاق الموصول في قولهم علیه السلام : ما تركه الميت فهو لوارثه بناءً على أن مفاده عدم إيجاب الموت سقوط ما كان للميت من المال أو الحق عن إضافة الملكية، بل تنتقل هذه الإضافة الى الوارث و إن كانت الدقة تقتضي حدوث إضافة أخرى للوارث مماثلة لإضافة المورث، لاستحالة بقاء شخص الإضافة مع تبدل طرفها.

و الحاصل أن مدلول الرواية عقدان سلبي و إيجابي، فالأول عدم سقوط الملكية بالموت و الثاني إنتقال الإضافة الى الوارث على النحو الذي كان للمورث. لا يقال: إن مقتضى أصالة عدم الانتقال إلى الوارث ذهاب الحق بالموت، فلا يصدق عليه ما تركه الميت، حتى ينتقل الى الوارث .

فانه يقال: إن الشك في الإنتقال مسبب عن بقاء الحق بعد الموت و ارتفاعه به، فإذا جرى الأصل في السبب و أحرز به بقاؤه و عدم سقوطه بالموت إندرج في «ما تركه الميت» وانتقل الى الوارث.

نعم الشك في البقاء إلى ما بعد الموت ناش عن الشك في القابلية، إذ لو كان الحق مجعولاً بنحو يتقوم بمن له الحق خاصة كان إرتفاعه بموت صاحبه مسلماً، و لا موضوع لعنوان «ما تركة الميت، حتى ينتقل الى الوارث.

لكن لا يجري الأصل في نفس القابلية، لعدم العلم بها سابقاً، فيجري الأصل - لا محالة - في مستبه، و هو البقاء إلى ما بعد الموت الملازم لانتقاله إلى الوارث لصدق ما تركه الميت عليه.

و هذا نظير عدم جريان الإستصحاب في قابلية الحيوان للتذكية و عدمها، و جريانه في عدم التذكية، فإذا تحقق كل ماله دخل في التذكية من فري الأوداج بشرائطه، و تمخض الشك في حلية الحيوان في قابليته للتذكية جرى الأصل في المسبب، و يُحكم بعدم التذكية.

هذا كله في تقريب التمسك باستصحاب شخص الحق و الحكم ببقائه بعد الموت. و يمكن أن يقرر بنحو يندرج في القسم الثاني من أقسام إستصحاب الكلي، بتقريب: أن

ص: 159

الحق المشكوك إنتقاله بالموت - إن كان متقوماً بصاحبه كان ساقطاً بموته، وإلا فهو باقٍ، و هذا نظير الشك في كون الحيوان الداخل في الدار موجوداً بفرد قصير العمر و طويله. و بعبارة أخرى: مناط القسم الثاني - و هو كون الشبهة موضوعية - موجود في المقام، حيث إن الحقوق على نوعين، فمنها ما يتقوم بمن له الحق ويرتفع بموته قطعاً كحق القسم و الإستمتاع، ومنها ما لا يتقوم به كحق التحجير، فلو شك في مثل حق الخيار أمكن إبقاؤه تعبداً ،بالإستصحاب فيندرج في موضوع تشريع الإرث.

و توهم كونه من قبيل القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي، ببيان: «أنه يعلم بارتفاع الفرد الأول من المستحق - بالموت - و يشك في قيام الثاني مقامه. نظير العلم بخروج زيد من الدار و الشك في دخول عمر و فيها مقارناً لخروج زيد عنها، فاسد، بأن هذا الشك ناش عن كيفية جعل الحق و تشريعه، فيجري الإستصحاب في نفس المجعول الشرعي الجامع بين الخصوصيتين، و يحكم ببقائه إلى ما بعد الموت ببركة الأصل، ويندرج في الموصول في «ما تركه الميت».

و لكن ما ذكرناه - من إستصحاب كلي الحق إلى ما بعد الموت بنحو القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي - مخدوش بأن جريانه منوط بموضوعية نفس الكلي للأثر الشرعي، كاستصحاب كلّي الحدث لمن توضاً بعد البلل المشتبه، فإنّه لا مانع من جريانه لإثبات حرمة مس الكتاب العزيز، بناءً على موضوعية كلّي الحدث لحرمة المس على ما استفيد من قوله تعالى : ( لا يمسه إلا المطهرون ) و عدم كونه مشيراً إلى خصوصيتي الحدث الأكبر و الأصغر، إذ عليه لا أثر لكلي الحدث حتى يستصحب، و التفصيل في محله. و عليه يقال في المقام إنّ المنتقل إلى الوارث ليس كلي الحق الثابت للمورث، بل خصوص الحق غير المتقوم بمستحقه، و الإستصحاب قاصر عن إثبات هذه الخصوصية إلا بناءً على القول بالأصل المثبت. فاستصحاب الحق - الجامع بين فرديه - لا يجري لعدم كونه موضوعاً للأثر المقصود و هو الإنتقال الى الوارث، وإنما موضوع الأثر هو الحق المتخصص بعدم كونه متقوّماً بمن له الحق و استصحاب الجامع لا يُثبت هذه الخصوصية. فلا يجري، لعدم أثر له. و حينئذ فلا محيص عن إستصحاب عدم الإنتقال.

ص: 160

و عليه فالشكوك الثلاثة المترتبة - و هي الشك في كيفية جعل الحق، و الشك في بقائه، و الشك في إنتقاله - إنما يجري الأصل في ثالثها و هو عدم الإنتقال كما أفاده السيد المحقق الخوئي قدس سره.

إلا أن يقال: إن شبهة تقوم الحق بالمستحق في كلام الشيخ الأعظم قدس سره إن كان منشؤها كونها من الشك في المقتضي لفرض عدم إحراز استعداد الحق للبقاء بعد موت ذيه أمكن الجواب عنه بأنّ المبنى المنصور في المسألة حجية الإستصحاب مطلقاً سواء كان الشك في المقتضي أم في الرافع و عليه لا مانع من استصحاب بقاء الحق، و الحكم بانتقاله ظاهراً بالموت.

د - حكم الشك في قابلية الحق للنقل الاختياري

و أما الرابع : - و هو الشك في قابلية نقل الحق الى الغير إختياراً - فإن أمكن إستظهار قبوله للنقل من حكمهم بانتقاله بالارث كما في حقي الخيار و الشفعة، بدعوى إستكشاف عدم تَقَومِ الحقِّ بمن له الحق، وإلا لم ينتقل الى وارثه، فهو للملازمة العرفية بين إنتقاله قهراً و نقله إختياراً في عدم قيامه بذي الحق.

و إن لم يمكن ذلك الإستظهار، لعدم ثبوت الملازمة بين جواز النقل و الإنتقال أو لكون الحق مما لا ينتقل بالإرث كحق القسم و الإستمتاع، كان المعوّل في جواز نقله الى الغير قابليته العرفية للنقل و المعاوضة عليه، وكون الشك في الجواز متمحضاً في إحتمال المنع تعبداً عن سقوطه أو نقله أو إعتبار شرط فيه و من المعلوم أن المرجع فيه عمومات إمضاء العقود و المعاوضات وإطلاقاتها.

إلا أنْ يناقش في التمسك بها بأحد وجهين:

الأول: أنّ الرجوع إليها من التشبث بالعام في الشبهة الموضوعية، و هو ممنوع على ماحقق في محله بيانه: أنّ طائفة من الحقوق غير القابلة للاسقاط و النقل خَرَجَت عن حيز أدلة تنفيذ المعاملات كالأمر بالوفاء بالعقود، و حلية البيع، وجواز الصلح بين المسلمين، و وجوب العمل بالشرط، ونحوها، فحقُ الولاية و الأبوة خرج عن تلك العمومات لما ثبت من عدم

ص: 161

قابليتهما للاسقاط و النقل، كما أن طائفة منها باقية تحت العمومات كحق التحجير. ولا يُعلم أن المشكوك فيه مندرج في هذا القسم أو ذاك، و في مثله لا وجه للرجوع الى العام لإحراز حال الفرد، لكونه نظير الشك في كون زيد عالماً أو جاهلاً، حيث إن عموم أكرم العلماء قاصر عن

إحراز حاله و تعيين حكمه، و هذا معنى عدم حجية أصالة العموم في الشبهة المصداقية. و لكن يمكن دفعه بأن يقال: إنّ الخارج عن عموم أدلة المعاوضات إنما خرج عنها فردياً لا عنوانياً، و من المعلوم أن القادح في التمسك بالعام هو القسم الثاني لا الأول، مثلاً إذا قال : «أكرم العلماء، ولا تكرم البصريين منهم و تردّد «زید» بين البصري و الكوفي - لتعارض البينتين فيه مثلاً - لم يجز التمسك ب- «أكرم العلماء» لإثبات وجوب إكرام زيد، بل المرجع فيه أصالة البراءة عن وجوب إكرامه. و أما إذا قال: «أكرم العلماء إلا زيداً و عمرواً، ثم شُك في إستثناء بكر أيضاً لم يكن مانع من التمسك بالعام لإثبات وجوب إكرامه، لأنّه من الشك في التخصيص الزائد، الذي هو كالشك في أصل التخصيص في جواز الرجوع الى العام. و مانحن فيه من هذا القبيل، لأن الخارج عن حيز العمومات حقوق معينة كحق الأبوة ر السلام و ولاية الحاكم الشرعي و الحضانة، لا العنوان الكلّي حتى يكون الشك في إندراج المشكوك فيه في عنوان الخاص أو العام من باب الرجوع الى العام في الشبهة الموضوعية. و العنوان الإنتزاعي كعدم القابلية لا يُجدي، إذ ليس ذلك العنوان خارجاً عن العمومات حتى يوجب تعنون العام وعليه فالشك في كون الحق قابلاً للمعاوضة يكون من الشك في التخصيص ،الزائد، و من المعلوم مرجعية أصالة العموم فيه.

الثاني: ما أفاده المحقق الإصفهاني، ووافقه بعض الأجلة من تلامذته وبيانه: أن الشك في صحة معاملةٍ ينشأ تارةً من الشك في قابلية مورد المعاملة للمعاوضة عليه، كما إذا شك في قابلية جعل الغناء - المشكوك حرمته ثمناً في بيع أو عوضاً في صلح أو مورداً لإجارة. و أخرى من الشك في دخل سبب خاص في صحة المعاملة بعد إحراز قابلية العوضين لها، كما إذا شك في صحة البيع المعاطاتي بين مالين قابلين للتمليك و التملك، أو شك في دخل العربية و الماضوية في صيغ العقود.

ص: 162

و أدلة الإمضاء كالأمر بالوفاء بالعقود و نفوذ الصلح بين المسلمين و حلية البيع و مشروعية الإجارة ناظرة الى نفوذ أسباب النقل و الإنتقال فيتمسك بإطلاق حلية البيع على مملكية المعاطاة على حد البيع بالصيغة، و أنه لا يعتنى بالشك في دخل سبب خاص في صحة المبادلة بين المالين لمكان عموم دليل الإمضاء وإطلاقه.

و أما الشك من الناحية الأولى - و هي الشك في قابلية العوضين للمعاملة عليهما - فلابد من رفعه بدليل آخر، لعدم إرتباط هذا الشك بسببية سبب خاص حتى يُجدي الإطلاق لنفيه. و عليه فالشك في جواز جعل أحد العوضين الغناء في كلام صحيح كالدعاء يكون المرجع فيه أدلة شرائط العوضين، و لو فرض عدم إستفادة شيء منها فالمرجع أصالة الفساد المحكمة في المعاملات، و لا تتكفل أدلة الإمضاء هذه الجهة حتى يتجه تصحيح المعاملة المذكورة بها.

و ببيان آخر أن أدلة المعاملات بما أنها صادرة عن الحكيم الملتفت الى إنقسام موضوع المعاملة إلى المورد القابل و غير القابل يستحيل إهمالها، فإما أن يتعلق الإمضاء بمسمى المعاملة سواء أكان المورد قابلاً لها أم لم يكن. وإما أن يتعلق بحصة خاصة منها و هي ما أحرز قابليته قبل الإمضاء. و لا مجال للإطلاق فيتعين التقييد، و يكون الرجوع الى العام أو الإطلاق لاحراز حال المشكوك فيه - من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية.

و على هذا فلو شُك في جواز نقل حق الخيار إلى الغير بهبة أو بيع أو صلح لم يتجه تصحيحه بالرجوع الى أدلة تنفيذ المعاملات، بل المرجع فيه الأصل العملي و هو أصالة عدم قبوله للنقل، هذا.

لكن يمكن أن يقال: إن أدلة المعاملات إمضائية، و ليست تأسيسية، و موضوعها هو العنوان العرفي لا الشرعي، فما أحله الشارع و أمر بالوفاء به هو البيع العرفي لا البيع الصحيح شرعاً، وكذا بالنسبة الى سائر العقود. و من المعلوم أن تمام المناط قابلية العوضين للمبادلة في

______________________________

أ حاشية المكاسب للمحقق الاصفهاني ج 1، ص 12 و 13 ، رسالة الحق ، محاضرات في الفقه الجعفري .

ج 2 . ص 24

ص: 163

نظرهم، فلو كان تبديل من من التراب بمثله سفهياً عندهم، أو لم يترتب على بيع الخنافس و الديدان غرض عقلائي يعتنى به بحيث يصح سلب عنوان المعاقدة و البيع عنه عرفاً لم يكن موضوعاً لذليل الإمضاء قطعاً. و أما إذا أحرزت قابلية العوضين بنظرهم للمبادلة و تمحض الشكُ في مشروعيتها في المنع التعبدي كانت أدلة المعاملات هي المرجع لإثبات صحتها، فلو كان بيع الجنسين بالتفاضل متداولاً عند العقلاء كتداول بيع الخمر والخنزير عندهم كان موضوع أدلة الإمضاء محققاً، وبطلان البيع موقوفاً على تقييدها أو تخصيصها شرعاً.

و لا يبعد جريان ديدنهم على الرجوع الى العمومات و الإطلاقات في رفع الشك في إعتبار شرط تعبداً أو مانع كذلك بعد إحراز الموضوع العرفي و لم يظهر وجه لتخصيص مرجعية الأدلة بالشك في تنفيذ الاسباب خاصة.

نعم في التمسك بقاعدة السلطنة في المقام إشكال، ينشأ من إحتمال كونها بصدد بيان عدم محجورية المالك عن التصرفات المشروعة، لا كونها مُشرعة للتصرف المشكوك في حكمه على ما سيأتي في المعاطاة إن شاء الله تعالى.

و أما قياس الحق القابل عرفاً للنقل إلى الغير بجعل الغناء مثلاً أحد العوضين - حيث لا تتكفل أدلة الإمضاء حليته وصحة جعله عوضاً - فالظاهر أنه مع الفارق، و ذلك لأن تلك الأدلة غير ناظرة الى بيان حكم الأفعال تكليفاً بعناوينها الأولية، لكونها واردة لبيان حكم الفعل بعنوانه الثانوي أي صحة وقوعه في العقد المعاوضي أحد العوضين، فلو كان الفعل مشكوك الحكم - بعنوان أنه غناء مثلاً - لم يكن وقوعه عوضاً في البيع أو معوضاً في الإجارة كاشفاً عن مشروعيته بعنوانه الأولى.

و هذا بخلاف المقام، إذ ليس المقصود من التمسك بدليل الإمضاء إحراز مشروعية أصل الحق حتى تكون الأدلة قاصرة عن إثباته، بل المراد إستكشاف صحة وقوعه عوضاً بعد كون أصل الحق مشروعاً و قابلاً للنقل عرفاً.

فالمتحصل - بعد إندفاع كلتا جهتي الإشكال - أن كل حق شك في قبوله شرعاً للنقل يرجع فيه الى عمومات المعاوضة، فعدم قبوله للنقل لابد أن يستفاد من دليله بأن يكون ظاهراً في تقومه بعنوان خاص أو شخص كذلك، كحق الولاية، ضرورة كون العنوان أو الشخص

ص: 164

موضوعاً للحق يدور ،مداره لا مورداً له حتى يجوز تفويضه الى غيره، هذا.

و أما جواز المعاوضة على الحقوق فسيأتي في المقام الخامس

المقام الرابع في ذكر بعض ما يتردد بين الحق و الحكم.

إعلم أنهم ذكروا أموراً جعلوها من المصاديق المشتبهة بين الحق و الحكم منها: الأولوية بالسبق إلى المساجد والمدارس والقناطر و الرباطات و الطرق النافذة، و نحو ذلك من الحقوق الراجعة إلى عموم الناس أو المتلبس بعنوان خاص منهم كالمصلين و الزائرين و العابرين و نحوهم فإنّه لم يظهر المراد من الأولوية، فهل يراد بها الحق بحيث يصير السابق إلى مكان من الأمكنة المذكورة ذا حقٌّ فيها، فتكون العبادة مع دفع السابق وإخراجه عنه ،باطلة، لكون المكان متعلقاً لحق الغير كحقي الرهانة و التحجير؟ أم يراد بها حرمة المزاحمة مع السابق تكليفاً، فدفع السابق وإن كان حراماً تكليفياً، لكنه لا يوجب الغصبية

حتى تبطل الصلاة، فتقديم السابق حينئذ في تزاحم الحقوق يكون من باب الحكم نظير تقديم الأهم في تزاحم الواجبات. فإطلاق الأحقية في النصوص على السابق الدالة على زيادة المبدأ - و هو الحق - في السابق إنما هو باعتبار اختصاص الإستيفاء فعلاً بالسابق ما دام شاغلاً للمكان فالحق المشترك بينه و بين غيره من الموقوف عليهم الثابت بنفس الوقف يختص إستيفاؤه بالسابق، و ليس لغيره إستيفاء ذلك الحق المشترك حتى يُعرض السابق عن المكان؟ ظاهر كلمات الأصحاب كون السبق سبباً لحدوث حقٌّ للسابق، حيث إنهم عبروا بكونه أحق من غيره. قال في الشرائع : و أما المسجد فمن سبق إلى مكان منه فهو أحق به مادام جالساء أ.

و قال في القواعد: «و أما المسجد فمن سبق الى مكان فهو أحق به، فإذا قام بطل حقه و إن قام لتجديد طهارة أو إزالة نجاسة أو نوى العود، إلا أن يكون رحله باقياً فيه ب.

و في اللمعة وشرحها: «فمنها المسجد، و في معناه المشهد، فمن سبق إلى مكان منه

______________________________

أ شرائع الاسلام ، ج 3، ص 277

ب قواعد الأحكام ، ص 87

ص: 165

فهو أولى به مادام باقياً فيه أ.

و في الجواهر: «و أما المسجد فلا إشكال و لا خلاف في أن من سبق إلى مكان منه فهو أحق به ما دام جالساً فيه، بل يمكن تحصيل الإجماع أو الضرورة عليه بل في المسالك و غيرها سواء أكان جلوسه لصلاة أم لمطلق العبادة أم لتدريس العلم و الإفتاء ونحو ذلك ... الى أن قال: وعلى كل حال فلو قام مفارقاً رافعاً يده عنه بطل حقه، بلا خلاف و لا إشكال حتى لو عاد و قد شغله غيره. و إن قام ناوياً للعود إليه، فإن كان رحله باقياً فيه فهو أحق به، وإلا كان مع غیره سواء كما صرح به الفاضل و الشهيدان و الكركي و غيرهم. بل في جامع المقاصد: أنه المشهور. بل في محكي المبسوط نفي الخلاف فيه، قال: فمن سبق الى مكان في المسجد كان أحقُّ به، فان قام و ترك رحله فيه فحقه باقٍ، وإن حول رحله منه إنقطع حقه منه، و لا خلاف فيه، و فيه نص لنا عن الأئمة علیهم السلام ب.

و ظهور هذه العبارات و غيرها مما لم نذكرها في حدوث حقٌّ للسابق مما لا يمكن إنكاره و مستندهم في ذلك - بعد الإجماع الذي إدعاه في مفتاح الكرامة بعد قول العلامة فهو أحق به مادام فيه إجماعاً محصلاً بل كاد يكون ضرورياً هج وكذا غيره من الاصحاب - روایات :

إحداها خبر طلحة بن زيد عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال : قال أمير المؤمنين علیه السلام : سوق المسلمين كمسجدهم فمن سبق إلى مكان فهو أحق به إلى الليل ، و كان لا يأخذ على بيوت السوق كراء»د.

ثانيها: مرسلة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي عبدالله علیه السلام ، قال: «قلت له: نكون بمكة أو بالمدينة أو بالحيرة أو المواضع التي يرجى فيها الفضل، فربما خرج الرجل يتوضأ

______________________________

أ الروضة البهية ، ج 7، ص 170

ب جواهر الکلام، ج 38، ص 88 و 89

ج مفتاح الكرامة ، ج 7، ص 36

د وسائل الشيعة ، ج 3، ص 542 ، الباب 56 من أبواب أحكام المساجد ، الحديث : 2

ص: 166

فيجيء آخر فيصير مكانه، فقال علیه السلام : من سبق الى مكان [موضع ] فهو أحق به يومه و ليلته أ .

و التعبير بالإرسال من جهة سقوط الواسطة بين محمد و بين الإمام علیه السلام لعدم كون إبن بزيع من أصحاب الإمام الصادق علیه السلام و رواه في البحار عن أمالي الشيخ عن ابن بزيع عن بعض أصحابه يرفعه الى الإمام أبي عبد الله علیه السلام و عليه فلا تبقى شبهة في الإرسال و حذف الواسطة.

ثالثتها مرسلة إبن أبي عمير عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «سوق المسلمين [ القوم ] کمسجدهم، يعني، إذا سبق الى السوق كان له مثل المسجد ب.

رابعتها النبوي من سبق إلى ما لا يسبقه إليه مسلم فهو أحق به ج.

أما سندها فغير نقي، لأن في سند الأولى «طلحة بن زيد» و هو عامي، و لم أعثر الى الآن على توثيقه. و ما في الفهرست من أن طلحة بن زيد عامي المذهب، إلا أن كتابه معتمد ليس توثيقاً لطلحة، بل تصحيحاً لكتابه، و هو لا يدل على توثيق طلحة، لعدم الملازمة بينهما، إذ من الممكن أنّ الشيخ صحح كتابه لكون مافيه مروياً في الكتب المعتبرة، لا لأجل كون صاحب الكتاب موثقاً عنده حتى يكون قول الشيخ: «ان كتابه معتمد شهادة بوثاقته، بل يكون قوله هذا تصحيحاً لكتابه، فيندرج في البحث المعروف بينهم و هو: أن تصحيح الغير هل يجوز الإعتماد عليه؟ و يُغني الآخرين عن نقد السند أم لا؟

هذا مضافاً إلى أنه - بعد تسليم صحة الإعتماد على تصحيح الغير - إنما يجدي ذلك فيما إذا أحرز أنّ الرواي نَقَل عن كتاب طلحة لا عن نفسه، و هو مما لا سبيل الى إحرازه، فالرواية مشكوكة الاعتبار، و من المعلوم أن الأصل يقتضي عدم حجيتها، هذا. و يظهر مما ذكرناه ضعف ما أفاده بعض المعاصرين من قوله: «و يكفيه في إعتبار خبره

______________________________

أ وسائل الشيعة . ج 3، ص 542 ، الباب 56 من أبواب أحكام المسجد.

ب وسائل الشيعة، ج 12، ص 300 ، الباب 17 من أبواب آداب التجارة ، الحديث : 2

ج مستدرك الوسائل، ج 17، ص 112 الباب 1 من أبواب إحياء الموات . الحديث : 4

د: الفهرست، ص 112 . رقم 374

ص: 167

- مضافاً الى تصريح شيخ الطائفة بكون كتابه معتمداً - رواية إبن الوليد الذي لم يرو بعض كتب الصفار و سعد، لعدم معلومية صحة مضمون ذلك البعض، وإستثنى كثيراً من أخبار كتاب محمد بن أحمد بن يحين لكتابه أ.

وجه الضعف أن رواية إبن الوليد لكتاب طلحة لاتدلّ على أزيد من إعتقاد إبن الوليد بصحة مضامين الكتاب و مطابقتها للواقع أو للزوايات المعتبرة، و لاتدل على وثاقة مؤلفه، و تكون الشهادة بصحة الكتاب من قبيل تصحيح شخص لرواية في كون حجية تصحيحه لغيره مورداً للبحث و النظر والإشكال. وعليه فالشهادة بصحة الكتاب ليست إلا شهادة باعتبار الكتاب، و لا تكون شهادة بوثاقة مؤلفه. و قد عرفت عدم طريق لإحراز كون الرواية المزبورة مروية عن كتابه حتى نلتزم باعتبارها بعد البناء على إعتبار الكتاب المزبور بشهادة الشيخ و رواية ابن الوليد له.

و أما كونه من رجال كامل الزيارة و تفسير علي بن إبراهيم فلا يكفي للتوثيق كما قرر في محله.

و بالجملة: فلم يثبت إعتبار الخبر المزبور بسبب ضعف طلحة، فالإعتماد عليه في غاية الإشكال. هذا ما في سند خبر طلحة من الضعف.

و أما مرسلتا إبن أبي عمير و محمد بن إسماعيل بن يزيع فالإشكال في إعتبارهما ظاهر لأنهما مرسلتان، و لا عبرة بالمراسيل ما لم تنجبر بعمل المشهور بناء على ما هو الأقوى من جبر عمل المشهور لضعف الرواية، كمو هنية إعراضهم عنها لاعتبارها. وكذا الحال في النبوي. و دعوى إنجبارها بعمل المشهور الذين بنوا على ثبوت حق السبق للسابق في المسجد خالية عن البينة، إذ يعتبر في جبر الشهرة لضعف الرواية إحراز إستناد المشهور في فتواهم إلى الرواية الضعيفة حتى يدلّ إستنادهم إليها على إعتبارها لديهم، وإلا فمجرد موافقة فتواهم لرواية ضعيفة لا تكشف عن حجيتها عندهم كما هو واضح.

______________________________

أ قاموس الرجال ، ج 5 ، ص 568

ص: 168

و بالجملة فلا سبيل إلى إثبات حجية الروايات المزبورة.

إلا أن يدعى أن سياق عباراتهم يدل على إستنادهم إلى هذه الروايات، لتعبير هم بما عُبر به فيها. و ان كان هذا مخدوشاً أيضاً، لإمكان كون مستندهم رواية معتبرة سنداً مع كون متنها مثل متن المرسلتين، فاقتبس الأصحاب من تلك الرواية لا من هاتين الروايتين، فلا يحصل الوثوق باستنادهم إليهما.

كما لا وجه لحجية الإجماع المدعى في المقام بعد إحتمال مدركيته، إذ من المحتمل إستناد المجمعين الى الروايات المزبورة، فلا يصح الإستناد إلى شيء من الروايات والإجماع.

نعم يمكن الإستناد إلى السيرة العقلائية الحاكمة باختصاص من سَبَق الى ما يشترك فيه غيره - كالمباحات الأصلية و نحوها - بذلك المشترك، بحيث يرى العقلاء نحو إختصاص للسابق بذلك الشيء، بل هذا مركوز في الحيوانات أيضاً، و الشارع لم يردع عن هذه السيرة، فهي حجة.

كما يمكن أن يكون مستندهم مرسلة ابن أبي عمير، و لا يقدح إرسالها لما يظهر من الأصحاب من تسالمهم على العمل بمراسيله، لقول النجاشي: «أصحابنا يسكنون إلى مراسيله » أ. و لقول الشيخ في حقه و حق آخرين من أصحاب الإجماع في بحث تعارض الرواية المسندة مع المرسلة : هو إذا كان أحد الراويين مُسنداً و الآخر مُرسِلاً نظر في حال المرسل، فان كان ممن يعلم أنه لا يُرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجیح لخبر غيره على خبره، ولأجل ذلك سوت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير و صفوان بن يحيى و أحمد بن محمد ابن أبي نصر و غيرهم من الثقات الذين عُرفوا بأنهم لا يروون ولا يُرسلون إلا عمن يوثق به و بین ما أسنده ،غيرهم، و لذلك عملوا بمراسيلهم إذا إنفرد عن رواية غيرهم ب.

و كذا عد الكشي جمعاً من أصحاب أبي إبراهيم و أبي الحسن الرضا الا ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم والانقياد لهم و الإقرار لهم بالفقه، و منهم إبن أبي

______________________________

أ رجال النجاشي ، ص 229

ب عدة الاصول ، ج 1، ص 386 و 387

ص: 169

عميرأ.

و عليه تتصف مرسلة إبن أبي عمير بالإعتبار بعد شهادة أعلام الرجال بالتسوية بين المسندات و المرسلات .

لكن في أصل تحقق هذا الإجماع التعبدي تأملاً بل منعاً قد تعرّضنا له في شرح الكفاية فيما يتعلق بسند مقبولة عمر بن حنظلة، فراجع ب.

فتلخض: أن مراسيل أصحاب الإجماع كمراسيل غيرهم مالم تنجبر بعمل المشهور لا تكون حجة بحيث تُخصص عموم أدلة حرمة العمل بالظن، فمر سلة ابن أبي عمير الدالة على حق السبق لا تصلح للاستناد إليها. هذا كله في السند.

و أما دلالتها فعن المشهور - بناء على استنادهم إليها كما لعل كلماتهم مقتبسة منها - دلالتها على ثبوت حقٌّ للسابق، و اللازم حينئذ ترتيب آثار الحق عليه من جواز إسقاطه ونقله مجاناً و مع العوض و انتقاله قهراً الى الوارث، و من بطلان العمل العبادي الصادر من المزاحم المخرج للسابق عن المكان، لكونه غصباً كما في إعتكاف العروة، حيث قال: «إذا غصب مكاناً من المسجد سَبقَ إليه غيره، بأن أزاله وجَلَسَ فيه فالأقوى بطلان إعتكافه ج. إلا إذا نهض دليل على منع بعض هذه الآثار. و لم أعثر إلى الآن على قائل بهذا التعميم. كما أن لازم الحقية هو صيرورة السابق ذا حقين أحدهما بالوقف، والآخر بالسبق، و هذا بعيد.

فالمحتمل قوياً: أن المراد بالأحقية هو حرمة المزاحمة مع السابق و إزعاجه و دفعه عن المكان مادام باقياً فيه وشاغلاً له ، فالسبق لا يوجب الاحرمة المزاحمة كحرمة مزاحمة غير الولي للولي في تجهيز الميت بناءً على كون المراد بالولاية هناك - على ما عن جماعة من القدماء - حرمة المزاحمة معه، فإن تصدّى الولي للتجهيز مباشرة أو تسبيباً فليس لأحد مزاحمته،

______________________________

أ: رجال الكشي ، ص 466 ، طبع النجف الأشرف.

ب منتهى الدراية . ج 8 ص 150 الى 164

ج العروة الوثقى . ج 2 ص 256 ، كتاب الاعتكاف ، المسألة : 32

ص: 170

و إن لم يتصدّ لذلك جاز لغيره - بل وجب عليه كفاية - القيام به.

و بالجملة: فالسبق في الحقوق كالأهمية في تزاحم الواجبات فكما أن تقديم ا هناك ليس من باب الحق في شيء، فكذلك السبق في باب الحقوق، فإنه لا يوجب حقاً للسابق حتى يصير المكان متعلقاً لحقه، ويندرج دفع الغير له عن ذلك المكان و إشغاله له - في الغصب، وتكون صلاة المزاحم الدافع للسابق من صغريات مسألة الإجتماع، لصيرورة المكان حينئذ مغصوباً، إذ لا فرق فى المغصوب بين كون الرقبة مال الغير و بين كونها متعلقة لحق الغير كحقي الرهانة و التحجير، فيكون هنا أمر متعلق بطبيعي الصلاة، و نهي متعلق بطبيعي الغصب، و تكون الصلاة مندرجةً تحت هذين العنوانين، فبناءً على الإجتماع - بمعنى صغروية المورد لكبرى التزاحم لتعدد المتعلق وكون التركيب إنضمامياً - تصح الصلاة في وجه. و بناءً على الإمتناع - لوحدة المتعلق، لكون التركيب إتحادياً - لا تصح الصلاة، لكون مسألة الإجتماع

حينئذ من صغريات النهي في العبادة.

فالمتحصل: أن المراد بالأحقية في الروايات - بعد البناء على اعتبارها - يحتمل أن يكون إختصاص السابق في إستيفاء الحق المشترك بين السابق و بين سائر أفراد الموقوف عليهم الثابت لهم بالوقف فالسبق يوجب هذا الإختصاص.

كما يحتمل أن يراد به الحق المصطلح بأن يكون السبق موجباً لتعين مصداق كلي الموقوف عليه في السابق مادام شاغلاً للمكان أو غير مُعرِض عنه، كتعين مصداق كلّي المالك في الخمس و الزكاة و غيرهما من الجهات العامة بالقبض، فإنّ الكلي لا يتعين إلا به، و قد عرفت بعد هذا الإحتمال و عدم الإلتزام بكثير من آثار الحق من الإنتقال و النقل. و إذا شك في كون السبق موجباً للحق و دار أمر تقديم السابق على غيره بين الحكم والحق فالأثر المشترك - و هو سقوطه بالاعراض - يترتب عليه قطعاً. و أما جواز النقل الإختياري مع العوض و بدونه فلا يترتب عليه، للشك في القابلية العرفية، إذ لو كان حكماً لم يقبل النقل أصلاً كما هو ظاهر ، فلا وجه للتمسك بأدلة العقود الجائزة لإثبات جوازه. و كذا

الحال في الإنتقال القهري، فلا يترتب عليه، لكونه من الآثار المختصة بالحق.

ص: 171

و أما أخذ المال بازاء الإعراض عن المكان فالظاهر أنه لا بأس به، لأن رفع موضوع الحرمة - و هو المزاحمة - يكون تحت سلطنة السابق، لكونه عملاً من أعماله كسائر أعمال الحُرّ.

و أما صلاة المزاحم الدافع للسابق فلا تبعد صحتها للبراءة عن الشك في مانعية المزاحمة، إذ لو كان السبق موجباً للحق كانت الصلاة باطلة، وإلا فهي صحيحة. و لما كان منشأ الشك في الصحة الشكٍّ في مانعية التزاحم جرى الأصل في المانعية. نعم بناءً على اقتضاء الأمر بشيءٍ للنهي عن ضده يُحكم بفساد الصلاة، للعلم ببطلانها، إما لكون السبق موجباً للحق، وإما لكون الأمر مقتضياً للنهي عن ضده، فتدبر.

ثم إنه بناء على ما تقدم من الإشكال في سند الروايات كالإشكال في حجية الإجماع لاحتمال مدركيته لا يبقى مستند لحق السبق. إلا أن يتمسك بالسيرة العقلائية القاضية بتقديم السابق في المشتركات، بل تقديم السابق من مرتكزات الحيوانات أيضاً، حيث إن ما تقدم من السباع إلى إفتراس حيوان ليأكله لا يزاحمه غيره من السباع في أكله، فعدم مزاحمة السابق من الأمور الارتكازية الجارية عليها السيرة العقلائية التي لم يردع عنها الشريعة المقدسة الإسلامية، بل الإجماع والروايات المتقدمة - على تقدير تماميتها دليل على إمضاء تلك السيرة.

لكن المتيقن منها هو إختصاص السابق، بمعنى عدم جواز مزاحمة أحدٍ له فيما سبق إليه. و أما الإختصاص بمعنى الحق فليس مما تقتضيه السيرة، بل لابد حينئذ من معاملة الحكم مع ما جرت عليه السيرة دون معاملة الحق معه فلا يبطل العمل الصادر من المزاحم، كما لا ينتقل قهراً بموت و نحوه إلى غير السابق. و كذا لا يقبل النقل.

نعم لا بأس بأخذ مال لتخلية المكان وتفريغه، لأن التفريغ عمل يبذل بازائه المال، و بعد التخلية يُشغله باذل الفلوس فيصير هو السابق، والله العالم.

و من المصاديق المشتبهة بين الحق و الحكم جواز الرجوع في المطلقة الرجعية على ما قيل، و إن كان الظاهر كونه من الأحكام، والتفصيل في محله.

ص: 172

و من المصاديق المشتبهة - على ما قيل أيضاً - جواز الرجوع في العقود الجائزة، فان كان حكماً لم يسقط بالإسقاط، وإلا يسقط به لكن الحق أن الجواز فيها حكم، فلا تصير العقود الجائزة لازمة بإسقاطه، فلاحظ .

ومنها غير ذلك مما يقف عليه المتتبع.

المقام الخامس: في حكم المعاوضة على الحقوق القابلة للنقل و الإسقاط.

أما ما لا يقبل الإسقاط - بناءً على كونه حقاً - فلا كلام في عدم جواز أخذ العوض بازائه، و أما القابل للنقل و الإسقاط فقد تقدم في أول بحث الحقوق خلاف الأعلام فيه، فمنهم من منَعَ من وقوع الحق عوضاً في البيع مطلقاً، كالشيخ الفقيه كاشف الغطاء، و اختاره المحقق النائيني قدس سرهما أيضاً. و منهم من جوّز ذلك مطلقاً كصاحب الجواهر قدس سره . و منهم من فصل بين ما يقبل الإنتقال و بين ما بين لا يقبله ويقبل الإسقاط خاصة، كالمصنف قدس سره و إن مال في آخر كلامه الى المنع مطلقاً.

و التحقيق جواز جعل الحقوق عوضاً عن المبيع مطلقاً أي جعل إسقاط ما يقبل الإسقاط ثمناً، وانتقاله الى باذل المبيع فيما يقبل الإنتقال الى الغير، و ذلك بعد تمامية أمرين:

أحدهما: عدم إختصاص «المال» بالأعيان المتمولة، و صدقه على منافع الأعيان الصامتة و عمل الحر و لو بعد المعاوضة عليه وجواز أخذ العوض في الصلح على إسقاط بعض الحقوق كاشف عن ماليته عرفاً، و عدم إختصاص المال بالأعيان. و يتعين حمل كلام إبن الأثير في تفسير المال على الغالب، وإلّا أشكل الأمر في بذل المال بازاء المنافع في الإجارة و الصلح.

و لو فرض تعذر توجيه كلام اللغوي بالحمل على الغالب لم يقدح في إنصاف الحقوق بالمالية لأعمية المال عرفاً من العين و المعنى والحق، إذ المال عندهم كل ما يرغب فيه العقلاء و يتنافسون عليه، ولاشك في أعمية المعنى العرفي حتى تجري فيه أصالة عدم النقل عن معناه اللغوي

ص: 173

:ثانيهما كفاية صدق المعاوضة على البيع ولو لم يكن فيها نقل و تمليك من الطرفين، و لا إنتفاع أحد المتبايعين بمال صاحبه، فالعبرة فيه بتحقق عنوان المعاوضة و المبادلة بحيث لا يخلو البيع عن الثمن والعوض، ويكون بذل المال مورد غرض العقلاء. والقيود المأخوذة في تعريف البيع بالمبادلة بين المالين - المستفادة من كلام المصباح - غير دخيلة في حقيقته العرفية، سوى كون المبيع عيناً، و أما عينية الثمن، أو تحقق المبادلة في خصوص إضافة الملكية، أو إختصاص المال بالأعيان فلا دليل على شيءٍ منها لو لم ينهض على خلافها، ففي بيع سهم سبيل الله من الزكاة لا ينتفع البائع بالعوض لفرض صرفه في جهات القُرب و سُبُل الخير كالمساجد والمشاهد و القناطر و إنكار صدق البيع على هذه المعاوضة لا يخلو من مكابرة، وكذا بيع الوقف بمثله عند اقتضاء المصلحة و بيع الحاكم مقداراً من زكاة الحنطة

بشيء من زكاة النقدين.

و بناءً على تمامية هذين الأمرين و تسلُّمهما يظهر أن الأصل الأولي في الحقوق القابلة للإسقاط و النقل جواز المعاوضة عليها، فهي وإن لم يصح جعلها مبيعاً لعدم كونها من الأعيان، لكنها كالمنافع و عمل الحَرُ يصح جعلها ثمناً في البيع، كصحة أخذ العوض بإزاء نقلها وإسقاطها في باب الصلح، و ذلك لصدق المال عرفاً عليها، وكفاية مالية الإسقاط و النقل في صحة المعاوضة، وإمضائها بأدلة المعاملات.

إلا أن يستشكل في مالية الحقوق بما في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس سرهما حيث قال: «و الأقوى عدم قابلية الحق لوقوعه ثمناً في البيع، كعدم قابلية وقوعه مثمناً، سواء جعل نفس الإسقاط و السقوط ثمناً أو جعل نفس الحق. أما الأول فلأن الثمن لابد من دخوله في ملك البائع و الإسقاط بما أنه فعل من الأفعال و السقوط بما أنه اسم المصدر ليس كالخياطة و سائر أفعال الحر والعبد ممّا يملكه البائع، ويكون طرفاً لإضافة ملكية البائع، و يقوم مقام المبيع في الملكية، فإنّ هذا المعنى معنى حر في غير قابل لأن يتموّل إلا باعتبار نفس الحق. و سيجيء مافيه. و بالجملة: نفس الإسقاط بما أنه فعل، وأثره بما أنه إسم المصدر لا يقبل الدخول في ملك الغير بحيث يتحقق بالنسبة إليه الخروج عن ملك المشتري الى ملك البائع، ويكون البائع

ص: 174

مالكاً لهذا العمل.

و لا يقاس بشرط الإسقاط في ضمن عقد لازم، لأن في باب الشرط يملك المشروط له على المشروط عليه إسقاط الحق أو سقوطه. و لا ملازمة بين قابليته للدخول تحت الشرط و بين قابلية وقوعه ثمناً، لأن إسقاط الحق يصير بالشرط مملوكاً للغير على صاحب الحق، ولكنه لا يمكن أن يكون بنفسه مملوكاً، و يحل محل المبيع في الملكية.

و أما الثاني - و هو جعل نفس الحق ثمناً بعد فرض كونه قابلاً للنقل إلى الغير كحق التحجير - فلما عرفت من أنه في باب البيع يعتبر أن يكون كل من الثمن والمثمن داخلاً في ملك مالك الآخر، ولا شبهة في أن الحق لا يكون قابلاً لذلك، فإنه مباين مع الملك سنخاً و إن كان من أنحاء السلطنة بالمعنى الأعم. و من المراتب الضعيفة للملك. و لكن كونه كذلك غير كافٍ لوقوعه عوضاً، لأنه لابد من حلول الثمن محل المثمن في الملكية، فلابد أن يكون كل منهما من سنخ الآخرة أ.

لكنه لا يخلو من غموض، لأن دخول كل واحد من العوضين في ملك الآخر غير معتبر في مفهوم البيع عرفاً، بل المعتبر فيه هو صدق المبادلة و المعاوضة، و من المسلّم صدقها على ما إذا جعل الثمن حقاً على وجه النقل أو الإسقاط و عدم صدق «البيع بلا ثمن على هذا البيع ليكون أكل المبيع أكلاً للمال بالباطل، هذا.

و غير خفي على المتأمل مواقع النظر في كلامه قدس سره :

منها قوله: «و الإسقاط بما أنه فعل من الأفعال و السقوط بما أنه إسم المصدر ليس كالخياطة... إذ فيه أنه لا مانع من صيرورة الإسقاط بما أنه فعل مبذول بإزائه المال عند العقلاء كسائر أعمال الحر مملوكاً، فالبائع يصير مالكاً للإسقاط بسبب البيع كما يصير المشروط له مالكاً له بالشرط، لوجود مناط مملوكية الفعل و هو كونه مرغوباً فيه عند العرف بحيث يبذلون المال ،بازائه فللبائع إجبار المشتري على الإسقاط كما له الإجبار على الخياطة والكتابة

______________________________

أ منية الطالب ، ج 1 ، ص 43 و 44

ص: 175

ونحوهما.

نعم جعل العوض في البيع السقوط - لا الإسقاط - لا يخلو من إشكال، لعدم معلومية تعلق الملكية بالنتائج كما قرر ذلك في شرط النتيجة و حديث عدم تمول المعنى الحرفي أجنبي عن الإسقاط بما هو فعل و معنى إسمي، فتدبر.

و منها: قوله: «و لا يقاس بشرط الإسقاط في ضمن عقد لازم... إذ فيه: أن الإسقاط إن كان في نفسه قابلاً لأن يكون طرفاً لإضافة الملكية فصيرورته مملوكاً بالبيع أولى من مملوكيته بالشرط في ضمن عقد لازم، لأنّ تأثير نفس العقد في ملكية أحد ركنيه - و هو الثمن - أولى من تأثير الشرط الواقع في ضمنه - الذي هو كالجزء من العقد - في الملكية.

و إن لم يكن في نفسه قابلاً للملكية - كما هو مقتضى قوله: فان هذا المعنى معنى حرفي غير قابل لأن يتمول - لم يعقل أن يؤثر الشرط في ملكيته، و لا يؤثر نفس العقد اللازم في ملكيته كما هو واضح، بل لابد من عدم تأثير شيء من العقد و الشرط في ملكيته.

و على هذا فبين قوله: «و لا يقاس بشرط الإسقاط في ضمن عقد لازم و قوله: «فان هذا المعنى معنى حرفي تهافت واضح، لأن مقتضى هذه العبارة إمتناع صيرورة الإسقاط طرفاً لإضافة الملكية، و مقتضى قوله : و لا يقاس» إمكانها، فتدبر.

و منها قوله: «و لا ملازمة بين قابلية الدخول تحت الشرط الى قوله: «و لكن لا يمكن أن يكون بنفسه مملوكاً و يحل محل المبيع في الملكية» إذ فيه: أن الملازمة ضرورية، لأن نفس العقد اللازم أقوى بمراتب في التأثير في الملكية من الشرط الواقع في ضمنه كما عرفت آنفاً، فقوله: «و لكن لا يمكن أن يكون بنفسه مملوكاً، في غاية الغرابة، إذ لا يدعيه أحد، وإنما المدعى الملكية بسبب البيع.

ومنها: قوله: «و لا شبهة أن الحق لا يكون قابلاً لذلك، إذ فيه: أن الشبهة إن كانت من جهة صدق المال على الحق فقد عرفت دفعها. وإن كانت من جهة إعتبار التمليك، بتقريب: أن الحق لا يملك، لمباينته للملك، فقد عرفت عدم إعتبار المبادلة في إضافة الملكية خاصة في مفهوم

ص: 176

البيع عرفاً.

ومنها: قوله: «فانه مباين مع الملك سنخاً، إذ فيه: منافاته لقوله: «و من المراتب الضعيفة للملك، وقد تقدمت الإشارة الى تهافت كلماته قدس سره في تفسير الحق و بيان ماهيته في المقام الأول، عند التعرض للأقوال، فراجع. و قد تحصل: أنّ الأقوى وفاقاً لجماعة منهم صاحب الجواهر وسيدنا الأستاد أ و غيرهما من أعلام المحسين قدس سره صحة جعل الحقوق القابلة للإسقاط و النقل و الإنتقال عوض المبيع لأعمية المال عرفاً من العين و المنفعة و العمل و الحق، كما لا يعتبر في صدق المعاوضة المبادلة في خصوص الملكية، والله العالم. هذا تمام الكلام في هذا المقام.

و لنختم الكلام في بحث الحقوق بالإشارة الى مامر من الأبحاث في ضمن أمور: الأول: أن الحق إعتبار وضعي مجعول تأسيساً أو إمضاء كالحكم التكليفي، ولكنه يفترق عنه بأن زمام الحق بيد من ثبت له بخلاف الحكم الذي لا خيرة للمحكوم عليه في رفعه وإبقائه. و الأحسن في تعريفه إما جعله نحو إختصاص أو أولوية، فتكون السلطنة من أحكامه و آثاره، و يختص بطائفة مما عُدّ من الحقوق. و إمّا جعله مشتركاً لفظياً بين أنحاء الإعتبارات. و حينئذ لا مانع من إطلاق الحق على ما لا سلطنة لذي الحق على إسقاطه.

الثاني: أن الحق ينقسم الى ما يقبل كُلاً من الإسقاط والنقل الإختياري و الإنتقال القهري، مع العوض و بدونه كحق التحجير، وإلى ما لا يقبل شيئاً غير الإسقاط كحق الغيبة، و إلى ما يقبل الإسقاط و النقل بلا عوض - عند بعض - كحق القسم، و إلى غير ذلك كما تقدم. الثالث: أن المرجع في الشك في كل من الأقسام إطلاق دليل نفس الحق إن كان، و إلافالعموم الفوق، وإلا فاستصحاب بقاء المجعول بناءً على حجيته في الشبهات الحكمية. الرابع: أن المرجع في الشك في قبول الحق للنقل شرعاً - بعد إحراز قبوله له عرفاً - هو

______________________________

أ جواهر الکلام، ج 22 ، ص 209 نهج الفقاهة .ص 10

ص: 177

إطلاق أدلة إمضاء المعاملات لرجوع الشك الى التقييد بخصوصية ما، و ليس من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية حتى يرجع فيها إلى أصالة الفساد المحكمة في العقود والايقاعات. الخامس: أن متعلق الحق كالحكم فعل المكلّف، فيقال: «اللمغبون حل العقد، كما يقال يباح شرب الماء و لو تعلق بعين كما في حق التحجير و الإختصاص و الرهانة كان متعلقه لباً فعلاً، فالمحجر أولى من غيره في عمارة الأرض، و صاحب الخمر أولى من غيره بتخليله، و المرتهن له إستيفاء دينه من الرهن و هكذا سائر الحقوق و هذا مما يفترق به الحق عن الملك، حيث إنه أعم مورداً ، فقد يتعلق بالعين الشخصية و الذمية، و بالفعل كالخياطة، و بمنافع الأعيان كالسكني، أي كون الدار مسكونة، و هكذا.

ص: 178

[تعريف البيع في كلمات الفقهاء]

اشارة

ثم الظاهر (1) أن لفظ البيع ليس له

______________________________

تعريف البيع في كلمات الفقهاء

(1) قد تقدم تعريف البيع عن المصباح المنير ب «مبادلة مال بمال» و كان ظاهر المصنف ارتضاءه و عدم التصرف فيه سوى اعتبار كون المعوّض عينا، و تردّد قدّس سرّه في صدق «المال»- في طرف العوض- على عمل الحرّ و الحقوق. و على هذا فالبيع العرفي هو «مبادلة عين بمال» و هذا المعنى هو موضوع أدلة الإمضاء، كقوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ «1»، فالبيع الممضى شرعا هو مبادلة عين بمال، لا غير.

لكن قد ينافي هذا تعريف البيع في كلمات الفقهاء بما يغاير تعريف المصباح، فعرّفوه تارة بالنقل، و أخرى بالانتقال، و ثالثة بالإيجاب و القبول، و رابعة بالتمليك الإنشائي، مع اختلافهم في القيود المأخوذة فيه. و لمّا كان كلّ منهم بصدد تعريف حقيقة البيع كان اختلافهم فيه كاشفا عن اختلاف حقيقته، و من المعلوم أن ذلك يقتضي إجمال مفهوم «البيع» و هو مانع عن التمسك بالآية الشريفة و نحوها من الأدلة الإمضائية، إذ لم يعلم أن موضوع الحلية هل هو النقل الذي يكون فعل البائع، أم العقد الذي يكون فعل البائع و المشتري معا، أم الانتقال الذي هو أثر البيع، أم غير ذلك؟ و مع إجمال الموضوع لا وجه للتمسّك بالدليل كما هو واضح. و كيف يوجّه استقرار سيرتهم قديما و حديثا على التشبث بالآية الشريفة لإثبات مشروعية البيع و صحته و نفوذه؟

و الظاهر أن مقصود المصنف قدّس سرّه من قوله: «ثم الظاهر» دفع هذه الشبهة و تصحيح الرجوع الى الآية و نحوها من أدلّة الإمضاء، و محصله: أنّ اختلاف الفقهاء في تعريف البيع ليس لأجل تعدد معانيه العرفية حتى يشكل الأمر من جهة إجمال الموضوع و ينسدّ باب التمسك بالأدلة، بل لأجل أنّ كل واحد من التعاريف ناظر إلى جهة من جهات المعنى العرفي المركوز في الأذهان، الذي هو موضوع أدلّة الإمضاء.

و عليه فجميع التعاريف تشير الى معنى واحد، و هو المعنى العرفي الذي فسّره المصباح

______________________________

(1): البقرة، الآية: 274

ص: 179

حقيقة شرعية (1) و لا متشرّعيّة (2) [1]، بل هو باق على معناه العرفي

______________________________

بالمبادلة بين مالين، و لم ينقل لفظ «البيع» منه الى معنى آخر شرعا، لا بالوضع التعييني و لا التعيّني.

و الشاهد على أنّ الفقهاء بصدد الإشارة الى ما هو المتفاهم عرفا من لفظ «البيع» هو إنكارهم الحقيقة الشرعية، و اعترافهم ببقاء اللفظ على معناه العرفي، الذي كشف كلّ تعريف له عن حيثية من حيثياته، فمن عرّفه بالعقد لاحظ كونه سببا للمبادلة الاعتبارية بين المالين، و من عرّفه بالنقل لاحظ تعنون الإنشاء بالنقل عند استجماعه لشرائط التأثير. و من عرّفه بالانتقال لاحظ الأثر الحاصل في المالين، و تبدّل إضافة كل منهما الى صاحبه بإضافة أخرى، و هكذا.

و عليه لا يلزم إجمال المفهوم حتى ينسدّ باب الرجوع الى الأدلة الإمضائية.

(1) يعني: أنّ الشارع- الذي جعل البيع موضوعا لأحكامه- لم يتصرّف في مفهوم لفظه عرفا، كما لم يتصرف في سائر الألفاظ المأخوذة في الخطابات كالماء و الصعيد و التراب و نحوها.

(2) يعني: لم ينقل «البيع» عن مفهومه العرفي- في لسان الأئمّة المعصومين «عليهم الصلاة و السلام» و الفقهاء العظام- إلى معنى آخر.

______________________________

[1] لا تبعد دعوى الحقيقة المتشرعية، إذ المنسوب الى المشهور- كما قيل، و الشائع المعروف بين الفقهاء كما في المقابس «1»، بل عن العلامة دعوى الإجماع عليه، و في المختلف «2»: أنه المتبادر- هو كون البيع العقد المركب من الإيجاب و القبول، إذ التبادر علامة الحقيقة.

الا أن يقال: ان مقصود الفقهاء لمّا كان تعريف البيع المؤثر شرعا، فلذا عرّفوه بالعقد، مع إرادتهم البيع العرفي.

______________________________

(1): مقابس الأنوار، كتاب البيع، ص 2

(2) مختلف الشيعة، ج 5، ص 51

ص: 180

كما سنوضّحه (1) إن شاء اللّه، إلّا (2) أن الفقهاء قد اختلفوا في تعريفه.

[تعريفه بالانتقال]

ففي المبسوط و التذكرة و غيرهما (3): «انتقال عين (4) من شخص إلى غيره بعوض مقدّر على وجه التراضي» «1». و حيث إنّ في هذا التعريف مسامحة واضحة (5)

______________________________

(1) أي: في خلال كلامه المتعلق بتعريفات القوم، خصوصا ما يتعلق بكلام الشهيدين، فانتظر.

(2) هذا كالاستدراك على قوله: «باق على معناه العرفي» حيث إنّ مقتضى نفي الحقيقة الشرعية و بقاء «البيع» على مفهومه العرفي هو عدم اختلاف الفقهاء في تعريفه، و اقتصارهم على ما يتفاهم منه عند العرف العام، لكنّهم اختلفوا في تحديده على عناوين شتّى، و ربّما أوجب ذلك إجمال المفهوم. إلّا أنّ مقصودهم بيان المعنى العرفي، و الإشارة الإجمالية إليه، و ليس اختلافهم في حقيقة البيع و ماهيّته.

(3) كالسرائر و التحرير و القواعد و النهاية «2» و قد نقلنا بعض كلماتهم للاستشهاد بها على اعتبار كون المبيع عينا، فراجع ص 34.

(4) الموجود في الكتب المذكورة «انتقال عين مملوكة» و الأمر سهل.

(5) الوجه في وضوح المسامحة- كما عن مصابيح العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه- وجوه ثلاثة:

«أحدها: أن البيع فعل، فلا يكون انتقالا، لأنّه انفعال. ثانيها: أن الانتقال أثر البيع و غايته المسببة عنه، لا نفسه. ثالثها: أن تعريفه بالانتقال لا يوافق تصاريف البيع، إذ لا يراد من لفظ

______________________________

و ببيان آخر: ان العقد محصّل للبيع العرفي و سبب له.

أو يقال: ان هذا تعريف لعقد البيع لا لنفسه، فلا يكون التعريف بالإيجاب و القبول معنى آخر للبيع، فالحقيقة المتشرّعيّة غير ثابتة فيه.

______________________________

(1): المبسوط في فقه الإمامية، ج 2، ص 76، تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462

(2) السرائر الحاوي، ج 2، ص 240، قواعد الأحكام، ص 47، نهاية الأحكام، ج 2، ص 447 تحرير الأحكام، ج 1، ص 164.

ص: 181

..........

______________________________

- بعت- انتقلت، و كذا سائر تصاريفه» انتهى ملخّصا.

و الوجه الأوّل ناظر إلى امتناع تفسير المباين بالمباين، لتقابل المقولات و عدم صدق بعضها على الآخر، و عليه لا وجه لتفسير «البيع»- الذي هو فعل- بالانتقال الذي هو افتعال، و هو هنا الانفعال [1].

و الوجه الثاني ناظر إلى امتناع تفسير الشي ء بعلّته الغائيّة، كتعريف السرير بالجلوس عليه. وجه الامتناع: أن غاية الشي ء مباينة للشي ء، فلا وجه لتعريف البيع بالانتقال، كما أنّ الأثر لازم للمؤثّر، و اللازم غير الملزوم، فلا يعرّف أحدهما بالآخر.

______________________________

[1] يمكن منعه بما أفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه من أجنبية المقام عن تعريف مقولة الفعل بمقولة الانفعال، و ذلك لأن الفعل المقولي هو ما له حالة التأثير التجددي في الشي ء كتأثير النار في سخونة الماء، و الانفعال المقولي هو ما له حالة التأثر التجددي كالماء المتأثر تدريجا بحرارة النار. و ليس كل فعل خارجي- فضلا عن النقل الاعتباري- مصداقا لمقولة «أن يفعل» حتى يندرج تفسير البيع- الذي هو نقل- بالانتقال في التعريف بالمباين «1».

كما يمكن منع كون الانتقال أثرا للبيع بما سيأتي تفصيله فيما يتعلق بكلام المحقق صاحب المقابس قدّس سرّه من أن النسبة بين النقل و الانتقال هل هي كالإيجاد و الوجود أم كالإيجاب و الوجوب.

فإن أريد من الانتقال حكم الشارع به إمضاء لما أنشأه المتبايعان كان أثرا للعقد.

و إن أريد به الانتقال في نظر البائع- و هو موضوع الإمضاء- فهو لا ينفك عن النقل في نظره حتى يكون أثرا له.

و الحاصل: أن التعريف بالنقل أو الانتقال ناظر إلى نفس المعنى الحدثي، لا المادة المنتسبة إلى البائع أو الى المبيع حتى يتعيّن تعريفه بالنقل بلحاظ حيثية صدوره، لا الانتقال

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 14.

ص: 182

[تعريفه بالعقد الدّال على الانتقال]

عدل آخرون (1) إلى تعريفه «بالإيجاب و القبول الدّالّين على الانتقال» (2).

______________________________

و الوجه الثالث ناظر إلى بطلان التعريف بالانتقال، لأنّ قاعدة «لزوم توافق المشتق و المشتق منه في المعنى الكلّي الساري في المشتقات» تقتضي وحدة مدلولي «بعت و انتقلت» لو كان البيع هو الانتقال.

هذا مضافا الى مسامحتين أخريين:

إحداهما: توصيف «العين» بالمملوكة، لعدم اشتراط صحة البيع بكون المبيع مملوكا، و إلّا لم يصح بيع الوقف و الزكاة، مع أنّه لا ريب في صدق البيع العرفي عليه.

ثانيتهما: انّ الانتقال صفة العوضين، و البيع كالتمليك و التبديل و نحوهما ممّا يقوم بالبائع، فجعل الانتقال قائما بالبائع مسامحة، لأنّه من قبيل الوصف باعتبار المتعلق.

(1) كابن حمزة و العلامة في خصوص كتابه «المختلف» حيث قال في تعريفه بعد نقل تعريف المبسوط: «و قال ابن حمزة: البيع عقد على انتقال عين مملوكة- أو ما في حكمها- من شخص إلى غيره بقدر معيّن على وجه التراضي «1». و الأقرب قول ابن حمزة، لنا: انه المتبادر إلى الفهم عند الإطلاق، فيكون حقيقة فيه» «2».

(2) أي: انتقال عين مملوكة أو ما في حكمها من شخص الى غيره بقدر معيّن على وجه التراضي، و لم يذكر المصنف قدّس سرّه تمام التعريف اتّكالا على وضوحه، و لأنّ مقصوده الإشارة إلى تعريف البيع بالعقد في قبال تعريفه بالانتقال.

______________________________

الذي يوصف به المبيع.

إلّا أن يقال: ان تكثير القيود في تعريفاتهم- ككون العين مملوكة، و العوض معلوما، و اشتراط الرضا- شاهد على إرادة الانتقال الشرعي الذي هو أثر الإنشاء، لا الانتقال في نظر المنشئ حتى يتّحد مع النقل، و عليه فما أفاده السيد الطباطبائي في وجه المسامحة في محله.

______________________________

(1): لاحظ كتاب الوسيلة في الجوامع الفقهية، ص 740

(2) مختلف الشيعة، ج 5، ص 51

ص: 183

..........

______________________________

ثمّ إنّ تعريف البيع بالعقد شائع بين الفقهاء كما نسبه صاحب المقابس قدّس سرّه إليهم، قال في مقام بيان إطلاقات البيع: «رابعها نفس العقد المركّب من الإيجاب و القبول، و هذا هو الشائع المعروف بين الفقهاء في سائر ألفاظ العقود ممّا كان منها مصدرا بصيغة الفعال و المفاعلة، أو بمعناه كالقراض و المضاربة و المزارعة» «1». و عليه فأشهر معاني البيع- بل مشهورها- هو هذا المعنى.

و أمّا وجه العدول عن تعريفه «بالانتقال» الى تعريفه «بالإيجاب و القبول الدالّين عليه» فهو ما تقدم من كون الانتقال اسم مصدر، و صفة للعوضين، مع أن البيع المقصود في التعريف معنى مصدري لكونه فعل البائع، و لا ينبغي تعريف المعنى المصدري بالمعنى الاسمي المغاير له. و هذه المسامحة لا ترد على تعريفه بالإيجاب و القبول، لأنّ ما بيد المتعاقدين هو العقد المؤثّر في الانتقال، لا نفس الانتقال المترتب عليهما [1].

______________________________

[1] ربما يستفاد من تعبير المصنف قدّس سرّه: «و حيث ان في هذا التعريف مسامحة واضحة عدل آخرون .. إلخ» أنّ كلّ من لم يرتض من الفقهاء تعريف البيع بالانتقال عدل إلى تعريفه بالعقد الدال على الانتقال، مع أنّه يظهر للمتتبع في كلماتهم خلافه، لوجود تعاريف أخرى فيها، فعرّفه جمع بالعقد الدال على النقل، كالمحقق في الشرائع «2»، و الشهيد في الدروس و اللمعة «3»، و عرّفه أبو الصلاح الحلبي بأنه «عقد يقتضي استحقاق التصرف في المبيع و الثمن و تسليمهما» «4». و عليه فلعلّ الأنسب تبديل «آخرون» ب «الجمع» بأن يقال: «عدل جمع الى تعريفه بالإيجاب و القبول ..» و الأمر سهل.

______________________________

(1): مقابس الأنوار، كتاب البيع، ص 2

(2) شرائع الإسلام، ج 2، ص 13

(3) الدروس الشرعية، ج 3، ص 191، الروضة البهية، ج 3، ص 221

(4) الكافي في الفقه، ص 352

ص: 184

و حيث (1) إنّ البيع

______________________________

(1) غرضه قدّس سرّه تزييف تعريف البيع بالعقد- الدال على الانتقال- بأنّ ظاهره كون البيع من مقولة اللفظ، مع أنّه من مقولة المعنى، لأنّه مقتضى أمور مسلّمة:

الأوّل: أنّ الإنشاء- على المشهور- هو التسبيب باللفظ أو بالفعل إلى حصول أمر اعتباري موجود في صقع النفس، كما إذا اعتبر الشارع لا بديّة الصلاة على المكلّف و أنشأها بقوله: «أقم الصلاة» فيوجد به الصلاة في عهدته.

و المعاملات من العقود و الإيقاعات كلّها أمور اعتبارية، فهي أمور قصدية يتوقف وجودها في وعاء الاعتبار على إيجادها بآلة كالصيغ المخصوصة بها.

الثاني: أنّ اللفظ موجود خارجي متصرم الوجود كالزمان، و هو من مقولة الكيف المسموع، و وجود كلّ لفظ منوط بسبب تكويني كتحريك اللسان نحو مقاطع الحروف، و لا يصير لفظ من مبادئ وجود لفظ آخر كما لا يخفى.

الثالث: أنّ حقيقة البيع- بناء على توقف إيجادها على اللفظ- لا تخلو من أحد وجوه أربعة، أشار المصنف إلى ثلاثة منها:

أحدها: أن يكون البيع أمرا معنويا اعتباريا يقصده المتبايعان، و لا دخل للفظ في ماهيته أصلا، سوى أنه يوجد به في مقام الإنشاء، و قد أشار الماتن إلى هذا الاحتمال بقوله:

«من مقولة المعنى».

ثانيها: أن يكون من مقولة اللفظ، يعني: أن الإيجاب و القبول اللفظيين هما تمام ماهية البيع، و وجوده في موطن الاعتبار أجنبي عن حقيقته التي هي نفس العقد اللفظي. و قد أشار إلى هذا بقوله: «دون اللفظ مجرّدا».

ثالثها: أن يكون هو العقد اللفظي، لكن بشرط قصد ذلك الأمر الاعتباري. و يفترق عن سابقه بأنّ قصد المبادلة الاعتبارية غير مؤثّرة في تحقق البيع على الاحتمال الثاني، و مؤثّر على الاحتمال الثالث، لأنّ مقتضى الاشتراط انتفاء المشروط بعدم شرطه.

رابعها: عكس الثالث، بأن يكون البيع هو الأمر المعنوي الاعتباري، لكن لا مطلقا

ص: 185

من مقولة المعنى (1)- دون اللفظ مجرّدا، أو بشرط قصد المعنى، و إلّا (2) لم يعقل إنشاؤه

______________________________

- كما كان في الاحتمال الأوّل- بل بشرط أن يتأدّى باللفظ، فإن أنشئ التمليك و التبديل باللفظ كان بيعا، و إلّا فلا بيع. و هذا الاحتمال لم يتعرض له المصنف.

و مما ذكرناه يظهر وجه بطلان تعريف البيع بالإيجاب و القبول الدالين على الانتقال، ضرورة كونه كسائر المعاملات- من الإجارة و الهبة و الوصية و الوقف- من الأمور الاعتبارية المنشئة تارة باللفظ و اخرى بالتعاطي، و ثالثة بالإشارة، و رابعة بالمنابذة، و خامسة بالكتابة، و نحوها. و لا دخل للفظ في حقيقتها شطرا و شرطا، إذ لو كان اللفظ مؤثّرا فيها لزم استحالة إنشائها، لما عرفت من استحالة إنشاء لفظ بلفظ آخر، و إنّما القابل للإنشاء هو الأمر المعنوي الذي موطنه وعاء الاعتبار، و لا يصلح للوجود الخارجي أصلا.

و على هذا فإن كان البيع نفس الانتقال- كما عرّفه به الشيخ و العلّامة- أمكن إنشاؤه باللفظ كإنشائه بالفعل بناء على مملكية المعاطاة كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

و إن كان البيع نفس الإيجاب و القبول استحال إنشاؤه، لأنّ اللفظ موجود مقولي خارجي، و يمتنع إنشاؤه بلفظ آخر أي بإيجاب و قبول. و لا مناص من هذا المحذور إلّا إنكار تعريف البيع بالعقد. هذا.

(1) هذا هو الوجه الأوّل- و المتعيّن- ممّا يحتمل في حقيقة البيع، و المراد بمقولة المعنى هو الأمر الاعتباري الموجود في موطن الاعتبار، الذي هو وعاء وجود الأحكام العقلائية و الشرعية، من التكليفية و الوضعية. و لو فرض دخل اللفظ فيها فإنّما هو في مقام الإنشاء و الإيجاد، و إلّا فنفس البيع بما أنّه «مبادلة اعتبارية بين المالين» أجنبي عن اللفظ و الفعل و غيرهما من آلات الإنشاء و أسبابه.

(2) أي: و إن لم يكن البيع من مقولة المعنى- بل كان من مقولة اللّفظ مجرّدا عن المعنى أو مشروطا بقصد معناه- لزم استحالة إنشاء البيع، لما عرفت من أنّ الإنشاء لا يتعلّق إلّا بالأمور الاعتبارية التي لا وجود لها إلّا في صقع الاعتبار كالأحكام الشرعية. و لا يتعلق الإنشاء باللفظ، لأنّه موجود حقيقي مغاير للموجود الاعتباري سنخا، و يتوقف وجود اللفظ خارجا

ص: 186

باللفظ [1]-

______________________________

على مباد خاصة، و لا يصلح لفظ لأن يصير من مبادي وجود لفظ آخر.

و لا فرق في استحالة إنشاء البيع- لو كان هو العقد- بين كون اللفظ تمام حقيقته أو بعضها. مضافا الى استلزامه نفي بيعية المعاطاة، لخلوّها عن الإيجاب و القبول اللفظيين، مع أنّها بيع عندهم و لو كانت فاسدة عند بعضهم.

______________________________

[1] مضافا إلى ما فيه من: أن هذا التعريف ليس حدّا للبيع الذي هو فعل البائع فقط كما هو واضح.

و إلى: عدم شموله للبيع المعاطاتي، لظهور الدلالة في الإيجاب و القبول اللفظيين، فتأمّل.

و إلى: عدم اعتبار الانتقال في مفهوم البيع، لصدقه على بيع الوقف و سهم سبيل اللّه من الزكاة إذا كان العوضان منهما، فإنّه لا انتقال فيهما أصلا، مع صدق مفهوم البيع عرفا على بيعهما، لوجود مفهوم المعاوضة فيه، هذا.

و إلى: صدقه على جميع العقود المعاوضية، بل و المجانية كالهبة، لأنّ جميعها تشتمل على الإيجاب و القبول الدالين على الانتقال.

و على كلّ حال: المراد بالمعنى هنا ما ذكرناه من كون البيع أمرا اعتباريا، لأنّه تبديل اعتباري بين مالين. لا ما في حاشية السيد قدّس سرّه من أن بعض معاصريه قال: «المراد بالمعنى هو النقل القلبي، و هو راجع الى الكلام النفسي المزيّف في محله، فلا بدّ أن يكون البيع من مقولة اللفظ. كما انّ هذا القائل التزم لدفع محذور الالتزام بالكلام النفسي بأن الطلب أيضا عبارة عن نفس القول، إذ لو كان غير اللفظ يلزم الالتزام بالكلام النفسي» «1». هذا.

فإنّه لا وجه للالتزام المزبور، لوضوح أنّ النقل القلبي- و هو الالتزام النفساني به من دون إيجاده بما يكون آلة للإنشاء- ليس بيعا عرفيا قطعا، لعدم كون مجرّد النقل القلبي كافيا في

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 58، 59

ص: 187

[تعريفه بالنقل بالصيغة المخصوصة]

عدل (1) [1] جامع المقاصد إلى تعريفه «بنقل العين بالصيغة المخصوصة».

______________________________

(1) جواب «و حيث إن البيع» و توجيه عدول المحقق الكركي قدّس سرّه عن تعريف البيع «بالإيجاب و القبول» الى تعريف آخر، قال في جامع المقاصد- بعد أن حكى عن المختلف تعريفه تبعا لابن حمزة بالعقد، و توجيه فخر المحققين و الشهيد له- ما لفظه: «و فيه نظر، فإنّ المفهوم من- بعت- ليس هو عقد البيع قطعا، و إنّما المفهوم منه هو المفهوم من- ملّكت- فانّ كليهما إيجاب للبيع. و لو كان المفهوم من- بعت- هو عقد البيع لما صحّ الإيجاب بملّكت. و لأنّ البيع هو المقصود بالعقد لا نفسه .. الى أن قال: و الأقرب: أن البيع هو نقل الملك من مالك الى آخر بصيغة مخصوصة لا انتقاله، فإنّ ذلك أثره إن كان صحيحا. و أيضا فإنّ البيع فعل، فكيف يكون انتقالا؟» «1».

و لمّا كان البيع نفس النقل الاعتباري الذي هو من مقولة المعنى كان سليما عن محذور استحالة إنشاء اللفظ باللفظ.

______________________________

البيع الناقل عندهم للأموال.

و بالجملة: فجعل البيع من المعنى و إرادة الكلام النفسي منه في غير محله. و مراد المصنف من المعنى هو ما ذكرناه من الأمر الاعتباري في قبال الوجود الخارجي الحقيقي كالأفعال الخارجية من التكلّم و الضرب و الأكل و الشرب و نحوها.

[1] ظاهر هذا الكلام- لو لم يكن صريحه- أنّ وجه عدول المحقق الثاني قدّس سرّه عن تعريف البيع «بالإيجاب و القبول الدالين على الانتقال» هو كون البيع من مقولة المعنى لا من مقولة اللفظ. مع أنّ وجه عدوله عنه ليس ما أفاده المصنف قدّس سرّه من كون البيع من مقولة المعنى، بل لما ذكره من وجهين:

أحدهما: أنّ المفهوم من لفظ «بعت» ليس هو العقد قطعا، لعدم سريان هذا المعنى في جميع تصاريفه، فإنّ لفظ البائع ليس معناه العاقد للإيجاب و القبول، و كذا سائر مشتقاته، بل معناه إيجاب البيع فقط كإيجاب التمليك.

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 4، ص 55

ص: 188

و يرد عليه (1)- مع أنّ

______________________________

(1) أي: على تعريف جامع المقاصد للبيع، و قد أورد المصنف عليه بوجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّه يعتبر في باب الحدود و التعريفات- ترادف الحد للمحدود كترادف «الحيوان الناطق» للإنسان، و لذا يصح إطلاق أحدهما مكان الآخر. و لم تراع هذه الضابطة في تعريف المحقق الثاني للبيع بالنقل، و ذلك لعدم ترادفهما، إذ لا يصح استعمال النقل موضع البيع، فلا يقال: «نقلت الدار» مثلا بدل «بعت الدار» و من المعلوم أن عدم صحة هذا الاستعمال يكشف عن عدم الترادف.

و يدل عليه تصريح العلامة في التذكرة بعدم وقوع البيع بلفظ «نقلت» لكونه من الألفاظ الكنائيّة، مع أنّ المعتبر في صيغ العقود الصراحة أو الظهور الوضعي، و لا تقع بالألفاظ الكنائية.

و عليه فلا وجه لتفسير البيع بالنقل أصلا، بل لا بد من تعريفه بمثل التمليك ممّا يرادف البيع كما سيأتي تعريفه في المتن ب «إنشاء تمليك عين بعوض».

الثاني: أنّ تقييد البيع بكونه «نقلا بالصيغة» يوجب خروج البيع المعاطاتي عن التعريف، لوقوع النقل بالفعل لا بالقول، مع أنّ «المعاطاة بيع» جزما، خصوصا عند المحقق الثاني الذي حمل مذهب المشهور- من إفادتها الإباحة- على الملك الجائز، على ما سيأتي تفصيله في المعاطاة إن شاء اللّه تعالى، و معه يختلّ أخذ «الصيغة» في التعريف، بل ينبغي جعل البيع مطلق نقل العين سواء أ كان باللفظ أم بالتعاطي.

______________________________

ثانيهما: أن البيع ليس نفس العقد، بل ما يترتب عليه، و بعبارة أخرى: العقد سبب للبيع لا نفسه، و لا يصحّ تعريف المسبب بالسبب، لعدم الاتحاد بينهما كما لا يخفى.

مضافا إلى: ما عرفت من التأمل في ظهور تعريف المشهور- بالإيجاب و القبول الدالّين على الانتقال- في إرادة الإيجاب و القبول اللفظيين، لوضوح أن الدلالة لا تختص باللفظ، فإنّ الأفعال تدلّ أيضا على الإيجاب و القبول.

ص: 189

النقل (1) ليس مرادفا للبيع [1]،

______________________________

ثم إنّ هذا الإشكال نبّه عليه في الجواهر أيضا بقوله: «مضافا الى منافاته ما عنده من كون المعاطاة بيعا، مدّعيا الاتفاق عليه» «1».

الثالث: أنّ المحذور المتقدم في تعريف البيع «بالإيجاب و القبول الدالّين على الانتقال»- من استحالة الإنشاء حينئذ لعدم قابلية العقد للإنشاء- يرد على تعريف المحقق الثاني قدّس سرّه أيضا، لوضوح أنّ القابل للإنشاء بصيغة مخصوصة مثل «بعت و ملّكت» هو نفس النقل الاعتباري، لا النقل المقيّد بكونه بصيغة مخصوصة، لكون الصيغة لفظا، و هو مما لا يقبل الإنشاء، و إنّما القابل له هو الأمور الاعتبارية التي توجد في صقع الاعتبار بواسطة ألفاظ خاصة، و قد مرّ توضيحه. و لو اقتصر المحقّق الكركي قدّس سرّه على قوله: «نقل الملك من مالك إلى آخر» و لم يعقّبه «بالصيغة المخصوصة» كان سليما عن هذا المحذور.

(1) هذا أوّل وجوه المناقشة في تعريف جامع المقاصد، و حاصله: عدم ترادف البيع و النقل، مع لزوم رعاية الترادف في التعريف، بل النقل من لوازم المبادلة الاعتبارية، كما أنّ كثرة الرماد و هزال الفصيل من لوازم جود زيد مثلا.

______________________________

[1] يمكن دفعه بأن المعتبر في الحدّ هو كون مجموعه- من الجنس و الفصل أو غيرهما من القيود- مرادفا للمحدود كالحيوان الناطق في تعريف الإنسان، دون كل ما يذكر في تعريفه من الألفاظ، فإنّ الحيوان ليس مرادفا للإنسان مع صحة التعريف به. و عليه فالنقل الذي هو بمنزلة الجنس للبيع- على ما قيل- لا مانع من تعريف البيع به مع عدم كونه مرادفا له.

و كيف كان فصحة إيقاع الصيغة بلفظ معرّف للبيع منوطة بالصراحة و عدم الكناية، فإن قلنا بأنّ المدار في الصراحة صراحة نفس اللفظ دون ما ينضمّ إليه، فإيقاع الصيغة بلفظ «نقلت» غير صحيح، و إلّا فلا مانع منه كما لا يخفى.

و يمكن دفع الإشكال الثاني- و هو كون المعاطاة عند المحقق الثاني بيعا مع خلوّها عن الصيغة- بأنّه في مقام تحديد البيع الذي يقتضي اللزوم بطبعه، و ليست المعاطاة كذلك، فتأمّل.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 205

ص: 190

و لذا (1) صرّح في التذكرة بأنّ إيجاب البيع لا يقع بلفظ «نقلت» و جعله (2) من الكنايات. و أنّ (3) المعاطاة عنده بيع مع خلوّها عن الصيغة-: أن (4) النقل بالصيغة أيضا (5) لا يعقل إنشاؤه بالصيغة [1].

______________________________

(1) أي: و لأجل عدم الترادف، و مقصوده تثبيت الإشكال على المحقق الثاني بالاستشهاد بكلام العلّامة. و لكن لم أظفر بما نسبه إليه بعد الفحص، و إنّما قال في التذكرة:

«و يشترط في الصيغة أمور .. الرابع: التصريح، فلا يقع بالكناية مع النيّة، مثل: أدخلته في ملكك، أو: جعلته لك، أو: خذه منّي، أو: سلّطتك عليه بكذا. عملا بأصالة بقاء الملك، و لأنّ المخاطب لا يدري بم خوطب به ..» «1». و لا بد من مزيد التتبّع.

(2) يعني: جعل العلّامة في التذكرة- النقل- كناية عن البيع الذي هو تمليك العين بعوض.

(3) معطوف على «أنّ النقل» و اشارة إلى المناقشة الثانية في تعريف جامع المقاصد، و محصّلها: النقض بالمعاطاة التي هي بيع مجرّد عن الصيغة.

(4) مرفوع محلّا على أنّه فاعل لقوله: «و يرد عليه» و كأنّ هذا الاشكال هو الأصل في الإيراد على تعريف جامع المقاصد، و هو- كما عرفت- محذور مشترك بين تعريف ابن حمزة بالعقد و تعريف المحقق الكركي، و محصّله: أنّ دخل اللفظ في حقيقة البيع يوجب استحالة إنشائه، لفرض كون بعض المنشأ لفظا، و الإنشاء لفظا آخر، و كل لفظ بما أنّه عرض متأصّل- و من مقولة الكيف المسموع- يستحيل أن يتسبّب وجوده من لفظ آخر.

(5) يعني: كما لا يعقل إنشاء «الإيجاب و القبول الدالّين على الانتقال» بصيغة مثل «بعت».

______________________________

[1] و يمكن أن يقال: إنّ هذا الاشكال إنّما يرد على تعريف جامع المقاصد إذا كان قوله:

«بالصيغة المخصوصة» قيدا. و أمّا إذا لوحظ مشيرا إلى نفس النقل فلا يرد ذلك أصلا، إذ لا يعتبر

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462

ص: 191

و لا يندفع هذا (1) بأنّ المراد

______________________________

(1) أي: و لا يندفع الاشكال الثالث- و هو امتناع إنشاء اللفظ بلفظ آخر- و محصّل وجه اندفاع الاشكال: أنّ مقصود المحقق الكركي قدّس سرّه من تعريف البيع بأنه «نقل الملك بالصيغة المخصوصة» بيان كون البيع نقلا اعتباريا لا خارجيا، توضيحه: أنّ نقل الملك قد يكون خارجيا، كما إذا بدّل الكتاب بدينار بجعل كل منهما في مكان الآخر، و قد يكون اعتباريا، و هو المبادلة بينهما في إضافة الملكية، بأن يصير المبيع ملكا للمشتري بدلا عن ديناره، و الثمن ملكا للبائع كذلك. و حيث إن البيع مبادلة اعتبارية بين المالين أراد المحقق الثاني تعريفه بالنقل الاعتباري، و لا دخل للفظ في حقيقته حتى يتّجه عليه المحذور، و إنّما أتى بقوله:

«بالصيغة المخصوصة» لمجرّد الإشارة إلى أنّ البيع نقل اعتباري ينشأ بالصيغة تارة و بالمعاطاة أخرى. و ليس قوله: «بالصيغة» قيدا لحقيقة البيع و دخيلا في ماهيته حتى يستحيل إنشاؤه.

و بعبارة أخرى: البيع نفس النقل الاعتباري، لا المقيّد بكونه مدلول الصيغة، فجعله مدلول الصيغة للإشارة الى ذلك الفرد من النقل الذي هو بيع، و من المعلوم خروج العناوين المشيرة عن المشار إليها، إذ العنوان المشير ليس إلّا حاكيا عن ذات المشار إليه و مرآة لها.

______________________________

مساواة العنوان المشير مع العنوان المشار اليه، هذا.

لكن الإنصاف أنّه خلاف الظاهر جدّا، فلا يرتكب في الحدود.

________________________________________

جزائرى، سيد محمد جعفر مروج، هدى الطالب في شرح المكاسب، 7 جلد، مؤسسة دار الكتاب، قم - ايران، اول، 1416 ه ق

هدى الطالب في شرح المكاسب؛ ج 1، ص: 192

إلّا أن يدّعى: إنّ التزام المحقق الثاني بكون المعاطاة بيعا قرينة على إرادة المشيرية من الصيغة.

لكن يرد عليه حينئذ الإشكال الأوّل، و هو: أنّه إذا كان البيع نفس النقل من دون دخل الصيغة فيه لزم عدم الترادف، مع أنّه لا بد من الترادف.

إلا أن يقال: إنّ النقل بمنزلة الجنس للبيع، و الترادف بين الحد و المحدود معتبر بين الحدّ بتمامه من الجنس و الفصل أو ما هو بمنزلتهما و بين المحدود، فإشكال الترادف غير وارد.

ص: 192

من البيع (1) نفس النقل الذي هو مدلول الصيغة (2)، فجعله (3) مدلول الصيغة إشارة إلى تعيين ذلك الفرد من النقل (4)، لا أنّه (5) مأخوذ في مفهومه حتى يكون مدلول «بعت» نقلت بالصيغة (6). لأنّه (7) إن أريد بالصيغة خصوص «بعت» لزوم الدور،

______________________________

(1) أي: البيع الذي أريد تعريفه بقوله: «نقل الملك بصيغة مخصوصة» هو نفس النقل و التبادل الاعتباريين.

(2) أي: مدلول صيغة «بعت أو ملّكت».

(3) أي: فجعل البيع مدلول صيغة «بعت» إشارة إلى النقل الاعتباري، لا قيدا في التعريف.

(4) أي: النقل الاعتباري في قبال النقل الخارجي، و من المعلوم أنّ النقل في وعاء الاعتبار ينشأ باللفظ و شبهه، و لكن ليس اللفظ جزءا من مفهومه و لا دخيلا في حقيقته، و عليه فتعريف المحقق الكركي قدّس سرّه سليم عن الاشكال الثالث.

(5) أي: لا أنّ كون البيع مدلولا للصيغة مأخوذ في ماهية البيع حتى يستحيل إنشاؤه باللفظ من جهة امتناع إنشاء لفظ بلفظ آخر.

(6) بل مدلول «بعت»: هو «نقلت» فالصيغة غير مأخوذة في حقيقة البيع، بل هي آلة لإنشائه.

(7) تعليل لقوله: «و لا يندفع هذا» و مقصوده تثبيت الإشكال الثالث و عدم إمكان التفصّي عنه بما أفيد من جعل الصيغة المخصوصة عنوانا مشيرا لا قيدا في مفهوم البيع.

توضيح عدم اندفاع الاشكال بذلك هو: أنّه يلزم من إرادة ما ذكر أحد محذورين على سبيل منع الخلوّ، إذ لو كان مراد المحقق الثاني قدّس سرّه من «الصيغة المخصوصة» خصوص صيغة «بعت» لزم الدور، لوقوع المعرّف في المعرّف، مع توقف معرفة المحدود- أعني به البيع- على الحدّ، و المفروض أخذ «بعت» في الحدّ، و كلّما توقف معرفة الحد- كلّا أو بعضا- على المحدود لزم الدور، فكأنه قيل «البيع هو نقل الملك بالبيع».

و هذا الشق من الاشكال قد نبّه عليه صاحب الجواهر قدّس سرّه بقوله- في الإيراد على تعريف

ص: 193

لأنّ المقصود (1) معرفة مادة (2) «بعت» [1]

______________________________

ابن حمزة و العلّامة، و هذا التعريف-: «و الأوّل منهما .. مشتمل على الدور، لذكر المبيع فيه، بل لعلّ الثاني كذلك أيضا، ضرورة إرادة صيغة البيع من الصيغة فيه، و إلّا انتقض بغيره» «1». ثم دفعه بما سيأتي نقله في التعليقة إن شاء اللّه تعالى.

و إن كان مراد المحقق الثاني قدّس سرّه من «الصيغة المخصوصة»- في مقام إنشاء النقل الاعتباري- صيغة «نقلت و ملّكت» فكأنّه قيل: «البيع نقل الملك بصيغة نقلت أو ملّكت» قلنا: إنّ إشكال الدور و إن لم يتجه حينئذ، لكن فيه محذور آخر، و هو لزوم الاقتصار في مقام الإنشاء على لفظ النقل و التمليك و التبديل مثلا، و عدم صحة إنشائه بلفظ «بعت» أصلا. مع كون صيغة «بعت» أصرح صيغ البيع، لأنّ جواز الإنشاء بلفظي النقل و التمليك مورد بحث بينهم كما ستقف عليه في ألفاظ العقود إن شاء اللّه تعالى، و معه كيف يقتصر على هذين اللفظين و يترك الإنشاء بمادة البيع مع صراحتها في إرادة تمليك العين بعوض؟

فالنتيجة: أنّه بعد بطلان كلا شقّي الترديد يبقى الاشكال الثالث- أعني به: استحالة إنشاء اللفظ باللفظ- على حاله، و لا يصلح جعل الصيغة عنوانا مشيرا للتخلّص عنه، هذا.

(1) هذا تقريب الدور، لأنّ المقصود معرفة «البيع» الذي هو مادة صيغة «بعت» فكيف يؤخذ المعرّف في المعرّف؟

(2) التي يكون معناها ساريا في جميع التصاريف و المشتقّات التي منها صيغة «بعت».

______________________________

[1] قيل في دفع الدور كما في حاشية السيد قدّس سرّه: «بأن المراد من- بعت- لفظه، فهو في قوة قولنا: ان البيع هو النقل بلفظ بعت، و لا يلزم العلم بمعنى- بعت- حتى يلزم الدور. و على فرضه يكفيه العلم إجمالا» «2» و قريب منه ما في حاشية العلامة المامقاني قدّس سرّه «3».

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 205

(2) حاشية المكاسب، ص 59

(3) غاية الآمال، ص 174

ص: 194

..........

______________________________

و لعلّه مقتبس مما أفاده صاحب الجواهر قدّس سرّه بقوله: «اللهم إلّا أن يدفع الدور بأن الموقوف معرفة البيع بالرسم أو الوجه الأتمّ، و الموقوف عليه معرفته بالوجه الظاهر المعلوم لكل أحد» «1».

و حاصل وجه دفع الدور: أن المحدود هو معنى البيع، و المأخوذ في الحد- أعني به:

بعت- هو نفس اللفظ، فالموقوف هو المعنى، و الموقوف عليه هو اللفظ، و هما متغايران، ألا ترى أنّه لو قيل: «البيع نقل العين بلفظ: بعت» لم يلزم الدور، لأنّ الدال على النقل هو اللفظ، لا المعنى.

أقول: لا مجال لشي ء من إشكال الدور، و لزوم الاقتصار على النقل و التمليك حتى تصل النوبة إلى دفعهما، و ذلك لأنّ «الصيغة المخصوصة» بناء على صحة وجه الاندفاع- أعني به مشيرية قوله: بالصيغة المخصوصة- خارجة عن الحد رأسا، لأنّ معنى المشيرية هو خروج العنوان المشير عن الحد، و عدم دخله فيه أصلا. و مع فرض خروجه عن حيّز الحد لا معنى لإيراد أحد الإشكالين من الدور أو لزوم الاقتصار على النقل و التمليك على التعريف المزبور، بداهة أنّ القيود المأخوذة في الحدود دخيلة في نفس المفهوم، بخلاف العناوين المشيرة، فإنّها خارجة عن الحد، و حاكية عن المفهوم المبيّن حدوده.

و بعبارة أخرى: دخل الحدود في المحدودات ثبوتي، و دخل العناوين المشيرة في المحدودات إثباتي، لأنّها واسطة في العلم و الإثبات.

و على هذا فلا موضوع لإشكال المصنف قدّس سرّه- على جعل «الصيغة المخصوصة» مرآة- بما ذكره من الدور، أو لزوم الاقتصار في التعريف على مجرد التمليك و النقل، و إسقاط الصيغة المخصوصة، و ذلك لأن موضوع الاشكال هو ما يؤخذ في الحد، و المفروض خلافه، إذ لا دخل للعنوان المشير في الحد أصلا.

نعم يرد على المشيرية: أنّها خلاف الأصل في القيود، سيّما الواقعة في الحدود، إذ المقصود بها بيان حدود المفهوم، و الحمل على المشيرية إلغاء للقيد حقيقة، كالحمل على

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 205

ص: 195

و إن أريد بها (1) ما يشمل (2) «ملّكت» وجب (3) الاقتصار على مجرّد التمليك و النقل.

______________________________

(1) أي: بالصيغة المخصوصة، و هذا هو الشق الثاني مما أجاب به المصنّف قدّس سرّه عن اندفاع الاشكال الثالث. و قد عرفت توضيحه آنفا بقولنا: «و إن كان مراد المحقق الثاني قدّس سرّه من الصيغة المخصوصة في مقام .. إلخ».

(2) لا تخلو العبارة عن قصور في التأدية، لأنّ المقصود بهذا الشق هو إرادة ما عدا صيغة «بعت» من قول المحقق الثاني: «بصيغة مخصوصة» فالبيع هو نقل الملك بصيغة «نقلت أو ملّكت» حتى يندفع محذور الدور، إذ لو أريد من الصيغة ما هو أعم من «بعت و ملّكت» لم يندفع المحذور، فحقّ العبارة بقرينة قوله: «وجب الاقتصار» أن تكون هكذا: «و إن أريد بها ما عدا لفظ بعت وجب الاقتصار ..».

(3) وجه وجوب الاقتصار هو عدم قابلية لفظ «بعت» لإنشاء البيع به.

______________________________

التوضيحية التي هي كإلغاء القيد و جعله كالعدم.

و على هذا فقول المحقق الثاني: «بالصيغة المخصوصة» ظاهر في القيديّة للمفهوم، فيرد عليه ما أورد به على تعريف المشهور: من عدم تعقل إنشاء اللفظ في وعاء الاعتبار، لكونه من الموجودات الحقيقية غير القابلة للوجود الاعتباري كما لا يخفى.

ثم إنّه إن أغمضنا عن مقتضى المشيرية- من عدم دخل العنوان المشير في مفهوم المحدود- لا يلزم الدور أيضا، لأنّ النقل بالصيغة- أعني بها: بعت- يوجب معرفة معنى «بعت» و هو النقل، لأنّ لفظ «بعت» إن لم يكن معناه: «نقلت» فلا وجه لجعله آلة للنقل، فمعنى البيع المصدري إذا كان هو النقل فلا محالة يكون معنى «بعت» و سائر مشتقاته أيضا هو النقل.

و كيف كان فيرد على تعريف المحقق الثاني أوّلا: أنه لا يدل على اعتبار العوض في البيع.

و ثانيا: عدم صدقه على بيع الزكاة و الوقف إذا كان كل واحد من العوضين منهما، إذ لا نقل فيه، مع صدق البيع العرفي عليه.

ص: 196

[المختار في تعريف البيع]

فالأولى (1) تعريفه (2) بأنّه

______________________________

المختار في تعريف البيع

(1) هذه الأولوية تعيينيّة كالأولوية في استحقاق أولى الأرحام للإرث، و ليس المراد مجرّد تفضيل هذا التعريف على ما سبق من التعاريف، فإنّها لمّا لم تكن خالية عن الخلل و لا وافية بتعريف البيع لم تكن مشاركة للتعريف الآتي حتى يكون هذا التعريف راجحا عليها، بل المتعيّن تعريف البيع بإنشاء التمليك، و لا وجه لتعريفه بما تقدّم من الانتقال و العقد و نحوهما.

(2) أي: تعريف البيع، و هذا مأخوذ- مع بعض التصرف- من العلامة الطباطبائي قدّس سرّه حيث قال في محكي المصابيح: «ان الأخصر و الأسدّ تعريفه بأنّه إنشاء تمليك العين بعوض على وجه التراضي» «1».

و يتلخّص وجه الأولوية في سلامة هذا التعريف من وجوه الخلل و الإشكالات الواردة على التعاريف الثلاثة المتقدمة.

و بيانه: أنّه لا يرد على تعريف المصنف قدّس سرّه ما أورد به على تعريف المبسوط و التذكرة «بانتقال عين من شخص إلى غيره ..» تارة بأنّ البيع من مقولة الفعل، و الانتقال من مقولة الانفعال. و اخرى بأنّ الانتقال من الغايات المترتبة على البيع لا نفسه. و ثالثة بانخرام قاعدة لزوم موافقة التصاريف لمبدإ الاشتقاق في المعنى، بداهة عدم كون معنى «بعت، أبيع: انتقلت، أنتقل» و هكذا سائر التصاريف.

و كذا لا يلزم على تعريف المتن ما أورد به على تعريفه «بالعقد الدال على الانتقال» من عدم تعقل إنشاء اللفظ باللفظ.

و كذا ما أورد به على تعريف جامع المقاصد «بنقل الملك بالصيغة المخصوصة» من عدم مرادفة البيع للنقل، و من خروج المعاطاة عن التعريف مع كونها بيعا عنده، و من عدم تعقل إنشاء النقل- المقيّد بالصيغة- باللفظ.

هذا مضافا إلى: إسقاط قيد «على وجه التراضي» المذكور في تعريف شيخ الطائفة

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 205 و 206، و اختاره في مفتاح الكرامة، ج 4، ص 148 من دون نسبته الى السيد بحر العلوم.

ص: 197

«إنشاء (1) تمليك عين بمال» [1].

______________________________

و السيد بحر العلوم و غيرهما قدّس سرّهم، لأنّ أخذه في التعريف يوجب خروج بيع المكره عن الحدّ، مع أنه بيع عندهم إذا لحقه الرضا، بل بدونه أيضا في بعض الموارد كبيع الحاكم في موارد جواز إكراهه البائع عليه، فإنّ البيع صحيح مع عدم التراضي.

و إلى: العدول عن «العوض» إلى «مال» من جهة أعمية العوض من المال، لشموله لجملة من الحقوق كحقّ السلام و حقّ ولاية الأب و الجد على الصغير، و حق الحضانة، و نحوها مما لا يصدق عليه المال مع صدق العوض عليها، على ما قيل. و قد تقدم تحقيق الحال في بحث الحقوق، و أنّ ما يقبل منها الإسقاط فقط- أو مع النقل- مال عرفا، فلا مانع من جعله عوضا في البيع.

(1) وجه زيادة لفظ «الإنشاء» في التعريف هو: كون البيع تمليكا إنشائيا لا تمليكا خارجيا أي ممضى شرعا، أو عقلائيا، لأنّ ما بيد البائع هو التمليك الإنشائي، و الملكية الشرعية أو العقلائية خارجة عن حيّز قدرته، فلا معنى لإيجادها بالإنشاء، فإن كان ما أنشأه واجدا لشرائط البيع الصحيح العرفي و الشرعي ترتّبت الملكية على إنشائه، و إلّا فلا.

______________________________

[1] لا بأس بالبحث إجمالا عن حقيقة الإنشاء، فنقول: نسب إلى المشهور الإيجاد و التسبيب، بمعنى ترتب عناوين العقود و الإيقاعات على الصيغ الإنشائية ترتب المسببات على أسبابها.

لكن أنكر ذلك جمع من الأعيان و ذهب كل منهم إلى أن حقيقة الإنشاء أمر آخر، فاختار شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدّس سرّه أن ترتب العناوين المعاملية على الصيغ كترتب ذوات الآلة على آلاتها.

و ذهب شيخنا المحقق العراقي قدّس سرّه إلى اشتراك الإخبار و الإنشاء في الحكاية عن نسبة إيقاعية، و إنّما يفترقان في المحكي، و وافقه السيد المحقق الخويي قدّس سرّه إلا أنه قال بأنّ الإنشاء اعتبار نفساني و إبرازه بمبرز، فالبيع مثلا مجموع الأمرين، لا محض الاعتبار، و لا الإبراز المجرّد عن الاعتبار.

و أبدى المحقق الأصفهاني قدّس سرّه نظرا آخر، فقال إنّ الإنشاء إيجاد نفس الأمر الاعتباري

ص: 198

______________________________

بوجود لفظي في قبال وجوده في أفق الاعتبار. هذا.

و يمكن أن يستدلّ للمشهور- و هو الإيجادية بمعنى التسبيب- بتمهيد أمور:

أحدها: أنّ الإنشاء لغة هو الخلق، ففي الصحاح: «أنشأه اللّه: خلقه». و في المجمع:

«أنشأكم، أي: ابتدأكم و خلقكم ..، و النشأة الأخرى: الخلق الثاني» «1» و لم يثبت نقله الى معنى آخر، فالإنشاء هو الإيجاد و الخلق، و ليس الإبراز مرادفا له و لا مما يؤدّي معناه، حيث إنّ الإبراز هو الإظهار. قال في المجمع: «و ترى الأرض بارزة أي: ظاهرة» «2» و من المعلوم أنّ الإبراز مترتب على الوجود، لأنّه إظهار، و هو منوط بوجود شي ء قبل الإظهار، فلا يكون الإبراز إنشاء أي إيجادا.

ثانيها: أنّ كل معنى يتصف بالوجود اللفظي حين الاستعمال، سواء أ كان ذلك المعنى موجودا عينيا أم ذهنيا، و سواء أ كان جوهرا أم عرضا. و لكن هذا الوجود اللفظي ليس محل البحث في إيجاد المعنى باللفظ في الإنشاء، إذ المقصود به وجوده في وعاء الاعتبار، هذا.

ثالثها: أنّ ترتب الوجود الخارجي و كذا الصفات النفسانية على الألفاظ ترتب المعلول على العلة بمكان من الإمكان، بل واقع، كتأثير الكلام العنيف في اصفرار وجه الوجل. و كتأثير ذكر النار و دركاتها و شدة عذابها في حصول الخوف الذي هو من صفات النفس. و من المعلوم أنّه لا فرق بين الوجود الخارجي و الوجود الاعتباري في إمكان عليّة اللفظ لهما، بل الثاني أهون من الأوّل، لأنّه اعتبار محض، بخلاف الوجود الخارجي.

فدعوى إمكان إيجاد المعنى في الجملة في وعاء الاعتبار باللفظ- سواء أ كان المعنى خارجيا أم اعتباريا و سواء أ كان معنى حقيقيّا للفظ أم غيره كالأمثلة المتقدمة من اصفرار وجه الوجل بالكلام العنيف و نحوه- غير مجازفة.

رابعها: أنّ المسلّم عدم اتصاف الإنشاء بالصدق و الكذب، و إنّما المتصف بهما هو الإخبار، و حينئذ فإن قلنا: إنّ الإنشاء هو الإبراز بمعنى إظهار ما في النفس فلا بد من اتّصافه

______________________________

(1): مجمع البحرين، ج 1، ص 415 و 416

(2) مجمع البحرين، ج 4، ص 6

ص: 199

______________________________

بالصدق و الكذب، لأنّ إظهار ما في النفس إخبار و حكاية عن الشي ء الموجود فيها من صفة أو اعتبار كالوجوب، فإن كان هذا الإظهار- الذي يكون إخبارا و حكاية عن وجود صفة أو اعتبار في النفس- مطابقا للواقع، بأن كان المبرز موجودا في النفس كان الإبراز متصفا بالصدق، و إلّا فهو موصوف بالكذب.

و إن قلنا: إنّ الإنشاء هو الإيجاد بأن يكون اللفظ موجدا لما لم يكن موجودا قبل الإنشاء لم يتصور الاتصاف بالصدق و الكذب، إذ ليس للنسبة الكلامية خارج تطابقه أو لا تطابقه، لوضوح أنّه ليس شي ء موجودا قبل الإنشاء كي يكون الإنشاء حاكيا عنه و مبرزا له، حتى ينتزع الصدق عن مطابقة الحاكي للمحكي عنه، و الكذب عن عدم المطابقة له. بل يوجد شي ء بنفس هذا اللفظ، فلا يكون اللفظ مبرزا و مخبرا عن شي ء موجود، بل هو علّة لوجود شي ء، فلا إبراز و لا حكاية أصلا.

خامسها: أنّ الإنشائية و الإخبارية من صفات اللفظ، فيقال: الكلام إمّا خبر و إمّا إنشاء.

قال في تهذيب المنطق بعد تقسيم دلالة اللفظ إلى المطابقة و التضمن و الالتزام: «و الموضوع- يعني اللفظ الموضوع- إن قصد بجزء منه الدلالة على جزء المعنى فمركّب إمّا تام خبر أو إنشاء ..

إلخ» و نحو ذلك ما في سائر الكتب الأدبية.

فلو لم يكن اللفظ موجدا للمعنى في باب الإنشاء- بل كان مبرزا للاعتبار الذي اعتبرته النفس- لم يصح توصيفه بالإنشاء. كما أنّه إذا لم يكن حاكيا عن النسبة لم يصح توصيفه بالإخبار، لأنّ هذين الوصفين حينئذ ثابتان للمدلول، فيكون الوصف باعتبار المتعلق.

إذا عرفت هذه الأمور تعرف أنّ الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى المقصود- و إخراجه عن العدم الى الوجود- باللفظ إيجادا اعتباريا، مضافا إلى إيجاده اللفظي الموجود في استعمال كلّ لفظ في معناه. كما أنّ الإخبار عبارة عن حكاية كلام عن مبدء فارغا عن ثبوته أو عدمه.

و هذا يلازم نسبة خارجية تطابقها النسبة الكلامية أو تخالفها.

بخلاف الإنشاء، فإنّ إيجاد النسبة ملازم لعدم نسبة خارجية، فإنّ وجود النسبة الخارجية شأن الحكاية المقوّمة للإخبار. و بعد اتصاف الكلام بالإخباريّة و الإنشائيّة- إذا انضمّ إليهما جهة الجدّ بالإنشاء و الحكاية- يتصف الإنشاء بالموجديّة، و الخبر بالمبرزيّة للواقع،

ص: 200

______________________________

و إلّا يبقى الإنشاء على مجرّد إنشائيّته المحفوظة مع الهزل و السخرية، و يبقى الإخبار على صرف إخباريّته، المجتمع مع الهزل و السخريّة و غيرهما.

و لا ينافي الإنشاء بهذا المعنى ما أفاده بعض مشايخنا الأساطين و سيدنا المحقق الخويي قدّس سرّهما من أن حقيقة الوضع هي التعهد و الالتزام النفسي بجعل لفظ خاص أو هيئة خاصة مبرزا لقصد تفهيم أمر تعلّق به غرض المتكلم.

وجه عدم التنافي: أنّ بعض الهيئات كصيغة «افعل» وضعت لإيجاد أمر اعتباري و إيقاع المبدأ في وعاء الاعتبار على عهدة المخاطب، كما أنّ بعض الهيئات كالجملة الاسمية وضعت لإبراز قصد الحكاية عن وقوع نسبة أو لا وقوعها، فالمعنى المقصود تفهيمه في القسم الأوّل و هو إيجاد المعنى في وعاء الاعتبار، و في القسم الثاني هو الحكاية عن نسبة ثبوتية أو سلبية.

و أما غيرهما من الهيئات التي تطلق و يراد بها الإنشاء تارة و الإخبار اخرى فالموضوع له فيها هو انتساب المبدإ إلى الفاعل، و إرادة الإيجاد و الحكاية منه منوطة بقرينة خارجية، فتكون إرادة الإنشاء أو الإخبار حينئذ من باب تعدّد الدال و المدلول.

و بالجملة: فالموضوع له في الهيئات المختصة بالإخبار- كالفعل الماضي و المضارع و الجملة الاسمية- هو الحكاية عن ثبوت النسبة أو نفيها. و في الهيئات المختصة بالإنشاء كصيغة الأمر هو إيجاد الأمر الاعتباري في وعاء الاعتبار، فالمعنى الموضوع له في هذين القسمين هو المقصود بالتفهيم، و في غيرهما تفهيم المقصود بالقرينة على المراد حتى لا يلزم المجاز في الكلمة.

و الحاصل: أنّ الإخبار و الإنشاء مفهومان متغايران، لأنّ الأخبار هو الحكاية عن نسبة لها خارج تطابقه أو لا تطابقه، و الإنشاء عبارة عن إيجاد نسبة ملازم لعدم خارج لها، بل حقيقتها هي تحققها بنفس الإنشاء الناشئ عن اللفظ. فإن كان الإنشاء بداعي الجدّ ترتّب عليه المنشأ بحكم العقل أو الشرع أو العرف أو الجميع، حيث إنّ الإنشاء بهذا الداعي موضوع لحكم و موصوف بالموجدية، دون الإنشاء الهزلي، فإنّ داعي الهزل يجعل الإنشاء صوريّا و خارجا عمّا هو موضوع لاعتبار العقلاء أو الشارع.

و كذا الحال في الإخبار، فإن كان الداعي الى الإخبار الجدّ يتصف بالمبرزية للواقع، و إلّا

ص: 201

______________________________

فيبقى على خبريّته المجتمع مع الهزل و السخريّة.

فالمتحصل مما ذكرنا: أنّ الإنشاء يوجد معناه إذا كان عن جدّ، و لا ينافيه ما تقدم من معنى الوضع، لأنّا ندّعي أنّ إيجاد الأمور الاعتبارية من المعاني المقصودة بالتفهيم، فوضع الواضع هيئات خاصة لإيجادها، كما أنّ حكاية النسبة- التي لها خارج- من المعاني المقصودة بالتفهيم، فوضع لها هيئات خاصة كالجملة الاسمية. فدعوى إمكان إيجاد اللفظ للمعنى في الإنشاء غير مجازفة، هذا.

هذا كله في الانتصار لما نسب الى المشهور من الإيجاد بمعنى التسبيب.

و استدلّ المحقق النائيني قدّس سرّه على مقالته من كون ألفاظ المعاملات موجدة لتلك العناوين الاعتبارية على حدّ إيجاد الآلة لذي الآلة بما حاصله: أنّ العقود و الإيقاعات ليست من باب الأسباب و المسببات و إن أطلق عليها ذلك، بل إنّما هي من باب الإيجاد بالآلة.

و الفرق بين الأسباب و المسببات و بين الإيجاد بالآلة هو: أنّ المسبّب لم يكن بنفسه فعلا اختياريا للفاعل بحيث تتعلق إرادته به أوّلا و بالذات، بل الفعل الاختياري المتعلّق للإرادة هو السبب، فيترتّب عليه المسبب قهرا. و هذا بخلاف باب الإيجاد بالآلة، فإنّ ما يوجد بالآلة كالكتابة باستعانة القلم هو بنفسه فعل اختياري للفاعل و متعلّق إرادته، و يصدر عنه أوّلا و بالذات، ضرورة أنّ الكتابة ليست إلّا عبارة عن حركة القلم على القرطاس بوضع مخصوص، و من المعلوم أنّها بنفسها فعل اختياري صادر عن المكلف أوّلا و بالذات، بخلاف الإحراق، حيث إنّ الصادر عن المكلّف هو الإلقاء في النار لا الإحراق.

و كذا الكلام في سائر ما يوجد بالآلة من آلات النجارة و الصياغة و الخياطة و غير ذلك، فإنّ جميع ما يوجده النجّار مثلا يكون فعلا اختياريّا له، و المنشار و غيره من آلات النّجارة آلة لإيجاده.

و باب العقود و الإيقاعات كلها من هذا القبيل، فإنّ هذه الألفاظ كلّها آلة لإيجاد الملكية و الزوجية و الفرقة و غير ذلك. و ليس البيع مثلا مسبّبا توليديّا لهذه الألفاظ، بل البيع بنفسه فعل اختياري للفاعل تتعلّق إرادته به أوّلا و بالذات و يكون إيجاده بيده «1».

______________________________

(1): فوائد الأصول، ج 1، ص 81

ص: 202

______________________________

و بهذا الوجه تخلّص المحقق النائيني قدّس سرّه عن الإشكال الآتي بيانه في التمسك بإطلاق أدلة الإمضاء- لفظيا أو مقاميّا- من أنّ حلية معاملة كالبيع هل تقتضي حلية كل ما يتسبب به أم لا؟

و ذلك لأنّ معنى صحة البيع- بناء على هذا المسلك- صحة إيجاده بكل ما يكون إيجادا له بنظر العرف. هذا.

و ذهب شيخنا المحقق العراقي قدّس سرّه الى أنّ المائز بين الإخبار و الإنشاء ليس هو قصد الحكاية و الإيجاد كما ذكروه، بل كما أنّ بينهما جهة مشتركة و هي الدلالة على إيقاعية النسبة- خلافا للمركّبات الناقصة- فكذا يفترقان في أنّ المحكي في الجملة الخبرية مبدأ ثابت فارغا عن ثبوته، و أنّ المحكي في الجملة الإنشائية إيقاع المبدأ، الملازم لعدم وجود نسبة خارجية تطابقه النسبة الكلامية أو لا تطابقه. فإذا قال: «بعتك» إخبارا كان المتبادر منه إبراز نسبة ثابتة محفوظة في قبال كونه إنشاء، إذ المتبادر منه إبراز نسبة إيقاعية أوجدها المستعمل في وعائها المناسب لها.

و حيث كانت الحكاية و الإبراز عمّا في الضمير مأخوذة في استعمال الجملة في الإخبار تارة و الإنشاء اخرى جرى فيهما قصد الجدّ و الهزل، و يكون قصد الإيجاد من أطوار الإنشاء لا مقوّما له، و إلّا لزم لحاظ الإيجاد مرّتين لو قصد موجديّة الإنشاء لمضمونه، و هو خلاف الوجدان «1».

و بهذا البيان يجاب عن بعض ما أورده القائل بالايجادية على هذا القول أعني به اشتراك الإنشاء و الاخبار في جهة الإبراز و الحكاية، و افتراقهما في المبرز و المحكي.

و رتّب قدّس سرّه على هذا المبنى كون الإنشاء في باب الأحكام التكليفية من وسائط إثبات الإرادة، لأنّ قول المولى «صلّ» مثلا يدل على إيقاع المادة- أعني بها الصلاة- على المخاطب، و هذه النسبة الإيقاعية من لوازم الطلب القائم بنفس المولى، فيكون «صلّ» مبرزا لذلك الطلب الحقيقي، و يترتب على هذا الإبراز الوجوب و البعث و التحريك و نحوها من العناوين، فلا توجد هذه العناوين بنفس الإنشاء، بل توجد بإبراز الطلب النفساني الذي يكون إبرازه منشأ لاعتبار عنوان الوجوب و البعث مثلا، فالإنشاء واسطة في إثبات الوجوب، لا واسطة ثبوتية له.

______________________________

(1): مقالات الأصول، ج 1، ص 25 (الطبعة الحجرية)، نهاية الأفكار، ج 1، ص 56 الى 58

ص: 203

______________________________

و هذا بخلاف الإنشاء في باب العقود و الإيقاعات، فإنّه من الوسائط الثبوتية، لمضامينها التي هي حقائق اعتبارية «1».

هذا كله في الفرق بين الإنشاء و الإخبار ثبوتا. و أمّا في مقام الإثبات فحيث إن طبع هذه الجمل كان على الحكاية عن واقع ثابت فيحمل الكلام على الإخبار، و يتوقف إرادة الإنشاء على قرينة صارفة عن الحكاية عن الواقع الثابت إلى إبراز الإيقاع الذي هو خروج النسبة من العدم الى الوجود «2». هذا.

و ذهب سيّدنا الخويي قدّس سرّه الى هذا المسلك ببيان آخر، محصّله: أنّ الإنشاء و الإخبار يشتركان في كون كل منهما مبرزا لمقاصد المتكلم في مقام التفهيم، و يستعمل اللفظ في كل منهما في معناه الموضوع له. و يفترقان في أنّ الجمل الإنشائية بما لها من الهيئات الخاصة وضعت لإبراز الأمور النفسانية سواء أ كانت من الاعتباريّات كالملكية و الزوجية و الوجوب و الحرمة و غيرها، أم من الصفات كالتمني و الترجّي و نحوهما، و لمّا لم يكن في مواردها خارج- تطابقه النسبة الكلامية أو لا تطابقه- لا تتصف بالصدق و الكذب، بخلاف الجمل الخبرية، فإنّ المعنى الموضوع له فيها- المبرز بها- لمّا كان عبارة عن قصد الحكاية، و هو متصف بالصدق و الكذب- اتصف بأحدهما لا محالة بالتبع.

فالفرق بين الخبر و الإنشاء ليس من ناحية دواعي الاستعمال كما ذهب إليه صاحب الكفاية قدّس سرّه، بل من ناحية الوضع الذي هو التعهد و الالتزام النفساني بجعل لفظ خاص أو هيئة خاصة مبرزا لقصد تفهيم أمر تعلق غرض المتكلم بتفهيمه.

و ما اشتهر من أنّ «الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ» ممنوع، إذ الإيجاد إمّا تكويني كإيجاد الجواهر و الأعراض، و هو ضروري البطلان، لعدم كون الألفاظ من سلسلة علل وجود الموجودات الخارجية، بل لها علل و معدّات أجنبية عن عالم الألفاظ. و إمّا اعتباري كايجاد الوجوب و الحرمة و الملكية و الزوجية و نظائرها من الأمور الاعتبارية. و هو أيضا كذلك،

______________________________

(1): مقالات الأصول، ج 1، ص 26

(2) نهاية الأفكار، ج 1، ص 58

ص: 204

______________________________

ضرورة كفاية نفس اعتبار المعتبر في وجودها في وعاء الاعتبار بلا حاجة الى اللفظ أصلا، و إنّما اللفظ مبرز له و حاك عنه.

و عليه فالصحيح أنّ الإنشاء مبرز للاعتبار النفساني لا موجده.

هذا محصل ما أفاده قدّس سرّه «1» في مواضع. و أضاف إليه في بعض كلماته: أنّ العناوين المعاملية ليست هي مجرد الأمور النفسانية الموجودة في أفق الاعتبار فحسب حتى يكون اللفظ مجرّد مبرز لها، بل البيع مثلا لا يترتب عليه الأثر عرفا و شرعا إلّا بإبرازه، فموضوع الأثر مجموع المبرز و المبرز. «2» هذا.

و يمكن أن يورد على القول بالإبراز أوّلا: بأن الإبراز و الكشف يستلزمان حصول المنشأ بكلّ ما يدلّ عليه و يبرزه و لو غير اللفظ من إشارة أو كتابة أو إلقاء حصاة أو فتح باب أو غير ذلك، لأنّ هذا من لوازم العناوين المشيرة التي لا دخل لها في هويّة العناوين المحكية بها و المشار إليها. و الالتزام بذلك كما ترى.

و أمّا ثانيا: فلاستلزام ذلك كون الإنشاءات بأسرها إخبارا، لأنّها حاكية عمّا في النفس، فإن كانت النسبة الكلامية مطابقة لما في النفس فهي صادقة، و إلّا فهي كاذبة، فتتصف بالصدق و الكذب. و هذا خلاف ما اتفقت عليه كلمتهم من أنّ الإنشاء لا يتصف بالصدق و الكذب، و إنّما المتصف بهما هو الخبر فقط.

و أمّا ثالثا: فلاستلزامه كون الأحكام الشرعية هي الطلب و الكراهة الحقيقيّين القائمين بالنفس اللّذين هما من الأمور الخارجية المباينة للأمور الاعتبارية.

و هذه الوجوه يمكن التفصّي عنها- أو عن بعضها- بما تقدم في كلامي شيخنا المحقق العراقي و السيد المحقق الخويي قدّس سرّهما.

و قد يفرض للقول بالإبراز وجه آخر غير ما أفاده العلمان، و محصله: أنّ إيجاد الأمر الاعتباري الشرعي أو العقلائي ليس بيد المنشئ، و إنّما بيده إيجاد موضوع ذلك الأمر الاعتباري كالسفر و الحضر، فانّ المكلف لا يتمكّن من إيجاد حكمهما و هو وجوب القصر أو التمام، لكنه يقدر على إيجاد موضوعهما أعني به السفر و الحضر اللّذين هما موضوعا وجوب

______________________________

(1): أجود التقريرات، ج 1، ص 26 و 27

(2) مصباح الفقاهة، ج 2، ص 53

ص: 205

______________________________

القصر و التمام. و الألفاظ لم توضع إلّا لتفهيم المقاصد و ما في الضمائر، و هذا من الأفعال الاختيارية، فما بيد المتكلم هو إبراز ما في نفسه باللفظ سواء أ كان صفة راسخة فيها كالشجاعة، أم اعتبارا- كالملكية و الزوجية و الرقية و نحوها من الاعتبارات الشرعية أو العقلائية، فإنّ إيجاد تلك الاعتبارات في وعاء الاعتبار بيد معتبرها من الشارع أو العقلاء.

و عليه فمقتضى عدم اختياريّة تلك الاعتبارات للمتكلم، و كون الألفاظ مبرزة للمعاني المقصودة- حيث إنّ الغرض من وضع الألفاظ هو المبرزية و الحكاية عن المقاصد، على اختلافها في التفهيم من كونها حكاية عن نسبة لها خارج أو عن إيجاد نسبة- هو كون الإنشاء عبارة عن إبراز نسبة إيجادية، فإن كان ما في النفس إيجاد نسبة بين الصلاة مثلا و بين المخاطب و إيقاع المادة عليه فيبرزه بقوله: «صلّ» أو كان ما في النفس ملكية دار معيّنة لزيد، أو زوجية هند له، فيبرزه بقوله: «بعت، أو زوّجت» فإذا أبرز ما في النفس بألفاظ وضعت لإفهامها و إبرازها اعتبر العقلاء أو الشرع في عالم الاعتبار ذلك الاعتبار المقصود له الكامن في نفسه.

فالإخبار و الإنشاء يشتركان في الإبراز عمّا في النفس كما هو الغرض من وضع الألفاظ، و يفترقان في المبرز، لأنّه في الإنشاء قصد إيجاد نسبة، و في الإخبار قصد الحكاية عن نسبة لها خارج تطابقه أو تخالفه، فلذا يتصف الخبر بالصدق و الكذب، بخلاف الإنشاء، لأنّه إيجاد نسبة كانت معدومة، فليس لها خارج حتى يتصف بالصدق و الكذب.

و الحاصل: أنّ الأمرين المتقدمين- و هما: كون الألفاظ موضوعة لتفهيم المقاصد و ما في الضمائر، و كون الأمر غير الاختياري غير قابل للإيجاد- يقتضيان أن يكون موضوع الأمر الاعتباري بيد المتكلم، لا نفس الاعتبار، فإنّ ذلك من شأن معتبره من العقلاء أو الشرع.

فالمتكلم حين تلفظه بقوله: «بعت» مثلا يبرز ما في نفسه من تبديل ماله بمال، فيبرز هذا المقصود بلفظ «بعت» المستعمل فيما وضع له. و هذا الإبراز موضوع لحكم الشرع أو العقلاء بالملكية. و هكذا التزويج و نحوه. فالاختلاف بين الإنشاء و الإخبار إنّما هو في الوضع، لا في القصد كما عليه صاحب الكفاية، و لا يرد عليه شي ء مما أسلفناه كما هو ظاهر بالتأمّل.

لكن هذا التقريب لا يخلو أيضا من تأمل، فإنّ مصبّ النزاع في إيجادية الإنشاءات

ص: 206

و لا يلزم (1) عليه شي ء ممّا تقدّم.

[مناقشات في التعريف المختار]

اشارة

نعم (2)

______________________________

(1) أي: لا يرد على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» شي ء من الإشكالات المتقدمة على تعريفه بالانتقال أو بالعقد أو بالنقل بالصيغة، نعم تبقى وجوه من المناقشة في التعريف المتقدم تعرّض المصنف قدّس سرّه لجملة منها، و نتعرض- بعدها- لجملة أخرى منها في التعليقة إن شاء اللّه تعالى.

مناقشات في التعريف المختار

(2) استدارك على قوله: «لا يلزم» يعني: أنّ إشكالات سائر التعاريف و إن لم ترد على تعريف المتن، لكن هنا وجوه اخرى ربما يتوهم ورودها عليه، فلا بد من ذكرها و بيان سلامة التعريف منها.

و ليعلم أنّ جملة من الوجوه- التي تعرّض المصنف لها- لا تختص بتعريفه، بل يشترك فيها تعريف البيع بالعقد أو بالانتقال أو بالنقل، فإنّ الشهيد الثاني قدّس سرّه أورد بها على تعريف المحقق بالعقد كما ستقف عليه إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

و مبرزيّتها هو فعل المنشئ، سواء في إنشاء الشارع في مقام التشريع كاعتبار اللابدية و الحرمان أو اعتبار البعث و الزجر النسبيين، أم في إنشاء العقلاء، أم في إنشاء كل من له إنشاء، و قد تحقق في محلّه- و سيأتي التنبيه عليه- أنّ الملكية و نحوها من الاعتباريات تكون بيد المنشئ سواء قلنا بالإيجاد أم بالإبراز، و ليس للعرف و الشرع إلّا الاعتبار المماثل.

و عليه فلا وجه لجعل إنشاء المنشئ إبرازا و إمضائه عقلا و شرعا إيجادا له في وعاء الاعتبار، بل إمّا أن يلتزم بالإيجاد في المراحل الثلاث و هي فعل المنشئ و اعتبار العقلاء و الشارع، أو بالإبراز فيها.

هذا بعض الكلام في المسألة، و تحقيقه موكول إلى علم الأصول.

و الإنصاف أنّ المسألة لا تخلو من إعضال، فكلّ على ما يختاره ثمة، و اللّه الهادي إلى الصواب.

ص: 207

يبقى عليه (1) أمور:

[ا توقف التعريف على جواز الإنشاء بالتمليك]

منها (2): أنّه موقوف على جواز الإيجاب بلفظ «ملّكت» و إلّا (3) لم يكن مرادفا له.

و يردّه (4): أنّه (5) الحق كما سيجي ء (6) [1].

______________________________

(1) أي: على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال».

أ- توقف التعريف على جواز الإنشاء بالتمليك

(2) هذا أوّل الإشكالات التي أوردها المصنف على تعريفه البيع بما ذكره، و محصله: أنّ هذا التعريف يتوقّف صحته على جواز إيجاب البيع بلفظ «ملّكت» و وجه التوقف واضح، إذ المفروض تفسير ماهية البيع بالتمليك الإنشائي، فلو لم يصح إنشاء البيع بلفظ التمليك امتنع تفسيره به، لاحتمال كون حقيقته أمرا آخر غير التمليك. و عليه فصحة التعريف موقوفة على جواز إنشاء البيع بالتمليك، فإن جاز إنشاؤه به صحّ تعريفه به، و إلّا فلا.

(3) أي: و إن لم يجز الإيجاب بلفظ «ملّكت» لم يكن التمليك مرادفا للبيع، و لم يصح حينئذ تعريف البيع بإنشاء التمليك.

(4) هذا جواب الإشكال الأوّل، و حاصله: الالتزام بجواز الإيجاب بلفظ «ملّكت» فلا محذور من هذه الناحية في تعريف البيع بإنشاء التمليك، فالترادف ثابت بين المادّتين.

(5) أي: أنّ جواز الإيجاب بلفظ «ملّكت» هو الحق.

(6) سيأتي تصريحه بجواز الإنشاء بلفظ «ملّكت» في موضعين:

أحدهما: قوله في جواب الاشكال الخامس على تعريف البيع: «فلو قال: ملكتك كذا بكذا كان بيعا، و لا يصح صلحا و لا هبة معوّضة و ان قصداهما ..».

ثانيهما: في المقدمة المعقودة لألفاظ العقود- بعد تنبيهات المعاطاة- حيث قال: «و منها:

لفظ- ملّكت- بالتشديد».

______________________________

[1] ظاهره تسليم الاشكال، و أنّ تعريف البيع بالتمليك يلزمه جواز إنشائه به، لكن

ص: 208

______________________________

يمكن منع الملازمة كمنع الترادف بينهما.

أمّا منع الملازمة بين تعريف العنوان المعاملي بمادة خاصة و جواز الإنشاء بها فلإمكان اعتبار الإنشاء بلفظ خاص، و عدم الاكتفاء بمطلق ما يدلّ عليه، فإنّ الطلاق الذي حقيقته البينونة بين الزوجين لا يتعين إنشاؤه بصيغة خاصة، و لا يقع بلفظ البائن الصريح في المنشأ.

و عليه فالمهم في التعريف اتّحاد الحدّ و المحدود ذاتا و اختلافهما بالإجمال و التفصيل، فلا مانع من صحة تعريف البيع بالتمليك مع عدم جواز الإنشاء به.

إلّا أن يقال: إنّ مقتضى الترادف جواز إنشاء الطلاق بالبينونة أيضا لو لا التعبد الشرعي، و حيث إنه لم يؤخذ في البيع خصوص لفظ «بعت» فلا بد من الالتزام بجواز إنشائه بالتمليك.

و أمّا منع الترادف فلأنّ مفهوم البيع هو التبديل لا التمليك. و ما عن فخر المحققين قدّس سرّه من «أن بعت في لغة العرب ملكت غيري» معارض بما عن الشهيد الثاني من «أنّ- ملّكت- يفيد معنى غير البيع».

نعم التمليك يلزم البيع غالبا، و لذا جعله العلامة من الكنايات، هذا أولا.

و ثانيا: أنّ جواز الإيجاب بلفظ «ملّكت» على فرض ثبوته أعم من المرادفة، إذ يمكن أن تكون دلالته على البيع مع قرينة و لو مقاميّة، فالدلالة على البيع تكون من قبيل تعدد الدال و المدلول. فلعلّ التمليك بمنزلة الجنس للبيع أو من لوازمه، و القرينة المقامية أو غيرها تدلّ على النوع و هو البيع. كما أنّ عدم جواز الإيجاب بلفظ «ملّكت» لا يدل على عدم الترادف بعد إمكان التعبّد في صيغ العقود، فتدبّر.

و ثالثا: أنّ التعريف لم يكن بلفظ التمليك حتى يتوجه عليه هذا الاشكال، بل كان بإنشاء التمليك، فالإشكال المتوجه عليه هو استلزامه جواز إنشاء التمليك، و هو عين إشكال عدم قابلية الإنشاء للإنشاء، حيث إنّ التبديل متضمن للإنشاء، فيلزم إنشاء إنشاء الملكية.

ص: 209

[ب خروج بيع الدين عن التعريف]

و منها (1):

______________________________

ب- خروج بيع الدين عن الحدّ

(1) هذا ثاني الإشكالات التي أوردها المصنف قدّس سرّه على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» و حاصله: عدم جامعية التعريف لأفراد البيع، و ذلك لأنّ مقتضى أخذ التمليك في حقيقة البيع هو صيرورة المشتري مالكا للمبيع، كمالكية البائع للثمن، فلو لم يترتب عليه مالكية المشتري له لم يكن بيعا، و من المعلوم عدم صدق التعريف على بيع الدين على المديون، إذ لا يصير المشتري مالكا لمال على نفسه.

مثلا: لو كان زيد مديونا لعمرو بمنّ من الحنطة، فباعه عمرو على زيد بدينار، فإنّ المشتري لم يتملك شيئا في هذه المعاملة، لعدم معقولية تملك الإنسان شيئا على عهدة نفسه، و إذا امتنع التملك امتنع تمليك البائع إيّاه، لتضايف التمليك و التملّك، فلا يفيد بيع الدين تمليك الدين للمديون، و إنّما يؤثّر في سقوط ما في ذمته.

و عليه فلازم عدم ترتّب انتقال الملك- في بيع الدين- هو عدم صحة إطلاق البيع عليه، مع أنّ كون «بيع الدين» من أفراد البيع لعلّه مما لا خلاف في مشروعيّته و صحته في الجملة، قال العلامة قدّس سرّه: «قد بيّنّا أنه يجوز بيع الدين، و هو مذهب علمائنا، و لا فرق بين بيعه على من هو عليه أو على غيره» «1».

و في الجواهر: «يجوز بيع الدين- بعد حلوله- على الذي هو عليه، بلا خلاف فيه بيننا و لا إشكال، بل و على غيره، وفاقا للمشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا، بل لعلها كذلك، بعد انحصار الخلاف في الحلّي «2»، لوجود المقتضي و ارتفاع المانع ..» «3».

و الحاصل: أنّ بيع الدين على الغريم بيع حقيقة، مع أنّ أثره سقوط الدين، و لا تمليك فيه.

______________________________

(1): مختلف الشيعة، ج 5، ص 379

(2) راجع السرائر، ج 2، ص 38 الى 40

(3) جواهر الكلام، ج 24، ص 344

ص: 210

أنّه (1) لا يشمل بيع الدين على من هو عليه (2)، لأنّ (3) الإنسان لا يملك مالا على نفسه.

و فيه (4)- مع ما

______________________________

و هذا النقض يوجب بطلان تعريف البيع بإنشاء التمليك. بل لا بد من تعريفه بما ينطبق على بيع الدين و نحوه مما لا يترتب عليه تبديل إضافة الملكية.

ثم لا يخفى أنّ هذا النقض- لو تمّ في نفسه- لا يختص بتعريف المصنف، بل يرد على التعاريف المتقدمة أيضا، إذ كما لا يتملك المديون ما في ذمة نفسه، فكذا لا ينتقل إليه شي ء، و عليه فلا بد من علاج الاشكال على جميع التعاريف، هذا.

(1) أي: أنّ هذا التعريف غير جامع لأفراد البيع.

(2) تقييد بيع الدين ببيعه على خصوص المديون إنّما هو لأجل إفادته التمليك لو باع الدائن دينه للأجنبي، فيصير المشتري مالكا للكلّي في ذمة المديون بدلا عن مالكية البائع له.

و على هذا فإشكال عدم اطّراد التعريف مختص بما إذا كان المشتري للدين هو المديون، لا الأجنبي.

(3) محصل هذا التعليل: أنّ عنواني «المالك و المملوك عليه» متقابلان كتقابل عنواني «المسلّط و المسلّط عليه» و من المستحيل اتحاد المتقابلين، فإذا بني على جواز تملك المديون لما في ذمة نفسه لزم وحدة المتقابلين و هما المالك و المملوك عليه، و هذا المحذور ألجأ بعضهم الى القول بأن بيع الدين على المديون يفيد السقوط لا الملك.

(4) هذا جواب الإشكال الثاني على تعريف البيع، و هو يرجع الى وجهين، أحدهما:

تقدّم في القسم الثاني من أقسام الحقوق، و أضاف إليه هنا تنظيره بباب التهاتر، و ثانيهما: نقض على المستشكل، و أنّ الإشكال لا يختص بتعريف البيع بإنشاء التمليك، بل يرد على تعريفه بالنقل و الانتقال أيضا، فلا بدّ من علاجه على جميع التعاريف.

هذا إجمال الوجهين.

أمّا توضيح الوجه الأوّل فهو: أنّه لا مانع من تعريف البيع ب «إنشاء التمليك» و ترتب الملكيّة عليه في جميع الموارد حتى في بيع الدين على المديون، و لا منافاة بين مالكية المديون لما

ص: 211

..........

______________________________

في عهدة نفسه و بين سقوطه عنه، لأنّ الممتنع هو تملك الإنسان لمال على نفسه حدوثا و بقاء، و أمّا تملّكه له حدوثا فقط ثم سقوط المال عن ذمته فليس بممتنع. فالمقام- من حيث التملك آنا ما ثم السقوط- نظير أن يكون زيد مديونا لعمرو دينارا، و اشترى عمرو منه متاعا بدينار كلّي في ذمته، فإنّ الدينارين يسقطان عن كلتا الذمّتين بالتهاتر.

و عليه فلم ينتقض تعريف المصنف ببيع الدين أصلا، لفرض دخول المبيع الكلّي في ملك المديون آنا ما، و هذا المقدار كاف في صحة البيع، و لا يعتبر فيه تأثيره في بقاء المبيع على ملك المشتري.

و أمّا توضيح الوجه الثاني فهو: أنّ إشكال عدم جامعية التعريف لأفراد المعرّف لا يختص بما إذا كان البيع بمعنى التمليك، بل هو مشترك الورود على تعريفه بالانتقال أو بالنقل أو بالعقد الدال على أحدهما، إذ لو كانت نتيجة بيع الدين على من هو عليه مجرّد فراغ الذمة لا التملّك كان تعريفه بالنقل و الانتقال منتقضا أيضا ببيع الدين، لفرض عدم انتقال شي ء إلى المديون.

و عليه فلا وجه لإيراد هذا المحذور على خصوص تعريف المصنف قدّس سرّه بل اللازم- على من عرّفه بالنقل و شبهه- التفصّي عن هذا الاشكال، و تصحيح بيع الدين على المديون على كلّ حال، سواء أ كان البيع هو التمليك، كما عن فخر المحققين، حيث قال فيما حكي عنه: «انّ بعت في لغة العرب بمعنى ملّكت غيري» «1» أم هو المبادلة أم النقل، لأنّ عدم معقولية مالكية الإنسان لما في ذمة نفسه يوجب عدم معقولية البيع، الذي هو عبارة في العرف و اللغة عن المبادلة و النقل و التمليك و ما يساويها من الألفاظ.

و الحاصل: أنّ استحالة تملك الشخص لما في ذمته يوجب عدم معقولية بيع الدين مطلقا حتى لو عرّفنا البيع بالمبادلة و النقل، مع أنّ من عرّفه بالانتقال- كشيخ الطائفة و العلامة و غيرهما، أو بالعقد الدال على نقل الملك كما في الشرائع- صرّح بجواز بيع الدين ممّن هو عليه،

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 152

ص: 212

عرفت (1) و ستعرف (2) من تعقل تملك ما على نفسه، و رجوعه (3) إلى سقوطه عنه (4)، نظير (5) تملك ما هو مساو لما في ذمته و سقوطه (6) بالتهاتر- أنّه (7) لو لم يعقل التمليك لم يعقل البيع، إذ ليس للبيع لغة و عرفا معنى غير المبادلة و النقل و التمليك

______________________________

كما تقدم في عبارة المختلف و الجواهر.

(1) يعني: في القسم الثاني من الحقوق، حيث قال: «لأنّه لا مانع من كونه تمليكا فيسقط .. و الحاصل: أنه يعقل أن يكون مالكا لما في ذمته، فيؤثّر تمليكه السقوط».

(2) يعني: بعد أسطر، حيث يقول: «فإذا لم يعقل ملكية ما في ذمة نفسه، لم يعقل شي ء مما يساويها .. إلخ».

(3) أي: و رجوع التملّك، يعني: أنّ مآل تملك الإنسان لما في ذمة نفسه هو سقوط الدين الذي كان في ذمته.

(4) أي: سقوط ما على عهدته عن نفسه.

(5) كالمثال المتقدم آنفا من كون زيد مديونا لعمرو دينارا، ثم شراء عمرو من زيد متاعا بدينار كلّي نسيئة، إذ يتساقط الديناران عن الذمتين قهرا.

و غرضه من هذا التنظير رفع الاستبعاد عن سقوط ما في الذمة قهرا بدون الإسقاط في بيع الدّين على المديون، و أنّ السقوط يترتب على مالكية المديون لما في ذمته آنا ما. و ليس الغرض من هذا التنظير ما أفاده بعض المحشين من «مجرّد رفع الاستبعاد عن سقوط ما في الذمة قهرا بدون الاسقاط» «1» بل المقصود إثبات مالكية المديون لما في ذمة نفسه آنا ما أيضا حتى يتجه بيع الدين من المديون.

(6) أي: سقوط ما في ذمة المديون بسبب التهاتر القهري.

(7) هذا و بعده مرفوع محلّا لكونه مبتدأ مؤخرا لقوله: «و فيه» و هذا إشارة إلى الوجه الثاني مما أجاب به عن الاشكال، و قد تقدم توضيحه بقولنا: «و أما توضيح الوجه الثاني فهو .. إلخ».

______________________________

(1): هداية الطالب إلى أسرار المكاسب، ص 152

ص: 213

و ما يساويها من الألفاظ، و لذا قال (1) فخر الدين: «ان معنى بعت في لغة العرب ملّكت غيري» فإذا لم يعقل ملكية ما في ذمة نفسه لم يعقل شي ء ممّا يساويها، فلا يعقل البيع (2).

______________________________

(1) مقصوده قدّس سرّه جعل كلام فخر المحققين قدّس سرّه شاهدا على أنّ معنى البيع في اللغة و العرف هو التمليك، فإذا لم يتحقق «تمليك الغير» في مثل بيع الدين من جهة استحالة تملك الإنسان لما في ذمة نفسه لم يعقل النقل و المبادلة أيضا، لاتحاد هذه العناوين مفهوما، و حيث إنّ القائلين بأن البيع هو الانتقال أو العقد أو المبادلة صرّحوا بصحة بيع الدين، فلا بدّ من صحته بناء على كونه التمليك أيضا. و ينحلّ الاشكال بحصول النقل و الملك و المبادلة آنا ما، ثم يسقط الدين عن المديون.

(2) مع أن البيع بمعنى النقل و الانتقال معقول في بيع الدين، فليكن معقولا بناء على تعريفه بالتمليك [1].

______________________________

[1] ما أفاده قدّس سرّه في بيع الدين من تصحيحه بالالتزام بالملكية آنا ما و من تنظيره بالتهاتر لا يخلو من تأمل.

أمّا تأثيره في الملكية ثم سقوط الدين عن المديون ففيه: أنّ السقوط إن كان معلولا لمالكية الإنسان لما في ذمة نفسه فمن المعلوم عدم معقولية تأثير الشي ء في عدم نفسه. و إن كان للغوية بقاء الملكية فمانع البقاء مانع الحدوث أيضا، إذ لو لم يكن مانع عن التمليك فلم يسقط، و إن كان مانع عنه فلم يثبت.

و بالجملة: محذور استحالة اجتماع المتقابلين كما يمنع من البقاء كذلك يمنع من الحدوث، نعم لو كان المانع شرعيا كما في مالكية العمودين تعيّن الالتزام بالملكية الآنامائية جمعا بين الأدلة.

إلّا أن يقال: بأجنبية المقام عن المحذور العقلي، إذ حكم العقلاء بالسقوط كحكمهم بالملكية اعتباري لا حقيقي، و لو لأجل لغوية اعتبار مالكية الشخص لما على عهدة نفسه،

ص: 214

______________________________

و هذا المقدار لا يزاحم الإجماع على جواز بيع الدين على من هو عليه، فيلتزم بالملكية الآنية.

و لكنّك خبير بأنّ منشأ الاشكال أخذ التمليك في البيع، فلو نوقش فيه- كما تقدم في جعل إسقاط الحق عوضا- لم تكن منافاة بين صحة بيع الدين و تأثيره السقوط من أوّل الأمر بعد المناقشة في اعتبار التمليك في البيع، فيكون نفس سقوط الدين عوضا من دون حاجة الى اعتبار سبق ملكية الدين للمديون في سقوطه عنه.

و أمّا تنظيره بالتهاتر فيمكن منعه أوّلا: بالفرق بين البابين، بأنّه في بيع الدين تتّحد الذمة المالكة و المملوكة، و لا بدّ حينئذ من الالتزام بالسقوط، و إلّا يلزم كون الإنسان مديونا لنفسه، و ذا حقّ المطالبة على نفسه. بخلاف باب التهاتر، لتعدد الذمة فيه، و إنّما أوجبت المماثلة بين ما عليهما براءتهما.

و ثانيا: بأنّ التهاتر- فيما إذا أتلف الدائن مماثلا لما له في عهدة المديون- و إن كان مشهورا بين الفقهاء، لكن يمكن منعه بصيرورة كل منهما مديونا للآخر، و يتوقف براءة الذمة على الصلح أو الإبراء كما ذهب إليه المحقق الأردبيلي قدّس سرّه حيث قال معلّقا على كلام العلامة:

«و من عليه حقّ، و له مثله تساقطا، و إن كان مخالفا افتقر إلى التراضي» ما لفظه: «لعلّ دليله ما يظهر أنّ الحقّين متساويان من غير فرق و مرجّح، فيبرء ذمة كل واحد بما له في ذمة الآخر، و لا يظهر دليل آخر.

و ينبغي التراضي، لأن شغل الذمة معلوم، و لا تحصل البراءة إلّا به شرعا، إذ لكلّ حقّ يمكن أن يكون له طلبه و استيفاؤه، و لا يمنع من ذلك حقّه في ذمته، كما في الحدود و التعزيرات. و لا شك أنّ الأحوط هو التراضي من الجانبين بالإبراء و الصلح و نحوهما، كما إذا كان مخالفا ..» «1».

و هو في غاية المتانة، إذ لا دليل على أن مجرد المماثلة بين ما في الذمتين يكون مسقطا قهريّا، خصوصا مع تنظيره بباب الحدود و التعزيرات، كما لو قذف شخصان كل منهما الآخر، فإنّ اشتغال الذمة قطعي، و مجرّد المماثلة لا يسقط الحد و لا الاستحلال، فليكن كذلك في

______________________________

(1): مجمع الفائدة و البرهان، ج 9، ص 99

ص: 215

______________________________

الحقوق المالية. هذا.

و منه يظهر غموض الوجه الثاني أيضا، فإنّه التزام بالإشكال لا جواب عنه، إذ لا مناص- من محذور استحالة ملك الشخص لما في ذمته- بجعل البيع نقلا أو مبادلة بناء على إرادة التبديل في إضافة الملكية أو في طرفي الإضافة. فالإشكال كلّه ينشأ من تخصيص البيع بالتمليك، فمع إنكار إطلاقه لا مانع من صحة بيع الدين على من هو عليه و إن كان فائدته السقوط لا الملك حتى آنا ما.

إلّا أن يشكل صدق البيع عليه من جهة اعتبار عينية المبيع، المختصة بالعين الخارجية و الكلّية الذمية التي يترقّب وجودها خارجا كالمبيع سلفا. و أمّا الدين فحيث إنه يمتنع وجوده ببيعه على من هو عليه فلا يصح، فتأمل.

و عليه فلا بد من أن يكون حقيقته الإبراء بالعوض، و إطلاق البيع عليه لا يخلو من مسامحة. و صحته بعنوان البيع و إن كان إجماعيا كما ادعاه الحلي و العلامة و غيرهما، إلّا أنّه محتمل الاستناد إلى إطلاق الأدلة و خصوص ما ورد في نصوص بيع الدين بأقلّ منه، و لا مناص إمّا من التوسعة في مفهوم البيع، و إمّا من إرادة جواز أخذ الدائن مالا من غريمه بإزاء إبراء ذمته عن الدين.

كما يمكن تصحيحه بجعله من باب الهبة المشروطة، بأن يهب المديون شيئا للدائن على أن يبرئ ذمّته، و يكون عوض الهبة نفس الإبراء الذي هو فعل يبذل بإزائه المال كإسقاط الحق.

و لا يخفى أن للمحقق النائيني قدّس سرّه كلاما في الجواب عن النقض المزبور لا بأس بنقله، قال المقرر: «فالصواب أن يقال: بيع الدين على من هو عليه و إن كان صحيحا، إلّا أن البيع لم يقع على ما في الذمة بقيد كونه في الذمة، فيكون من قبيل مالكية الشخص لما في ذمته، و ذلك لأنّه بهذا القيد لا يمكن تحققه في الخارج. و لا شبهة أنّه يعتبر في المبيع أن يكون من الأعيان الخارجية، بل يقع البيع على الكلي و هو منّ من الحنطة مثلا، فيصير المشتري- أعني المديون- مالكا لذلك الكلي على البائع و حيث إنّ البائع كان مالكا لمنّ من الحنطة على ذمة المديون

ص: 216

______________________________

- و هو المشتري- فينطبق ما على البائع على ما كان له على المديون المشتري، فيوجب سقوط ذمة كليهما. و هذا و إن لم يكن من التهاتر حقيقة، إلّا أنّه أشبه شي ء به» «1».

و ملخّصه: أنّ بيع الدين تارة يقع على نفس ما في ذمة المديون- بوصف كونه ما في الذمة- و هو باطل، لأنّه بهذا القيد لا يصلح للوجود الخارجي. و اخرى يقع على كليّ في ذمة البائع مماثل لما في ذمة المشتري و هو المديون. و لمّا كان المبيع منطبقا على ما على المشتري من الدين صار هذا الانطباق منشأ لسقوط ما في ذمة البائع و المشتري. ففي الحقيقة بيع الدين من المديون ليس بيعا لنفس الدين، بل لما ينطبق على الدين. هذا.

و في كلامه مواقع للنظر:

منها: قوله: «إلّا أن البيع لم يقع على ما في الذمة بقيد كونه في الذمة» إذ فيه: أنه لا وجه لهذا الاستثناء بعد وضوح كون الذمة ظرفا للمبيع، إذ لو لم يضف الكلي إلى ذمة شخص لا يتعلق به إضافة الملكية، و ليست الذمة قيدا له، فإنّ الالتزام بصحة البيع موقوف على عدم قيدية الذمة للمبيع، و إلّا لم يكن المبيع حينئذ مالا حتى يبذل بإزائه المال، فيختل أحد أركان البيع و هو مالية المبيع.

فالأولى تعليل عدم جواز بيع الدين على المديون بعدم المالية. بل يتجه حينئذ عدم جواز بيعه مطلقا و لو من غير المديون، لسقوطه عن المالية بسبب تقيده بذمة المديون المانع عن صلاحية الانطباق على الخارجيات، فعدم تقيده بالذمة مقوّم للمالية، و ليس شرطا لبيعه من خصوص المديون.

و الحاصل: أنّه لا وجه للاستثناء المزبور، إذ التقييد بعدم الذمة شرط لمالية الكلي الذمي سواء قلنا بجواز بيع الدين على من هو عليه، أم لم نقل.

نعم إن كان الإشكال في بيع الدين من المديون من جهة المالية كان للاستثناء المزبور وجه، فتدبّر.

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 43

ص: 217

______________________________

و منها: قوله: «ليكون من قبيل مالكية الشخص لما في ذمته» إذ فيه: أنّه موهم بل ظاهر في أن ما في الذمة- بقيد كونه في الذمة- مملوك للشخص، و حينئذ لا يمكن بيعه من أحد، إذ مع هذا القيد يمتنع وجوده في الخارج. و كذا سائر المعاملات، مع أنّ المعاملات الذمية في غاية الكثرة.

و بالجملة: لا مجال لتوهم مالكية الشخص لما في ذمته مقيّدا بكونه في الذمة، إذ لا يصلح حينئذ للمعاوضة عليه أصلا، بل الذمة ظرف للكلّي.

و منها: قوله: «و لا شبهة أنّه يعتبر في المبيع أن يكون من الأعيان الخارجية». إذ فيه: أنّه لا يعتبر الوجود الخارجي الفعلي في المبيع قطعا، بل المعتبر فيه هو إمكان وجوده في موطن استحقاق المشتري له، إذ لو كان وجوده الخارجي الفعلي معتبرا فيه لانسدّ باب بيع الذمي رأسا، و هو كما ترى. و لعلّ مقصوده من عينية المبيع الخارجي هو قابلية الوجود لا فعليته، فيرتفع الاشكال.

و منها: قوله: «بل يقع البيع على الكلي .. إلخ» إذ فيه: أنّ هذا ليس من بيع الدين على من هو عليه في شي ء، ضرورة أنّ المبيع هو الكلي الذي ظرفه ذمة البائع لا ذمة المديون و المفروض أنّ المبيع في «بيع الدين من المديون» هو نفس ذلك الدين، لا شي ء آخر ينطبق على الدين حتى يسقط عن ذمة المديون بسبب انطباق كلّيّ آخر عليه، فإنّه خارج عن مورد النقض المذكور في المتن أعني به بيع الدين على من هو عليه.

و الحاصل: أنّ الكلام في بيع نفس ما في ذمة المديون، و أنّه كما يجوز بيعه من أجنبي بلا إشكال، كذلك يجوز بيعه من نفس المديون.

و أمّا جعل المبيع كلّيا في ذمة البائع الدائن قابلا للانطباق على ما في ذمة المديون فهو خارج عن بيع الدين الثابت على المديون كما لا يخفى. فكلام المحقق النائيني قدّس سرّه ليس جوابا عن نقض تعريف البيع ببيع الدين من المديون، فتدبّر.

ص: 218

[ج انتقاض تعريف البيع بالمعاطاة]

و منها (1): أنه يشمل التمليك بالمعاطاة (2)، مع (3) حكم المشهور (4) بل (5) دعوى الإجماع على أنّها ليست بيعا.

______________________________

ج- انتقاض التعريف بالمعاطاة

(1) أي: و من الأمور الباقية على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» عدم كونه مانعا عمّا لا يفيد التمليك، فينتقض بالمعاطاة، فإنّها و إن كانت تمليكا فعليا فاقدا للصيغة المعتبرة في العقود اللازمة، إلّا أنّه يصدق عليها «إنشاء تمليك عين بمال» كالبيع القولي، فإنّ كل واحد من المتعاطيين يدفع ماله الى الآخر بقصد التمليك. مع أنّ المشهور- بل المجمع عليه- عدم كون المعاطاة بيعا، فيلزم أن يكون تعريف المصنف للبيع غير مانع عن دخول ما ليس من أفراد البيع في البيع.

(2) لعلّ تعبيره بالتمليك بالمعاطاة دون «يشمل المعاطاة» لأجل التنبيه على أنّ المعاطاة- كما سيأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى- قد يقصد بها إباحة التصرف، و قد يقصد بها التمليك.

و من المعلوم أن انتقاض تعريف البيع إنّما هو بالمعاطاة المقصود بها التمليك دون ما يقصد بها الإباحة، لخروجها موضوعا عن تعريف البيع، لفرض بقاء المالين على ملك المتعاطيين كما كانا قبل التعاطي.

(3) هذا هو منشأ ورود الإشكال الثالث على التعريف، و محصله: ذهاب مشهور الفقهاء إلى نفي بيعية المعاطاة المقصود بها التمليك، لتوقف العقود اللازمة على اللفظ، و المعاطاة فاقدة للصيغة، فليست بيعا، مع أنّها إنشاء فعليّ لتمليك عين بمال، فلو عرّف المصنف البيع بقوله:

«إنشاء تمليك عين بمال بالصيغة» كان سليما عن نقضه بالمعاطاة.

(4) قال السيد الفقيه العاملي: «و في الميسية: أن المشهور بين الأصحاب أنّها ليست بيعا محضا» «1».

(5) غرضه تقوية الاشكال و الإضراب عن قيام مجرّد الشهرة على نفي بيعية المعاطاة، حتى يقال بكفاية كونها بيعا عند بعض الفقهاء، فلا ينتقض التعريف حينئذ بها.

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 154

ص: 219

و فيه (1):

______________________________

و محصل الإضراب: انعقاد الإجماع على عدم كون المعاطاة بيعا، قال السيد ابن زهرة:

«إنّها ليست ببيع، و إنّما هي إباحة للتصرف. يدل عليه الإجماع المشار إليه .. إلخ» «1». و قال الشهيد الثاني معلّقا على كلام المحقق: «و لا يكفي التقابض من غير لفظ» ما لفظه: «هذا هو المشهور بين الأصحاب، بل كان يكون إجماعا ..» «2».

(1) هذا جواب الاشكال الثالث، و توضيحه: أنّ النقض بالمعاطاة غير وارد، لأنّ المحدود هو البيع بالمعنى الأعم الشامل للصحيح و الفاسد، و من المعلوم أنّ المعاطاة- المقصود بها التمليك- بيع عرفا، و نفي بيعيتها في بعض العبائر راجع إلى حكمها أي عدم ترتب أثر البيع اللفظي على مجرد التعاطي، و هذا نظير بيع ما لا يملك شرعا- كالخمر- بالصيغة، فإنّه لا يؤثّر في الملكية و إن صدق عليه عرفا حدّ البيع.

و بعبارة اخرى: إن كان مورد النفي بيعية المعاطاة كان للنقض المزبور مجال، إذ المفروض وجود «إنشاء التمليك» في المعاطاة مع عدم كونها بيعا. و إن كان مصبّ النفي حكم المعاطاة من الصحة أو اللزوم لم يبق مورد للنقض المذكور، إذ المفروض صدق البيع على المعاطاة و إن كانت بيعا باطلا. و على هذا فنفي بيعيّتها- الذي هو المشهور أو المجمع عليه- يرجع إلى نفي الحكم أعني الصحة، لا الموضوع، و ورود النقض يتوقف على كون مورد النفي هو الموضوع أعني البيعية، لا الحكم.

و الشاهد على أنّ مراد النافين نفي الحكم لا الموضوع- بعد بداهة صدق مفهوم البيع لغة و عرفا على المعاطاة المقصود بها التمليك- أنّ الإجماع لا بدّ أن ينعقد على حكم شرعي، لا على ثبوت موضوع عرفي أو نفيه. و عليه فلا محيص عن كون معقد الإجماع على النفي هو الحكم الشرعي من صحة المعاطاة أو لزومها.

______________________________

(1): غنية النزوع في الأصول و الفروع، ص 524

(2) مسالك الأفهام، ج 3، ص 147، و نحوه كلامه في الروضة، ج 3، ص 222

ص: 220

ما سيجي ء (1) من كون المعاطاة بيعا، و أنّ (2) مراد النافين نفي صحتها (3).

[د انتقاض تعريف البيع بالشراء]

و منها (4):

______________________________

(1) يعني: في بحث المعاطاة عند الاستدلال على إفادتها للملك بآية أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ حيث قال: «و أمّا منع صدق البيع عليه عرفا فمكابرة، و أمّا دعوى الإجماع في كلام بعضهم على عدم كون المعاطاة بيعا كابن زهرة في الغنية، فمرادهم بالبيع: المعاملة اللازمة التي هي إحدى العقود .. إلخ».

(2) معطوف على «كون» و مبيّن لمراد النافين حتى يندفع توهم المنافاة بين دعوى بيعية المعاطاة و بين نفي بيعيتها. و عليه فلا ينتقض تعريف المصنف قدّس سرّه بالمعاطاة.

(3) فلم يتوارد النفي و الإثبات على أمر واحد، بل المثبت ناظر الى الموضوع، و النافي إلى الحكم.

د- انتقاض التعريف بالشراء

(4) يعني: و من الأمور الباقية على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» و هذا رابع الإشكالات التي أوردها المصنف قدّس سرّه على تعريف نفسه. و محصله: انتقاض التعريف بالشراء، لصدق «إنشاء التمليك» على قبول المشتري، لأنّ البيع «تمليك الغير» كما صرّح به المصنف قدّس سرّه في المنع من جعل القسم الثاني من الحقوق- اى ما لا يقبل النقل الى الغير- ثمنا في البيع، فكما يملّك البائع المبيع للمشتري، كذلك المشتري يملّك الثمن للبائع، و هذا معنى المبادلة في إضافة الملكية، فكلّ من المتبايعين ينشئ التمليك، و لا يختص بالبائع. مع أنّ مقصود المصنف قدّس سرّه تعريف البيع بالمعنى المصدري الذي هو فعل البائع و قائم به، لا الملكية و النقل بالمعنى الاسمي المترتب على مجموع الإيجاب و القبول.

نعم لو لم يعتبر التمليك من الطرفين و كان تمليك البائع كافيا كان تعريفه ب «إنشاء تمليك عين بمال» سليما عن هذا النقض، لكنه خلاف تصريحه باعتبار التمليك من كلا المتبايعين. و على هذا فتعريف البيع بما في المتن غير مانع للغير، و هو إنشاء قبول المشتري.

ص: 221

صدقه (1) على الشراء، فإنّ (2) المشتري بقبوله للبيع يملّك ماله بعوض المبيع (3) [1].

______________________________

و ليعلم أن هذا النقض ناظر إلى ما هو الغالب من كون الثمن عينا خارجية كالمثمن، سواء أ كان نقدا أم عرضا، إذ يتوجه حينئذ محذور صدق تعريف البيع على قبول المشتري.

و أمّا لو كان الثمن منفعة مملوكة- كسكنى الدار أو عمل الحرّ بعد المعاوضة عليه- لم ينتقض تعريف البيع بقبول المشتري، لفرض عدم كون الثمن عينا، حتى يصدق البيع على تمليكه، لما تقدم من اعتبار عينية المعوّض دون العوض.

(1) أي: صدق تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» على الشراء الذي هو فعل المشتري.

(2) هذا تقريب النقض، و قد عرفته آنفا.

(3) فيصدق على الشراء «أنه إنشاء تمليك عين بمال» مع أنّ المقصود تعريف البيع القائم بالبائع، فلا بدّ من تعريفه بما لا ينطبق على قبول المشتري.

______________________________

[1] قال سيدنا الأستاذ قدّس سرّه: «هذا الإيراد لو تمّ توجّه أيضا على التعريف الأوّل و الثالث، و لا يختصّ بهذا التعريف» «1».

أقول: المراد بالأوّل هو تعريف البيع بما في المبسوط و التذكرة و غيرهما «من انتقال عين من شخص الى غيره .. إلخ». و بالثالث هو تعريف جامع المقاصد للبيع: «بنقل العين بالصيغة المخصوصة». و لم يظهر صدق شي ء من هذين التعريفين على الشراء.

أما الأوّل فلما فيه أوّلا: من أنّ الشراء- بناء على كونه إنشاء التمليك- يكون من مقولة الفعل، و الانتقال من مقولة الانفعال، و لا يصدق أحدهما على الآخر.

و ثانيا: من أنّ المال المنتقل من المشتري الى البائع لا يعتبر أن يكون عينا، لما تقدم من أنّ العينية غير معتبرة في الثمن.

و أمّا الثالث فلما فيه أوّلا: من مغايرة النقل للتمليك.

______________________________

(1): نهج الفقاهة، ص 15

ص: 222

و فيه (1): أنّ التمليك فيه (2) ضمنيّ، و إنّما حقيقته التملّك بعوض، و لذا (3)

______________________________

(1) هذا جواب الاشكال، و حاصله: عدم انتقاض تعريف البيع بقبول المشتري، و ذلك لأن المتصدّي لإيجاد المبادلة بين المالين هو البائع، فهو يملّك ماله للمشتري بالعوض، و إنشاء المشتري يتعلق بما أنشأه البائع من التمليك بالعوض، فوظيفة المشتري إنشاء التملّك الذي هو مطاوعة فعل البائع، و إن انحلّ هذا التملك المطاوعي المعاوضي إلى تمليك ماله للبائع، إلّا أنّه ليس متعلّقا للإنشاء أوّلا و بالذات، بل بالتحليل، حيث إن مطاوعة تمليك البائع تستلزم تمليك المشتري.

و الحاصل: أنّ متعلّق إنشاء البائع- أوّلا و بالذات- هو التمليك، و متعلق إنشاء المشتري كذلك هو التملك الذي يكون مطاوعة لفعل البائع، و حيث إنّ فعل البائع هو التمليك بالعوض فلا محالة يكون فعل المشتري تملّكا بالعوض، فهذا التملّك- الذي هو متعلق إنشاء المشتري أوّلا- يتضمّن التمليك أيضا، لأنّ مقتضى سلطنة الناس على أموالهم عدم انتقال إضافتهم الملكية إلى غيرهم إلّا بفعل اختياري مسمّى بالتمليك.

و إن شئت فقل: إنّ متعلق إنشاء المشتري- أوّلا و بالذات- هو التملك المتضمن لتمليك الثمن للبائع، لفرض كون البيع من المعاوضات. و متعلّق إنشاء البائع أوّلا و بالذات هو التمليك، فالإنشاء ان متعاكسان، و لا يصدق أحدهما على الآخر.

(2) أي: في الشراء.

(3) أي: و لأجل كون التمليك في الشراء ضمنيا غير مستقل لا يجوز إنشاء الشراء بلفظ «ملّكت» و ذلك لأنّ هذا اللفظ ليس صريحا و لا ظاهرا في التمليك الضمني، بل ظاهر في التمليك

______________________________

و ثانيا: من عدم اعتبار العينية في الثمن، و المفروض اعتبارها في التعريف المزبور، و هو نقل العين بالصيغة المخصوصة.

و ثالثا: أنّ الشراء لا يقع بلفظ «بعت» الذي هو المراد بالصيغة المخصوصة. و لم يظهر لنا مراده قدّس سرّه، و هو أعلم بما قال.

ص: 223

لا يجوز الشراء بلفظ «ملّكت» تقدّم على الإيجاب أو تأخّر (1) [1].

______________________________

الأصلي الابتدائي، و المفروض عدم كون الشراء تمليكا أصليا، فلا يجوز إنشاؤه بلفظ ليس صريحا و لا ظاهرا في التمليك الضمني.

(1) عدم دلالته على التمليك الضمني واضح، إذ ليس فيه شائبة التمليك التبعي و لا التملّك بالعوض أصلا، و لا فرق في هذه الجهة بين تقدم القبول على الإيجاب و تأخره عنه، لأنّ تمام المناط هو دلالة القبول- أوّلا و بالذات- على مطاوعة الإيجاب و التملك بالعوض، ثم دلالته على تمليك الثمن للبائع، و المفروض عدم تكفل «ملّكت» للتملك بالعوض و التمليك التبعي، و إنّما مدلوله التمليك الأصلي الذي هو مدلول الإيجاب.

______________________________

[1] و عليه فالفرق بين إنشاء البيع و إنشاء الشراء ثبوتي، حيث إنّ مفهوم القبول هو إنشاء التملك بعوض، سواء أ كان الدال عليه اللفظ أم الفعل كما في المعاطاة، فيترتب القبول على الإيجاب ترتّب الانفعال على الفعل، فلا يكون القبول في رتبة الإيجاب، لكونه بمنزلة العلة للقبول، فليس التمليك الضمني مفاد اللفظ، هذا.

لكن قد يورد عليه بما في كلام جمع من الأعيان، منهم السيد الخويي قدّس سرّه قال المقرّر:

«و لكنّا لم نفهم معنى محصّلا للتمليك الضمني، إذ يرد عليه أوّلا: أنّه إن كان مراده من التمليك الضمني: التمليك التبعيّ- بمعنى أنّ البائع يملّك ماله للمشتري أوّلا، و يملّك المشتري ماله للبائع ثانيا- فيرد عليه: أنّ لازم ذلك أن ينعكس الأمر فيما إذا تقدّم القبول على الإيجاب، بأن يكون التمليك من ناحية المشتري أوّلا، و البيع من ناحية البائع ثانيا.

و إن كان مراده من التمليك الضمني أنّ ألفاظ الإيجاب و القبول إنّما تدلّ بالدلالة المطابقية على تمليك المشتري ماله للبائع، سواء في ذلك تقدّم القبول على الإيجاب و عدمه، فيرد عليه: أنّ هذا يرجع إلى جهة الدلالة و مقام الإثبات، فلا يوجب فرقا بين التمليكين لبّا و في

ص: 224

______________________________

مقام الثبوت، بداهة أنّ البيع تبديل شي ء بشي ء في جهة الإضافة، و من الضروري أنّه يستحيل تحقق التبديل بين شيئين إلّا أن ينتقل كل منهما إلى محلّ الآخر في آن واحد و في مرتبة واحدة.

و عليه فلا يعقل وجود التمليك من ناحية البائع، إلّا في آن وجود التمليك من ناحية المشتري ..

و إذن فلا أصالة و لا تبعية في المقام ..» «1».

و أنت خبير بأنّ المراد بتبعية تمليك المشتري لتملّكه هنا هو كون التمليك الشرائي من لوازم التملك الشرائي، بحيث لا يحتاج إلى جعل على حدة، و لذا يصح قصد التملك من المشتري و إن لم يلتفت إلى لازمه و هو التمليك حتى يقصده، فالإصالة و التبعية ملحوظتان في نفس مفهومي البيع و الشراء. فالقبول إن كان بلفظ: «قبلت» لم يكن لتقديمه معنى صحيح، بعد وضوح ترتب مفهوم القبول على مفهوم الإيجاب. نعم إن كان بلفظ آخر يفيد التمليك بالأصالة كان إيجابا لا قبولا.

بل يمكن دعوى عدم الوجه في اعتبار التمليك التبعي في الشراء أيضا، بدعوى: أنّ البيع هو الإيجاب و القبول، و ليس حقيقة القبول إلّا إمضاء تمليك البائع، فالعقد هو التمليك و التملّك، و هما موضوعان لحكم الشارع أو العقلاء بالملكية، فلا يرد عليه ما في التقرير المزبور من: «أنّه إن سلّمنا التمليك فلا يندفع الإشكال، لإطلاق إنشاء التمليك على التمليك الضمني، فنقض تعريف البيع وارد عليه».

و أما ما أفاده من: «أن معنى البيع يقتضي تحقق التبديل بينهما في رتبة واحدة ..» ففيه:

أنّ المراد بالتبديل هو التبديل الإنشائي القائم بالبائع، و من المعلوم أنّ بدلية كلّ من المالين عن الآخر تحصل في رتبة واحدة بنفس هذا الإنشاء، لكنه لا يجدي بنفسه في ترتب الأثر و هو

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 2، ص 60 و 61، و نحوه ما في حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني، ج 1، ص 17، و حاشية المكاسب للمحقق الايرواني، ج 1، ص 74

ص: 225

______________________________

التبديل الخارجي الاعتباري، لأنّه مترتب على إنشاء المشتري قبول إنشاء البائع، و إلّا كان البيع إيقاعا لا عقدا، و بعد ضمّ هذا الإنشاء إلى إنشاء البائع يترتب عليه التبديل الاعتباري، فهنا أمور ثلاثة:

أحدها: إنشاء البائع تمليك المبيع بمال، و هذا التمليك الإنشائي يتحقق بين المالين في آن واحد و في رتبة واحدة، بمعنى صيرورة كلّ من المالين بدلا عن الآخر في مقام الإنشاء.

ثانيها: إنشاء المشتري مطاوعة ما أنشأه البائع، فمتعلق هذا الإنشاء أوّلا و بالذات هو تملّك المبيع بإزاء الثمن الذي مرجعه مطاوعة بدلية الثمن عن المبيع. و لا إشكال في تأخر هذا الإنشاء عن إنشاء البائع رتبة و زمانا، و من المعلوم أنّ إنشاء التملك متضمن لإنشاء تمليك المشتري للثمن، لكونه مقتضى المعاوضة المترتبة على التمليكين، أعني بهما: تمليك البائع و تمليك المشتري، و من البديهي تأخّر تمليك المشتري عن تمليك البائع برتبتين، إحداهما:

تأخره عن تملك المشتري الذي هو متعلق إنشاء الشراء أوّلا و بالذات، و الأخرى: تأخّره عن تمليك البائع، و مع التأخّر برتبتين كيف يعقل اتحاد التمليكين رتبة؟ كما في التقرير المزبور.

ثالثها: حكم الشارع أو غيره ممّن بيده الاعتبار بترتب الأثر كالملكية على مجموع الإنشاءين، فهما كموضوع الحكم التكليفي كوجوب الحج المترتب على البالغ العاقل المستطيع، فإنشاء تمليك البائع و إنشاء تملّك المشتري معا موضوع لحكم الشارع أو العرف بالملكية.

فتحصّل مما ذكرناه أمور:

الأوّل: أنّ التمليك الإنشائي بين المالين يتحقق بنفس إنشاء البائع و في زمان واحد.

الثاني: أنّ المراد بضمنية تمليك المشتري هو ترتبّه على إنشاء مطاوعة فعل البائع، بمعنى: أنّ إنشاء المشتري يتعلّق أوّلا و بالذات بتملّك المبيع، و ثانيا بتمليك الثمن، و هذا التمليك يكون في ضمن إنشاء التملّك.

ص: 226

______________________________

الثالث: أنّ التمليك الضمني ليس راجعا إلى مقام الدلالة و الإثبات، بل إلى مقام الثبوت و اللّب.

الرابع: أنّ تمليك المشتري للثمن ليس في عرض تمليك البائع و رتبته، بل في طوله.

و عليه فما أفاده المصنف قدّس سرّه في دفع النقض بالشراء من كون تمليك الثمن ضمنيا في محله.

لكن يرد عليه: أنّ إطلاق تعريف البيع «بإنشاء تمليك العين بمال» يشمل التمليك الضمني كالاستقلالي، فينتقض بالشراء، فيما كان الثمن عينا لا منفعة.

و أما النقض عليه ببيع السلم، حيث إن المحكي إطباقهم على جواز كون الإيجاب فيه من المشتري بأن يقول: «أسلمت إليك عشرة دراهم في منّ من الحنطة» و تعقّبه قبول البائع، فيكون تمليك المشتري أصليا و تمليك البائع ضمنيا، مع أنّ البائع هو صاحب الطعام، الذي يترتب قبوله على تمليك المشتري للدراهم، فقد تخلّص منه السيد قدّس سرّه «بأنّ الإيجاب و إن كان من المشتري، إلّا أنّه يملّك بعنوان العوض، فكأنّه قال: أعطيتك الدراهم عوضا عن تمليكك الطعام، فالتمليك الأصلي من البائع و الضمني من المشتري، فلا نقض» «1».

هذا، مع إمكان كون العوض في باب السلم منفعة مملوكة كسكنى الدار، بأن يخلّي المشتري بينها و بين البائع لاستيفائها، فإنّ الثمن مقبوض، و لا ينتقض تعريف البيع حينئذ، لاعتبار كون المعوّض عينا و لو كليّا في الذمة، هذا.

إلّا أن يقال: بورود الاشكال على تعريف البيع حينئذ، إذ لازم ذلك إنكار صدق الحدّ على تمليك المنفعة، لعدم كونها عينا، مع أنّه لا ريب في مصداقيّته لبيع السّلم، فينحصر الجواب في توجيه السيد قدّس سرّه من أنّ ما يدفعه المشتري إلى البائع معنون بكونه عوضا لا معوّضا، سواء أ كان الثمن عينا أم منفعة أم حقّا قابلا للنقل الى الغير.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 60

ص: 227

[ه انتقاض تعريف البيع باستئجار عين بعين]

و به (1) يظهر اندفاع الإيراد بانتقاضه (2) بمستأجر العين

______________________________

ه- انتقاض التعريف بالاستيجار بالعين

(1) أي: و بما ذكرناه- من كون التمليك في الشراء ضمنيا- يظهر اندفاع الإيراد، .. إلخ.

و هذا إشكال خامس على تعريف البيع بإنشاء تمليك عين بمال، و لم يفرده بالبحث لأجل مشاركته للإشكال الرابع نقضا و جوابا، فهنا أمران، أحدهما تقريب النقض، و ثانيهما دفعه.

أما الأوّل- و هو أصل النقض- فبيانه: أن حقيقة الإجارة- كما سبق التعرض له في اعتبار عينية المبيع- هي تمليك المنفعة بعوض، سواء أ كان العوض عينا كالدينار و الكتاب و نحوهما، كما إذا آجر داره شهرا بدينار، أم منفعة كما إذا آجر داره شهرا بخياطة ثوب أو نجارة سرير و نحوهما، فإذا استأجر زيد دارا من عمرو و كانت الأجرة عينا كدينار صدق على تمليك الدينار للموجر: أنّه إنشاء تمليك عين بمال، و هذا معنى انتقاض تعريف البيع باستئجار عين بعين.

و يظهر من هذا البيان ورود هذا النقض أيضا على تعريف البيع بانتقال عين مملوكة بعوض.

و أمّا الثاني- و هو جواب النقض- فتوضيحه: أن الاستيجار ليس إنشاء تمليك الأجرة كالدينار بالمنفعة، بل حقيقته إنشاء تملّك المنفعة بالأجرة، فتمليك الأجرة لمالك الدار مثلا ضمني، و ليس بنفسه- أوّلا و بالذات- متعلّقا للإنشاء، كما تقدّم في حقيقة الشراء.

(2) بيان للإيراد، يعني: ينتقض تعريف البيع- بإنشاء تمليك عين بمال- بباب الإجارة إذا كانت الأجرة عينا كالدينار و الكتاب.

______________________________

ثم إنّ في استشهاد المصنف قدّس سرّه- على ضمنية تمليك المشتري- بعدم جواز إنشاء القبول بلفظ «ملّكت» مسامحة، إذ لا شهادة في عدم جواز ذلك على كون التمليك الشرائي ضمنيا، إذ لو أريد عدم الجواز شرعا كان خارجا عن محل الكلام، إذ مورد البحث هو البيع العرفي. و إن أريد عدم الجواز عرفا فهو غير ظاهر، بل ممنوع.

ص: 228

بعين (1)، حيث (2) إنّ الاستيجار يتضمّن تمليك العين بمال أعني المنفعة [1].

[و انتقاض تعريف البيع بالصلح]

و منها (3): انتقاض

______________________________

(1) قد عرفت أنّ تقييد النقض- بالإجارة- بما إذا كانت الأجرة عينا إنّما هو لأجل إخراج مستأجر العين بالمنفعة، فإنّه لا تمليك للعين أصلا لا من طرف المؤجر لكونه مملّكا لمنفعة العين لا رقبتها، و لا من طرف المستأجر، لفرض كونه مملّكا لمنفعة كالخياطة و النجارة، فتقع المبادلة بين منفعتين، فلا مورد حينئذ لدخول الإجارة في تعريف البيع حتى ينتقض تعريفه بها.

(2) هذا تقريب النقض، و قد عرفته. و أمّا جواب النقض فقد أحاله المصنف على ما ذكره في دفع النقض بالشراء، و محصله: أن المستأجر بالعين إنما يتملّك المنفعة بعوض بالأصالة، و يملّك عينه للموجر ضمنا، كما أنّ المشتري يتملّك المبيع أصالة، و يملّك الثمن للبائع ضمنا، فلا موضوع للنقض.

و- انتقاض التعريف بالصلح

(3) أي: و من الأمور الباقية على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» انتقاضه

______________________________

[1] لا يخفى أنّ دفع الاشكال عن الاستيجار بالعين بما في المتن مبني على كون الإجارة بمعنى «تمليك المنفعة» حتى يكون الاستيجار تملك المنفعة، كي يجاب عن الإشكال بأنّ مفهوم الاستيجار- إذا كانت الأجرة عينا- هو تملك المنفعة بالعين ليصير تمليك العين بعوض ضمنيا.

لكن الأمر ليس كذلك، لأنّ حقيقة الإجارة ليست تمليك المنفعة بعوض و الاستيجار تملك المنفعة، إذ لو كانت حقيقتها التمليك لخرجت الإجارات الواقعة على الموقوفات، خصوصا إذا كانت الأجرة غير مملوكة أيضا، كما إذا استأجر الوليّ العام خانا وقفيا لحفظ الزكوات أو للزّوّار و الغرباء، فإنّ شيئا من المنفعة و الأجرة ليس مملوكا للموجر و المستأجر، مع صحة الإجارة، و دخول هذا النحو من المعاملة في عنوان الإجارة عرفا، فحقيقة الإجارة هي التبديل بين المنفعة و الأجرة.

ص: 229

طرده [1] بالصلح على العين

______________________________

بالصلح على عين بعوض و بالهبة المعوضة، و هذا خامس الإشكالات التي أوردها المصنف قدّس سرّه على تعريفه للبيع، و قد أورده صاحب الجواهر قدّس سرّه على تعريف المصابيح- الذي هو كالأصل لما في المتن- بقوله: «و فيه- مع كونه مبنيّا على أصالة البيع في نقل الأعيان بالعوض- من دون توقف على قصد البيع- ينتقض بالصلح و الهبة المعوضة» «1».

و قد سبقهما الشهيد الثاني، حيث عدّ النقض بالصلح و الهبة المعوّضة من وجوه الخلل في تعريف البيع «بالعقد الدال على نقل الملك» كما في الشرائع، قال في المسالك: «الثالث: ينتقض أيضا بالهبة المشروط فيها عوض معيّن، فإنّ التعريف يشملها و ليست بيعا. الرابع: يدخل فيه أيضا: الصلح المشتمل على نقل الملك بعوض معيّن، فإنّه ليس بيعا عند المصنف» «2».

و يظهر منه عدم اختصاص النقض بهما بتعريف البيع بإنشاء التمليك أو بالعقد الدال على نقل الملك، بل يرد على تعريفه بانتقال عين مملوكة أيضا، كما أورد به المحقق الثاني على تعريف العلّامة، فراجع «3».

و كيف كان فتوضيح هذا الاشكال الخامس هو: عدم مانعية التعريف عن دخول غير البيع في الحدّ، و ذلك لأنّ «إنشاء تمليك عين بمال» يصدق على عقدين آخرين.

أحدهما: الصلح على العين بمال، كما إذا صالح على الدار بألف دينار.

______________________________

[1] الأولى أن يقال: «و منها: صدقه على الصلح بعين ..» أو «انتقاض طرده أيضا بالصلح ..» إذ ربما يوهم تعبير المتن «طرده» مخالفة هذا النقض سنخا للنقوض المتقدمة، و المفروض أنّ النقض بالصلح إشكال على عدم طرد التعريف كالنقوض السابقة، و ليس إشكالا على عكس التعريف حتى يكون مغايرا لتلك النقوض سنخا. فإنّ الإشكال على عكسه- أي: جامعيته- سيأتي إن شاء اللّه تعالى، و لم يظهر وجه للعدول عن السياق.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 206.

(2) مسالك الافهام، ج 3، ص 146

(3) جامع المقاصد، ج 4، ص 55

ص: 230

بمال (1)،

[ز انتقاض تعريف البيع بعقد الهبة المعوضة]

اشارة

و بالهبة (2) المعوّضة [1].

______________________________

الثاني: الهبة المعوّضة، كما إذا وهبه كتابا بشرط أن يدفع المتهب دينارا إلى الواهب.

و الوجه في النقض واضح، لما فيهما من إنشاء تمليك عين بمال كإنشاء تمليكها به في البيع، و عليه لا يكون تعريف البيع هنا مانعا عن دخول الغير فيه، كالصلح و الهبة المعوضة و الإجارة، مع أنه لا ريب في خروجها عن حد البيع، بشهادة عقد باب على حدة لكل منها في المعاملات، فتعيّن حينئذ تعريف البيع بتعريف آخر مطرد و منعكس.

(1) تقييد النقض بما إذا كان «الصلح على عين» إنّما هو لسلامة تعريف البيع عن هذا النقض إذا كان الصلح على منفعة أو على حقّ قابل للإسقاط أو النقل، أو كان الصلح على إبراء دين، فالأوّل كما إذا صالح على سكنى الدار شهرا بدينار، و الثاني كالصلح على حق الخيار أو حق التحجير بدينار، و الثالث كالصلح على إبراء ما في ذمة المديون من الدين بدينار، فالصلح في هذه الموارد لا يصدق عليه «إنشاء تمليك عين بمال» حتى ينتقض تعريف البيع به كما هو واضح.

ز- انتقاض التعريف بالهبة المعوّضة

(2) معطوف على قوله: «بالصلح» و تقريب انتقاض التعريف بالهبة المعوّضة هو: أنّ الموهوب لا بدّ أن يكون عينا، ففي الهبة المعوّضة ينشئ الواهب تمليك عين بعوض، فيصدق تعريف البيع على الهبة، و تندرج هي في الحدّ مع وضوح خروجها عنه، و عليه فليس التعريف مانعا للأغيار.

______________________________

[1] لا يخفى أنّ الهبة المعوضة تكون على أقسام:

أحدها: أن يعطي المتهب شيئا للواهب من دون أن يشترط الواهب عليه عوضا، بل يعطيه تداركا لإحسانه.

ثانيها: أن يشترط الواهب على المتهب عوضا، كأن يهبه دارا بشرط أن يعطيه كتاب البحار مثلا.

ثالثها: أن تكون الهبة في مقابل مثلها، كأن يقول: «وهبتك كذا بهبتك كذا» بحيث تكون المقابلة بين الهبتين.

ص: 231

و فيه (1): أنّ حقيقة الصلح

______________________________

(1) هذا دفع الاشكال الخامس، و لمّا كان متضمنا لنقض تعريف البيع بعقدين آخرين- و هما الصلح و الهبة المعوضة- فلذا تصدّى للجواب عن كل واحد منهما بما يناسبه. فيقع الكلام في مقامين: أحدهما في التفصّي عن النقض بالصلح، و الثاني في دفع النقض بالهبة المعوّضة.

أمّا المقام الأوّل، فمحصّل ما أفاده فيه: مغايرة البيع و الصلح مفهوما، و استدل عليه بأمور ثلاثة.

أمّا اختلافهما مفهوما فبيانه: أنّ البيع- كما تقدّم في كلام بعض أهل اللغة كالفيومي

______________________________

رابعها: أن تكون الهبة مشروطة بشي ء بنحو شرط النتيجة، كأن يقول الواهب: «وهبتك كذا بشرط أن تكون دارك ملكي».

و المناسب للنقض هو الهبة التي تقع المقابلة فيها بين المالين بنحو يكون العوض جزءا لا شرطا كما في القسم الثالث، إذ الهبة الثانية تكون عوضا عن الهبة الأولى، فيصدق عليه:

«إنشاء تمليك عين بعوض» بخلاف ما عداه من الأقسام المزبورة، فإنّ شرط العوض غير نفس العوض بنحو الجزئية، و كونه مقابلا للعين الموهوبة كمقابلة الثمن للمثمن في البيع. و لذا تبطل الهبة بانتفاء العوض فيما إذا كان مقابلا للموهوب، كبطلان كلّ معاوضة بفقدان أحد العوضين قبل القبض، دون ما إذا كان بنحو الشرطية، لأنّ انتفاء الشرط لا يوجب البطلان، بل يوجب الخيار.

و بالجملة: فتمليك مال بإزاء مال خارجي بيع، و كذا تمليك مال بإزاء فعل من الأفعال المتمولة من إعطاء و تمليك و خياطة و قصارة و غير ذلك من الأعمال المتمولة، فإنّ جميع هذه التمليكات مصاديق البيع الذي هو تمليك عين متمولة بمال.

و مما ذكرناه يظهر ما في حاشية السيد قدّس سرّه من جعل بعض أقسام التمليكات المزبورة من الهبة مع أنّها من البيع «1». لأنّ تمليك العين بعوض- سواء أ كان العوض عينا أم منفعة أم حقا- ليس إلّا البيع، فإنّ التمليك المقابل بالتمليك أيضا بيع، لكون التمليك عملا، و سيأتي تفصيل مقابلة العين بالتمليك أو التمليك بمثله في رابع تنبيهات المعاطاة إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 61

ص: 232

..........

______________________________

و كذا في كلمات الفقهاء- تمليك عين بمال على وجه المقابلة، فلا يصدق على تمليك غير الأعيان من الحقوق و المنافع، كما لا يصدق على تمليك عين خال عن العوض. و معنى الصلح هو التراضي بين المتنازعين و تسالمهما على أمر من تمليك عين أو منفعة، أو إباحة تصرّف، أو سقوط حقّ، أو إبراء دين، و نحوها. قال العلامة الطريحي في بيان النبوي: «الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا» ما لفظه: «أراد بالصلح: التراضي بين المتنازعين، لأنّه عقد شرّع لقطع المنازعة» «1».

و عليه فحقيقة الصلح- إذا تعلّق بعين مع عوض- ليست إنشاء تمليك عين بمال حتى ينتقض به البيع، بل هي التسالم الاعتباري، يعني: أنّ الإنشاء يتعلّق أوّلا بالتراضي و الموافقة، لا بالتمليك، إلّا أنّ التسالم حيث إنّه من سنخ المعاني التعلّقية- لاستحالة التراضي المطلق كاستحالة تعلقه بالأعيان- فلا بد من تعلّقه بفعل أو بحكم، فالأوّل- أي تعلّقه بالفعل- نظير الصلح عن الدار بألف دينار، بأن يكون المقصود التسالم على تمليكها بالألف، و الثاني كالصلح على ملكيتها بالألف.

و فائدة هذا السنخ من الصلح- إذا تعلّق بالتمليك- و إن كانت متّحدة مع البيع من حيث وقوع المبادلة بين عين و عوض، إلّا أنّ العبرة في صدق كل عقد- ليترتب عليه أحكامه الخاصة به- هي نفس العنوان المنشأ، سواء اتحدت نتيجته مع عقد آخر أم اختلفت عنه. هذا كلّه في اختلاف مفهومي البيع و الصلح سنخا.

و أما الدليل عليه فوجوه ثلاثة نشير إليها فعلا، و سيأتي توضيحها عند شرح كلمات المصنف قدّس سرّه.

أوّلها: تعدي البيع بنفسه الى المبيع، و تعدي الصلح إلى متعلّقه بالحرف، سواء أ كان المتصالح عليه عينا أم منفعة، و سواء أفاد الملك أم الإباحة أم غيرها، و من المعلوم أنّ التعدّي بالنفس و بالحرف أمارة اختلاف المفهومين.

ثانيها: أنّ الصلح يجري في موارد طائفة من العقود المعاوضية و الإيقاعات، فلو كان

______________________________

(1): مجمع البحرين، ج 2، ص 388

ص: 233

- و لو (1) تعلّق بالعين- ليس هو التمليك على وجه المقابلة (2) و المعاوضة، بل معناه الأصلي (3) هو التسالم، و لذا (4) لا يتعدّى بنفسه إلى المال.

______________________________

مدلوله كالبيع تمليك عين بعوض فإمّا أن يكون إطلاقه في تمليك المنفعة و إسقاط الحق و نحوهما مجازيا، و إمّا بنحو الاشتراك اللفظي، و كلاهما ممنوع.

ثالثها: أنّه لو كان التمليك مأخوذا في مفهوم الصلح لزم أن يكون طلبه من الخصم إقرارا بمالكيّته، مع أنّهم فرّقوا بين طلب التمليك و طلب الصلح على المتنازع فيه.

فهذه أمور تشهد بأنّ «التمليك على وجه المقابلة» غير ملحوظ في تعريف الصلح، و أنّ مفهومه مجرّد التسالم مهما كان المتسالم عليه، هذا.

(1) وصليّة، يعني: لا فرق في عدم تضمّن مفهوم الصلح للتمليك على وجه المقابلة بين كون المتصالح عليه عينا، و غيرها، فالمنشأ في وعاء الاعتبار هو التسالم، لا التمليك بنحو المعاوضة بين عين و مال.

و نبّه بقوله: «و لو تعلق بعين» على مورد النقض، حيث إنّ مورد انتقاض تعريف البيع إنّما هو الصلح على العين، كما تقدّم في عبارتي المسالك و الجواهر، فدفعه المصنف قدّس سرّه بأجنبية مفهوم الصلح عن التمليك بالعوض، بل هو التسالم و التراضي بلا فرق بين تعلّقه بالعين أو بالمنفعة أو بغيرهما كالحقوق.

(2) أي: المقابلة بين العوضين، و بهذه العبارة يمكن إخراج الهبة المعوّضة عن تعريف البيع أيضا، لأنّ تمليك المتّهب للواهب ليس لاقتضاء تمليك العين الموهوبة له، بل للشرط، مع أنّ الثمن في باب البيع عوض نفس المبيع، و لذا يصحّ سلب العنوان حقيقة عمّا إذا قال: «بعتك بلا ثمن».

(3) الذي هو المنشأ، و هو المناط في تعنون الإنشاء بعنوان الصلح، و لا عبرة بالفائدة المترتبة عليه.

(4) هذا هو الدليل الأوّل على تغاير مفهومي البيع و الصلح سنخا، و محصّله: أنّ مادة

ص: 234

نعم (1) هو متضمن للتمليك إذا تعلّق بعين، لا أنّه (2) نفسه.

و الّذي يدلّك على هذا (3) أنّ الصلح قد يتعلّق

______________________________

«البيع» تتعدى الى المبيع بنفسها، فيقال: «بعت الدار بكذا». و لكن الصلح لا يتعدّى الى المتصالح عليه بنفسه، بل بمعونة حرف المجاوزة أو الاستعلاء، فيقال: «صالحتك عمّا علم بما علم» أو «صالحتك على أن يكون هذا لك و ذلك لي» فيعلم منه عدم كون الصلح بمعنى التمليك و النقل و البيع المتعدية بأنفسها إلى العين، لأنّ التعدية بالنفس و بالحرف أمارة اختلاف المفهومين. و لو كان الصلح بمعنى التمليك على وجه المقابلة لصحّ إنشاؤه بمثل «صالحتك الدار بألف دينار» مع عدم صحته.

(1) استدراك على قوله: «ليس هو التمليك» و قد عرفت عدم المنافاة بين كون المنشأ في الصلح هو التراضي على أمر، و بين إفادته التمليك.

(2) يعني: لا أنّ الصلح نفس تمليك العين على وجه المقابلة كالبيع.

(3) أي: على أنّ الصلح هو التسالم الاعتباري، لا التمليك. و غرضه إقامة دليل ثان على عدم كون الصلح نفس التمليك، و حاصله: أنّ الصلح يجري في موارد عقود و معاوضات متعددة، و يفيد في كل واحد منها فائدة تلك المعاملة. و المذكور منها في المتن خمسة:

أوّلها: أن يتعلق التسالم بتمليك عين في قبال عوض، و فائدته فائدة البيع، غير أنّ الأحكام الخاصة به لا تجري في الصلح، كخيار المجلس، فيتملك لزوما كلّ من المتصالحين المال عقيب وقوع العقد و إن لم يفترقا عن مجلس المعاملة.

ثانيها: أن يتعلّق التسالم بتمليك منفعة كسكنى الدار مدة شهر بدينار، و ثمرته متّحدة مع الإجارة.

ثالثها: أن يتعلّق التسالم بتسلط المتصالح على الانتفاع بملك المصالح، فيباح له الانتفاع به من دون دخول المنفعة في ملكه، و هذا فائدة عقد العارية.

رابعها: أن يتعلّق الصلح بإسقاط حقّ أو بنقله، فالأوّل كما إذا تصالح الشفيع و المشتري

ص: 235

..........

______________________________

على إسقاط حق الشفعة، أو تصالح ذو الخيار مع من عليه الخيار على رفع اليد عن حقّه.

و الثاني كالصلح على نقل حق التحجير الى الغير حتى يكون المتصالح- بمنزلة المحجّر- أولى بإحياء الأرض و عمارتها من غيره.

خامسها: أن يتعلّق الصلح بتقرير مقاولة بين المتصالحين، كما إذا اشترك شخصان في رأس مال للتجارة به، فاتّجرا و ربحا، غير أنّ الفوائد موزّعة بعضها نقود و بعضها ديون على آخرين، فإنّ مقتضى عقد الشركة توزيع الأرباح و الخسائر على ذوي الحصص بنسبتها. لكن لو أراد أحد الشريكين فسخ الشركة و أخذ رأس ماله جاز أن يصالح شريكه على سحب حصته، بأن يكون الربح و الخسارة المحتملان في مال الآخر، فإن كانت شركتهما رابحة كانت الفائدة له بمنزلة هبة من الذي أخذ حصّته، و إن كانت خاسرة فالمتضرّر أبرأ ذمة ذلك الذي استقلّ برأس ماله.

و فائدة هذا الصلح تثبيت المقاولة المذكورة بين المتصالحين، إذ لولاها كان اللازم العمل بمقتضى عقد الشركة من توزيع الربح و الخسارة على الشريكين بنسبة الحصص.

هذه جملة من الموارد التي شرّع عقد الصلح فيها، و لا يترتب تمليك العين فيها إلّا على الأوّل منها أعني به الصلح على عين بعوض، و هو متحد مع البيع أثرا و فائدة.

و حيث كانت الفوائد في هذه المقامات متفاوتة فالمتعيّن جعل المنشأ جامع التسالم و التراضي كي ينطبق المفهوم على جميع الموارد، و لم يؤخذ التمليك في حقيقة عقد الصلح حينئذ. و لو لم يكن المنشأ هو جامع التسالم فإمّا أن يلتزم بأنّ الصلح كالبيع تمليك عين بعوض لا غير، فيكون استعماله مجازا في ما لو تعلق بتمليك المنفعة أو بإباحة الانتفاع أو بإسقاط حقّ و ما شابه ذلك. و إمّا أن يلتزم بتعدد الوضع، بأن يكون موضوعا مرة لتمليك العين، و اخرى لإباحة الانتفاع، و ثالثة للإبراء، و هكذا.

ص: 236

بالمال عينا (1) أو منفعة، فيفيد التمليك.

و قد يتعلّق (2) بالانتفاع فيفيد فائدة العارية، و هو مجرّد التسليط.

و قد يتعلّق (3) بالحقوق، فيفيد الإسقاط أو الانتقال.

______________________________

و كلاهما كما ترى أمّا مجازية استعماله فيما عدا تمليك الأعيان فظاهر المنع، فإنّ استعماله في الأمثلة المتقدمة يكون بوزان واحد، و ليس في الصلح على الإبراء مثلا قرينة صارفة عن معناه الحقيقي- أي تمليك العين- الى معنى آخر. و أمّا اشتراكه اللفظي فكذلك واضح البطلان، إذ المعهود بينهم هو انطباق الصلح بمفهومه الوحداني على تلك الموارد، و إن كان مفيدا في كل مورد فائدة غير الفائدة المترتبة على مورد آخر.

(1) هذا إشارة إلى المورد الأوّل، و هو يفيد فائدة البيع، و إن لم يترتب عليه أحكامه الخاصة به، فلا يثبت في هذا الصلح خيار المجلس.

كما أنّ قوله: «أو منفعة» إشارة إلى المورد الثاني، و هو يفيد فائدة الإجارة.

ثم إنّ تصريحه بأعمّيّة المال من العين و المنفعة يوافق ما أفاده في أوّل كتاب البيع من كفاية كون الثمن منفعة متمولة، و يخالف ما سيأتي منه في بحث المقبوض بالعقد الفاسد من التشكيك في صدق المال على المنافع.

(2) هذا إشارة إلى المورد الثالث، و هو: إفادة الصلح فائدة العارية و هي التسليط على العين للانتفاع بها. و الفارق بين الانتفاع و المنفعة أن الانتفاع عرض قائم بالمستعير، بخلاف المنفعة التي هي حيثية في نفس العين ذات المنفعة.

و هل تفيد العارية الإذن في الانتفاع من دون أن يتملّك المستعير شيئا، أم تفيد الملك، كما أنّ الإجارة تمليك المنفعة؟ وجهان، و لا صراحة في عبارة المصنف قدّس سرّه في واحد منهما.

و لعلّ قوله: «مجرد التسليط» أقرب الى إفادة الإباحة المالكية لا التمليك.

(3) هذا إشارة إلى المورد الرابع، و هو الصلح على الحقوق، فإن كان الحقّ قابلا للإسقاط خاصة ترتّب على الصلح عليه سقوطه عمّن عليه الحق. و إن كان قابلا لكلّ من الإسقاط و النقل جاز الصلح على كلتا الحيثيتين. و أمّا الحق غير القابل للإسقاط كحق الولاية و نحوه

ص: 237

و قد يتعلّق (1) بتقرير أمر بين المتصالحين، كما في قول أحد الشريكين لصاحبه: «صالحتك على أن يكون الربح لك و الخسران عليك» فيفيد مجرّد التقرير.

فلو كانت (2) حقيقة الصلح هي عين كلّ من هذه المفادات الخمسة، لزم كونه مشتركا لفظيّا، و هو واضح البطلان (3)، فلم يبق إلّا أن يكون مفهومه معنى آخر (4)،

______________________________

فلا يقبل الصلح عليه.

(1) هذا إشارة إلى المورد الخامس و هو الصلح على مقاولة بين شريكين لأجل تقريرها و تثبيتها، و الظاهر مشروعية هذا النوع من الصلح، قال المحقق: «و إذا اصطلح الشريكان، على أن يكون الربح و الخسران على أحدهما، و للآخر رأس ماله، صحّ» «1».

و مستنده- مضافا الى إطلاق دليل الصلح- خصوص معتبرة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجلين اشتركا في مال، فربحا فيه، و كان من المال دين، و عليهما دين [و في التهذيب: و كان من المال دين و عين] و قال لصاحبه: أعطني رأس المال و لك الربح و عليك التّوى، فقال: لا بأس إذا اشترطا، فإذا كان شرط يخالف كتاب اللّه فهو ردّ إلى كتاب اللّه عزّ و جلّ» «2».

(2) غرضه قدّس سرّه الاستنتاج مما ذكره بقوله: «و يدلك على هذا» إلى هنا، و أنّ الصلح لو استعمل في تلك الموارد حقيقة- بعد عدم وجود جامع بينها كالتمليك- لزم كونه مشتركا لفظيا، و المقرر في محلّه بطلانه، فهذا التالي الفاسد شاهد على نفى تعدّد الوضع، فلا بدّ من فرض جامع بين الموارد و هو التسالم. و عليه يخرج التمليك- في الصلح على العين- عن حريم المفهوم، و إنّما يقتضيه المتعلّق.

(3) إذ لم يدّعه أحد، و عدم ادّعائه يدلّ على عدم اشتراكه اللفظي، مضافا إلى كونه خلاف الأصل.

(4) يعني: غير التمليك و التسليط و الإسقاط و التقرير و نحوها.

______________________________

(1): شرائع الإسلام، ج 2، ص 121

(2) وسائل الشيعة، ج 13، ص 165، الباب 4 من كتاب الصلح، الحديث: 1

ص: 238

و هو التسالم [1]، فيفيد في كل موضع فائدة من الفوائد المذكورة بحسب ما يقتضيه متعلّقه. فالصلح (1) على العين بعوض تسالم عليه، و هو (2) يتضمّن التمليك، لا أنّ مفهوم الصلح في خصوص هذا المقام (3) و حقيقته

______________________________

(1) هذه نتيجة نفي الاشتراك اللفظي، و أنّ الصلح موضوع بنحو الاشتراك المعنوي لجامع التسالم و التراضي، فيكون التسالم على كل شي ء بحسبه مقتضى متعلق الصلح، و لا دخل لذلك الأثر المترتب عليه في مفهوم الصلح و معناه.

(2) أي: الصلح على العين يقتضي التمليك و إن لم يكن المنشأ تمليك عين بعوض. و قد عرفت أنّ المدار في صدق عنوان من العناوين الاعتبارية نفس المنشأ، لا الخواص التي قد يشترك فيها عقدان أو أكثر.

(3) و هو مقام نقض تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» بالصلح على عين بعوض، فكما أنّ الصلح على الانتفاع ليس معناه التسليط بل معناه التسالم، فكذا في الصلح على عين بعوض، فليس مفهومه التمليك و إن ترتّب عليه لأجل خصوصيّة في متعلق التسالم.

______________________________

[1] قد يشكل التفصي عن النقض- بجعل حقيقة الصلح تسالما على أمر- بما أفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه من: أنّ التسالم من مقولة الالتزام، و هو سنخ معنى لا يتعلق بالعين، بل لا بدّ من تقدير الفعل المناسب كالحلية و الحرمة المتعلقتين بالأعيان، و عليه فلا معنى للتسالم على العين إلّا باعتبار فعل كالتمليك أو نتيجته كالملكية، فالمنشأ حقيقة هو التسالم على مثل التمليك أو الإباحة، لا التراضي المطلق حتى يخرج المتعلق عن حاق المفهوم و يصير فائدة له.

فالتسالم كالتنازع و إن تعلّقا ظاهرا بالأعيان، إلّا أنّ المتسالم عليه لبّا و المتنازع فيه كذلك ليس هو نفس العين، بل حيثية أخرى من حيثياتها، كملك الرقبة أو المنفعة أو إباحة الانتفاع بها، و نتيجة ذلك انتقاض تعريف البيع «بإنشاء التمليك» و نحوه بالصلح على العين بعوض، كما ذكره الشهيد الثاني و صاحب الجواهر قدّس سرّهما إذ المنشأ هو التسالم على تمليكها لا التسالم المطلق حتى يكون متضمّنا للتمليك «1»، هذا.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 17

ص: 239

هو إنشاء التمليك (1).

و من هنا (2) لم يكن

______________________________

(1) حتى ينتقض تعريف البيع بهذا المورد من موارد الصلح.

(2) يعني: و من عدم كون مفهوم الصلح- إذا تعلّق بعين على عوض- هو التمليك لم يكن طلب الصلح من المنكر إقرارا بصحة ما يدّعيه المدّعي، و غرضه إقامة دليل ثالث على اختلاف البيع و الصلح مفهوما، و عدم كون الصلح تمليكا، و توضيحه: أنّهم ذكروا في كتاب الصلح: إذا تنازع زيد و عمرو على أرض- مثلا- فادّعى زيد ملكيّتها، و أنكر عمرو ذلك، فأرادا التصالح و فصل الخصومة، أمكن ذلك بأحد نحوين:

الأوّل: أن يستدعي عمرو من زيد بيع الأرض أو تمليكها، فيقول: «بعني الأرض أو ملّكنيها».

______________________________

مضافا إلى: أنّ حقيقة الصلح لو كانت هي التسالم للزم جواز إنشاء الصلح بلفظ «سالمت» مقام «صالحت» كما تقدّم نظير هذا الاشكال من المصنف على بعض التعاريف، و لم يظهر من الأصحاب جوازه، و ذلك يكشف عن عدم كون التسالم مرادفا للصلح، و إلّا جاز إنشاؤه به.

فلعل الأولى أن يقال: إنّ الجامع بين موارد الصلح- بحيث ينطبق عليها- هو التجاوز و رفع اليد عن متعلق الصلح، فمعنى قوله: «صالحتك عن الدار أو عن منفعتها أو عن الخيار أو غيره من الحقوق» هو رفع اليد و الإعراض عنه.

أو يقال: إنّ الصلح في غير موارد التمليك أجنبي عن البيع، فلا ينتقض به، و في موارد التمليك إذا كان- متعلّقا بالعين- كالصلح على الدار و الدكّان و غيرهما من الأعيان بعوض، فيمكن أن يقال: إنّه بيع حقيقة، غاية الأمر أنّه إنشاء بغير لفظ البيع، فلا يرد نقض.

نعم بناء على عدم جواز إنشاء البيع بلفظ آخر فالنقض وارد، و دفعه منحصر بكون الصلح حقيقة في التجاوز و رفع اليد عما تعلّق به كما قيل.

ص: 240

طلبه (1) من الخصم إقرارا له، بخلاف طلب التمليك (2).

و أمّا (3) الهبة المعوّضة

______________________________

الثاني: أن يستدعي منه الصلح على تلك الأرض، فيقول: «صالحني عليها بكذا».

و فرّقوا بين الطريقين بأنّ الأوّل- و هو طلب التمليك و البيع- يعدّ تنازلا من المنكر و اعترافا بمالكية المدّعي للعين المتنازع فيها، إذ لا معنى لاستدعاء البيع من غير المالك، فلا بدّ أن يتضمّن طلب البيع إقرارا بصحة دعوى زيد و مالكيته للأرض. بخلاف الثاني، فإنّ استدعاء الصلح ليس إقرارا بصحة دعوى زيد، لأنّ همّه قطع المنازعة.

قال المحقق: «و إذا قال المدّعى عليه: صالحني عليه، لم يكن إقرارا، لأنّه قد يصحّ مع الإنكار. أمّا لو قال: بعني أو ملّكني كان إقرارا» «1».

و هذا التفصيل خير شاهد على أنّ حقيقة الصلح- مع الغضّ عن متعلّقه- ليست تمليكا، و إلّا لم يكن فرق بين أن يطالب المنكر من المدّعي تمليك العين بالبيع، و بين أن يطالب الصلح عليها.

هذا توضيح كلمات المصنف قدّس سرّه في المقام الأوّل من الجواب عن الاشكال الخامس.

و أما المقام الثاني المتعلق بدفع النقض بالهبة المعوّضة فسيأتي.

(1) يعني: أنّ طلب المنكر الصلح و استدعاءه من المدّعي ليس إقرارا له بكونه مالكا.

(2) حيث إنّ طلب التمليك من المنكر إقرار منه للخصم، فلو كانت حقيقة الصلح تمليكا لكان طلبه كطلب التمليك إقرارا للخصم و تصديقا له في دعواه، بداهة أنّ طلب التمليك لا يصحّ إلّا فيما إذا كان بناء طالب التمليك على مالكيّة الخصم للمدّعى به، إذ لا معنى لطلب التمليك من غير المالك.

(3) هذا شروع في المقام الثاني أعني به دفع نقض تعريف البيع- بإنشاء تمليك عين بمال- بالهبة المعوّضة، أي المشروط فيها العوض، و محصّله: اختلاف مفهومي البيع و الهبة، فالبيع متقوّم بالعوض بحيث لو كان التمليك من طرف واحد صحّ سلب العنوان عنه، و لكنّ الهبة متقوّمة بالمجّانية و تمليك العين بلا عوض، ففي الهبة المعوّضة لا بدّ من إناطة وجوب العوض

______________________________

(1): شرائع الإسلام، ج 2، ص 123

ص: 241

و المراد بها هنا (1) ما اشترط فيها العوض، فليست إنشاء تمليك بعوض على جهة

______________________________

بالشرط، بأن يشترط الواهب على المتهب تمليك شي ء في قبال هبته، و من المعلوم الفرق بين اقتضاء ذات العنوان المعاملي للعوض بحيث لا يصدق بدونه كما في البيع، و بين عدم اقتضاء نفس العنوان له، و توقّف وجوب دفعه على الشرط، الذي هو خارج عن حدود المفهوم كما لا يخفى.

هذا بحسب الدعوى.

و الدليل على الفرق المزبور ما أفتى به الأصحاب في بحث الهبة المعوّضة من: أنّ الواهب لا يتملّك العوض- المشروط على المتّهب- بمجرّد هبته و قبول المتهب، بل يتوقف تملكه للعوض على أن يملّكه المتهب، بحيث لو تخلّف المتهب عن الشرط و لم يف به لم تبطل هبة الواهب، و إنّما يثبت له خيار تخلّف الشرط، فيكون رجوعه عن هبته و استرداد عينه مستندا الى الخيار، لا إلى اقتضاء ذات الهبة للمعاوضة و المقابلة، إذ لو كان كذلك امتنع تملّك المتهب للعين الموهوبة من دون أن يتملّك الواهب للعوض الذي اشترطه على المتهب.

و هذا الفرق كاشف عن كون هبة المتهب للواهب تمليكا مستقلّا، و لا يقدح التخلف عنه في صدق عنوان «الهبة» على فعل الواهب. و هذا بخلاف البيع، فإنّ عدم قبول المشتري- بحيث يصير البيع بلا ثمن- يمنع عن صدق البيع عليه.

(1) أي: في مقام النقض على تعريف البيع، و مقصوده قدّس سرّه إخراج قسم آخر من الهبة المعوّضة عن مورد النقض، و هو ما إذا لم يشترط العوض في عقد الهبة، و لكن المتهب يهب شيئا للواهب جبرا لإحسانه، و هذه و إن صدقت عليها الهبة المعوّضة- على ما قيل- لاشتمالها على العوض، لكن لا ينتقض تعريف البيع بها، لعدم كون الإعطاء بعنوان العوضيّة حتى يصدق المعاوضة بين المالين أو بين الإعطاءين.

و بهذا ظهر أنّ مقصود المصنف قدّس سرّه بقوله: «هنا» ليس الاحتراز عن مثل العطية و النحلة و الصدقة و الوقف مما يطلق عليها الهبة بالمعنى العام، كما في بعض الحواشي، بل المراد به إخراج الهبة المعوّضة التي يعطي المتهب شيئا للواهب إحسانا إليه، لا لأجل الشرط.

ص: 242

المقابلة (1)، و إلّا (2) لم يعقل [1] تملّك أحدهما (3) لأحد العوضين من دون تملك الآخر للآخر،

______________________________

(1) كما في البيع، فإنّه تمليك عين بعوض على جهة المقابلة بين المالين، فالهبة المعوّضة يقصد فيها المعاوضة بين الهبتين لا بين العين الموهوبة و العوض، فالهبة المعوّضة تمليك في قبال تمليك، لا معاوضة بين مالين كما هو المقصود في باب المعاوضات.

(2) يعني: و لو كانت الهبة- المشروط فيها العوض- إنشاء تمليك عين بعوض على وجه المقابلة، لم يعقل تملك المتّهب للعين الموهوبة قبل أن يملّك العوض للواهب، لامتناع اعتبار المعاوضة بين المالين إلّا بتملّك كلّ من المتعاملين للعوض في ظرف خروج المعوّض عنه، مع أنّهم حكموا بانتقال العين الموهوبة إلى المتهب من دون تملّك الواهب لشي ء من مال المتهب. و هذا أقوى دليل على عدم كون الهبة مطلقا- حتى المعوضة- من سنخ المعاوضات.

(3) يعني: تملّك المتّهب للموهوبة من دون تملك الواهب لعوضه الذي استحقه بالشرط.

______________________________

[1] اعترض عليه المحقق الايرواني قدّس سرّه بقوله: «هذا إذا كان العوض مالا، و أمّا إذا كان فعلا أعني تمليك الآخر للمال على أن تكون الهبة تمليكا بإزاء تمليك، استحقّ الواهب بقبول المتهب تمليك المتّهب للمال، لا نفس المال، فان ملّك فهو، و إلّا كان كامتناع المشتري من تسليم الثمن، و المقابلة مع ذلك محفوظة، لكن بين الفعلين لا بين المالين، أو بين مال و فعل» «1».

لكنه غير ظاهر، ضرورة أنّ المفروض أخذ العوض شرطا في الهبة لا مقابلا لها، فالعوض المشروط سواء كان عينا أم فعلا- كالتمليك- لم يؤخذ على وجه المقابلة كما صرّح به المصنف بقوله: «على جهة المقابلة» و من المعلوم أنّ المعاوضة متقومة بجعل كل من المالين أو الفعلين عوضا عن الآخر، و المعاوضة بهذا المعنى مفقودة في الهبة المعوّضة، فالهبة المشروطة بهبة لا تقابل فيها بين الفعلين، و استحقاق الواهب بقبول المتهب تمليكه أعمّ من كونه على وجه المقابلة و على نحو الشرط، فالمقابلة- مطلقا- مفقودة في الهبة المعوّضة.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 74

ص: 243

مع (1) أنّ ظاهرهم عدم تملّك العوض (2) بمجرد تملّك الموهوب له الهبة (3)، بل (4) غاية الأمر أنّ المتّهب لو لم يؤدّ (5) العوض كان للواهب الرجوع

______________________________

(1) غرضه الاستدلال- على أجنبية الهبة المعوّضة عن باب المعاوضات- بفتوى الأصحاب بأنّ المتّهب يتملّك العين الموهوبة بمجرّد قبول الهبة سواء وفى بالشرط أم لم يف به.

قال المحقق: «و لا يجبر الموهوب له على دفع المشترط، بل يكون بالخيار» «1» يعني: يكون المتّهب مخيّرا بين التعويض و ردّ العين الموهوبة إلى الواهب، فلو امتنع عن دفع العوض تخيّر الواهب- بمقتضى الشرط- بين الرجوع و الإمضاء، و من المعلوم أنّ جواز رجوع الواهب كاشف عن تملّك الموهب له- و لو بالملك المتزلزل- للعين الموهوبة قبل الوفاء بالشرط. و لو كان تملّكه لها منوطا بالعمل بالشرط لم يبق وجه لأن يكون الواهب بالخيار، لبطلان أصل العقد حينئذ.

و عليه فليست الهبة المشروط فيها الثواب من سنخ المعاوضات، لاقتضاء المعاوضة ملكيّة كلّ واحد من المالين في رتبة الآخر، فحكمهم بتملّك المتهب- قبل أن يهب العوض للواهب- دليل على خروج الهبة عن المعاوضات.

(2) يعني: عدم تملّك الواهب للعوض قبل أن يهبه المتّهب، فمجرّد عقد الهبة المعوّضة لا يقتضي تحقّق ملكيّة كلّ منهما في آن ملكية الآخر.

(3) مفعول لقوله: «تملك» و المراد بالهبة هنا: العين الموهوبة.

(4) يعني: ليس شرط العوض في الهبة كالبيع الموجب لتملّك كلّ من المتعاملين لكلّ من العوضين في رتبة واحدة، بل غاية ما يترتب على هذا الشرط هي: أنّ الواهب يتسلّط على الرجوع عن هبته لو لم يف المتّهب بالشرط، إذ ليست حينئذ هبة معوّضة، فهي و إن لم تكن باطلة من أوّل الأمر، لكنها جائزة كما هو الأصل في الهبة.

(5) المقصود من الأداء هو الهبة الواجبة على المتّهب من جهة الشرط.

______________________________

(1): شرائع الإسلام، ج 2، ص 232

ص: 244

في هبته (1) [1]، فالظاهر (2) أنّ التعويض المشترط في الهبة كالتعويض غير المشترط

______________________________

(1) المقصود بجواز رجوع الواهب هنا هو الجواز الحقّي الناشئ من تخلف المتّهب عن الوفاء بالشرط، و هذا و إن اتّحد أثره مع جواز فسخ عقد الهبة ذاتا، إلا أنّ الأوّل جواز حقي قابل للإسقاط و متعلّقه العقد، و الثاني حكمي غير قابل للإسقاط، و متعلقة استرداد العين الموهوبة. مضافا إلى ظهور الثمرة في الهبة المشروطة لذي رحم، لانتفاء جوازها الحكمي، و يبقى جوازها الحقّي خاصة.

(2) هذه نتيجة عدم كون الهبة معاوضة، يعني: أنّ شرط العوض في الهبة- بعد أن لم يكن موجبا لصيرورة الهبة كالمعاوضات- صار كالتعويض من باب الإحسان في كونه تمليكا مستقلّا يقصد به وقوعه عوضا، فكما لا يكون التعويض غير المشروط في ضمن الهبة إلّا تمليكا مستقلا، فكذلك التعويض المشروط في ضمنها، غايته أنّه يكون في الهبة المشروطة هبتان، بخلاف غير المشروطة، حيث إنّها واحدة.

و الحاصل: أنّ الهبة متقوّمة بالمجّانيّة، في مقابل المعاوضة، فلا يصدق عليها «تمليك العين بعوض» حتى ينتقض بها تعريف البيع بإنشاء تمليك عين بمال.

______________________________

[1] و يشهد أيضا بعدم اقتضاء الشرط كون الهبة من المعاوضات: ما ذكره الفقهاء من أنّه لو ظهر كون العوض مستحقا للغير لم تبطل الهبة، بل يجب دفع البدل مطلقا أو خصوص المثل أو القيمة، و لو كانت المقابلة بين المالين بطل العقد بظهور الاستحقاق، قال في الجواهر:

«و لو خرج العوض أو بعضه مستحقا أخذه مالكه، ثمّ إن كانت الهبة مطلقة لم يجب دفع بدله، و لكن للواهب الرجوع. و إن شرطت بالعوض ففي القواعد: دفع المتّهب مثله أو قيمته مع التعيين، أو العين، أو ما شاء إن رضي الواهب مع الإطلاق. و هو ظاهر أيضا في وجوب دفع العوض، و في وجوب قبول الواهب له مع بذله، فيكون الهبة كالنكاح في عدم كون ظهور استحقاق المهر مبطلا لها» «1».

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 28، ص 207

ص: 245

فيها في (1) كونه تمليكا مستقلا يقصد به وقوعه (2) عوضا، لا أنّ حقيقة المعاوضة و المقابلة مقصودة في كلّ من العوضين (3)، كما يتّضح ذلك (4) بملاحظة التعويض غير المشترط في ضمن الهبة الأولى (5).

فقد تحقق (6) مما ذكرنا (7) أنّ حقيقة تمليك العين بالعوض ليست إلّا البيع،

______________________________

(1) متعلق بالتعويض، و هو وجه اشتراك الهبة التي يكون العوض بسبب الشرط، مع الهبة التي يكون التعويض فيها من جهة الإحسان إلى الواهب، و وجه الاشتراك ما عرفته من كون هبة المتّهب تمليكا جديدا، و ليس باقتضاء الهبة الأولى أي هبة الواهب.

(2) هذا الضمير و ضمير «به» راجعان الى التمليك المستقل.

(3) إذ لو كانت المقابلة ملحوظة كانت منافية للهبة التي قصد بها المجانية المقوّمة لحقيقتها، بداهة منافاة المجانية للمقابلة بين المالين.

(4) أي: عدم كون الهبة المعوّضة معاوضة حقيقية، و حاصله: أنّ بذل المتّهب عوضا الى الواهب تداركا لإحسانه كما لا يوجب صيرورة الهبة معاوضة حقيقية بأن تكون البدلية ملحوظة في العين الموهوبة و ما يبذله المتّهب، فكذلك لا تكون الهبة المشروطة بالعوض مندرجة في المعاوضة الحقيقية، لوضوح خروج الشرط عن حقيقة الهبة، كما في سائر الشروط الضمنية المأخوذة في المعاملات، فإنّ المشروط أمر لا يقتضيه طبع تلك المعاملة.

(5) هذه الكلمة قرينة على أنّ المراد بالهبة المعوّضة في المقام هو القسم الثالث المتقدم عند بيان النقض، أعني به ما يكون المقابلة بين الفعلين أي الهبتين، فالهبة الأولى تصير مشروطة بالثانية، بأن يقول الواهب: «وهبتك هذا الكتاب على أن تهبني هذا الدرهم» فالهبة الأولى فعل الواهب، و الثانية فعل المتهب.

هذا تمام ما حقّقه المصنف قدّس سرّه في المقام الثاني أعني به دفع النقض بالهبة المعوّضة.

(6) هذا تلخيص لما سبق في دفع النقض بالصلح و الهبة المعوّضة، و تمهيد للإشكال على جعل الأصل في تمليك الأعيان هو البيع كما صرّح به الفقيه الكبير كاشف الغطاء قدّس سرّه.

(7) يعني: في جواب انتقاض تعريف البيع بالصلح على عين و بالهبة المعوّضة، حيث

ص: 246

فلو (1) قال: «ملّكتك كذا بكذا» كان بيعا (2)، و لا يصحّ صلحا و لا هبة معوّضة

______________________________

أفاد: أنّ حقيقة الصلح هي التسالم على أمر، و ليس التمليك مأخوذا فيها، و أنّ الهبة المعوّضة ليست تمليكا على وجه المقابلة بأن يدخل العوض في ملك الواهب بمجرد هبته، بل هبة المتهب تمليك جديد، و قد دخل الموهوب في ملكه سواء وفى بالشرط أم لا.

و من هنا يعلم أنّ «تمليك عين بعوض»- على وجه المقابلة بين العوضين- منحصر في البيع، فلذا لو أنشأ البائع الإيجاب بالتمليك لا بالبيع كان بيعا لا معاملة أخرى، بأن قال:

«ملكتك الكتاب بدينار» فإنّه متحد مفهوما مع قوله: «بعتك الكتاب بدينار» و لا يكون هذا التمليك صلحا و لا هبة معوّضة، إذ ليس المنشأ فيهما جعل مال عوض مال آخر. و المفروض كما عرفت أنه جعل في قوله: «ملكتك الكتاب بدينار» مال و هو الدينار عوض الكتاب.

(1) هذه نتيجة انحصار «تمليك عين بعوض على وجه المقابلة بين المالين» في البيع، و عدم كون هذا النحو من التمليك مشتركا معنويا جامعا بين البيع و الصلح على عين و الهبة المعوّضة، و لا مشتركا لفظيا بينها. و عليه فحقيقة التمليك بالعوض هي البيع، و استعماله فيما عداه مجاز يتوقف إرادته على قرينة.

(2) أمّا كونه بيعا فلأنّ مضمون هذه الصيغة الخاصة ليس إلّا البيع، و المفروض قصده في مقام الإنشاء. و أمّا عدم كونه صلحا و لا هبة فواضح، لأنّه إمّا أن يقصد الموجب بقوله:

«ملّكتك كذا بكذا» الصلح أو الهبة المشروطة بالعوض، و إما أن لا يقصد شيئا منهما. فإن قصد أحد الأمرين لم يقع، لما تقرّر من أنّ المعاملات و إن كانت متوقفة على القصد، و لذا قيل:

«العقود تابعة للقصود» إلّا أن تأثير القصد في حصول المقصود منوط بكون اللفظ كاشفا عمّا قصده، و ظاهرا فيه عرفا و لو بوضع ثانوي، فلو لم يكن اللفظ كذلك لم يؤثّر في حصول المقصود. و إن لم يقصد بقوله: «ملّكتك كذا بكذا» أحد الأمرين من الصلح و الهبة، كان عدم تحققهما من باب السالبة بانتفاء الموضوع، و كان كإنشاء النائم و الهازل في عدم تأثيره في حصول العنوان الاعتباري.

ص: 247

و إن قصدهما (1)، إذ (2) التمليك على جهة المقابلة الحقيقية (3) ليس صلحا و لا هبة، فلا يقعان به (4). نعم (5) لو قلنا بوقوعهما بغير الألفاظ الصريحة توجّه تحقّقهما مع قصدهما (6).

[أصالة البيع في تمليك الأعيان]

فما قيل (7) من: «أن البيع

______________________________

(1) أمّا إذا لم يقصدهما لم يقعا قطعا، فإنّ قوام الأمر الإنشائي بالقصد.

(2) تعليل لقوله: «كان بيعا ..»

________________________________________

جزائرى، سيد محمد جعفر مروج، هدى الطالب في شرح المكاسب، 7 جلد، مؤسسة دار الكتاب، قم - ايران، اول، 1416 ه ق

هدى الطالب في شرح المكاسب؛ ج 1، ص: 248

(3) التقييد بالمقابلة الحقيقية لأجل اشتمال الصلح و الهبة على التمليك من الطرفين، إلّا أنّه ليس مأخوذا في حقيقتهما كما عرفت.

(4) أي: فلا يقع الصلح و الهبة بقول المنشئ: «ملّكتك كذا بكذا» و وجه عدم الوقوع عدم صراحة لفظ التمليك في إفادة العنوانين.

(5) استدراك على قوله: «فلا يقعان به» و مقصوده أنّ عدم وقوع الصلح و الهبة المعوضة بقوله: «ملّكتك» مبني على اعتبار الألفاظ الصريحة في صيغ العقود، كعدم وقوع الإجارة بمثل «بعتك سكنى الدار».

فلو قيل بجواز استعمال الألفاظ غير الصريحة- من المجازات و الكنايات- في مقام الإنشاء جاز إنشاء الصلح و الهبة بالتمليك عند قصد العنوان.

(6) هذا الضمير و ضميرا «بوقوعهما، تحققهما» راجعة إلى الصلح و الهبة.

أصالة البيع في تمليك الأعيان

(7) هذا متفرّع على اختصاص التمليك على وجه المقابلة الحقيقية بالبيع، و عدم كونه جامعا بين أقسام العقود المعاوضيّة، و مقصوده قدّس سرّه الخدشة فيما أفاده الشيخ الفقيه كاشف الغطاء في موضعين من شرح القواعد، حيث قال في أحدهما: «و أنّ الأصل في مطلق التمليك للأعيان التنزيل على البيع» و قال في ثانيهما: «فالظاهر: أنّه متى جاء الفعل مستقلّا أو مع ألفاظ لا تستجمع الشروط مقصود بها المسامحة جاء حكم المعاطاة. و على الأوّل، فإن صرّح فيها بإلحاق ببيع و غيره بنى عليه. و إلّا فالبيع أصل في المعاوضة على الأعيان مقدّم على الصلح

ص: 248

هو الأصل [1] في تمليك الأعيان بالعوض،

______________________________

و الهبة المعوّضة. و الإجارة في نقل المنافع مقدمة على الصلح و الجعالة».

و محصله: أنّ «نقل العين بالعوض» و إن كان جامعا بين البيع و الصلح و الهبة المعوضة، إلّا أنّه عند الإطلاق ينصرف إلى البيع، لأنّ الأصل في «انتقال عين بعوض» هو البيع.

و ظاهر هذا الكلام: أنّ تمليك الأعيان مشترك معنوي بين البيع و الصلح و الهبة، فإذا قصد الصلح أو الهبة فلا كلام، لأنّ مميّزهما هو القصد، فيحمل الإنشاء على ما قصده.

و إن لم يقصد شيئا منهما كان بيعا، لكونه الأصل في تمليك عين بعوض. و عليه فخصوصية البيع عدمية، و خصوصيتهما وجودية.

و ناقشه المصنف قدّس سرّه بما عرفت آنفا من منع الاشتراك المعنوي، و أنّ «تمليك عين بعوض» هو حقيقة عقد البيع خاصة، و استعماله في غيره مجاز منوط بالقرينة، فإرادة البيع من قوله: «ملكتك الكتاب بدينار» ليست لكونه الفرد الغالب من تمليك العين بعوض حتى يكون صدقه على الصلح و الهبة المعوضة حقيقيا أيضا بدعوى مصداقيّتهما لجامع التمليك. بل تكون إرادة البيع من التمليك لأجل أنّه الموضوع له بالخصوص.

نعم يمكن توجيه كون البيع أصلا في تمليك الأعيان بما يبعد عن مساق كلام كاشف الغطاء قدّس سرّه بأن يقال: إنّ التمليك بالعوض معنى حقيقي لخصوص البيع، فلو شكّ في أنّ الموجب بقوله: «ملّكتك» أراد معناه الحقيقي أي البيع، أو معناه المجازي من الصلح و الهبة، اقتضت أصالة الحقيقة- التي هي من الأصول العقلائية الكاشفة عن المرادات- إرادة البيع لا غير، كما لو شكّ في أن القائل: «رأيت أسدا» أراد معناه الموضوع له أو الرجل الشجاع، فإنّ أصالة الحقيقة تقضي بالحمل على المعنى الحقيقي.

لكن الظاهر أنّ مقصود كاشف الغطاء من الأصل ليس أصالة الحقيقة الكاشفة عن المراد في مقام الإثبات، بل مراده الغلبة، و سيأتي مزيد توضيح له.

______________________________

[1] يرد عليه- مضافا إلى ما أورده المصنف قدّس سرّه عليه-: أنّ المراد بالأصل ظاهرا هو

ص: 249

فيقدّم (1) على الصلح و الهبة المعوّضة» محل تأمّل بل منع، لما عرفت (2) من أنّ تمليك الأعيان بالعوض هو البيع لا غير (3).

نعم (4) لو أتى بلفظ التمليك بالعوض و احتمل إرادة

______________________________

(1) يعني: فيقدّم البيع- عند إطلاق «ملكتك كذا بكذا» و عدم قصد خصوصية الصلح و الهبة- على إرادة أحدهما.

(2) تعليل لقوله: «محل تأمل» و قد عرفت توضيحه.

(3) يعني: فليس تمليك الأعيان مشتركا معنويا حتى يدّعى انصرافه عند الإطلاق إلى البيع، بل ليس تمليك الأعيان بالعوض إلّا البيع.

(4) استدراك على قوله: «محل تأمل بل منع» و مقصوده قدّس سرّه تصحيح أصالة البيع في تمليك الأعيان بإرادة أصالة الحقيقة في معنى التمليك، لا الأصل الذي ادّعاه كاشف الغطاء قدّس سرّه و هو الغلبة و الانصراف.

و عليه فيكون قوله: «نعم» كالاستثناء المنقطع الذي يختلف فيه المستثنى و المستثنى منه موضوعا. و ليس هذا توجيها للأصل الذي أسّسه الشيخ الكبير قدّس سرّه في شرح قواعده، لإباء كلامه عنه. و وجه كون الاستثناء منقطعا أجنبية الأصل بمعنى الغلبة- و الانصراف في المشترك المعنوي- عن أصالة الحقيقة المعوّل عليها في تمييز المراد من المعنى الحقيقي عن المجازي.

______________________________

الغلبة. بتقريب: أنّ غالب ما يقع في الخارج من تمليك العين بالعوض هو البيع، و هذه الغلبة تلحق الفرد المشكوك منه بالبيع، لقاعدة لحوق الشي ء بالأعم الأغلب.

و فيه: أنّ مجرّد الغلبة لا حجية فيها، بل و لو مع إفادتها الظن أيضا، لعدم الدليل على اعتباره، فيقع تحت عموم دليل عدم الحجية.

إلّا أن يقال: إنّ المراد بالأصل هو الإطلاق في مقام الثبوت بمعنى عدم قصد خصوصية الصلح أو الهبة التي بها يمتازان عن البيع المعرّى عن الخصوصية، فيكون مراد القائل بهذا الأصل هو عدم الخصوصية، و هذا أصل ثبوتي أجنبي عن الغلبة التي هي أصل إثباتي.

ص: 250

غير حقيقته (1) كان مقتضى الأصل اللفظي حمله (2) على المعنى الحقيقي، فيحكم بالبيع (3).

لكن (4) الظاهر أنّ الأصل بهذا المعنى (5) ليس مراد القائل المتقدم، و سيجي ء (6) توضيحه في مسألة المعاطاة في غير البيع إن شاء اللّه تعالى.

[ح نقض تعريف البيع بعقد القرض]

بقي القرض (7) داخلا في ظاهر الحد.

______________________________

(1) أي غير حقيقة «التمليك بالعوض» التي هي البيع، و المراد بالغير احتمال إرادة الصلح و الهبة المعوّضة، و من المعلوم أنّ حمل كل لفظ على معناه الموضوع له عند دوران الأمر بين إرادته و إرادة المعنى المجازي هو مقتضى أصالة الحقيقة كما عرفت في مثل الأسد.

(2) أي: حمل «التمليك بالعوض» على معناه الحقيقي و هو البيع.

(3) و لا يقبل منه دعوى إرادة الصلح أو الهبة المعوّضة.

(4) هذا بيان أجنبية التوجيه الذي أفاده بقوله: «نعم» عن مراد الشيخ الكبير قدّس سرّه.

(5) أي: أصالة الحقيقة التي هي حجة في تشخيص المراد، و لذا عدّت من الأصول المراديّة التي هي معتبرة في مقام الإثبات. و الظاهر عدم إرادة كاشف الغطاء قدّس سرّه هذا المعنى، لظهور عبارته في مقام الثبوت، و هو تحديد مفهوم البيع و تمييزه عن مفهومي الصلح و الهبة، فمراده بالأصل هو عدم دخل خصوصية في مفهوم البيع، و المفروض أنّه لم يقصد إلا التمليك بالعوض، و هذا أصل ثبوتي لا إثباتي، فالبيع لا خصوصية فيه، بخلاف الصلح و الهبة، فإنّ مفهومهما متخصّص بخصوصية وجودية و هي قصد عنوانهما.

(6) في خامس تنبيهات المعاطاة. لكنه قدّس سرّه لم يف بوعده في ذلك التنبيه كما ستقف عليه.

ح- انتقاض التعريف بعقد القرض

(7) هذا سابع النقوض التي أوردها المصنف قدّس سرّه على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» تقريب النقض: أن هذا التعريف يصدق على القرض كصدقه على البيع، حيث إنّ المقرض يملّك المقترض عينا في قبال العوض الذي يؤدّيه المقترض عند المطالبة أو عند حلول

ص: 251

و يمكن إخراجه (1) بأنّ مفهومه ليس نفس المعاوضة، بل هو تمليك على وجه

______________________________

الأجل، فإذا أقرض زيد عمروا دينارا مثلا فقد ملّكه دينارا بعوض، و هو الدينار المماثل للدينار الذي أقرضه، و عليه ف «إنشاء تمليك العين بعوض» صادق على القرض أيضا.

ثم إنّ هنا أمرين ينبغي التنبيه عليهما.

الأوّل: أنّ سوق العبارة يقتضي أن يقال: «و منها: صدقه على القرض» يعني: و من الأمور الباقية على تعريف البيع عدم مانعيّته للغير- أي القرض- كعدم مانعيّته عن الشراء و الصلح و الهبة المعوّضة، مع خروج القرض عن البيع قطعا، فلا بد من تعريفه بما لا ينتقض بالقرض. و لم يظهر وجه عدول المصنف قدّس سرّه عن السياق الى قوله: «بقي القرض».

الثاني: أنّ هذا النقض لا يختص بتعريف البيع بما في المتن من «إنشاء تمليك عين بعوض» لوروده على تعريفه بالانتقال و بالعقد الدال عليه أو على النقل إذا كان الإنشاء بلفظ التمليك، لاشتراك الكل في جامع التمليك بالعوض. نعم في ورود النقض على تعريفه بما في جامع المقاصد من «نقل العين بالصيغة المخصوصة» تأمل لا يخفى وجهه.

(1) هذا الضمير و ضمير «مفهومه» راجعان الى القرض، و هذا جواب الاشكال.

و محصل ما أفاده في دفع نقض تعريف البيع بالقرض هو: أنّ حقيقة القرض تمليك و تضمين، بمعنى أنّ المقرض تارة ينشئ تمليك المال للمديون، و اخرى ينشئ شرطية ضمانه عليه بما يناسبه و يكون أقرب إليه من المثل إذا كان مثليّا أو القيمة إذا كان قيميّا. فيكون نظير الهبة بشرط العوض في كون شرط العوض خارجا عن البدلية المقوّمة للمقابلة المعتبرة في حقيقة المعاوضة.

و ببيان آخر: يخرج القرض عن تعريف البيع بقيد «العوض».

توضيحه: أنّه يعتبر عرفا في مفهوم المعاوضة المقوّمة للبيع تغاير العوض للمعوّض و تعدّدهما، إذ لا يعقل اعتبار المعاوضة في شي ء واحد بأن يكون عوضا عن نفسه كما هو واضح.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ المديون تشتغل ذمته بكلّيّ ينطبق على الأفراد الخارجية المساوية للعين المقترضة في الخصوصيات النوعية و الصنفيّة الدخيلة في المالية التي تدخل

ص: 252

ضمان المثل أو القيمة، لا معاوضة للعين بهما [1].

______________________________

تحت الضمان، بخلاف الخصوصيات الشخصية فإنها لا تدخل تحت الضمان، لبناء الدائن و المديون على ذلك، حيث إنّ القرض يوجب ملكية العين للمديون ليتمكن من صرفه في حوائجه، فلو كانت الخصوصيات الشخصية داخلة تحت الضمان لزم من ذلك نقض الغرض من القرض، و كان ضمان الدين كضمان الغصب، حيث إنّ العين المغصوبة بجميع خصوصياتها النوعية و الصنفية و الشخصية مضمونة على الغاصب.

فالفارق بين الضمان القرضي و الغصبي هو: أنّ جميع الخصوصيات في الغصب مضمونة على الغاصب، و لذا يجب دفع العين لو كانت موجودة إلى المغصوب منه. بخلاف القرض، إذ المضمون على المديون ليس إلّا الخصوصيات النوعية و الصنفية، و أمّا الشخصية فلا، و لذا لا يجب على المديون دفع العين إذا كانت موجودة، كما ليس للدائن إلزام المديون بذلك بقاعدة اليد، لعدم موضوع لها بعد وضوح كون يد المقترض على العين المقترضة مالكية. و لا قاعدة الإقدام، لأنّها تابعة لما تعهّد به الضامن. و قد عرفت أنّ ما ثبت به تعهّده هو المال المقترض بخصوصياته النوعية و الصنفية دون الشخصية. هذا كله في اختلاف البيع و القرض مفهوما.

و يترتب عليه اختلافهما بحسب الآثار و الأحكام، و هو كاشف إنّا عن مغايرتهما سنخا، و قد استشهد المصنف قدّس سرّه بأمور أربعة يفترق فيها البيع عن القرض، و سيأتي بيانها.

______________________________

[1] قد يشكل هذا الجواب بما في حاشية المحقق الايرواني قدّس سرّه من أنّ إنكار المعاوضة في عقد القرض و الالتزام بكونه تمليكا على وجه ضمان البدل لا يخلو من أحد وجهين لا سبيل إلى شي ء منهما، لكون أحدهما تسليما للنقض مع تغيير العبارة، و الآخر غير معقول.

توضيحه: أنّ «التمليك على وجه ضمان المثل أو القيمة» إن كان بمعنى المقابلة بأن يكون تمليك العين بإزاء عوض كلّيّ في الذمة كان التزاما بالإشكال، لصدق «تمليك عين

ص: 253

______________________________

بعوض» على القرض كصدقه على البيع، إذ ليس مفاد صيغة «أقرضتك» أو «ملّكتك هذا و عليك ردّ عوضه» إلا تمليك عين في قبال عوضها.

و إن كان تمليك المقرض لا على وجه المقابلة بل كان تمليكه مجّانيا و خاليا عن العوض- و إنّما اشترط على المقترض ضمان البدل، كحكم الشارع على الضامن باشتغال العهدة في موارد الضمانات كالإتلاف- كان غير معقول. لاستحالة أن يضمن الشخص مال نفسه، لا سيّما مع قيام عينه، فيكون العين له قد تملّكها مجّانا، و مع ذلك يضمنها على أن يؤدّي العوض للغير «1».

و هذا الاشكال لا يخلو من وجه، و التفصي منه «بأنّ ضمان المقترض للإقدام عليه لا لقاعدة اليد، فالمقترض أقدم على ضمان مالية العين و إن لم يضمن خصوصيتها» «2» لا يخلو من غموض، إذ لا إقدام هنا إلّا على القرض، و الإشكال كلّه في تصوير الضمان، لانحصار سببه في أحد أمرين، إمّا اقتضاء ذات العقد للمعاوضة، فيعود انتقاض تعريف البيع بالقرض، لاشتراكهما في جامع التمليك بالعوض، و إن كان العوض فيه كلّيا دائما، بخلاف الثمن في البيع، فإنّه أعمّ منه و من العين الشخصية و المنافع المملوكة، بل و بعض الحقوق.

و إمّا لاقتضاء الشرط المدلول عليه بقوله: «و عليك ردّ عوضه» مع فرض عدم اقتضاء نفس تمليك المقرض للبدل، و هذا هو محذور ضمان الشخص لما تملّكه مجّانا، و هو غير معقول.

و بهذا ظهر أنّه لا إقدام على ضمان العين من غير ناحية الاقتراض، فإمّا أن يكون الضمان مقتضى طبع القرض، و إمّا أن يكون مقتضى الشرط.

و تخلّص المحقّق الإيرواني قدّس سرّه عن النقض بإنكار المعاوضة في باب القرض، و أنّ حقيقته تمليك العين و تأمين المالية، و قد أوضحه في موضع آخر بقوله: «إنّ القرض ينحل إلى أمرين: هبة و استيمان. أمّا الهبة فبالنسبة إلى العين، فإنّ المقرض يرفع يده عن العين و يدفعها إلى المقترض مجّانا و بلا عوض. و أمّا الاستيمان فبالنسبة إلى مالية العين، فإنّه يستأمن ماليّة

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 74

(2) مصباح الفقاهة، ج 2، ص 68

ص: 254

______________________________

العين عند المقترض، و في ذمّته على أن يردّها إليه في رأس الأجل، و لذا يطالب حينما يطالب بماله، لا بعوض ماله. فلا معاوضة في القرض بوجه. و إنّما هو إعراض عن خصوصية العين و استيمان لماليتها» «1».

و هذا البيان كما تراه إنكار للمعاوضة في القرض رأسا، فينهدم أساس النقض، و لا بأس به من جهة التفكيك في حيثيات العين الشخصية بين خصوصيتها و نوعيتها، فيكون نظير اللقطة التي حكم الشارع بجواز التصرف فيها مع ضمان البدل الواقعي مثلا أو قيمة.

لكنه قد يشكل الالتزام به من جهة تصريحات الأصحاب بعدّ القرض من العقود المعاوضية، فنفس تمليك المقرض يقتضي استحقاق البدل، فإن أنشأه بقوله: «أقرضتك» لم يفتقر الى الاشتراط، و إن أنشأه بمثل «ملّكتك» لزم الاشتراط بمثل «و عليك ردّ عوضه».

و جعل حقيقته منحلّا الى عقدين هبة العين و استيمان المالية و إن كان محتملا ثبوتا، لكنه لا شاهد عليه في مقام الإثبات، بل الكلمات ظاهرة في خلافه، قال ابن حمزة قدّس سرّه في تعريفه: «القرض كل مال لزم في الذمة بعقد عوضا عن مثله» «2». فالقرض عنده ذلك البدل الكلي المستقر في العهدة عوضا عمّا أخذه من المقرض.

و قال المحقق الأردبيلي قدّس سرّه لدى التعليق على قول العلّامة: «فإن كان مثليا يثبت في الذمة مثله، و إلّا القيمة وقت التسليم» ما لفظه: «لعلّ دليله: أن القيمي إنّما خرج عن ملك المالك بالعوض، و ليس له العوض إلّا القيمة، لعدم المماثلة كما في سائر المعاوضات ..» «3». و قال في موضع آخر: «لأنّ الاذن إنّما حصل من المالك بأن يكون مالكا و يكون عليه العوض، لا مطلقا

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 71

(2) الجوامع الفقهية، كتاب الوسيلة، ص 748

(3) مجمع الفائدة و البرهان في شرح إرشاد الأذهان، ج 9، ص 69

ص: 255

______________________________

كما في سائر المعاوضات» «1».

و قال في الجواهر: «انّ القرض و إن كان له شبه بالضمانات، إلّا أنه من المعاوضات أيضا» «2».

و في هذه الكلمات كفاية لعدّ القرض من العقود المعاوضية و إن كان له أحكام خاصة به، و لا سبيل لإخراجه منها، كما لا وجه لجعله منحلّا الى عقد هبة للعين، و عقد استيمان و استيداع للمالية.

و بالجملة: فما تفصّى به المحقق الايرواني قدّس سرّه عن النقض غير ظاهر.

و اختار المحقق الأصفهاني قدّس سرّه لدفع النقض وجها آخر، فأفاد في توضيح المتن ما حاصله: أنّ العوض و إن كان مقصودا في القرض، لكنه لا يكفي في عدّه من العقود المعاوضية، إذ المناط فيها أن يتسبّب إليه بنفس الإنشاء كأن يقال: «بعت هذا بهذا» فلو كان العوض مقصودا و لم يتسبّب الى وجوده الاعتباري بالإنشاء لم يكن معاوضة، و لذا فعقد القرض تمليك على وجه التضمين، لا تمليك محض و لا تضمين محض «3».

و هذا الوجه أيضا لا يخلو من تأمل، إذ لا ريب في أنّ التمليك على وجه التضمين، إمّا أن يلاحظ فيه الضمان بنحو العوض، و امّا أن يلاحظ فيه بنحو الشرط، و على كلّ منهما يكون تمليك المقرض حصّة من طبيعي التمليك، و هي الملحوظ فيها استحقاق العوض.

فالأولى الالتزام بكون القرض من المعاوضات، و إن اختصّ بأحكام لم تجر في البيع كما سيأتي التنبيه عليها في المتن.

______________________________

(1): مجمع الفائدة و البرهان، ج 9، ص 74

(2) جواهر الكلام، ج 25، ص 16

(3) حاشية المكاسب، ج 1، ص 18

ص: 256

و لذا (1) لا يجري فيه ربا المعاوضة، و لا (2) الغرر المنفيّ فيها، و لا (3) ذكر العوض،

______________________________

(1) أي: و لأجل عدم كون مفهوم القرض هو التمليك على وجه المقابلة، بل مفهومه «التمليك على وجه ضمان المثل أو القيمة» لا يجري فيه ربا المعاوضة.

و هذا أوّل الوجوه الأربعة التي استشهد بها المصنف قدّس سرّه على خروج القرض عن مفهوم البيع، و حاصله: أنهم ذكروا انقسام الربا الى قسمين أحدهما معاوضي، و الآخر قرضي.

و اعتبروا في صدق الربا في المعاوضة أن يكون العوضان من جنس واحد، و أن يكونا مكيلين أو موزونين، فلا يحرم مطلق التفاضل بين العوضين كما إذا كانا من جنسين أو لم يكونا من المكيل و الموزون.

و هذا بخلاف الربا القرضي، فإنّه يحرم التفاضل- في القرض- مطلقا، و لا يشترط بكون العين المقترضة من المكيل و الموزون، و لا بوحدة الجنس.

و على هذا نقول: بخروج القرض عن باب المعاوضة، إذ لو كان بيعا لاعتبر في رباه ما يعتبر في ربا المعاوضة، مع وضوح حرمة اشتراط التفاضل- مطلقا- في باب القرض، حتى إذا لم تكن العين المقترضة من المكيل و الموزون، فلو أقرض معدودا كالبيض- كما هو المتعارف في بيعه بالعدّ في بعض البلاد، لا بالوزن- بأكثر منه كان ربا حراما. أو أقرض منّا من حنطة بمنّين من عدس، و هكذا. بخلاف ما إذا باع بيضة واحدة باثنتين، أو منّا من حنطة بمنّين من عدس، فإنّه لا بأس بذلك. و هذا شاهد على عدم كون القرض بيعا.

(2) هذا ثاني الوجوه التي استشهد بها على عدم كون القرض معاوضة، و حاصله: أنّه لو كان القرض بيعا لم يجز قرض المجهول، إذ يعتبر في البيع كون المبيع معلوما، لنهي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن بيع الغرر «1»، فجواز قرض المجهول- كصبرة أو قبضة من الدراهم- دليل على عدم كون القرض بيعا، إذ القرض وقع صحيحا.

(3) هذا ثالث الوجوه، و حاصله: أنّه يعتبر في المعاوضة ذكر العوضين في متن العقد، لأنّهما ركنان في باب المعاوضة، فعدم ذكر أحدهما أو كليهما يوجب اختلال العقد، لعدم ذكر

______________________________

(1): عيون أخبار الرضا عليه السّلام، ج 2، ص 45 و 46، الحديث 168، و فيه: «و قد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن بيع المضطر و عن بيع الغرر» و على هذا فالرواية منقولة بطرقنا أيضا.

ص: 257

و لا (1) العلم به، فتأمّل (2).

______________________________

ركنية أو أحدهما. مع أنّه لا يجب ذكر العوض في باب القرض، و عليه فعدم وجوب ذكره فيه كاشف عن خروجه عن باب المعاوضة.

(1) هذا رابع تلك الوجوه، و محصله: أنّه يعتبر العلم بالعوض في باب المعاوضة، مع أنّه غير معتبر في القرض، بشهادة صحة القرض مع عدم العلم بكون العين المقترضة مثليّا أو قيميّا، و من المعلوم أنه لو كان القرض معاوضة بين العين المقترضة و ما يؤدّيه المقترض لزم إحراز كون العين مثليا أو قيميا حتى يعلم بما اشتغلت الذمة به من المثل أو القيمة.

(2) لعلّه كما أفاده جماعة من المحشّين- منهم الفقيهان المامقاني و السيد قدّس سرّهما «1»- إشارة إلى:

أنّ الوجوه الأربعة المتقدمة لا تشهد بعدم كون القرض من المعاوضات، لإمكان اختلاف أنواع المعاوضات في الأحكام، فلا يدلّ شي ء من تلك الوجوه على خروج القرض موضوعا عن حيّز المعاوضات، كما هو المقصود من الاستشهاد بها، إذ ليست تلك الأمور الأربعة مقوّمة لمفهوم المعاوضة عرفا حتى يكون انتفاؤها موجبا لانتفاء حقيقة المعاوضة، بل هي أحكام تعبّديّة ثبتت في البيع لقيام الدليل على ثبوتها له، و على هذا فلا سبيل لإخراج القرض عن باب المعاوضات و لا بدّ من افتراقه عن البيع بوجه آخر [1].

______________________________

[1] لكن الظاهر دلالة الأمور الأربعة المتقدمة على خروج القرض عن باب المعاوضات بنظر المصنف، و أنّ أمره بالتأمل ناظر إلى مطلب آخر، لكون المقام من صغريات دوران الأمر بين التخصيص و التخصّص، و قد اختار قدّس سرّه حجية أصالة العموم في مثله و اقتضائها إحراز حال الفرد و عدم كونه من مصاديق العام، مثلا: إذا علمنا بعدم وجوب إكرام زيد و شككنا في أنّ خروجه عن عموم «أكرم العلماء» هل يكون تخصيصا أم تخصّصا لعدم كونه منهم، فمقتضى أصالة عدم تخصيص العام الحكم بخروجه تخصّصا، لحجية مثبتات الأصول اللفظية.

قال مقرّر بحث المصنف: «و على ذلك جرى ديدنهم في الاستدلالات الفقهية،

______________________________

(1): غاية الآمال، ص 175، حاشية السيد على المكاسب، ص 61

ص: 258

______________________________

كاستدلالهم على طهارة الغسالة على أنّها لا تنجّس المحلّ، فإن كان نجسا غير منجّس يلزم تخصيص قولنا: كل نجس منجّس» «1».

و على هذا المبنى يمكن الاستشهاد على خروج القرض من المعاوضة موضوعا- بهذه القاعدة- ببيان: أنّه يشك في كيفية خروج القرض عن عموم أدلة أحكام المعاوضات، و أنه موضوعي أو حكمي، فأصالة عدم تخصيص تلك الأدلة تثبت عدم كون القرض من المعاوضات، لا أنه معاوضة غير محكومة بتلك الأحكام الأربعة.

و عليه فمرجع الاستشهاد بتلك الوجوه- ببركة حجية أصالة عدم التخصيص- إلى عدم كون القرض من المعاوضات، فتدبّر جيّدا.

و لذا كان ينبغي تنزيل الأمر بالتأمل هنا على تثبيت ما أفاده بقوله: «و لذا لا يجري فيه ربا المعاوضة .. إلخ» من استكشاف خروج القرض موضوعا عن باب المعاوضات، لا حمله على عدم التنافي بينها و بين كونه معاوضة كما أفاده الشرّاح قدّس سرّهم.

نعم، الإشكال كلّه في المبنى، لما تقرّر في أصالة العموم من اقتصار حجيّتها على جهة الحكم، سواء كان الشك في أصل التخصيص أم في التخصيص الزائد، و لا أقلّ من الشك في بناء العقلاء على العمل بها لإحراز حال الموضوع، عند العلم بعدم محكوميته بحكم العام.

مناقشات أخرى في تعريف البيع هذا تمام الكلام في الإشكالات التي أوردها المصنف قدّس سرّه على تعريفه للبيع و دفعها، و قد أورد عليه جمع من المحشين بوجوه أخرى، ينبغي التعرّض لجملة منها:

الأوّل: أن البيع يوجد بالإنشاء، فهو موضوع له لا نفسه. و إن شئت فقل: إن الإنشاء سبب للبيع لا نفسه، فهو من الاعتبارات الناشئة منه، فتعريفه به تعريف للشي ء بسببه. نعم هذا التعريف يلائم إنشاء البيع لا نفسه كما لا يخفى.

و قد تقدّم توضيح وجه الحاجة الى ذكر لفظ الإنشاء في تعريف المصنف قدّس سرّه.

______________________________

(1): مطارح الأنظار، ص 196

ص: 259

______________________________

و لكن مع ذلك لا نحتاج الى ذكر لفظ الإنشاء، لأنّ وجه الحاجة إليه- و هو إخراج التمليك الشرعي و العرفي الذي ليس تحت قدرة البائع و كون ما بيده هو التمليك الإنشائي- يتأدّى بلفظ «التمليك» لأنّه عبارة عن إيجاد الملكية الإنشائية، فيكون لفظ الإنشاء مستدركا، إذ مرجع إضافة الإنشاء إلى التمليك إلى «إنشاء إنشاء الملكية».

و لو فرض الحاجة إلى زيادة لفظ الإنشاء بدعوى: عدم دلالة التمليك على الإنشائي لم يحسن جعل الإنشاء جنسا للحد، إذ ليس ذلك جنسا، بل سببا للبيع، فالمناسب ان يقال: البيع هو التمليك الإنشائي.

الثاني: أنه يستلزم انخرام قاعدة توافق المشتق و المشتق منه في المعنى، لوضوح أنّ «الإنشاء» لم يؤخذ في مفهوم شي ء من تصاريف البيع، فإنّ قوله في مقام الاخبار: «بعت، أو أبيع، أو باع زيد، و يبيع» و نحو ذلك لا يراد به إلّا التمليك، لا إنشاؤه الذي هو سبب له، هذا.

و يمكن دفعه: بأنّ المراد بالإنشاء هو التمليك الإنشائي، في قبال التمليك الخارجي الممضى شرعا أو عرفا، لا الإنشاء في مقابل الإخبار، و من المعلوم سريان التمليك الإنشائي في جميع تصاريف البيع، فقوله: «بعت» إخبارا يراد به الإخبار عن التمليك الإنشائي، فلا يلزم انخرام قاعدة لزوم توافق المشتقات للمشتق منه في المعنى، فتدبّر.

الثالث: ما في حاشية الفقيه المامقاني قدّس سرّه من «أن العوض غير مأخوذ في مفهوم البيع وضعا، فيصح الإخبار بالبيع عمّن قال: بعت هذه الدار مثلا بدون ذكر العوض. و الوجه في ذلك واضح، فإنّه اسم لما هو أعم من الصحيح و الفاسد، و لذلك تراهم يذكرون مسألة البيع بلا ثمن، و يختلفون في حكمه، فلو لم يكن بيعا لم يكن لذلك وجه» «1».

و فيه ما لا يخفى، لما مرّ في تعريف المصباح للبيع بأنه «مبادلة مال بمال» فالعوض مأخوذ في مفهوم البيع لغة. و أمّا صحة الاخبار بالبيع بدون ذكر العوض فلعدم الحاجة إلى ذكر العوض بعد وضوح دخله في مفهوم البيع لغة و عرفا، و كون البيع من العقود المعاوضية. و أمّا كون البيع اسما للأعم من الصحيح و الفاسد و كون التعريف للأعم فلا كلام في ذلك، إلّا أنّ

______________________________

(1): غاية الآمال، ص 174

ص: 260

______________________________

الشأن في صدق البيع العرفي على ما يكون فاسدا شرعا كالبيع بلا ثمن، فإنّ إطلاق البيع عليه عرفا ممنوع، و لذا يعدّ شرط خلوّ البيع عن الثمن منافيا لمقتضى حقيقة البيع، لا منافيا لمقتضى إطلاقه، كما لا يخفى.

الرابع: ما في حاشية المحقق الايرواني قدّس سرّه من: «أن العين تشمل غير المتمولة كالخنافس و الديدان» «1».

و فيه: أنّه لا ضير في ذلك، لكون المعرّف هو البيع الأعم من الصحيح و الفاسد. إلّا أن يمنع صدق البيع عليه لغة كما يظهر من المصباح، بل و عرفا.

و يمكن دفع الاشكال عن تعريف المصنف باختصاص العين بالمتموّلة، لما تقدم منه في ذيل تعريف المصباح من استظهار كون المعوّض عينا، في قبال أعمية العوض منها و من المنافع، فإنّ ذلك كلّه بعد الفراغ عن اعتبار مالية العوضين، و لذلك منع من جعل العوض عمل الحرّ، كما منع عن قابلية وقوع بعض الحقوق عوضا. و عليه فلفظ «العين» و إن كان ظاهرا بدوا في ما يقابل المنفعة مطلقا سواء اتصف بالمالية أم لا، إلّا أن التأمل في كلام المصنف قدّس سرّه قاض بإرادة خصوص ما يتموّل كما ذكرناه، فلاحظ.

الخامس: ما في الحاشية المزبورة أيضا من «شموله لإنشاء العابث و اللّاغي، و إنشاء الإيجاب غير المتعقّب بالقبول، مع أنّ شيئا من ذلك ليس بيعا، بل إنشاء البيع».

و فيه: أنّه لا يصدق البيع على إنشاء العابث و اللّاغي، لأنّه- على ما عرفت- ما يكون مبرزا للاعتبار الموجد في النفس أو موجدا للأمر الاعتباري، على الخلاف المتقدّم في حقيقة الإنشاء، و من المعلوم أنّ إنشاء اللّاغي الفاقد للقصد لا يبرز ذلك و لا يوجده. و أمّا إنشاء الإيجاب غير المتعقب بالقبول فهو بيع قطعا، إذ المحدود هو فعل البائع، لا المعاملة الخاصة القائمة بكلا المتبايعين.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 74

ص: 261

______________________________

السادس: ما في حاشيته أيضا من: «أنه يشمل الإنشاء الصريح و الضمني، مع أن مقصوده الإنشاء الصحيح كيلا يشمل القبول من المشتري، و لا يشمل قبول مستأجر العين، و لا يشمل الصلح».

و يمكن دفعه: بأن قبول البيع و الإجارة عبارة عن إنشاء التملك، و ليس مفهومه لغة أو عرفا إنشاء التمليك، و إنّما يرجع الى إنشاء التمليك بعد التحليل، فليس القبول إلّا مطاوعة لإنشاء الموجب، فمفهوم القبول ليس إلّا إنشاء التملك.

و أمّا الصلح فليس هو أيضا إنشاء التمليك بل إنشاء التسالم، و التمليك مما يترتب عليه، فليس الصلح أوّلا و بالذات إنشاء التمليك.

السابع: ما في حاشيته أيضا من: أنه يلزم تعلق الجار بالعين أو بصفة مقدرة لها حتى يكون تقدير الكلام: «إنشاء تمليك عين مقابل بالمال» لينطبق على البيع، مع أن ظاهره التعلق بالتمليك، و ينطبق التعريف على الهبة المعوّضة بناء على ما تقدم في المتن من كون العوض عوضا لفعل الواهب و هو التمليك، لا عوضا عن العين الموهوبة المتعلق بها التمليك. و الفارق بين البيع و الهبة عند المصنف هو هذا أي كون الثمن عوضا عن العين في البيع، و كونه عوضا عن الفعل في الهبة، هذا.

و هذا الاشكال و إن كان واردا على تعريف المصنف قدّس سرّه، لكنه لا يختص به، إذ لا بدّ من تعيين متعلّق للباء الدالة على المقابلة بين العين و الثمن حتى يتميّز البيع عن الهبة، فلا مناص من صرف ظهوره في تعلّقه بالتمليك الى تعلّقه بمقدّر.

هذه جملة من مناقشاتهم في تعريف المتن. و قد تقدم فيما يتعلق بتعريف المصباح بعض وجوه النظر فيه أيضا، فراجع.

و كذا يظهر ما في تعريف البيع بما في تقرير بحث شيخنا المحقق النائيني قدّس سرّه قال المقرر: «الأولى في تعريف البيع أن يقال: هو تمليك العين بالعوض في ظرف تملّك

ص: 262

______________________________

المشتري» «1» و ذلك لما مرّ مرارا من أنّ البيع ليس هو التمليك، بل مفهومه التبديل.

مضافا إلى: أنّ تملك المشتري ليس دخيلا في البيع المصدري الذي هو فعل البائع، و إنّما هو دخيل في ترتب الأثر المقصود على المعاملة الخاصة القائمة بالبائع و المشتري.

و إلى: لزوم تقييد كل من العين و العوض بالتموّل، لما عرفت من أنّ البيع هو المبادلة بين المالين لغة و عرفا و لو بأصالة عدم النقل، هذا.

كما يظهر مما ذكرناه: ما في تعريف البيع بما أفاده الحلبي في كافيه من: «أنه عقد يقتضي استحقاق التصرف في المبيع و الثمن و تسليمهما» «2» من الإشكال، و ذلك لما فيه أوّلا: من أنّ «العقد» إن أريد به الإيجاب و القبول اللفظيّان توجّه عليه ما تقدم في تعريف البيع- بالإيجاب و القبول الدالين على الانتقال- من: أنّ البيع من مقولة المعنى، و هو الأمر الاعتباري، و ليس من مقولة اللفظ. و من خروج المعاطاة عنه.

و إن أريد به ما يقوم بالبائع و المشتري من العهد، ففيه: أنّ المحدود هو البيع بمعناه المصدري الذي هو فعل البائع فقط، و من المعلوم أن العهد قائم بالطرفين كما لا يخفى.

و ثانيا: أنّ المحدود أعمّ من البيع الصحيح و الفاسد، و من البديهي أن استحقاق التصرف و التسليم من آثار خصوص البيع الصحيح، فلا يشمل الحدّ البيع الفاسد.

و ثالثا: أنّه يستلزم الدور، لاشتمال الحدّ على المبيع الذي هو من مشتقات البيع، فإذا توقّف معرفة الحدّ- كلّا أو بعضا- على المحدود لزم الدور، لتوقف معرفة المحدود أيضا عليه.

و رابعا: أنّه يقتضي عدم اعتبار العينية في المبيع.

و خامسا: أنّه يقتضي عدم اعتبار الماليّة في العوضين كما لا يخفى.

فالأولى في تعريف البيع أن يقال: «أنّه تبديل اعتباري بين عين و شي ء متموّلين» فإنّ هذا هو البيع العرفي الصادق على الصحيح و الفاسد.

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 45

(2) الكافي في الفقه، ص 352

ص: 263

ثم إنّ ما ذكرنا (1)

______________________________

(1) يعني: من تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» و غرضه بيان أمرين:

الأوّل: أنّ البيع الذي يكون أصلا للمشتقات هو البيع بمعناه المصدري، الذي هو فعل البائع، في قبال الشراء الذي هو فعل القابل، لا البيع بمعناه الاسمي، فإذا قال: «بعت» فمعناه:

أنشأت البيع، و هذا هو مختار المصنف قدّس سرّه في تعريف البيع، حيث قال: «إنه إنشاء تمليك عين بمال».

الثاني: عدم منافاة التعريف المزبور لإطلاق البيع على معان آخر، و رجوعها إلى المعنى الذي اختاره، و هو: إنشاء تمليك عين بمال، كما سيتّضح عند تعرّضها في المتن.

هذا إجمال الأمر، و المقصود الأصلي النظر في كلام صاحب المقابس قدّس سرّه، حيث إنّه ادّعى إطلاق البيع حقيقة على معان أربعة، و أوّل تلك الإطلاقات هو: إنشاء تمليك البائع، و إنشاء تملك المشتري- لكون البيع من الأضداد- لكن بشرط انضمام أحدهما إلى الآخر، فلو لم يتعقب إنشاء البائع بقبول المشتري لم يطلق على إنشاء البائع: أنه بيع.

و ثانيها: إنشاء التمليك، الذي هو فعل البائع.

و ثالث تلك المعاني هو النقل المترتب على الإيجاب و القبول.

و رابعها: نفس العقد المؤلّف من الإيجاب و القبول. و الفرق بين هذا الإطلاق الأخير و بين إطلاقه على إيجاب البائع بشرط تعقبه بتملّك المشتري هو دخل القبول شرطا في الأوّل، و شطرا في الأخير.

هذا ما أفاده صاحب المقابس من إطلاق البيع على معان أربعة «1»، و قد سبقه في التنبيه عليه شيخه الفقيه كاشف الغطاء قدّس سرّه في شرح القواعد، حيث قال- بعد تعريف البيع بالانتقال كما في القواعد- ما لفظه: «و قد يراد به- أي البيع- مجموع النقلين في العوضين أو الانتقالين، أو مجموع كلا القسمين، أو ما دلّ على النحو السابق و إن لم يوافق ما أريد به في هذا الكتاب.

و على نحو اختلاف التعريفات اختلفت الإطلاقات، فمرّة يقع الشراء قسيمه، و مرّة قسمه، و مرّة جزأه. و يتعيّن الأوّل عند تعاطفهما، و الثاني إذا أريد النقل بالنحو الخاص، و الثالث إذا

______________________________

(1): مقابس الأنوار، كتاب البيع، ص 2

ص: 264

تعريف للبيع المأخوذ في صيغة «بعت» و غيره من المشتقات (1).

[إطلاق البيع على معان أخرى]

اشارة

و يظهر من بعض من قارب عصرنا استعماله في معان أخر (2) غير ما ذكر [1]:

______________________________

أريد به العقد في مقابلة العقود الأخر. و معنى النقل أو إيجابه هو الشائع على اللسان. و العقد إيجابا و قبولا ألصق بباب المعاملات و مذاق الفقهاء. و أمّا الانتقال فلا يوافق مقتضى الحال، لأنّ البيع على الظاهر من مقولة الفعل لا الانفعال، و يشهد لذلك تعديته بالاستقلال ..» «1».

و عليه فإطلاق البيع على معان أربعة و إن كان موجودا في كلام صاحب المقابس و شيخه الفقيه كاشف الغطاء قدّس سرّهما، إلا أنّ مقصود المصنف قدّس سرّه من «بعض من قارب عصرنا» هو الأوّل، بقرينة ما سيأتي نقله في المتن بقوله: «قال: بل الظاهر اتفاقهم على إرادة هذا المعنى في عناوين أبواب المعاملات ..» فإنّها نصّ كلام صاحب المقابس.

(1) ك «أبيع و بائع و بع» و نحوها من التصاريف، فالمبدأ الساري في الكل معنى وحداني و هو إنشاء تمليك عين بمال. «نعم لو كان في مقام الإخبار عما أنشأه كان معناه «إنشاء التمليك المقرون بقبول المشتري» لا إنشاء البيع مطلقا حتى بدون انضمام القبول، و لكن خصوصية التعقب مستفادة من كونه في مقام الإخبار عن إنشاء المعاملة المتوقفة على تمامية العقد شطرا و شرطا.

إطلاق البيع على معان أخرى

(2) أي: معان ثلاثة أخرى ذكرها الفقيهان كاشف الغطاء و صاحب المقابس.

______________________________

[1] قال المحقق الايرواني قدّس سرّه ما لفظه: «لا يخفى أنّ ما ذكره من المعاني هنا هي عين ما تقدم من المعاني، فلا وجه للإعادة. نعم المعنى الأوّل مما ذكره هنا مشتمل على قيد زائد على المعنى الذي اختاره المصنف سابقا في تعريف البيع و هو: إنشاء التمليك، بلا قيد التعقب بإنشاء التملك من المشتري» «2».

______________________________

(1): شرح القواعد- مخطوط- الصفحة الأولى من عقد البيع.

(2) حاشية المكاسب ج 1 ص 74.

ص: 265

أحدها: التمليك المذكور (1)، لكن بشرط تعقّبه بتملّك المشتري. و إليه (2) نظر بعض مشايخنا، حيث أخذ قيد التعقّب بالقبول في تعريف البيع المصطلح (3).

و لعلّه (4) لتبادر التمليك المقرون بالقبول من اللفظ، بل و صحّة السلب عن المجرّد،

______________________________

(1) أي: إنشاء تمليك عين بمال، و هو فعل البائع، و لكن البيع ليس مجرّد هذا الإنشاء، بل المشروط بانضمام القبول إليه. و إطلاق «البيع» على الإيجاب المشروط بالقبول هو أوّل المعاني الأربعة المذكورة في المقابس، حيث قال:- بعد إطلاقه حقيقة على كلّ واحد من الإيجاب و القبول، لكونه من الأضداد- ما لفظه: «و يشترط في كلا الإطلاقين انضمام الفعلين و اجتماعهما في الوجود، فلا يقال لمن أوجب البيع بقوله: بعت: أنّه باع، إلّا بعد أن ينضمّ قول الآخر.

و قبوله. و مثله الآخر، بل الحكم فيه أظهر .. إلخ».

و وجّه المصنف قدّس سرّه هذا الاشتراط بالتبادر و صحة السلب، حيث إنّ المتبادر من لفظ «البيع» و مشتقاته هو التمليك المتعقّب بتملّك المشتري. و كذا يصح سلب عنوان «البيع» عن التمليك المجرّد عن قبول المشتري، بشهادة أنّه لا يقال في مقام الإخبار: «باع زيد داره» إلّا بعد أن يشتريها شخص منه. و على هذا فلو لم ينضمّ قبول المشتري إلى إيجاب البائع لا يصدق عنوان «البيع» على إنشاء التمليك الذي هو فعل البائع.

(2) أي: و إلى استعمال البيع في التمليك الإنشائي المشروط بقبول المشتري نظر بعض المشايخ، و لعلّ هذا البعض صاحب الجواهر قدّس سرّه.

(3) يعني: ما يقابل سائر المعاملات و العقود، و إلّا فالبيع المقابل للشراء لم يؤخذ فيه قيد التعقّب بالقبول قطعا.

(4) غرضه قدّس سرّه توجيه كلام بعض من عاصره من إطلاق البيع حقيقة على إنشاء تمليك البائع بشرط انضمام القبول إليه. و محصّل التوجيه: وجود أمارتين من علائم الحقيقة في المقام

______________________________

قول: لعل الوجه في التعرض لها مع ذكرها سابقا هو دفع التنافي في بين مختاره في تعريف البيع من كونه إنشاء تمليك عين بمال و بين تلك المعاني، فالنكتة في الإعادة هي إثبات عدم التنافي بينهما، فلا تغفل.

ص: 266

و لهذا (1) لا يقال: «باع فلان ماله» إلّا بعد أن يكون قد اشتراه غيره. و يستفاد (2) من قول القائل: «بعت مالي» أنّه اشتراه غيره، لا أنّه أوجب البيع فقط.

الثاني (3): الأثر الحاصل من الإيجاب و القبول، و هو الانتقال [1]

______________________________

تكشفان عن وضع «البيع» لفعل البائع المنضمّ الى قبول المشتري.

أحدهما: تبادر هذه الحصة- دون طبيعي التمليك الإنشائي- لو قال المخبر: «بعت داري» إذ لا يراد منه الإيجاب المحض.

و الآخر: صحة سلب عنوان «البيع» عن الإيجاب المجرد عن قبول المشتري.

و عليه فالتمليك غير المقرون بالتملّك ليس بيعا.

(1) يعني: و لتبادر الإنشاء المتعقب بالقبول- و صحة سلب البيع عن الإيجاب المجرّد عن القبول- لا يقال لمن يخبر عن بيع داره: أنّه باعها إلّا بعد أن اشتراها غيره.

(2) زاد المصنف قدّس سرّه هذا المثال الثاني لأجل تثبيت التبادر و صحة السلب، و كان المثال الأوّل وافيا بإثبات الأمارتين، و لذا اقتصر صاحب المقابس قدّس سرّه على مثال واحد.

(3) قال في المقابس: «ثالثها: الأثر المترتب على تحقق جزأي العقد معا، و هو النقل العرفي مطلقا، و الشرعي مع صحة العقد، و يعبّر عنه بالانتقال أيضا و يختلفان بالاعتبار» و حاصله: أنّ البيع موضوع لمعنى ثالث- غير ما تقدّم من وضعه تارة للإيجاب المحض، و أخرى للإيجاب المنضمّ الى القبول- و هو الأثر المترتّب على كلا الفعلين: تمليك البائع و تملّك المشتري. و هذا المعنى الثالث هو ظاهر جمع من الفقهاء كشيخ الطائفة و الحلّي و العلّامة- في ما عدا المختلف من كتبه- حيث عرّفوا البيع ب «انتقال عين مملوكة ..» و من المعلوم أنّ الانتقال- القائم بالمال- أثر مترتب على مجموع الإيجاب و القبول.

______________________________

[1] قال السيد قدّس سرّه: «لا يخفى أنّ الانتقال أثر الإيجاب فقط، لا أثر المجموع، إلّا أن يراد منه الانتقال الشرعي» «1».

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 61

ص: 267

كما يظهر من المبسوط «1» و غيره.

الثالث (1): نفس العقد المركّب من الإيجاب و القبول (2)، و إليه (3) ينظر [1] من عرّف البيع بالعقد، قال (4): بل الظاهر اتّفاقهم على إرادة هذا المعنى في عناوين أبواب

______________________________

(1) قال في المقابس: «رابعها: نفس العقد المركّب من الإيجاب و القبول، و هذا هو الشائع المعروف بين الفقهاء في سائر ألفاظ العقود، ممّا كان منها مصدرا بصيغة الفعال و المفاعلة، أو بمعناه كالقراض و المضاربة و المزارعة و المساقاة و المسابقة و المبارأة و المكاتبة و الشركة و الصلح. أو اسم عين كالوديعة و العارية .. إلخ».

(2) ظاهره إرادة الإيجاب و القبول اللفظيين، لظهور «العقد» في خصوص القولي، فكلّ من عبّر عن البيع بالعقد أراد العقد اللفظي، خصوصا مع بناء جلّهم على إفادة المعاطاة للإباحة، و تصريح بعضهم بنفي بيعيّتها.

(3) أي: و إلى إرادة نفس العقد المؤلّف من الإيجاب و القبول نظر من عرّف البيع بالعقد كالحلبي و ابن حمزة و المحقق و غيرهم قدّس سرّهم.

(4) يعني: قال بعض من قارب عصرنا- و هو صاحب المقابس- بأنّ إرادة العقد لا تختص بالبيع، بل الأمر كذلك في مطلق العقود و المعاملات كالصلح و الهبة و الإجارة و الشركة و العارية و المضاربة و غيرها، فتعريف كلّ منها في كلمات الفقهاء يراد به تعريف عقدها المؤلّف من الإيجاب و القبول، و سيأتي مزيد توضيح له.

______________________________

لا ينبغي التأمل في إرادة الأثر المترقب و هو الانتقال الخارجي، لأنّه الحاصل من الإيجاب و القبول معا، دون الانتقال المترتب على الإيجاب فقط.

[1] كما أنّه يحتمل أن يكون نظر من عرّفه بالعقد إلى المبادلة الحاصلة من الإيجاب و القبول، لا إلى العقد اللفظي، كما هو ظاهر تعريف المصباح المتقدم من أنّه «مبادلة مال بمال» بل هو ظاهر قوله تعالى وَ ذَرُوا الْبَيْعَ و قوله تعالى لٰا تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لٰا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ

______________________________

(1): المبسوط، ج 2، ص 76، و تقدمت جملة من المصادر أيضا في ص 34 و 35 فلاحظ.

ص: 268

المعاملات حتّى (1) الإجارة و شبهها التي ليست هي في الأصل اسما لأحد طرفي

______________________________

(1) كلمة «حتى» تدلّ على كون مدخولة أضعف من سابقه، كقوله: «قدم الحاجّ حتى المشاة». و توضيح وجه أضعفيته منوط ببيان أقسام عناوين المعاملات على ما ذكره صاحب المقابس قدّس سرّه.

فمنها: ما يكون عنوان المعاملة مصدرا من باب المفاعلة أو الفعال، فالأوّل كالمزارعة و المسابقة و المساقاة و المكاتبة و المضاربة، و الثاني كالقراض. و من المعلوم أنّ مقتضى الاشتراك في المبدأ في بابي المفاعلة و التفاعل هو كون العنوان المعاملي اسما لطرفي العقد أي الموجب و القابل.

و يلحق بهذا القسم مثل الشركة و الصلح، فإنّهما و إن كانا مصدرين للفعل المجرّد، إلّا أن العنوان قائم بشخصين.

و منها: ما يكون عنوان المعاملة اسما لأحد طرفي العقد كالبيع و الضمان و الخلع و ما أشبهها، فإنّها أسماء للإيجاب الذي هو أحد طرفي العقد.

و منها: ما يكون العنوان المعاملي اسم عين، لا هو فعل أحد المتعاقدين و لا فعل كليهما، و ذلك كالوديعة و العارية و الصدقة، فإن معناها لغة و عرفا و شرعا نفس المال الذي يستأمن الودعي على حفظه، و يسلّط المستعير على الانتفاع به، و يعطى للغير بقصد القربة.

و قد تستعمل هذه الثلاثة بمعنى المصادر أيضا نادرا. و من هذا القبيل الإجارة، فإنّها ليست في الأصل فعل الموجر و لا المستأجر، بل هي اسم لعوض المنفعة. قال في القاموس:

«الأجر الجزاء على العمل، كالإجارة» «1».

______________________________

و غيرهما من الآيات، بل هو ظاهر الفقهاء في عناوين المعاملات، كقولهم: «كتاب البيع، شرائط البيع، أحكام البيع، و كتاب الإجارة و الصلح و المزارعة و المساقاة» و غيرها من عناوين المعاملات، فإنّ مورد البحث في تلك الأبواب نفس المعاملات لا عقودها. نعم وقوعها منوط بالعقد المركب من الإيجاب و القبول، فاحتياجها إلى العقد من أحكامها، لا أنّها نفس العقود.

______________________________

(1): القاموس المحيط، ج 1، ص 363

ص: 269

العقد (1).

______________________________

إذا عرفت هذه الأقسام الثلاثة في العناوين المعاملية، فنقول: إنّ المقصود بكل واحدة من المعاملات العقد الدال عليه. و لكن إطلاق المعاملات على عقودها ليس على السواء، فإطلاق المزارعة مثلا على إيجابها و قبولها قريب جدا، لدلالة «المفاعلة» على قيام المبدأ بالموجب و القابل. و إطلاق البيع و نظائره مما يكون اسما لأحد طرفي العقد إنما هو لوجود علاقة الكلّ و الجزء فيها، حيث إنّ استعمالها في العقد يكون من استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، الذي هو من جنسه أعني به اللفظ الجامع بين الإيجاب و القبول.

و أمّا استعمال الإجارة في العقد القائم بطرفين- مع كونها اسما للمال- لا فعلا لهما فأبعد من استعمال البيع في العقد، لأنّ علاقة الجزء و الكل المتحققة في البيع مفقودة في مثل الإجارة، لعدم كون الإجارة- بمعنى الأجرة التي هي عين المال- بمعنى المصدر حتى تصاغ منها المشتقات. نظير الأمر بمعنى الفعل و الشأن، فإنّه لا يصح حينئذ صوغ المشتقات منه، بخلاف الأمر بمعناه المصدري، فإنّه مبدأ للمشتقات و أصل لها.

و عليه فاستعمال الإجارة و الوديعة في العقد ليس لعلاقة الكلّ و الجزء، بل لعلاقة السببيّة و المسببيّة.

و الحاصل: أنّ مقصودهم من كلّ عنوان معامليّ عقده، و لكن إطلاق عناوين المعاملات على عقودها ليست على سواء، فالأقرب ما كان عنوان المعاملة اسما للطرفين كالمزارعة، و يتلوه مثل البيع ممّا كان العنوان اسما لأحد الطرفين. و يتلوه مثل الإجارة ممّا ليس العنوان اسما لشي ء من الإيجاب و القبول، و كان مصحّح الإطلاق مجرّد علاقة السببية و المسببية، هذا.

(1) و إنّما هي أسماء لأعيان خارجية، فالإجارة كالأجرة عوض المنفعة غالبا، و الوديعة اسم للعين المودعة عند المستودع. و العارية اسم للعين التي ينتفع بها المستعير.

هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل، و هو توضيح كلام صاحب المقابس قدّس سرّه.

ص: 270

[تحقيق إطلاق البيع على معان اخرى 1- إطلاقه على الإيجاب المنضم الى القبول]

أقول (1): أمّا البيع بمعنى الإيجاب المتعقّب للقبول فالظاهر أنّه ليس مقابلا للأوّل (2)، و إنّما هو (3) فرد انصرف إليه اللفظ في مقام قيام القرينة (4) على إرادة

______________________________

تحقيق إطلاق البيع على معان اخرى 1- إطلاقه على الإيجاب المنضم الى القبول

(1) هذا شروع في الأمر الثاني الذي أشرنا إليه بقولنا: «الثاني عدم منافاة التعريف المزبور لإطلاق البيع على معان أخر .. إلخ» فالمقصود مناقشة كلام بعض من قارب عصره، و أنّ إطلاق البيع على معان أخر- غير إنشاء تمليك عين بمال- ليس حقيقيا ناشئا من تعدّد الوضع كما يظهر من إطلاق كلامه.

أمّا عدم التنافي بين المختار في تعريف البيع- من إنشاء تمليك عين بمال- و بين المعنى الأوّل من المعاني الثلاثة الأخرى، و هو الإيجاب المتعقّب للقبول- فلأنّ البيع في جميع موارد إطلاقه يراد به إنشاء التمليك خاصة، سواء تعقّبه تملّك المشتري أم لا. و دلالة قولنا: «باع زيد داره» على خصوص الإيجاب المقرون بالقبول و إن كانت مسلّمة، إلّا أنّها ليست مستندة إلى الوضع، بل منشؤها قرينية الإخبار على وقوع بيع مؤثّر و هو التمليك المتعقّب بالقبول، فيكون من باب تعدّد الدال و المدلول. لا أنّ البيع استعمل في التمليك المقيّد بالقبول حتى يكون استعمالا آخر في مقابل المعنى المختار، و منافيا لانحصار معناه في جامع التمليك المقرون بالقبول و غير المقرون به.

و عليه فليس مختارنا في تعريف البيع مغايرا لما ذكره بعض من قارب عصرنا من «أن البيع هو التمليك المشروط بتمليك المشتري» بل هذا المعنى الذي ذكره يكون من أفراد البيع بالمعنى الذي ذكرناه و هو «تمليك العين بمال». فالموضوع له هو «إنشاء التمليك» الجامع للمتعقب بالقبول و غيره، و يتوقف إرادة خصوص المتعقّب على قرينة. و أما إرادة الإنشاء المجرّد فلا يتوقف على شي ء، بل يكفيه الإطلاق الذي هو عدم التقيّد بالتعقب بالقبول.

(2) المراد بالأوّل هو «إنشاء تمليك عين بمال» الذي اختاره المصنف قدّس سرّه في تعريف البيع، لا الأوّل في كلام صاحب المقابس.

(3) هذا الضمير و ضميرا «أنه، إليه» راجعة إلى البيع بمعنى الإيجاب المتعقب للقبول.

(4) يعني: فيكون قيد تملّك المشتري مستفادا من قرينة مقامية، و هي كون المتكلم

ص: 271

الإيجاب المثمر، إذ لا ثمرة في الإيجاب المجرّد (1)، فقول المخبر: «بعت» إنّما أراد الإيجاب المقيّد، فالقيد مستفاد من الخارج (2)، لا أنّ البيع مستعمل في الإيجاب المتعقّب للقبول (3). و كذلك (4) [1] لفظ النقل و الإبدال و التمليك و شبهها، مع (5) أنّه لم يقل أحد بأنّ تعقّب القبول له دخل في معناها (6).

______________________________

بصدد الإخبار عن فعله، لا أنّ البيع استعمل في مجموع تمليك البائع و تملّك المشتري.

(1) أي: الإيجاب المجرّد عن القبول، فلو لم تكن القرينة المقامية لكان المراد من لفظ «البيع» الإيجاب المحض.

(2) أي: من قرينة مقامية، لا من حاقّ لفظ «البيع» حتى تكون دلالته على اقتران الإيجاب بالقبول بالوضع. و عليه فتكون استفادة قيد التعقّب من باب تعدد الدال و المدلول، نظير دلالة «أعتق رقبة مؤمنة» على مطلوبية عتق الصنف لا طبيعي الرقبة، فإنّ «الرقبة» لم تستعمل إلّا في طبيعة الرقبة، و قيد «الايمان» استفيد من لفظ «المؤمنة».

(3) حتى يكون مغايرا للمعنى المختار و هو تمليك العين بالمال.

(4) غرضه إثبات مقصوده- و هو عدم دخل تعقّب القبول في مفهوم البيع- بما حاصله:

أنّ ما يرادف البيع من «النقل، و الإبدال، و التمليك، و شبهها كالتبديل» لا يتوقف صدق مفاهيمها على تعقّب القبول، بل يتحقق مفهومها بدونه، إذ لم يقل أحد بدخل تعقب القبول في معناها، فلا بدّ أن يكون الأمر في البيع كذلك، فلا يعتبر في مفهوم البيع أيضا تعقّبه بالقبول كما هو مقتضى الترادف.

(5) ليس هذا وجها آخر، بل هو متمّم استشهاده، فكأنّه قال: «لا يعتبر في مفهوم البيع تعقبه بالقبول، لعدم اعتباره فيما يرادفه من النقل و غيره، حيث إنّه لم يلتزم أحد من الأصحاب باعتبار القبول فيه، فلا بد أن يكون البيع كالنقل و التمليك في عدم اعتبار القبول فيه».

(6) أي: في معنى النقل و الإبدال و التمليك و شبهها ممّا يرادف البيع.

______________________________

[1] هذا بمنزلة الدليل لعدم شرطية تعقّب القبول، فحق العبارة أن تكون هكذا: «و يدل

ص: 272

______________________________

عليه عدم اعتبار القبول في معنى لفظ النقل و نحوه ممّا هو مرادف للبيع، و إن كان القبول معتبرا في ترتب الأثر الخارجي على البيع. لكنّه غير اعتباره في مفهوم البيع.

و الوجه في عدم اعتبار القبول في معنى البيع و النقل و التمليك و شبهها هو أنّها من قبيل الإيجاب و الوجوب لا الكسر و الانكسار، فإنّ الآمر قد يأمر بشي ء و لا يكون واجبا في الخارج، فينفك الوجوب عن الإيجاب. و كذلك البيع، فإنّ البائع قد ينشؤه و لا يوجد في الخارج. بخلاف الكسر و الانكسار، فإنّه لا ينفك الانكسار عن الكسر» هذا.

ثم إنّ جعل النقل و الإبدال و التمليك مما يرادف البيع لا يخلو من غموض.

أمّا النقل فلأنّه موضوع لمفهوم عام يصدق على النقل الخارجي، كنقل شي ء من مكان الى آخر، و الاعتباري كنقل إضافة مال شخص إلى غيره، كنقل إضافة داره الى زيد مثلا، و نقل زيد إلى مالك الدار عشرة دنانير، فليس معنى النقل مساويا لمعنى البيع.

و كذا الحال في الإبدال فإنّه- لأعميته من الإبدال الخارجي و الاعتباري- لا يكون مساويا لمعنى البيع.

و أمّا التمليك فلأنّ النسبة بينه و بين البيع عموم من وجه، لوجود التمليك بدون البيع كالهبة و الوصية و تمليكه سبحانه و تعالى لعباده بالإرث أو الفقر كما في الزكاة، أو السّيادة كما في الخمس. و وجود البيع بدون التمليك كبيع متاع بسهم سبيل اللّه من الزكاة، و بيع الطعام للصرف في التعازي الحسينية بالفلوس المبذولة من الشيعة طول السنة لهذا الأمر الخير، فإنّ البيع موجود بدون التمليك كما هو واضح. و اجتماع التمليك و البيع معا كالبيوع الواقعة على المملوكات بالأثمان المملوكة كبيع زيد داره من عمرو بمائة دينار.

و بالجملة: فلا يكون التمليك مساويا للبيع حتى يقال: إنّ عدم اعتبار قيد التعقب بالقبول في مفهوم النقل و الإبدال و التمليك يدلّ على عدم اعتباره في البيع أيضا، هذا.

و الحقّ ما أفاده المصنف قدّس سرّه من عدم دخل القبول في مفهوم البيع، و ذلك لأنّ البيع المبحوث عنه هو معناه المصدري الذي يكون مبدأ لمشتقاته، و هو بهذا المعنى فعل البائع،

ص: 273

______________________________

و من المعلوم أنّ الصادر منه هو التبديل الإنشائي، إلّا أنّ الإنشاء متقوم بالقصد، و من المعلوم أنّ القصد لا يتمشّى إلا مع العلم بتعقب القبول للإيجاب، أو رجاء تعقبه له. و أمّا مع القطع بعدمه فلا يتحقق القصد إلى إنشائه.

و بعبارة أخرى: لمّا كان البيع من العناوين القصدية لم يتحقق إلّا بالقصد، فمع القطع بعدم لحوق القبول لا يحصل قصد الإنشاء الناقل حتى في نظره.

و تفصيل البحث: أنّ للبيع إطلاقات أربعة:

الأوّل: الإنشاء الساذج من دون انضمام القبول إليه، بمعنى القطع بعدم انضمامه إليه، و هذا ليس بيعا حتى في نظر الموجب، لعدم تمشّي القصد المقوّم لإنشائه، فيصحّ سلب البيع عنه، و يقال: انّه ليس ببيع.

الثاني: الإيجاب و القبول بدون إمضاء العرف و الشرع، كأن يقول بعتك هذا المنّ من التراب بكذا» فإنّه بيع بنظر الموجب، لكنّه غير ممضى عرفا و شرعا، فتأمّل.

الثالث: هذه الصورة مع إمضاء العرف دون الشرع كبيع الخمر، فإنّه فاسد شرعا و صحيح عرفا.

الرابع: أن يكون ممضى شرعا أيضا، كبيع منّ من الحنطة بدرهم مثلا، مع اشتماله لجميع ما يعتبر فيه، فإنّه صحيح عرفا و شرعا.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّ البيع المصدري الذي هو فعل الموجب ليس إلّا ما يعدّ فعلا له، و من المعلوم أنّ فعله- بحيث يضاف اليه- ليس إلّا التمليك أو التبديل الإنشائي، و أمّا القبول فليس جزءا و لا شرطا، لصدق مفهوم البيع عليه بدونه، كيف؟ و هو- أي القبول- يكون معنى الشراء الذي هو مقابل البيع و فعل القابل.

نعم بناء على ما ذكره المصباح من كون البيع «مبادلة مال بمال» و كون المفاعلة مثل التفاعل في الدلالة على اعتبار التعدّد في معناه يتجه دخل القبول في مفهوم البيع شطرا، و إلّا فلا دليل على اعتباره فيه، و التبادر و صحة سلب مفهوم البيع عن فاقد القبول لا يدلّان على

ص: 274

______________________________

اعتبار القبول في مفهومه، لنشو الانسباق المزبور عن القرينة كما لا يخفى، كما أنّ انسباقه في النذر- فيما إذا نذر بيع شي ء- يكون لأجل القرينة.

فما في حاشية السيد و تقرير السيد الخويي قدّس سرّهما- من الاستدلال على اعتبار القبول في مفهوم البيع بوجوه «1»- لا يخلو من غموض. إذ منها التبادر و صحة سلب البيع عن فاقد القبول، و قد عرفت حالهما من الاستناد إلى القرينة.

و منها: أنّ البيع «إنشاء تبديل عين بعوض في جهة الإضافة» و من الظاهر أنّ هذا المعنى لا يتحقق إلّا بتعقب الإنشاء بالقبول.

و فيه: أنّ التبديل الإنشائي لا يتوقف على ذلك، و إنّما المتوقف عليه هو التبديل الخارجي العرفي أو الشرعي الذي يكون التبديل الإنشائي موضوعا له.

و منها: أنّ البيع من العقود، و بناء على كون البيع الإيجاب الساذج يلزم أن يكون من الإيقاعات.

و فيه: أنه إن أريد بالإيقاع ترتب الأثر الخارجي على الإيجاب فقط فهو ممّا لا ريب في بطلانه، لأنّ الأثر كالملكية حكم شرعي وضعي يترتب على العقد المؤلّف من الإيجاب و القبول، لا خصوص الإيجاب.

و إن أريد به الأثر المترتب على الإيجاب في نظر الموجب و إن لم يترتب عليه في نظر غيره- نظير الإيجاب و الوجوب، حيث انّ الوجوب يترتب على الإيجاب في نظر الآمر و إن لم يترتب عليه في نظر غيره، و لذا لا يكون وجوبا في نظر العقل حتى يستلزم مخالفته استحقاق العقوبة، إلّا إذا كان الآمر عاليا مثلا- فلا محيص عن الالتزام به، لأنّ الموجب لا بدّ أن ينشئ ما يريده و يقدر عليه، و هو ليس إلّا التبديل الإنشائي، كما أنّ القابل لا ينشئ إلّا القبول الإنشائي، و هذان الإنشاءان معا عقد يترتب عليه الحكم الشرعي بالملكية أو غيرها، فتدبر جيدا.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 62، 63، مصباح الفقاهة، ج 2، ص 72

ص: 275

نعم (1) تحقق القبول شرط للانتقال في الخارج، لا في نظر الناقل، إذ (2)

______________________________

(1) بعد أن نفى دخل القبول في مفهوم البيع- و التزم بتحققه بدون القبول- استدرك عليه و قال: نعم يشترط القبول في تحقق الانتقال الخارجي لا الانتقال في نظر البائع، لأنّ النقل الإنشائي يؤثّر في الانتقال الإنشائي لا محالة، و إلّا يلزم انفكاك الأثر عن المؤثّر، فالأثر المترتب على الإيجاب المتعقّب للقبول هو الانتقال الخارجي، لا الانتقال في نظر البائع.

(2) تعليل لعدم شرطيّة القبول للانتقال في نظر الناقل، و ملخّصه: أنّ المؤثر التام في الانتقال الإنشائي في نظر الناقل هو نقله المفروض تحققه، و لا يمكن التفكيك بين المؤثّر و أثره، غاية الأمر أنّ هذا الأثر الإنشائي غير الأثر الخارجي الذي يترتّب على الإيجاب المتعقّب بالقبول.

______________________________

فالمتحصل: أنّه لا وجه لأخذ القبول في مفهوم البيع الإنشائي.

و أمّا ما أفاده السيد من الاشكال على المتن بقوله: «و ما ذكره المصنف قدّس سرّه من أن ذلك من جهة الانصراف الى البيع المثمر فيه: أنّه لو كان كذلك وجب أن يكون كذلك في فقد جميع الشرائط الشرعية. مع أنّه لو تحقق القبول و لم يكن صحيحا شرعيا من جهة فقد بعضها يكون بيعا قطعا، و لا يكون اللفظ منصرفا عنه، و لا يعدّ الإخبار به معه من الكذب. و أيضا لو قال:

بعت، و ما قبل المشتري يعدّ تناقضا» فغير ظاهر، إذ مع قرينية الإخبار على إرادة الإيجاب المثمر لم يفرّق فيه بين اعتبار لحوق القبول و بين اجتماع شرائط الصحة، فلو قصد الإخبار عن بيع داره وفاء بالنذر أو أداء للدين، و كانت المعاملة فاقدة لبعض شرائط الصحة كان قوله: «بعت داري» كذبا قطعا، لفرض عدم تأثير العقد- غير المستجمع لشرائط النفوذ- في النقل و الانتقال.

و إن كان مقصوده الإخبار عن إيجابه البيع بلا نظر الى تحقق جميع ماله دخل في ترتب الأثر كان إخباره صدقا، سواء أ كان عدم ترتب الأثر مستندا إلى عدم تعقّب القبول أم الى اختلال الشرائط.

و عليه فما في المتن من قوله: «الإيجاب المثمر» سليم عمّا أورد عليه.

ص: 276

التأثير لا ينفك (1) عن الأثر، فالبيع (2) و ما يساويه معنى من قبيل الإيجاب و الوجوب، لا الكسر و الانكسار كما تخيّله بعض (3)، فتأمّل (4).

______________________________

(1) بل التأثير و الأثر واحد و تعددهما اعتباري، لأنّه إذا نسب الى الفاعل فهو تأثير، و إذا نسب الى المحل فهو أثر، فلا يعقل التأثير بدون الأثر.

(2) هذا بمنزلة التعليل لعدم اعتبار القبول في مفهوم البيع، يعني: أنه لا يعتبر القبول في البيع، لأنّه من قبيل الإيجاب و الوجوب، فكما ينفك الوجوب عن الإيجاب، فكذلك ينفك إيجاب البيع عن الانتقال الخارجي المترتب على انضمام القبول. و ليس البيع من قبيل الكسر و الانكسار حتى لا ينفك إيجاب البيع عن الانتقال، كما لا ينفك الكسر عن الانكسار.

(3) و هو المدقق صاحب المقابس قدّس سرّه.

(4) لعله- كما قيل- إشارة إلى: أنّ البيع من قبيل الكسر و الانكسار، حيث إنّ الانتقال الإنشائي لا ينفك عن النقل، فلا يتوقف على القبول. نعم الانتقال الشرعي الذي هو الحكم الشرعي موقوف على القبول. و كذا الحال في الوجوب و الإيجاب، فإنّه لا يكاد يمكن انفكاكهما في مرتبة واحدة بحسب نظر واحد. نعم إنّما ينفكّ الإيجاب في مرتبة- أو بحسب نظر- عن الوجوب في مرتبة اخرى و نظر آخر.

و بالجملة: فالإيجاب في نظر أو في مرتبة لا ينفكّ عن الوجوب في ذلك النظر أو تلك المرتبة، و ينفكّ عنه في مرتبة اخرى أو نظر آخر.

و كذا النقل و الانتقال، فإنّ النقل في كل نظر أو مرتبة لا ينفكّ عن الانتقال في ذلك النظر أو تلك المرتبة. فلا فرق بين الإيجاب و الوجوب و النقل و الانتقال و الكسر و الانكسار

______________________________

و لا يبعد أن يكون النزاع بين المثبتين و النافين لفظيا، ببيان: أنّ البيع المثمر لمّا كان متوقفا على الإيجاب و القبول معا قالوا: ان البيع مركّب منهما، غفلة عن أنّ ذلك خارج عن مفهوم البيع المصدري، و أنّ اعتباره فيه ناش عن القرينة، فمن ادّعى اعتبار القبول فيه أراد اعتباره في تأثيره، و من نفى ذلك عنه أراد خروجه عن مفهومه.

ص: 277

و منه (1) يظهر ضعف أخذ القيد المذكور في معنى البيع المصطلح (2)

______________________________

إلّا في كونهما من الأمور الخارجية التي لها مرتبة واحدة، بخلاف الإيجاب و الوجوب و النقل و الانتقال، فإنّهما من الأمور الاعتبارية التي لا واقع لها إلّا بحسب الاعتبار الذي يختلف بحسب الأنظار.

و لعلّه إشارة إلى الدقّة و الإمعان فيما أفاده لا تمريضه. و لعلّه أولى بملاحظة ما فرّعه عليه بقوله: «و منه يظهر ضعف ..» إذ لو كان المطلب السابق موهونا لم يبق مجال لبناء قدحه في مطالب الآخرين على أساس ضعيف في نظره.

(1) أي: و من عدم دخل القبول في النقل و الانتقال في نظر البائع- و أنّ البيع لم يستعمل إلّا في مجرّد النقل، و أنّ قيد التعقب بالقبول يستفاد من دالّ آخر- يظهر ضعف أخذ قيد التعقب بالقبول في معنى البيع الاصطلاحي.

و مقصوده قدّس سرّه في خاتمة مناقشته في أوّل إطلاقات البيع هو التنبيه على أن قيد التعقب بالقبول غير دخيل في معنى البيع سواء أريد به معناه المصطلح عليه بين الفقهاء من «إنشاء تمليك عين بمال» و ما يقرب منه، أم أريد به معناه اللغوي من مبادلة مال بمال.

و عليه فلا وجه لما ذهب إليه بعض مشايخه من عدم دخل قيد التعقب بالقبول في معناه اللغوي، و إنّما هو دخيل في معناه باصطلاح الفقهاء. و لا لما أفاده صاحب المقابس قدّس سرّه من أخذ قيد التعقب في معناه اللغوي، حيث ادّعى إطلاق البيع حقيقة على معان أربعة، و كونه مشتركا لفظيا بينها، و جعل أوّل تلك المعاني: الإيجاب المشروط بالقبول و المقترن به.

و قد نفى المصنف قدّس سرّه دخل القبول في البيع الاصطلاحي و اللغوي معا، و من المعلوم أنّ عدم دخله في البيع الاصطلاحي يدلّ بالأولوية القطعية على عدم دخله في معناه اللغوي، و وجه الأولوية: أنّ الفقيه ربّما يتصرّف في المعنى اللغوي بزيادة قيد التعقب بالقبول في مصطلحه و إن لم يكن دخيلا في الوضع اللغوي، فإذا ثبت عدم دخله في معناه الاصطلاحي فقد ثبت- بالأولوية- خلوّ معناه اللغوي عن هذا القيد.

(2) الذي أخذه بعض مشايخه، على ما تقدم في قوله: «و إليه نظر بعض مشايخنا حيث أخذ قيد التعقب بالقبول في تعريف البيع المصطلح».

ص: 278

فضلا (1) عن أن يجعل أحد معانيه.

[إطلاق البيع على الأثر]

و أما البيع (2) بمعنى الأثر- و هو الانتقال- فلم يوجد في اللغة (3) و لا في العرف (4)،

______________________________

(1) قد عرفت آنفا وجه الأولوية، و محصله: أنّ القبول لا يكون دخيلا في المعنى الاصطلاحي الذي هو أهون من المعنى الأصلي اللغوي، فكيف جعله صاحب المقابس قدّس سرّه دخيلا في معناه اللغوي؟

إلّا أن يناقش في هذه الأولوية بمنع الملازمة بين اللغة و الاصطلاح الفقهي، لإمكان دخل القبول في البيع باصطلاح الفقهاء و إن لم يكن دخيلا في معناه اللغوي.

هذا تمام الكلام فيما يتعلق بإطلاق البيع حقيقة على الإيجاب المشروط بتعقبه بالقبول، و قد ظهر أنّ شرطية التعقب ليست مدلول نفس البيع، بل استفيدت من قرينة خارجية من باب تعدّد الدال و المدلول.

2- إطلاق البيع على الأثر

(2) هذا هو المعنى الثاني الذي قيل بإطلاق البيع عليه حقيقة في قبال إطلاقه على إنشاء تمليك عين بمال. و حاصل إشكال المصنف عليه: أنّ استعمال «البيع» في الانتقال- المترتب على الإيجاب و القبول- غير معهود لا لغة و لا عرفا، على ما سبق تفصيله في مناقشة تعريف الشيخ و العلّامة و غيرهما بالانتقال.

و عليه فلم يثبت كونه من معاني البيع حتى يتكلّف في دفع التنافي بينه و بين ما اختاره المصنف- و جعله صاحب المقابس ثاني إطلاقات البيع- من كونه إنشاء تمليك عين بمال.

فالانتقال أثر البيع و غايته، و يكون استعماله فيه مجازيا، و من المعلوم عدم التنافي بين استعمال لفظ في معناه الحقيقي تارة و المجازي أخرى.

(3) لأنّ معناه اللغوي «مبادلة مال بمال» و المبادلة مغايرة للانتقال مفهوما.

(4) لأنّ معناه العرفي إمّا هو إيجاب البائع خاصة، و إمّا العقد كما ادّعى العلّامة في المختلف تبادره منه «1».

______________________________

(1): مختلف الشيعة، ج 5، ص 51

ص: 279

و إنّما وقع في تعريف جماعة (1) تبعا للمبسوط. و قد يوجّه (2) بأن المراد من البيع المحدود المصدر من المبني للمفعول

______________________________

(1) كابن إدريس و العلّامة في ما عدا المختلف من كتبه.

(2) نسب هذا التوجيه إلى العلامة الطباطبائي قدّس سرّه في المصابيح و نقله صاحب الجواهر معترضا عليه، قال قدّس سرّه: «بل ربما قيل: انّ التعريف بالانتقال للبيع مصدرا للفعل المبني للمجهول، فيوافق حينئذ تعريفه بالنقل مصدرا للفعل المعلوم، و يسلم من التجوز في الحد و المحدود، و ان كان فيه ما فيه» «1».

و توضيح هذا التوجيه: أنّ للمصدر حيثيتين، إحداهما: انتساب المادة إلى الفاعل، و هو في المقام من يصدر منه البيع، و هذا موافق لتعريفه بإنشاء التمليك و نحوه ممّا ظاهره الصدور من البائع، و أثره الانتقال.

ثانيتهما: حيثية انتساب المادة إلى المفعول به، و هو ما يقع عليه البيع أعني به العوضين.

و الفرق بين هاتين الحيثيتين: أنّ الملحوظ في الأولى نسبة الصدور من الفاعل، و الملحوظ في الثانية نسبة الوقوع على المفعول به. مثلا «الضرب» يراد به تارة ضاربية زيد، و اخرى مضروبية عمرو.

و على هذا فتعريف البيع ب «إنشاء التمليك» ناظر إلى ظهوره في نسبة المادة إلى البائع، فيكون المعرّف حيثية بايعيّته. و لكن هذا الظهور لا يمنع من إرادة المعنى المفعولي من المصدر، فيكون المعرّف مبيعية المعوّض، و من المعلوم أنّ تعريف البيع بالانتقال ناظر إلى تعريف المصدر المبني للمفعول الذي هو أثر البيع المصدري المبني للفاعل.

و عليه فليس إطلاق البيع على الانتقال مجازيا، بدعوى: كونه أثرا مسبّبا عن الإيجاب و القبول. و ذلك لما عرفت من إرادة المبيعية من «البيع» المعرّف بالانتقال، لكون الانتقال صفة للمبيع، هذا.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 207

ص: 280

أعني المبيعية (1) [1].

______________________________

(1) و هو المعبّر عنه بالفارسية ب «فروخته شده، منتقل شده».

______________________________

[1] لا يخفى أنّ هذا المعنى يرجع الى المعنى الأوّل، و لا يكون مغايرا له، بناء على ما تقدم آنفا من اتحاد النقل و الانتقال، و الإيجاب و الوجوب، و الكسر و الانكسار ذاتا، و اختلافها اعتبارا، حيث إنّها باعتبار إضافتها إلى الفاعل نقل و إيجاب و كسر، و باعتبار إضافتها إلى القابل وجوب و انتقال و انكسار، لأنّ نسبة كلّ مصدر مجرّد إلى مصدر مزيد فيه من تلك المادة تكون كنسبة الوجود إلى الإيجاد، فكما أنّ الوجود و الإيجاد متّحدان حقيقة و مختلفان اعتبارا، فكذلك المصادر المجرّدة و المزيد فيها. هذا ما يقال في الفرق بين المصادر المجرّدة و المزيد عليها.

لكن فيه: أنّ هذا الفرق يتمّ في المصادر المجرّدة اللازمة كالحسن و الوجود و نحوهما حتى تكون ملحوظة بالنسبة إلى المحل، و أمّا في المجردة المتعديّة فلا يتم ذلك، لأنّها مضافة إلى الفاعل و ملحوظة بالنسبة إلى جهة الصدور.

و بالجملة: إن أريد بالانتقال ما يكون بنظر الموجب فيرجع الى المعنى الأوّل، لاتحاد النقل و الانتقال ذاتا. و إن أريد به ما هو ثابت شرعا و عرفا بأن يراد بالانتقال الملكية الشرعية أو العرفية فقيل بغلطية هذا الاستعمال، أي استعمال كلمة البيع في الانتقال، لأنّ الانتقال حكم مترتب على البيع ترتب الحكم على الموضوع، و متأخر عنه تأخّر المعلول عن العلة، لأنّ نسبة البيع إلى الاعتبار الشرعي أو العرفي نسبة الموضوع إلى حكمه، فإطلاق البيع على حكمه و لو مجازا غلط كما في تقرير السيد الخويي قدّس سرّه «1» هذا.

لكن يمكن أن يقال: بصحة هذا الاستعمال لعلاقة السببية و المسببية، فإنّ الموضوع كالسبب و العلة للحكم، فلا بأس بإطلاق البيع و إرادة الحكم منه مجازا بالعلاقة المزبورة.

إلّا أن يقال: إنّ صحة الاستعمال المجازي منوطة باستحسان الطبع له، لا بالعلاقة، و الطبع لا يستحسن استعمال لفظ الموضوع في الحكم الذي يترتب عليه، فإنّ البيع غير الحكم الشرعي المترتب عليه، و لا يستحسن الطبع استعمال لفظ البيع فيه.

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 2، ص 76

ص: 281

و هو (1) تكلّف حسن [1].

[3- إطلاق البيع على العقد مجازا]

و أمّا البيع (2) بمعنى العقد فقد صرّح (3) الشهيد الثاني رحمه اللّه بأنّ إطلاقه عليه مجاز، لعلاقة السببيّة.

______________________________

(1) يعني: أنّ هذا التوجيه تكلّف حسن. أمّا كونه تكلّفا فلظهور التعريف في إرادة البيع بمعناه المصدري، لا بلحاظ ما يشتقّ منه كالمبيعية التي لوحظ فيها حيثية زائدة على أصل المبدأ، و هي وقوع البيع على عين متموّلة.

و أما كونه حسنا فلأنّ إشراب المعنى المفعولي لا يوجب خروج «البيع» المحدود عن المبدأ المقصود تعريفه.

3- إطلاق البيع على العقد مجازا

(2) هذا هو المعنى الثالث المتقدم في كلام صاحب المقابس و محصل ما أفاده المصنف قدّس سرّهما في دفع التنافي بين تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» و بين جعله بمعنى العقد هو: أنّ إطلاق البيع على الإيجاب و القبول ليس حقيقيا، بل هو مجازيّ بعلاقة السببية و المسببية، لما تقدم في تعريف البيع «بالعقد الدال على الانتقال» من كون المعاملات أمورا اعتبارية أي من مقولة المعنى، و ليست من مقولة اللفظ، و من المعلوم أنّ إطلاق اللفظ الموضوع للمسبّب على سببه مجازيّ لا حقيقيّ.

و عليه فللبيع معنى حقيقي واحد، و لا منافاة بينه و بين استعماله في ما عداه بقرينة كعلاقة السببية و المسببية و نحوها. فما تقدم في كلام صاحب المقابس و غيره من «أن للبيع إطلاقات، و عدّ منها إطلاقه على الإيجاب و القبول» ممنوع بما عرفت.

(3) غرضه قدّس سرّه الاستشهاد بكلام الشهيد الثاني قدّس سرّه على مجازية تعريف البيع بالعقد

______________________________

[1] بل لا حسن فيه، لأنّ الانتقال في نظر الناقل المنشئ للبيع يترتّب على إنشائه، لا على الإيجاب و القبول معا، و الانتقال في نظر الشارع أو العرف ليس بيعا، بل هو حكم شرعي أو عرفي يترتب على البيع، و لا ينشأ بالإيجاب و القبول حتى يكون أثرا لهما.

ص: 282

..........

______________________________

الدال على الانتقال، و بيانه: أنّه قدّس سرّه ذكر في المسالك تعريفين للبيع.

أحدهما: العقد كما في الشرائع و المختصر النافع و الدروس، بدعوى أنّه المتبادر عرفا من معنى البيع.

و ثانيهما: أثر العقد و هو الانتقال كما في كلام المبسوط و غيره. ثم نقل الشهيد الثاني عن الشهيد الأوّل: إرجاع تعريف البيع بالانتقال الى تعريفه بالعقد، و وجّهه بقوله: «نظرا إلى أنّ الصيغة المخصوصة سبب في الانتقال، فأطلق اسم المسبب على السبب، و عرّف المغيّا بالغاية» ثم اعترض الشهيد الثاني عليه بقوله: «و فيه نظر، لأنّ الإطلاق المذكور مجازيّ يجب الاحتراز عنه في التعريفات الكاشفة للماهيّة، إلّا مع قيام قرينة واضحة، و هو منتف. و أمّا التعريف بالغاية بهذا المعنى فغير جائز .. إلخ» «1».

و المقصود من نقل عبارة المسالك أمران:

أحدهما: أنّ قول المصنف- من تصريح الشهيد الثاني قدّس سرّه بمجازية إطلاق البيع على العقد- لا يخلو من شي ء، فإنّه و إن صرّح بهذا الإطلاق المجازي، إلّا أنّ علاقة السببية و المسببية قد نقلها عن الشهيد الأوّل في مقام توجيه تعريف البيع بالعقد، و كان مقصود الشهيد الثاني الإيراد على الشهيد الأوّل بإلزامه بما اعترف به من وضع البيع للانتقال- أي المسبّب- و أطلق مجازا على العقد، لكونه سببا له. لا أنّ الشهيد الثاني صرّح بمجازية إطلاق البيع على الإيجاب و القبول.

ثانيهما: أنّ ما في بعض الحواشي «من عدم العثور على تصريح الشهيد الثاني في المسالك» غير ظاهر، لوفاء عبارته المتقدمة بكون العقد معنى مجازيا للبيع بعلاقة السببية و المسببية، غايته أنّه نقله عن الشهيد الأوّل و لم يعترف به.

و قد ظهر مما ذكرناه مسامحة دعوى صاحب الجواهر من «أن الشهيد صرّح بالمجازية

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 3، ص 144

ص: 283

و الظاهر (1) أنّ المسبّب هو الأثر الحاصل في نظر

______________________________

في الروضة» «1» لا في المسالك، فإنّا لم نظفر على المطلب في بيع شرح اللمعة، فراجع.

هذا تمام الكلام في نفي ما ذكره الفقيهان في شرح القواعد و المقابس من إطلاق البيع حقيقة على معان أربعة، فيكون مشتركا لفظيا فيها.

و قد تحصّل من كلمات المصنف: أنّ تلك الإطلاقات ليست على نحو الحقيقة إلّا واحدا منها و هو الإيجاب القائم بالبائع، و عليه فاستعمال اللفظ في المعاني الثلاثة الأخر مجازي، فلا ينافي إرادة الحقيقة عند التجرّد عن القرينة.

وجه عدم المنافاة: أنّ المعنى الأوّل قد استفيد قيد التعقب بالقبول فيه من قرينة خارجية مثل كون المتكلم في مقام الإخبار عن بيع داره.

و المعنى الثاني أيضا ليس مدلول البيع أصلا، إذ النقل المعتبر في مقام الإنشاء هو قصد المنشئ مبادلة مال بمال، و ليس ترتب الأثر- أعني به الانتقال في وعاء الاعتبار عرفا أو شرعا- دخيلا في المفهوم.

و المعنى الثالث- و هو العقد- قد عرفت أنّ استعمال البيع فيه مجازيّ بعلاقة السببية و المسببية.

(1) غرضه قدّس سرّه توجيه ما حكاه عن الشهيد الثاني قدّس سرّه- من أنّ إطلاق البيع على العقد مجاز بعلاقة السببية- بنحو لا يرد عليه إشكال، و هو عدم كون المقام من صغريات إطلاق اللفظ الموضوع للمسبب على السبب، بتقريب: أنّ لفظ «البيع» وضع للنقل الذي هو فعل البائع فقط- على ما اختاره المصنف من عدم دخل القبول في معناه- و من الواضح أنّ البيع بهذا المعنى مسبّب عن جزء العقد و هو الإيجاب فقط، لا عن جزئي العقد معا حتى يصح إطلاق البيع على العقد بعلاقة السببية، فهذا الإطلاق خارج عن حيّز استعمال اللفظ الموضوع للمسبّب في السبب مجازا بعلاقة السببيّة و المسببيّة.

و ملخّص ما أفاده المصنف في دفع الاشكال و توجيه هذا الإطلاق المجازي بعلاقة

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 206

ص: 284

الشارع (1)، لأنّه (2) المسبّب عن العقد (3). لا النقل الحاصل من فعل الموجب، لما (4) عرفت من أنه (5) حاصل بنفس إنشاء الموجب من دون توقف على شي ء (6)، كحصول وجوب الضرب

______________________________

السببية بقوله: «و الظاهر ..» هو: أنّ الإشكال المذكور إنّما يتوجه على الشهيد قدّس سرّه إذا أراد من المسبّب الأثر المتحقق في نظر الموجب. و أمّا إذا أراد من المسبّب الأثر الحاصل في نظر الشارع لم يرد عليه هذا الإشكال أصلا، بداهة أنّ السبب فيه هو تمام العقد لا جزؤه، فيصح حينئذ استعمال «البيع» بمعنى الأثر الشرعي المترتب على العقد- بكلا جزئية- في العقد بعلاقة السببية و المسببية.

(1) و الشاهد على إرادة هذا النقل الشرعي لا النقل في نظر البائع ما ورد- في تعريف شيخ الطائفة بالانتقال- من القيود مثل كون العين مملوكة و العوض مقدّرا، و رضى المتبايعين، فإنّها تكشف عن إرادة الانتقال بنظر الشارع أي الإنشاء المثمر، لا مطلق الإنشاء و إن كان فاقدا لشرائط التأثير في نظر الشارع.

(2) أي: لأنّ الأثر الحاصل في نظر الشارع من النقل الاعتباري هو المسبّب عن العقد.

(3) فالمصنف و الشهيد الثاني قدّس سرّهما متفقان على كون البيع مجازا في العقد المراد به الإيجاب و القبول، و مختلفان في العلاقة المصحّحة للاستعمال المجازي، فالمصنف يقول: إنّها علاقة الكل و الجزء، إذ البيع اسم للإيجاب، فاستعماله في العقد يكون بعلاقة الكل و الجزء، و الشهيد يقول: إنّها علاقة السببية و المسببية.

(4) تعليل لقوله: «لا النقل ..».

(5) أي: أنّ النقل الحاصل من فعل الموجب حاصل بنفس إنشائه.

(6) فيكون إنشاء الموجب و النقل المترتب عليه في نظره نظير الكسر و الانكسار، و الإيجاب و الوجوب، و الإيجاد و الوجود، و لا فرق بينها إلّا في كون ما عدا الكسر و الانكسار من الأمور الاعتبارية التي يمكن اختلاف الأنظار فيها كما مرّت الإشارة إليه، بخلاف الكسر و الانكسار، فإنّه أمر خارجي لا اختلاف فيه حتى يحصل بنظر دون نظر آخر.

ص: 285

في نظر الآمر (1) بمجرد الأمر و إن لم يصر واجبا في الخارج في نظر غيره.

و إلى هذا (2) [1] نظر جميع ما ورد في النصوص و الفتاوى من قولهم: «لزم البيع» (3)

______________________________

(1) الظاهر أنّ مقصوده من الآمر هنا هو من لم يحكم العقل بلزوم إطاعته، و إلّا فالسيادة الحقيقية تقتضي الوجوب و الامتثال في نظر المأمور قطعا. نعم إذا لم يكن الآمر عاليا و لا مستعليا لم يكن إيجابه مستتبعا للوجوب كما هو واضح.

(2) يعني: و إلى الأثر الحاصل في نظر الشارع- الذي هو المسبب عن العقد- نظر جميع ما ورد في النصوص و الفتاوى، فالمراد بالبيع الموجود فيهما هو هذا المعنى، لا النقل الحاصل من فعل الموجب.

(3) كما في رواية عمر بن حنظلة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل اشترى أرضا على أنّها عشرة أجربة، فإذا هي خمسة أجربة، قال: ان شاء استرجع فضل ماله، و إن شاء ردّ البيع و أخذ ماله كلّه، إلّا أن يكون له الى جنب تلك الأرض أيضا أرضون فليؤخذ و يكون البيع

______________________________

[1] بل إلى المعاملة الخاصة الحاصلة بالإيجاب و القبول ينظر جميع ما ورد في النصوص و الفتاوى و غيرهما، لأنّها هي التي يعرضها البقاء و يتعلّق بها الفسخ و الإمضاء، و يرد عليها الشروط و الأحكام. بخلاف العقد، فإنّه من مقولة اللفظ و يتصرّم و لا يقبل الاستمرار حتى يمضي أو يفسخ، فلا يصحّ إرادة الإيجاب و القبول من البيع في قولهم: «كتاب البيع» أو «عقد البيع». فالمراد بالبيع في كلمات الفقهاء و كذا الآيات الشريفة و النصوص هو المعاهدة الخاصة الحاصلة بين المتبايعين المترتبة عليها الأحكام، فإضافة العقد حينئذ إلى البيع بيانيّة، فإطلاق لفظ البيع على الإيجاب و القبول و إن كان صحيحا بعلاقة السببية و المسببية، إذ العقد سبب لتحقق تلك المعاملة، و ليس من الأغلاط الواضحة- كما قيل- إلّا أنّه لم يعهد ذلك في الإطلاقات المتعارفة.

ص: 286

أو «وجب البيع» (1) أو «لا بيع بينهما» (2) أو «أقاله في البيع» (3) و نحو ذلك (4).

و الحاصل (5) [1]: أن البيع الذي يجعلونه من العقود يراد به النقل بمعنى اسم المصدر مع اعتبار تحققه في نظر الشارع المتوقف على تحقق الإيجاب و القبول، فإضافة العقد الى البيع- بهذا المعنى- ليس بيانية: و لذا يقال: انعقد البيع و لا ينعقد البيع.

______________________________

لازما له، و عليه الوفاء بتمام البيع ..» الحديث «1».

(1) كما في عدة نصوص، منها معتبرة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «أيّما رجل اشترى من رجل بيعا فهما بالخيار حتى يفترقا، فإذا افترقا وجب البيع» «2» الحديث.

(2) كما في معتبرة علي بن يقطين «أنّه سأل أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يبيع البيع و لا يقبضه صاحبه، و لا يقبض الثمن، قال: فإنّ الأجل بينهما ثلاثة أيّام، فإن قبض بيعه، و إلّا فلا بيع بينهما» «3».

(3) كما في مثل رواية هارون بن حمزة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «أيّما عبد أقال مسلما في بيع أقاله اللّه عثرته يوم القيامة» «4».

(4) مثل قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و قوله عليه السّلام في ما رواه إسحاق بن عمار:

«فلا بيع له» «5».

(5) يعني: و حاصل كلام الشهيد بملاحظة التوجيه المذكور: أنّ البيع- الذي يعدّونه من

______________________________

[1] لا يخفى أنّ ما أفاده المصنف قدّس سرّه في توجيه كلام الشهيد قدّس سرّه- من كون إطلاق البيع على العقد مجازا بعلاقة السببية بإرادة النقل الشرعي من البيع و إطلاقه على سببه و هو العقد-

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 361، الباب 14 من أبواب الخيار، الحديث: 1

(2) المصدر، ص 346، الباب 1، من أبواب الخيار، الحديث: 4

(3) المصدر، ص 357، الباب 9 من أبواب الخيار، الحديث: 3

(4) المصدر، ص 286، الباب 3 من أبواب آداب التجارة، الحديث: 2

(5) المصدر، ص 357، الباب 9 من أبواب الخيار، الحديث: 24

ص: 287

..........

______________________________

العقود، و يستعملونه في العقد بعلاقة السببية، و يقولون: البيع عقد مركب من إيجاب و قبول- يراد به النقل الشرعي المسبّب عن العقد، و يطلق عليه العقد بعلاقة السببية، لا النقل في نظر الموجب، لما مرّ من أنّه مسبّب عن الإيجاب خاصة.

و على هذا فإضافة العقد إلى البيع لاميّة من قبيل إضافة السبب الى المسبّب، لا بيانية بأن يكون البيع بمعنى العقد، إذ لا يصح حينئذ أن يقال: «انعقد البيع أو لم ينعقد» حيث إنّ مرجعه إلى انعقاد العقد و عدمه، و من المعلوم أنّه لا معنى له، لأنّ العقد بمعنى الإيجاب و القبول اللفظيين بعد تحققه لا يكون موردا للنفي، فلا يقال: لم ينعقد البيع، مع أنّه يصحّ ورود النفي و الإثبات على البيع بعد تحقق العقد، فلا بدّ أن تكون الإضافة لاميّة حتى يصح أن يقال:

«انعقد البيع أو لم ينعقد» لأنّ انعقاده عبارة عن ترتب الأثر الشرعي، و عدم انعقاده عبارة عن عدم ترتب الأثر الشرعي عليه. فبعد تحقق الإيجاب و القبول يمكن أن ينعقد البيع- أي الأثر الشرعي- إذا كان العقد جامعا للشرائط، و يمكن أن لا ينعقد كما إذا كان فاقدا لها.

______________________________

تمهيد للإشكال عليه.

و محصل ما يستفاد من مجموع عبارات المصنف في المقام: أنه إن أريد بالبيع النقل بنظر الموجب، ففيه: أن علاقة السببية المصحّحة لإطلاق البيع بهذا المعنى على العقد مفقودة، حيث إنّ العقد ليس سببا للبيع بمعنى النقل في نظر الموجب، بل سببه الإيجاب فقط الذي هو أحد جزئي العقد، لا العقد المركّب من الإيجاب و القبول.

و إن أريد بالبيع النقل الشرعي فالعلاقة المصحّحة لإطلاق البيع على العقد مجازا و إن كانت موجودة، بداهة سببيّة العقد للنقل الشرعي. لكن فيه: أنّ جعل البيع بمعنى الأثر الشرعي مما لم يثبت لا في اللغة و لا في العرف كما مرّ في المعنى الثاني.

مضافا إلى: أنّ إطلاق البيع على العقد غير سديد، لأنّ البيع من مقولة المعنى، و العقد من مقولة اللفظ، و تصحيحه بما أفاده الشهيد- من إطلاق البيع على العقد مجازا بعلاقة السببية- قد عرفت ما فيه.

ص: 288

[ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح أو للأعم]

اشارة

ثمّ (1) إنّ الشهيد الثاني نصّ في كتاب اليمين من المسالك على أنّ عقد البيع

______________________________

ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح أو للأعم

(1) لمّا فرغ المصنف قدّس سرّه من تثبيت تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» و دفع ما أورده عليه، و ناقش في كلام بعض من قارب عصره و هو إطلاق «البيع» على معان ثلاثة أخرى غير إنشاء التمليك- من باب تعدد الوضع و الاشتراك اللفظي، أراد التنبيه على أمر آخر،

______________________________

إلّا أن يوجّه كلام الشهيد الثاني بما لا يرد عليه الإشكال بأن يقال: إنّ المراد بالمسبّب الذي وضع له لفظ البيع هو اعتبار المتعاقدين، و سببه هو الإيجاب و القبول، فالمسبّب- و هو اعتبارهما يوجد بإنشاء الإيجاب و القبول، بناء على ما ذهب إليه القدماء من كون الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ. و على هذا فالمسبّب يوجد بالعقد و هو الإيجاب و القبول اللفظيان، أو مطلقا، فيصح كلام الشهيد الثاني قدّس سرّه من كون استعمال لفظ البيع في العقد مجازا بعلاقة السببية.

و لا يرد عليه تعريض المصنف قدّس سرّه به من: أنّ المراد بالمسبّب هو الأثر الشرعي، و المفروض أنّ استعمال لفظ البيع في الأثر الشرعي غير ثابت، لا لغة و لا عرفا، كما أفاده في بيان المعنى الثاني و الاشكال عليه، هذا.

لكن صحة هذا التوجيه مبنية على كون الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ، و هو غير ثابت، لما مرّ سابقا من أنّ في الإنشاء مسلكا آخر و هو أنّه عبارة عن إبراز الاعتبار النفساني بالمبرز اللفظي أو الفعلي، فلا سببيّة في البين أصلا.

فالمتحصل: أنه لا منافاة بين ما اختاره المصنف من معنى البيع و بين المعاني الثلاثة التي ذكرها بعض من قارب عصره.

أما المعنى الأوّل فلأنّه فرد من أفراد معنى البيع الذي اختاره المصنف من كونه إنشاء تمليك عين بمال.

و أما المعنى الثاني فلم يثبت لا لغة و لا عرفا.

و أما المعنى الثالث فلرجوعه الى المعنى الثاني.

ص: 289

و غيره حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد (1)،

______________________________

و هو وضع ألفاظ المعاملات لخصوص الصحيح أو للأعم منه و من الفاسد، فنقل كلام الشهيدين قدّس سرّهما الظاهر في الوضع للصحيح، ثم أورد عليهما بأنّ لازم ذلك إجمال الأدلة الإمضائية المانع عن التمسك بها، ثم وجّه التمسك بالإطلاقات حتى على القول بوضعها لخصوص الصحيح، و ستظهر هذه الأمور إن شاء اللّه تعالى.

كما أنّ في نقل خصوص كلام الشهيد الثاني قدّس سرّه غرضا آخر، و هو التنبيه على تهافت كلامه المتقدم- من كون إطلاق البيع على العقد مجازا بعلاقة السببية و المسببية- مع ما أفاده في كتاب اليمين، و ذلك لدلالة كلامه المتقدم على كون البيع حقيقة في المسبب و هو الانتقال الشرعي، و على خروج القبول عن مفهوم البيع، و كون استعماله في العقد المركّب من الإيجاب و القبول مجازا بعلاقة السببية، و لدلالة كلامه في يمين المسالك- الذي سيتلى عليك- على دخل القبول في مفهوم البيع، لأنّه حقيقة في العقد الصحيح، فيكون البيع على هذا اسما للسبب و هو العقد، لا المسبب أعني به الأثر الشرعي، و من المعلوم أنّ هذا تناقض.

توضيحه: أنّ المتصف بالصحة و الفساد هو الشي ء المفروغ عن وجوده، لكونهما وصفين للشي ء الموجود. فإن أريد بالبيع «العقد» اتّصف بالصحة تارة و بالفساد اخرى.

و إن أريد به الأثر الحاصل- و هو الانتقال- لم يتصف بالصحة و الفساد، بل يتصف بالوجود تارة و بالعدم اخرى. و كذا الحال لو أريد بالعقد معناه اللغوي- المعبّر عنه بالفارسية ب- گره- لدوران أمره بين الوجود و العدم.

فالمتحصل: أنّ المراد بعقد البيع هو الإيجاب و القبول، لأنّه المتصف بالصحة إن كان جامعا لشرائط التأثير، و بالفساد إن كان فاقدا لها و لو لبعضها، فيكون إضافة «العقد» إلى «البيع» لاميّة، كما أنّ إضافة العقد بمعناه اللغوي إلى البيع بيانية من قبيل إضافة الكلّي إلى الفرد.

(1) الأولى نقل كلام الشهيد الثاني قدّس سرّه بألفاظه، قال في المسألة الثانية من مسائل المطلب الرابع- ذيل قول المحقق: إطلاق العقد ينصرف الى الصحيح دون الفاسد- ما لفظه:

«عقد البيع و غيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد، لوجود خواصّ الحقيقة و المجاز فيهما، كمبادرة المعنى الى ذهن السّامع عند إطلاق قولهم: باع فلان داره، و غيره، و من

ص: 290

لوجود (1) خواصّ الحقيقة و المجاز كالتبادر و صحة السلب (2)، قال: «

______________________________

ثمّ حمل الإقرار به عليه، حتّى لو ادّعى إرادة الفاسد لم يسمع إجماعا. و عدم صحة السلب، و غير ذلك من خواصّه. و لو كان مشتركا بين الصحيح و الفاسد ليقبل تفسيره بأحدهما كغيره من الألفاظ المشتركة. و انقسامه الى الصحيح و الفاسد أعمّ من الحقيقة. و حيث كان الإطلاق محمولا على الصحيح لا يبرّ بالفاسد، و لو حلف على الإثبات سواء أ كان فساده لعدم صلاحيته للمعاوضة كالخمر و الخنزير، أو لفقد شرط فيه كجهالة مقداره و عينه، و سيأتي البحث فيه» «1».

و المستفاد من كلامه قدّس سرّه أنّ ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح المؤثّر، لا للجامع بينه و بين الفاسد، و ذلك لوجود أمارة الحقيقة من تبادر خصوص الصحيح، و صحة السلب عن الفاسد، و اطّراد استعمالها في الصحيح. و حيث إنّ المتّصف بالصحة و الفساد هو العقد لا الأثر المترتب عليه كان دعوى وضع عناوين المعاملات لخصوص العقود الصحيحة منافية لما تقدم عن الشهيد الثاني قدّس سرّه- بناء على صحة النسبة- من التصريح بكون إطلاق البيع على العقد مجازا بعلاقة السببية، فلاحظ.

ثم إنّ في كلامه تأمّلا من جهات سيأتي بيانها في التعليقة إن شاء اللّه تعالى.

(1) تعليل لقوله: «حقيقة في الصحيح، مجاز في الفاسد» و قد تقدم آنفا

(2) هذا التعبير أولى مما في عبارة المسالك من قوله: «و عدم صحة السلب» فإنّ مقصود الشهيد الثاني قدّس سرّه إقامة أمارة على وضع «البيع» و نحوه من العقود لخصوص الصحيح المؤثّر، فكان المناسب أن يقول: «و صحة السلب عن الفاسد» لا «و عدم صحة السلب» و ذلك لأنّ عدم صحة السلب عن الصحيح ليس أمارة الوضع لخصوص الصحيح، لوضوح أنّ عدم صحة السلب عن الحصة لا يشهد بعدم كون الجامع و الطبيعي موضوعا له، فإذا لم يصح سلب الإنسان عن العالم لم يكشف ذلك عن عدم وضع لفظ «الإنسان» للجامع بين العالم و الجاهل، فعلامة الوضع لخصوص العالم صحة سلب الإنسان عن الجاهل، لا عدم صحة سلبه عن العالم.

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 2، ص 242 (الطبعة الحجرية).

ص: 291

و من ثمّ (1) حمل الإقرار به عليه (2) حتّى لو ادّعى (3) إرادة الفاسد لم يسمع إجماعا.

و لو كان مشتركا بين الصحيح و الفاسد لقبل تفسيره بأحدهما، كغيره من الألفاظ المشتركة. و انقسامه (4) إلى الصحيح و الفاسد أعم

______________________________

و الحاصل: أنّ عدم صحة سلب «البيع» عن العقد الصحيح لا يدلّ على كون الموضوع له هو خصوص الصحيح. كما أنّ عدم صحة سلب الإنسان عن العالم لا يشهد بوضعه لخصوص العالم و مجازيته في غيره. و لعلّه لهذا أصلح المصنف قدّس سرّه العبارة و قال: و صحة السلب.

(1) أي: و لأجل وجود علائم الحقيقة في إطلاق العقود على خصوص الصحيح منها- و مجازية إطلاقها على الفاسد- حمل الإقرار بالبيع على الصحيح خاصة، كما لو ترافع شخصان في بيع دار فادّعاه أحدهما و أنكره الآخر، ثمّ اعترف المنكر بوقوع البيع، و لكنّه وجّهه بكون عقده فاسدا لفقده بعض الشرائط، فإنّه يلزم المقرّ بالبيع، و لا يسمع منه اعتذاره بفساد العقد. و من المعلوم أنّ قبول أصل إقراره بوقوع البيع- و عدم سماع اعتذاره بفساد العقد- دليل على وضع «البيع» لخصوص الصحيح، لا للجامع بينه و بين الفاسد، إذ لو كان الموضوع له هو الجامع المشترك بين الصحيح و الفاسد لزم قبول دعوى فساد العقد، كما هو الحال في الإقرار بلفظ مشترك بين معنيين أو أكثر.

(2) أي: حمل إقرار أحد المترافعين بالبيع على الصحيح.

(3) أي: لو ادّعى المقرّ بالبيع إرادة عقد فاسد لم يقبل منه، بل يؤاخذ بظاهر إقراره، و هو البيع الصحيح أي العقد الجامع للشرائط.

(4) أي: و انقسام البيع، و مقصود الشهيد قدّس سرّه دفع دخل، أمّا الدخل فتقريبه: أنّ القائل بوضع ألفاظ المعاملات للجامع بين الصحيح و الفاسد يستدلّ بصحة تقسيم العنوان المعاملي- كالبيع- الى الصحيح و السقيم، فيقال: «هذا بيع صحيح لاستجماعه لشرائط الصحة، و ذاك بيع فاسد لاختلال شرائطه لكونه غرريا مثلا» و لو كان «البيع» حقيقة في خصوص الصحيح و مجازا في الفاسد لم يصح توصيف البيع بأنّه فاسد، إذ البيع الفاسد ليس ببيع و إنّما هو كإنشاء العابث و اللّاغي يصح سلب العنوان عنه، مع أنّه لا ريب في صحة تقسيم البيع الى الصحيح

ص: 292

من الحقيقة» [1].

______________________________

و الفاسد، كصحة تقسيم كل لفظ موضوع للجامع إلى حصصه و أفراده.

و أمّا الدفع فهو: أنّ مجرّد الانقسام الى الصحيح و الفاسد لا يدلّ على كون المقسم معنى حقيقيا للفظ، فيمكن أن يكون المقسم معنى مجازيا له، فلا يثبت كون لفظ «البيع» و نحوه حقيقة في الجامع بين الصحيح و الفاسد، لأنّ مجرّد الاستعمال- الذي هو أعم من المعنى الحقيقي- لا يثبت الوضع، و ذلك لما ثبت في محله من اختصاص أصالة الحقيقة بالشك في المراد مع العلم بالمعنى الحقيقي. و أمّا لو علم بالمراد و شك في الموضوع له فلا تجري حتى يثبت كون المراد معنى حقيقيا.

______________________________

[1] لا يخفى أن في كلامه مواقع للنظر:

منها: الاستدلال بالتبادر على الوضع للصحيح.

إذ فيه: أنّ تبادر الصحيح هنا ليس دليلا على الحقيقة، لقوّة احتمال نشوه عن القرينة، و من المعلوم أنّه حينئذ ليس أمارة عليها، فإنّ التبادر- بناء على تسليم أماريته على الوضع- يختص بما إذا كان من حاقّ اللفظ، و هذا في المقام غير ظاهر. و إثبات كونه من حاقّ اللفظ- بأصالة عدم القرينة- غير سديد، لاختصاصها بالشك في المراد، فلا يشمل الشك في الوضع.

و منها: الاستدلال بصحة السلب عن الفاسد. إذ فيه: أنه مخصوص بما إذا كان الفساد من جهة عدم انضمام القبول، و أمّا من جهة غيره فلا.

و منها: قوله «لم يسمع إجماعا» إذ فيه: أنّه يمكن أن يكون عدم سماع إرادة العقد الفاسد لأجل ظهور حال المسلم، لا لظهور لفظ البيع في العقد الصحيح الشرعي.

و يشهد لهذا كلامه في المسالك و الروضة في تقديم قول مدّعي الصحة عند اختلاف المتبايعين في صحة العقد و فساده. قال قدّس سرّه في المسالك: «نبّه بقوله:- فالقول قول مدّعي صحة العقد- على علّة الحكم، و هو أصالة الصحة في العقود، فإنّ الظاهر من العقود الجارية بين

ص: 293

و قال (1) الشهيد الأوّل في قواعده: «الماهيات الجعلية كالصلاة و الصوم

______________________________

(1) غرضه من نقل كلام الشهيد قدّس سرّهما أنّ مختاره في مسألة الصحيح و الأعم هو الوضع

______________________________

المسلمين الصحة، فيكون قول مدّعي الصحة موافقا للأصل ..» «1».

و قال في شرح اللمعة في مسألة اختلافهما في الشرط: «يقدّم قول مدّعي الصحة، لأنّها الأصل في تصرفات المسلم» «2».

و عليه فمجرد عدم سماع إرادة الفاسد لا يكشف عن وضع ألفاظ المعاملات للعقود الصحيحة منها.

و منها: التنافي بين قوله في أوّل كلامه: «عقد البيع و غيره حقيقة في الصحيح، مجاز في الفاسد، لوجود خواص الحقيقة و المجاز» و آخره من قوله: «و حيث كان الإطلاق محمولا على الصحيح لا يبرّ بالفاسد». وجه التنافي: أنّ انصراف إطلاق العقد إلى حصّة منه- و هو الصحيح- يقتضي تسليم كون اللفظ حقيقة في الأعم حتى ينصرف إلى فرد من الجامع، لبعض موجبات الانصراف كالتشكيك في الصدق، و من المعلوم أنّه مع إقامة أمارات الحقيقة على الوضع لخصوص الصحيح- في أوّل كلامه- لا يبقى موضوع للانصراف، هذا.

مضافا إلى: أنّ ظاهر كلام المحقق قدّس سرّه: «إطلاق العقد ينصرف الى الصحيح» تسليم الوضع للجامع، و لكنّه ينصرف الى الصحيح من باب ظهور حال المسلم، و معه لا يتّجه استدلال الشهيد الثاني على الوضع للصحيح بالتبادر و نحوه من خواصّ الحقيقة و المجاز.

فتأمل في العبارة حقه.

و منها: قوله في آخر كلامه «بأعمية التقسيم من الحقيقة» إذ يمكن يقال: إنّ الظاهر من تقسيم شي ء هو تقسيمه باعتبار معناه الحقيقي لا المجازي، فتأمل.

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 3، ص 267 و 268

(2) الروضة البهية، ج 3، ص 541

ص: 294

و سائر العقود لا تطلق على الفاسد إلّا الحجّ، لوجوب المضيّ فيه» (1). و ظاهره (2)

______________________________

لخصوص الصحيح، و الفارق بينه و بين كلام الشهيد الثاني المتقدم: أنه قدّس سرّه خصّ نزاع الصحيح و الأعم بالمعاملات، و لم يتعرّض للنزاع في العبادات، و لكن الشهيد الأوّل عمّم الوضع للصحيح لمطلق الألفاظ المتداولة في الخطابات الشرعية، سواء أ كانت معاملة أم عبادة.

(1) و قال بعد ذلك: «فلو حلف على ترك الصلاة أو الصوم اكتفى بمسمّى الصحة، و هو الدخول فيهما، فلو أفسدهما بعد ذلك لم يزل الحنث. و يحتمل عدمه، لأنّها لا تسمّى صلاة شرعا و لا صوما مع الفساد. أمّا لو تحرّم في الصلاة أو دخل في الصوم مع مانع من الدخول لم يحنث قطعا» «1».

و على هذا فكلام الشهيد الأوّل موافق لما حكاه المصنف عن الشهيد الثاني قدّس سرّه من وضع ألفاظ العبادات و المعاملات للصحيح أي الواجد لكلّ ما يعتبر فيه شرطا و شطرا.

و استثنى الشهيد الأوّل قدّس سرّه الحجّ، لكونه موضوعا للأعم من الصحيح و الفاسد، بشهادة إطلاقه- على الفاسد- في النصوص الآمرة بإتمام الحج فيمن أفسده بالوقاع قبل الوقوفين، كمضمرة زرارة، قال: «قلت: فأيّ الحجّتين لهما؟ قال: الأولى التي أحدثا فيها ما أحدثا، و الأخرى عليهما عقوبة» «2». فإنّ الحجّة الاولى مع فسادها بالجماع قد وجب إتمامها. و من المعلوم أنّ إطلاق الحج على الفاسد منه ظاهر في كونه على نحو الحقيقة.

و هذا بخلاف الصلاة و الصوم و الزكاة و المعاملات، فإنّها موضوعة للصحيح خاصة، و استعمالها في الفاسد- أي الفاقد شطرا أو شرطا- مجاز.

(2) يعني: و ظاهر قول الشهيد: «لا تطلق على الفاسد» هو الإطلاق الحقيقي، و عليه فاستعمال هذه الألفاظ على نحو الحقيقة منوط بكون تلك الماهية المخترعة واجدة للأجزاء

______________________________

(1): القواعد و الفوائد، ج 1، ص 158، القاعدة: 42 الفائدة: 2

(2) وسائل الشيعة، ج 9، ص 257، الباب 3 من أبواب كفارات الاستمتاع في الإحرام، الحديث: 9

ص: 295

إرادة الإطلاق الحقيقي [1].

______________________________

و الشرائط و فاقدة للموانع، فلو كانت فاسدة كالصلاة الفاقدة للستر أو للسورة كان استعمالها فيها مجازيا. و كذا الحال في ألفاظ المعاملات كالبيع، فإنّها موضوعة لخصوص المؤثّر في النقل و المبادلة، فالبيع الربوي و الغرري ليسا بيعا حقيقة، و لا يصحّ أن يقال: إنّهما بيع فاسد.

______________________________

[1] نعم، لكن تعليل استثناء الحج الفاسد بوجوب المضيّ فيه قرينة على أنّ مراده الإطلاق في مقام الطلب و الأمر، يعني: أنّ المأمور به من الصلاة و الصوم و سائر العبادات و المعاملات هو الصحيح دون الفاسد، إلّا الحج، لأنّ فاسده كصحيحه مأمور به، حيث إنّه يجب إتمامه إذا أفسده الحاج بما يفسده من الجماع قبل الوقوفين.

و على هذا فيراد من قوله: «لا تطلق على الفاسد» أنّه لا يطلب الفاسد إلّا مسامحة، فيراد من الإطلاق تعلّق الطلب بالفاسد، يعني: أنّ الأمر لا يتعلق بالفاسد إلّا الحج، فإنّ فاسده أيضا يتعلّق به الأمر. و عليه فليس مورد كلام الشهيد الاستعمال الحقيقي- كما استظهره المحقق القمي قدّس سرّه- حتى يقال: إنّه قائل بوضع ألفاظ العبادات و المعاملات للصحيح. و لا أقلّ من الاحتمال، خصوصا بقرينة تعقيبه بحنث النذر.

نعم ما جزم به الشهيد هنا من إطلاق الحج على الفاسد حقيقة ينافيه ما أفاده في الدروس من تقوية كون الفرض ما بيده، و أنّ الحج الواجب عليه من قابل عقوبة، قال: «و روى زرارة أن الأولى فرضه، و تسميتها فاسدة مجاز» «1». فيتعين الجمع بينها و بين معتبر سليمان بن خالد من «أنّ الرفث فساد الحج» بحمل الفساد على النقص، كالنقص الوارد عليه بارتكاب محرّمات الإحرام المنجبر بالكفارة، فيكون الحجّ من قابل كفّارة للرّفث قبل الوقوفين و التفصيل موكول إلى محله.

______________________________

(1): الدروس الشرعية، ج 1، ص 370

ص: 296

[امتناع التمسك بالإطلاق بناء على الوضع للصحيح]

و يشكل (1) ما ذكراه

______________________________

امتناع التمسك بالإطلاق بناء على الوضع للصحيح

(1) بعد أن فرغ المصنف قدّس سرّه من نقل كلام الشهيدين قدّس سرّهما الظاهر في وضع ألفاظ المعاملات- بل و العبادات كما في قواعد الشهيد الأوّل- لخصوص الصحيح، أخذ في بيان الإشكال الوارد على هذه المقالة، و محصله: أنّ مقتضى وضع ألفاظ المعاملات للصحيح، و عدم شمول الموضوع له فيها للفرد الفاسد هو عدم صحة التمسك بإطلاق ما دلّ على مشروعية المعاملة عند الشك في أصل مشروعيّتها أو في اعتبار أمر فيها، ضرورة أنّ الشك حينئذ يكون في موضوع دليل الإمضاء، و من المعلوم أنّه مع الشك في انطباق موضوع الدليل على المشكوك فيه لا سبيل للتمسّك بإطلاقه، فينسدّ باب التمسّك بإطلاقات أدلة المعاملات طرّا، و يجري أصالة الفساد في جميع موارد الشك في دخل شي ء شطرا أو شرطا في المعاملة.

و هذه الدعوى مما يقطع بفساده، لاستقرار سيرة الأصحاب «رضوان اللّه عليهم» قديما و حديثا على التمسك، بالإطلاقات في دفع الشك في جزئية شي ء أو شرطيته في المعاملات، بل نسب المصنف على ما في تقرير بحثه الشريف الى الشهيد تمسكه بها، قال مقرر بحثه: «حتى أنّ الشهيد قد ملأ الأساطير من ذلك، بل و لولاه لما دار رحى الفقه كما لا يخفى على المستأنس بكلامهم. و قد ادّعى الفاضل الإجماع على جواز التمسك بعموم قوله تعالى «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» «1».

ثم لا يخفى أنّ كلام المصنف قدّس سرّه مسوق لبيان الاشكال من جهة إجمال الأدلة الإمضائية بناء على الوضع للصحيح.

و لمّا كان ذلك متوقفا على القول بالحقيقة الشرعية و تصرّف الشارع في الأوضاع اللغوية و العرفية كان الاشكال منحلّا إلى أمرين و إن لم يصرّح بهما معا.

الأوّل: أنّ اختصاص وضع الماهيّات المخترعة الشرعية- و العقود- بالأفراد الصحيحة

______________________________

(1): مطارح الأنظار، ص 5

ص: 297

بأنّ وضعها (1) للصحيح يوجب عدم جواز التمسك بإطلاق نحو (2) أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و إطلاقات (3) أدلة سائر العقود في مقام الشك في اعتبار شي ء فيها (4)،

______________________________

مبني على القول بالحقيقة الشرعية بمعنى أخذ قيد الصحة في الموضوع له، فكما أنّ الشارع وضع لفظ «الصلاة» للماهية التي تحريمها التكبير و تحليلها التسليم، فكذلك وضع لفظ «البيع» مثلا للمعاملة المؤثّرة في نقل العوضين، و هي الواجدة لجميع الشرائط و القيود، فالمعاملة الفاقدة لبعضها ليست بيعا حقيقة.

الثاني: أنّ لازم وضع أسامي المعاملات لخصوص الصحيح المؤثّر في ترتب الأثر المقصود على العقد هو إجمال الأدلة عند صدق العنوان عرفا على المعاملة، و الشك في اعتبار شي ء فيه شرعا. مثلا إذا أحرز صدق «البيع» عرفا على عقد المكره، و شكّ في اشتراط البيع الممضى شرعا بالرضا المقارن للعقد لم يمكن الرجوع إلى مثل أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ للحكم بنفوذ عقد المكره المتعقب بالرضا، إذ المفروض كون البيع موضوعا للصحيح الشرعي لا العرفي، و مع الشك في اعتبار مقارنة الرضا للعقد يشك في صدق موضوع الدليل، و من المعلوم عدم جواز التمسك بالدليل ما لم يحرز موضوعه من الخارج.

هذا تقريب الإشكالين، و سيأتي الجواب عنهما.

(1) يفهم من هذه الكلمة ابتناء إشكال إجمال الأدلة على القول بالحقيقة الشرعية، بمعنى: جعل وضع شرعيّ لأسامي المعاملات كالعبادات، فكما أنّ «الصلاة» في عرف الشارع تختلف عن معناها اللغوي و العرفي و هو الدعاء، فكذلك البيع و النكاح و الصلح و نحوها من عناوين المعاملات موضوعة بوضع جديد لمفهوم آخر أضيق من مفاهيمها العرفية و اللغوية.

(2) مثل تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ بناء على اختصاص التجارة بالبيع و الشراء، و قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ بناء على كونه عنوانا مشيرا إلى آحاد العقود.

(3) مثل «النكاح سنّتي» و «الصلح جائز بين المسلمين» و نحوهما.

(4) للإجمال الناشي من احتمال دخل ما يحتمل اعتباره- في صحة المعاملة- في صدق الاسم، فيتوقف صدق «البيع» على رعاية جميع الشرائط الشرعية، و لا يكفي إطلاقه عرفا

ص: 298

مع (1) أنّ سيرة علماء الإسلام التمسك بها في هذه المقامات (2) [1].

______________________________

على العقد الفاقد لبعض ما يحتمل دخله شرعا فيه.

(1) هذا وجه الاشكال على كلام الشهيدين قدّس سرّهما و محصله: منافاة الوضع للصحيح- المستلزم للإجمال- لسيرة الفقهاء على تسليم إطلاق الأدلة، و نفي دخل ما يشك في اعتباره في المعاملات بها، فيتمسكون بإطلاق آية حلّ البيع لمشروعية العقد بالفارسية و بالمعاطاة، و ذلك لصدق البيع العرفي عليهما.

(2) أي: مقام الحكم بعدم دخل ما يحتمل اعتباره شرعا في المعاملات.

______________________________

[1] هذا الاشكال مبني على أمرين:

أحدهما: وضع ألفاظ المعاملات للصحيح الشرعي لا العرفي.

و فيه أوّلا: أنّه مبنيّ على ثبوت الحقيقة الشرعية، و هي غير ثابتة في ألفاظ العبادات فضلا عن المعاملات.

و ثانيا: أنّه يمتنع إرادة الصحيح في ألفاظ المعاملات الواقعة في حيّز الخطابات، كقوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و «الصلح جائز بين المسلمين» و نحو ذلك من أدلة إمضاء المعاملات، و ذلك لأنّ الصحة مستفادة من نفس الأدلة، فكيف تؤخذ في متعلقها مع تأخرها عنها؟ فإنّ من الممتنع دخل ما يتأتى من الحكم في متعلقة.

نعم إن استفيدت الصحة من غير دليل الإمضاء لا يلزم الامتناع، لكن يترتب عليه اللغوية، إذ لا فائدة حينئذ في جعل الحلية بقوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ مثلا مع فرض صحته بدون هذا الدليل، هذا.

ثانيهما: كون المراد من عقد البيع في كلام الشهيد الثاني نفس البيع، على أن تكون الإضافة بيانيّة، لا عقده حتى تكون الإضافة لاميّة. و الظاهر هو الأوّل، لأنّه جعل عقد البيع كسائر ألفاظ المعاملات و العقود أسامي لخصوص الصحيح، و من المعلوم أنّ مورد النزاع هو عناوين العقود كالإجارة و الهبة و العارية و الوديعة و المزارعة و المساقاة و غيرها.

مضافا إلى القرائن الموجودة في كلامه كالإقرار به و الإخبار به، فإنّها قرائن على إرادة العقد من البيع، هذا.

ص: 299

[توجيه الوضع للصحيح]

نعم (1) يمكن أن يقال: إنّ البيع

______________________________

توجيه الوضع للصحيح

(1) استدراك على قوله: «و يشكل ما ذكراه» و غرضه قدّس سرّه دفع الاشكال الوارد على مقالة الشهيدين قدّس سرّهما من وضع ألفاظ المعاملات للصحيح، و كونها مجازا في الفاسد. و كلام المصنف متضمن لمقامين.

أحدهما: إمكان وضع أسامي المعاملات لخصوص الصحيح، بنحو لا يترتب عليه إجمال الأدلة الإمضائية، و لا ينسدّ باب التمسك بإطلاقاتها.

و ثانيهما: توجيه التمسك بالإطلاق بناء على الوضع لخصوص الصحيح.

و الكلام فعلا في المقام الأوّل، و لا بأس بالإشارة إلى أمرين تمهيدا لتوضيح المتن:

الأوّل: أنّ المعاملات أمور اعتبارية، متقوم حقائقها باعتبار المعتبر، و ليس لها وجود وراء وجودها في وعاء الاعتبار، و بهذا تمتاز عن الموجودات الحقيقية التي لا دخل للجعل و المواضعة في وجودها في موطنها، و لا تتغيّر حقائقها باختلاف الأنظار. و أمّا الأمر الاعتباري فيمكن وجوده باعتبار معتبر، دون آخر، و ذلك كالأوراق النقدية التي يعتبر ماليّتها حكومة، و لا يعتبرها حكومة أخرى، فتسقط عن الاعتبار حينئذ.

الثاني: أنّ انطباق العنوان و المفهوم على المصاديق مختلف، فقد يكون قهريّا لا يتوقف على أزيد من تحققه خارجا بمعدّاته و مباديه كالقتل، الصادق على إزهاق الروح قسرا سواء أ كان مع القصد أم بدونه، و لذا يسند القتل حقيقة إلى القاتل في القتل الخطائي الذي لم يقصد القاتل ذلك أصلا. و قد يكون متوقفا على القصد و الاعتبار كالتعظيم، فإنّه لا ينطبق على مجرّد القيام عند قدوم الغير، بل لا بدّ من كونه بقصد إكرامه و رعاية عظمته.

ثم إنّ مثل التعظيم مما يناط صدقه بالاعتبار ربما يقع الخلاف في مصداقه مع عدم الخلاف في أصل المفهوم، فقد يعدّ القيام بنظر جمع- بقصد إكرام القادم الى مجلس- من أظهر أنحاء التعظيم، بينما يرى آخرون كشف الرأس أو الانحناء إلى حدّ الركوع مطابقا للمفهوم.

و هذا الاختلاف ناش من اعتبار فعل مصداقا للتعظيم عند جمع، و اعتبار فعل آخر كذلك

ص: 300

و شبهه (1) في العرف إذا استعمل في الحاصل

______________________________

بنظر غيرهم. و نتيجة تعدد الاعتبارات كون كلّ واحد من الأفعال مصداقا حقيقيا لذلك المفهوم الوحداني، من دون أن يخطئ بعضهم بعضا.

إذا اتّضح ما ذكرناه فنقول في توجيه كلام الشهيدين قدّس سرّهما- من وضع ألفاظ المعاملات للصحيح، و أنّ استعمالها في الفاسد مجاز-: إنّ المعاملات أمور عرفية اعتبرها العقلاء قبل الشريعة الإسلامية لتنظيم شؤون مجتمعهم، و لم يخالفهم الشارع الأقدس في أصل المفهوم، و لم يخترع طريقا آخر، و لم يتصرّف فيها تصرّفا أساسيا، و إنّما ردع عن بعضها كالبيع الربوي و الملامسة و المنابذة، و نكاح الشغار، و زاد قيدا في بعضها الآخر كاعتبار البلوغ في المتعاقدين، و اعتبر في بعضها صيغة خاصة كما في الطلاق.

و ليس هذا التصرف راجعا الى تغيير أصل المفهوم حتى يكون المستعمل فيه من لفظ «البيع» عند الشارع مغايرا لما هو عند العرف، بل المستعمل فيه واحد عندهما، و هو ما يترتّب عليه الأثر المترقب كمبادلة إضافة الملكية، غاية الأمر أنّ للبيع مثلا مصداقين حقيقيين أحدهما منسوب الى الشارع و مضاف اليه، و هو موضوع للآثار الشرعية، و الآخر منسوب الى العرف و هو الموضوع للآثار الخاصة عندهم، و ينطبق على كليهما ذلك الجامع الوحداني أعني به «النقل المؤثّر» فيكون اختلاف العرف و الشرع في ترتب الملكية عند أحدهما دون الآخر نظير اختلاف طائفتين في كون ما به التعظيم هو القيام خاصّة أو فعل آخر. و السّر في تعدد الأنظار حينئذ هو أنّ المعاملات لا حقائق لها وراء الاعتبار.

و المتحصّل: أنّ الموضوع له في مثل «البيع» بمعناه المصدري هو الإنشاء المؤثّر في النقل و الانتقال، فإن ترتّب عليه الأثر- و لو بنظر العرف- اتّصف بالصحة، و إلّا كان فاسدا، و يتوقف استعماله فيه مجازا على قرينة. و إرادة هذا المعنى من الصحة لا يمنع من الرجوع الى إطلاقات أدلّة الإمضاء كما سيظهر إن شاء اللّه تعالى.

(1) كالإجارة و النكاح و الرهن و نحوها من عناوين العقود و الإيقاعات مما يكون رائجا عند العقلاء مع الغضّ عن الشرع.

ص: 301

من المصدر (1)- الذي (2) يراد من قول القائل: «بعت» عند الإنشاء- لا يستعمل (3) حقيقة إلّا فيما (4) كان صحيحا مؤثّرا و لو في نظرهم، ثمّ إذا كان مؤثّرا في نظر الشارع

______________________________

(1) المراد بالمصدر هو «إنشاء تمليك عين بمال» و هذا مختار المصنف في تعريف البيع.

و المراد بحاصل المصدر هو الملكية و الانتقال المترتبان على الإنشاء، فإذا أنشأ البائع فقد حصلت الملكية به في اعتبار نفسه، و كذا بنظر العرف، و إن لم تحصل بنظر الشارع.

(2) صفة للمصدر، يعني: أنّ المراد من قول البائع: «بعت» هو المعنى المصدري.

(3) خبر قوله: «ان البيع» يعني: أنّ ما يستعمل فيه لفظ «البيع» هو الملكية المنشئة المؤثّرة- بنظر العرف- في انتقال إضافة العوضين، فإذا لم يترتب عليها أثر كان استعمال البيع فيها مجازا.

(4) المراد بالموصول هو التمليك، و المقصود بالتمليك الصحيح هو المؤثّر، فالبيع مستعمل حقيقة في النقل المؤثّر، فما ليس بمؤثّر ليس بصحيح. لكن التأثير قد يكون بنظر العرف دون الشرع، فإن اعتبر العرف الملكية كان البيع متصفا بالصحة عنده، و إن اعتبرها الشرع كان صحيحا بنظره، فلا منافاة بين وضع ألفاظ المعاملات لخصوص الصحيح، و بين اختلاف العرف و الشرع في المصداق.

و بالجملة: أنّ إيجاب البائع يتضمن أمورا ثلاثة:

الأوّل: نفس الإنشاء و التمليك الذي هو معنى البيع المصدري.

الثاني: الملكيّة في اعتبار نفس البائع، حيث إنّه يعتبر تبادل إضافة العوضين من كلّ منهما الى الآخر.

الثالث: تأثير هذا الاعتبار في حكم العرف و الشرع بترتب الانتقال على الإنشاء.

و الأمران الأوّلان متحققان في كل إنشاء صادر بداعي الجدّ. و لكن الأمر الثالث قد يتخلّف، فإن كان اعتبار الموجب مؤثّرا- أي واجدا للشرائط العرفية- كان ذلك بيعا صحيحا، و إلّا كان فاسدا نظير إيجاب الهازل، فإنّه يعتبر الملكية، لكن العرف لا يراه مؤثّرا.

ص: 302

كان بيعا عنده (1)، و إلّا كان صورة بيع، نظير بيع الهازل عند العرف. فالبيع (2) الذي يراد منه ما (3) حصل عقيب قول القائل: «بعت» عند العرف و الشرع حقيقة في الصحيح المفيد للأثر، و مجاز في غيره. إلّا (4) أنّ الإفادة و ثبوت الفائدة مختلف في نظر العرف و الشرع (5).

______________________________

(1) فيصير الصحيح الشرعي أخص من الصحيح العرفي، ضرورة أنّ العقلاء يعتبرون الملكية في بيع الخمر، و يرونه مؤثّرا في الانتقال، و لكن الشارع لا يعتبر ذلك التأثير، فيصير بيع الخمر عند العرف- في عدم التأثير بنظر الشارع- نظير ما إذا اعتبر البائع ملكية منّ من التراب بمثله، و لم يعتبرها العقلاء، فيكون فاسدا بنظرهم.

و عليه فالموضوع له عند العرف و الشرع هو النقل المؤثّر، لكن ما به يتحقق هذا النقل مختلف بنظر العرف و الشرع.

(2) هذه نتيجة جعل معنى البيع هو خصوص الملكية- في نظر البائع- المؤثّر في إمضائه عرفا و شرعا، فإذا كانت الملكية و الانتقال مخصوصين باعتبار البائع فقط كان استعمال البيع فيهما مجازا.

________________________________________

جزائرى، سيد محمد جعفر مروج، هدى الطالب في شرح المكاسب، 7 جلد، مؤسسة دار الكتاب، قم - ايران، اول، 1416 ه ق

هدى الطالب في شرح المكاسب؛ ج 1، ص: 303

و على هذا فلو كان مقصود الشهيدين قدّس سرّهما- من وضع ألفاظ العقود للصحيح- وضعها للإنشاء المؤثّر بنظر العرف أو الشرع كان وجيها، و لو كان مقصودهما وضعها لخصوص ما يراه الشارع مؤثّرا لم يمكن المساعدة عليه.

(3) المراد بالموصول كما عرفت هو الملكية و الانتقال في نظر البائع، و قد أفاده فيما يتعلق بكلام كاشف الغطاء قدّس سرّه بقوله: «نعم تحقّق القبول شرط للانتقال في الخارج لا في نظر الناقل».

فالانتقال بنظر الناقل يحصل بمجرد إنشائه، و هذا الانتقال يتصف بالصحة تارة و بالفساد أخرى.

(4) يعني: لا منافاة بين وضع عناوين المعاملات للصحيح المفيد للأثر و بين اختلاف العرف و الشرع، كما لا منافاة في اختلاف الملل فيما به التعظيم مع اتفاق الكلّ على مفهومه.

(5) فإنّه يعتبر شرعا في بيع المكيل و الموزون- إذا كانا متجانسين- عدم زيادة أحدهما على الآخر، و يعتبر في بيع الصرف التقابض في المجلس، و لا يعتبر شي ء منهما في البيع العرفي.

ص: 303

[طريق التمسك بالإطلاق بناء على الوضع للصحيح]

و أمّا (1) وجه تمسّك العلماء

______________________________

هذا تمام الكلام في توجيه كلام الشهيدين قدّس سرّهما من وضع أسماء العقود للصحيح، لا للأعم منه و من الفاسد. و سيأتي الكلام في توجيه التمسك بالإطلاق.

طريق التمسك بالإطلاق بناء على الوضع للصحيح

(1) هذا هو المقام الثاني مما أفاده قدّس سرّه في دفع الإشكال المتقدم على كلام الشهيدين قدّس سرّهما و تقريبه: أنّ جهة البحث الى الآن كانت في توجيه كلامهما و تحقيق مرادهما من وضع ألفاظ العقود للصحيح، و قلنا إنّ المقصود به في البيع مثلا هو طبيعي النقل المؤثّر في انتقال الإضافتين، و لهذا المفهوم الجامع مصداقان، أحدهما النقل المؤثّر عرفا، و الآخر النقل المؤثّر شرعا.

و بعد استيفاء هذه الجهة عطف عنان البحث الى تصحيح الرجوع الى الخطابات الشرعية بوجهين.

و ينبغي تقديم أمرين قبل بيانهما:

الأمر الأوّل: أنّهم فرّقوا في مسألة الصحيح و الأعمّ بين ألفاظ العبادات و المعاملات بناء على إنكار وضعها للأعمّ، و القول باختصاصها بالصحيح، و محصّل الفرق: أنّ العبادات ماهيات مخترعة شرعية غير معلومة للعرف، فمع عدم معرفة تلك الماهيات لا وجه للتمسك بإطلاقاتها، لكون الشك في صدق مفهوم «الصلاة» مثلا على فاقد ما يشك دخله فيها جزءا أو شرطا. فلا بد من علاج الشك بالرجوع إلى إطلاق مقامي أو أصل عملي كما حرّر ذلك في الأقل و الأكثر الارتباطيين.

و هذا بخلاف المعاملات، فإنّها أمور عرفية كانت متداولة بينهم- قبل عصر التشريع- لتنظيم شؤونهم الاجتماعية. و قد أمضى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه الطريقة و لم يخالفهم فيها، و لم يخترع طريقا آخر، و لم يتصرّف فيها تصرّفا أساسيّا، بل كان تصرّفه بالردع عن بعضها كالبيع الربوي و نكاح الشغار، و بزيادة قيد كاعتبار البلوغ في المتعاقدين، و اعتبار صيغة خاصّة في بعضها كالطلاق و النكاح.

ص: 304

..........

______________________________

و الحاصل: أنّ الشارع لم يستعمل ألفاظ المعاملات إلّا في مفاهيمها العرفية، و دخل القيود في مقام تأثيرها شرعا إنّما استفيد من دوالّ اخرى، و ليست مقوّمة لمفاهيمها، فكما لم يستعمل الشارع ألفاظ الخمر و الحنطة و الماء- في الأدلة التي جعلها موضوعات لأحكامه- إلّا في مفاهيمها العرفية، فكذلك لم يستعمل لفظ البيع و الصلح و النكاح في قوله: «البيع حلال، الصلح جائز، النكاح سنّتي» إلّا في معانيها العرفية التي تنسبق إلى أذهانهم.

الأمر الثاني: أنّ أدلة المعاملات لا يستفاد منها أزيد من كونها إمضاء للمعاملات العرفية، فمثل قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ إمضائي لا تأسيسي، و الممضى هو المعاملة العرفية، لا المعاملة الشرعية حتى يكون مفهومها مجملا مانعا عن الرجوع الى الإطلاق. نعم لا بدّ من إحراز الصحة العرفية، فلو شك في صدق العنوان- كما إذا شكّ في اعتبار معرفة العوضين، أو شكّ في قابلية وقوع المنافع ثمنا في البيع العرفي- امتنع التمسك بالآية الشريفة لإثبات الصحة و نفي دخل ما يحتمل اعتباره في المفهوم العرفي. و أمّا إذا أحرز صدق الاسم عندهم و كان الشك متمحّضا في الدخل التعبّدي كان الإطلاق نافيا له، إذ لو كان ذلك المشكوك فيه دخيلا في ترتب الأثر على المعاملة شرعا لزم التنبيه عليه لئلّا يكون عدم بيانه مخلّا بالغرض.

إذا اتّضح ما قدّمناه قلنا في تقريب الوجهين المشار إليهما في المتن:

الوجه الأوّل: أن يحمل «البيع» الوارد في الخطابات الشرعية على المنشإ- أي المسبّب- كالملكية و الانتقال المترتبين على الإنشاء، فالممضى هو الملكية العقلائية الحاصلة بالعقد القولي أو الفعلي. و على هذا فليس المراد بالبيع طبيعيّ النقل المؤثّر حتى يكون نظر العرف و الشرع طريقا إليه و مصداقا له، بل المراد خصوص المؤثّر بنظر العرف، فمفاد آية حل البيع هو: أنه تعالى أمضى كلّ ملكية حاصلة بالعقد المؤثّر في الانتقال بنظر العرف، و من المعلوم أنّ هذا خطاب انحلالي يعمّ جميع المصاديق العرفية.

فمقتضى عموم الإمضاء مشروعية بيع المنابذة و الملامسة و الغرر و الخمر و الخنزير و البيع الربوي و بيع الكالي بالكالي و غير ذلك من البيوع الفاسدة الشرعية. و يتوقف الحكم

ص: 305

..........

______________________________

ببطلان هذه على ورود مقيّد لإطلاق الآية، إذ لو لا التقييد و التخصيص كان موضوع الخطاب- و هو البيع المؤثر عرفا- صادقا على جميعها، و ينحصر الردع الشرعي عنها في الإخراج الحكمي مع محفوظية موضوع الإمضاء.

و لا ربط لهذا التقريب بالتصرف في الموضوع بأن يكون إمضاء طريقة العرف تصويبا لنظرهم، و ردعها في مثل بيع الخمر تخطئة لهم. و ذلك لما عرفته من أنّ الموضوع العرفي بحدوده محفوظ في مورد النهي الشرعي، فيتعين تصرف الشارع في التخصيص و التقييد.

الوجه الثاني: أن يحمل «البيع» الواقع في الأدلة الإمضائية على المصدر الذي يراد من لفظ «بعت» و المصدر هو ما تقدّم في تعريف المصنف قدّس سرّه للبيع بقوله: «فالأولى تعريفه بإنشاء تمليك عين بمال» و هذا فعل الموجب فقط، فمعنى آية حلّ البيع: أن إنشاء النقل حلال مطلقا و يؤثّر في النقل و الملكية، إذ لو لا تأثيره فيهما لم يكن حلالا و لم يجب الوفاء به، فإذا كان معنى البيع عرفا هو إنشاء التمليك كان معنى إمضاء الشارع تأثير هذا الإيجاب في حصول الملكية عرفا و شرعا، سواء أ كان إنشاء النقل متعلقا بجنس ربوي أم بالخمر أم بالأعيان المحلّلة.

و لو لم يكن هذا الإنشاء مؤثّرا في اعتبار الملكية شرعا كان عليه التنبيه لئلّا يلزم الإخلال بالغرض، فيقيّد هذا الإطلاق بما دلّ على عدم تأثير «إنشاء التمليك» في مثل الخمر و الأعيان النجسة و المنابذة و نحوها. و يبقى موارد احتمال التصرف الشرعي مندرجا في إطلاق الحلّ، كما لو شك في اعتبار مقارنة الرضا بالعقد، و عدم كفاية الرضا المتأخر في مثل بيع المكره، فإنّه لا مانع من نفي هذا الشك بالتمسّك بإطلاق حلية إنشاء النقل المؤثّر بنظر العرف.

و هذا الوجه يشترك مع سابقه في أنّ موضوع الإمضاء مبيّن، و التصرف الشرعي راجع الى الإخراج الحكمي تخصيصا أو تقييدا. و يفترق عنه بأنّ الوجه الأوّل ناظر إلى كون الموضوع العرفي هو البيع بالمعنى الاسمي كالملكية و الانتقال، و الوجه الثاني ناظر إلى ما اختاره في معنى البيع من إرادة المعنى المصدريّ، و هو إنشاء التمليك.

ثم إنّ الحلّية المدلول عليها بالآية الشريفة تكون تكليفية بناء على ما سيأتي في

ص: 306

بإطلاق أدلّة البيع (1) و نحوه (2) فلأنّ الخطابات لمّا وردت على طبق العرف (3) حمل لفظ «البيع» و شبهه في الخطابات الشرعية على ما (4) هو الصحيح المؤثّر عند العرف (5)، أو (6) على المصدر الذي يراد من لفظ «بعت» فيستدلّ (7)

______________________________

المعاطاة من جعل متعلق الحلّ التصرفات. و بناء على كونها للجامع بين التكليف و الوضع أو إرشادا إلى خصوص الوضع كانت الحلية للأعم أو لخصوص الوضع، فالمسألة مبنائيّة.

(1) كقوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ سواء أ كانت التجارة خصوص البيع و الشراء، أم شاملة لغيرهما من المعاملات التي يقصد بها الاسترباح و تنمية المال.

(2) كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الصلح جائز بين المسلمين» و «النكاح سنّتي» فالمراد في الجميع هو المسبّب- كالتسالم و الزوجية- الصحيح عرفا أي موضوعا لترتيب الآثار عليها عندهم.

(3) لما تقدّم من أنّه ليس للشارع في المعاملات اصطلاح جديد، بخلاف العبادات التي هي مخترعاته، و هو المرجع في تعيين حدودها.

(4) هذا إشارة إلى أوّل الوجهين لتوجيه التمسك بإطلاق الأدلة الإمضائية بناء على الالتزام بوضع أسامي المعاملات للصحيح، لا للأعمّ منه و من الفاسد.

(5) لا المؤثر واقعا حتى يكون نظر العرف طريقا إليه، بل تمام الموضوع التأثير بنظر العرف. و عليه فما ليس بمؤثّر في نظر العقلاء ليس موضوعا للأدلة الإمضائية، لصحة سلب العنوان عنه.

ثم إنّ هذا المعنى للصحّة يجعل موارد الردع الشرعي خارجة حكما، لكونها بيوعا عرفية صحيحة، لا أنّها خارجة عنه موضوعا من باب التخطئة كما مال إليه جمع من الأعلام.

(6) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من توجيه التمسك بأدلة المعاملات بناء على وضعها للصحيح لا للأعم، و حاصله: أنّ كل ما يعدّ عرفا مصداقا لإنشاء التمليك فهو حلال.

(7) يعني: لمّا كانت أدلة المعاملات إمضائية لا تأسيسية، و كان الممضى هو المعاملة المؤثّرة بنظر العرف لا الشرع، فلا محالة يتمسك بها- فيما إذا أحرز إطلاقها- و ينفى دخل ما يحتمل اعتباره في المعاملة، سواء قلنا بوضع البيع مثلا للمعنى الاسمي- أي المسبّب- كما هو

ص: 307

بإطلاق الحكم بحلّه (1) أو بوجوب الوفاء (2) على (3) كونه مؤثّرا في نظر الشارع أيضا (4)، فتأمّل (5)، فإنّ للكلام محلّا آخر [1].

______________________________

مقتضى الوجه الأوّل، أم للمعنى المصدري- أي السبب- كما هو مقتضى الوجه الثاني.

و عليه فقوله: «فيستدل» متفرّع على الوضع للصحيح المؤثّر، سواء أ كان الموضوع له اسم المصدر أو نفسه.

فإن قلت: بناء على الوجه الثاني كيف يحمل البيع على المعنى المصدري القائم بالبائع؟

مع أنّ الإنشاء المؤثّر بنظر العرف يتوقف في مطلق العقود على انضمام القبول إلى الإيجاب.

قلت: لا منافاة بين وضع البيع للمعنى المصدري و بين توقّف تأثيره على تعقب القبول للإيجاب، و ذلك لقابلية الإطلاق للتقييد، فكما قيّد الإيجاب المؤثّر عرفا بموارد ردع الشارع و تصرّفه، فكذلك قيّد بانضمام القبول إليه، فالبيع حينئذ هو السبب القابل للاتصاف بالصحة و الفساد.

(1) كما هو مقتضى قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ.

(2) كما هو مقتضى قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.

(3) متعلق بقوله: «فيستدل».

(4) كما هو مؤثّر بنظر العرف.

(5) لعلّه إشارة إلى: أنّ التوجيه الثاني ينافي ما تقدم عنه من كون البيع «إنشاء تمليك عين بمال» و إن لم يتعقبه القبول، ضرورة أنّ المؤثّر ليس خصوص الإيجاب، بل هو مع القبول.

إلّا أن يقال: إنّ البيع حقيقة في المؤثّر أيضا، فيكون مشتركا. لكنه بعيد، فتدبّر.

______________________________

[1] قد يقال: لا وجه للتقييد بالمؤثر عرفا، إذ معنى البيع هو المؤثّر واقعا، و العرف طريق إلى معرفته. و مجرّد كون الاستعمال جاريا على طبق الاستعمالات العرفية لا يصلح قرينة على إرادة غير معناه الحقيقي و هو المؤثّر واقعا، بل لا بدّ من حمله على المعنى الحقيقي.

هذا.

إلّا أن يقال: إنّ حمله على الصحيح الواقعي يوجب لغويّة دليل الإمضاء، حيث إنّ

ص: 308

______________________________

الموضوع- على الفرض- هو الصحيح الواقعي، و معه يكون تصحيحه بمثل أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ لغوا، إذ مرجعه إلى: أنّه تعالى شأنه أحلّ البيع الحلال، أو: أمضى البيع الممضى. و هذا من اجتماع الحكمين المثلين في موضوع واحد. فلا محيص عن جعل موضوع الحلية البيع الصحيح العرفي، بمعنى كون المفهوم عرفيا حتى يكون نظرهم حجة فيه، لا بمعنى مرجعية العرف في تشخيص فرديّة الفاقد- لمشكوك الدخل- لمفهوم البيع، ضرورة أنّ نظرهم حجة في تشخيص نفس المفاهيم العرفية، لا في تطبيقها على أفرادها، فمع الشك في فرديّة الفاقد لما احتمل دخله فيه للبيع مثلا لا يصح التمسك بإطلاق الآية الشريفة و لو حكم العرف بفرديّته له. و حينئذ يكون مفاد دليل الإمضاء أن الصحيح عرفا صحيح شرعا، فالدليل يصحّح نظر العرف في كون أفراد البيع صحيحة.

هذا بناء على اتصاف المسبّب بالصحة و الفساد كما هو مبناه قدّس سرّه.

و أمّا بناء على عدم اتصافه بهما- كما ذهب إليه المحقق الخراساني قدّس سرّه و غيره، بدعوى:

أنّهما من المحمولات المترتبة، و موضوعها هو المركّب حتى يكون صحيحا إذا كان تامّا، و فاسدا إذا كان ناقصا. و أمّا البسائط كالملكية و الزوجية المترتبتين على العقد فلا تتصف إلّا بالوجود و العدم، فلا يتعلّق بها الإمضاء- فلا بدّ من إرادة البيع السببي، فيكون مفاد دليل الإمضاء تنفيذ الأسباب العرفية إذا شك في دخل شي ء فيها شرعا، مع العلم بعدم اعتباره فيها عرفا، إذ مع الشك في دخله عرفا لا مجال للتمسك بالدليل، لعدم إحراز موضوعه، و إجماله المانع عن الأخذ به.

و لذا جعل المحقق الخراساني كلا الوجهين المذكورين في المتن ناظرين الى تنفيذ السبب، و أنّ قول المصنف: «فيحمل على الصحيح المؤثّر عند العرف» ناظر إلى العقد المؤلّف من الإيجاب و القبول، و قوله: «أو على المصدر» إلى إيجاب البائع خاصة، إذ يتّجه حينئذ توصيفهما بالصحة و الفساد. أما العقد فواضح. و أمّا الإيجاب فاتصافه بالصحة بلحاظ تعقبه

ص: 309

______________________________

بالقبول، و بالفساد إذا لم يتعقبه، هذا «1».

و هذا البيان و إن كان أخذا بظاهر المتن «الصحيح المؤثّر» إذ المؤثّر في الملكية الاعتبارية هو الإنشاء لا المنشأ، لكن يشكل بأنّ المصنف يرى اتصاف البيع الاسمي بالصحة و الفساد، كما هو صريح قوله قبل أسطر: «إذا استعمل في الحاصل من المصدر الذي يراد من قول القائل بعت عند الإنشاء لا يستعمل ..» و قوله «فالبيع الذي يراد منه ما حصل عقيب قول القائل بعت عند العرف و الشرع حقيقة في الصحيح المفيد للأثر». و لا مانع من توصيف المنشأ بالصحة تارة و بالفساد أخرى، إذ المنشأ هو الملكية في اعتبار نفس المنشئ و هو البائع، فإن كان مؤثّرا في محيط العقلاء ثم الشرع اتصف بالصحة، و إلّا كان فاسدا.

و لو سلّم اختصاص الوصفين بالأسباب لكونها مركبات، و امتنع حملها على البسائط لم يكن ذلك موجبا لحمل كلام المصنف قدّس سرّه على إرادة العقد أو الإيجاب خاصة، لقابلية البسائط- بنظر شيخنا الأعظم- للاتصاف بالصحة و الفساد أيضا.

بقي أمران ينبغي التعرض لهما تتميما للبحث:

أحدهما: أجنبية المقام عن باب تصويب نظر العرف في موارد الإمضاء، و تخطئته في موارد الاستثناء كالبيع الربوي.

ثانيهما: أن الصحة و الفساد كما توصف بهما الأسباب فهل توصف بهما المسببات أم لا؟ و هل الممضى بأدلة المعاملات المسببات أم الأسباب؟

أمّا الأمر الأوّل: فقد اتّضح بما ذكرناه في بيان مرام المصنف قدّس سرّه عدم ابتناء تصحيح الرجوع الى الأدلة- بناء على وضع ألفاظ المعاملات لخصوص الصحيح- على تخطئة نظر العرف في موارد التصرف الشرعي، خلافا لما يظهر من حاشية المحقق التقي قدّس سرّه على المعالم، حيث إنه بعد نقل كلام الشهيدين و الاشكال عليهما وجّه التمسك بالإطلاقات بإرادة الوضع

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 8 و 9

ص: 310

______________________________

للصحيح الواقعي كما سيظهر، و لأجله حمل بعض أجلة المحشين كالسيدين الطباطبائي و الإشكوري جواب المصنف على ذلك معترفا بعدم وفاء العبارة به، قال السيد: «و بالجملة:

و إن كان لا إشارة في كلام المصنف إلى كون المطلب من باب التخطئة في المصداق، إلّا أنه لا بدّ من حمله عليه» «1». ثم اعترض السيد على المصنف بابتنائه على كون الملكية من الأمور الواقعية، لا من الأحكام الوضعية.

و الأولى نقل كلام المحقق التقي قدّس سرّه وقوفا على حقيقة الحال، قال في هداية المسترشدين- قبيل بحث المشترك- ما لفظه: «فالأظهر أن يقال: بوضعها لخصوص الصحيحة أي المعاملة الباعثة على النقل و الانتقال، أو نحو ذلك مما قرّر له تلك المعاملة الخاصة، فالبيع و الإجارة و النكاح و نحوها إنّما وضعت لتلك العقود الباعثة على الآثار المطلوبة منها، و إطلاقها على غيرها ليس إلّا من جهة المشاكلة أو نحوها على سبيل المجاز. لكن لا يلزم من ذلك أن يكون حقيقة في خصوص الصحيح الشرعي حتى يلزم أن تكون توقيفية متوقفة على بيان الشارع لخصوص الصحيحة منها.

بل المراد منها إذا وردت في كلام الشارع قبل ما يقوم دليل على فساد بعضها هو العقود الباعثة على تلك الآثار المطلوبة في المتعارف بين الناس، فيكون حكم الشرع بحلّها أو صحتها أو وجوب الوفاء بها قاضيا بترتب تلك الآثار عليها في حكم الشرع أيضا، فيتطابق صحتها العرفية و الشرعية. و إذا دلّ الدليل على عدم ترتب تلك الآثار على بعضها خرج ذلك عن مصداق تلك المعاملة في حكم الشرع و إن صدق عليه اسمها بحسب العرف، نظرا إلى ترتب الأثر عليه عندهم.

و حينئذ فعدم صدق اسم البيع مثلا عليه حقيقة عند الشارع و المتشرعة لا ينافي صدقه عليه عند أهل العرف مع فرض اتحاد العرفين و عدم ثبوت عرف خاص عند الشارع، إذ المفروض اتحاد المفهوم منه عند الجميع، و إنّما الاختلاف هناك في المصداق، فأهل العرف

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 65، حاشية السيد الاشكوري، ص 8

ص: 311

______________________________

إنّما يحكمون بصدق ذلك المفهوم عليه من جهة الحكم بترتب الأثر المطلوب عليه، و إنّما يحكم بعدم صدقه عليه بحسب الشرع، للحكم بعدم ترتب ذلك الأثر عليه.

و لو انكشف عدم ترتب الأثر عليه عند أهل العرف- لا من قبل الشارع- لم يحكم عرفا بصدق ذلك عليه أيضا، كما أنّ البيوع الفاسدة في حكم العرف خارجة عندهم عن حقيقة البيع.

فظهر أنّه لا منافاة بين خروج العقود الفاسدة عند الشارع عن تلك العقود على سبيل الحقيقة، و كون المرجع في تلك الألفاظ هو المعاني العرفية، من غير أن يتحقق هناك حقيقة شرعية جديدة، فتأمّل جدّا».

و ملخّصه: أنّ البيع موضوع لخصوص ما يؤثّر في الملكية واقعا، و يعبّر عنه بالصحيح، و نظر العرف و الشرع طريق إليه، و ليس اختلافهما في مفهومه بل في مصداقه، إذ ما هو مملّك واقعا واحد لا تعدد فيه، و استعمال العرف البيع حقيقة في البيوع الفاسدة الشرعية كالمنابذة إنّما هو لعدم اطلاعه على نفي الشارع بيعيّتها، فلو اطّلع عليه اعترف بخطائه في تطبيق مفهوم البيع عليها، و حكم بخروجها عن المفهوم جدّا، كخروج إنشاء التمليك هزلا عنه.

و عليه فإذا كان الشارع في مقام البيان، و حكم بحلّية ما يؤثّر في الملكية واقعا و لم ينصب طريقا إليه علم من إطلاقه في مقام البيان أنّ نظر العرف طريق إلى ذلك المؤثّر واقعا، و أنّ ما هو محقّق للملكية الواقعية في نظرهم محقّق لها في نظره.

و على هذا لا مانع من التمسك بإطلاق أدلة العقود، و استفادة تصديق نظر العرف في تطبيق ما هو المؤثّر على المورد، و إمضاء الأسباب العرفية و تنفيذها، و استفادة تخطئة نظرهم في موارد الردع.

و لا يخفى أنّ لفظي «التصويب و التخطئة» الناظرين الى الموضوع لا الحكم و إن لم يردا في عبارة المحقق التقي قدّس سرّه إلّا أنّ قوله: «و لو انكشف عدم ترتب الأثر عليه عند أهل العرف لا من قبل الشارع لم يحكم عرفا بصدق ذلك عليه أيضا، كما أنّ البيوع الفاسدة في حكم العرف خارجة عندهم حقيقة عن البيع» كالصريح في أنّ الإمضاء و الردع الشرعيين ناظران إلى التصرف في الموضوع، و معناه أن يلتزم العرف- بعد اطّلاعه على فساد البيع الربوي مثلا- بعدم

ص: 312

______________________________

صدق البيع عليه حقيقة، لا أنّه بيع فاسد حتى يكون التصرف في الحكم.

و قد اختار المحقق الخراساني قدّس سرّه في كفايته هذا المسلك- أي التصويب و التخطئة- في بحث الصحيح و الأعم، فراجع.

و كيف كان فما أفاده المحقق التقي قدّس سرّه يلتئم مع كون الملكية من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع، إذ الكشف منوط بوجود واقع محفوظ حتى تتصوّر طريقية الأنظار إليه، فتصوّبه تارة و تخطّئه أخرى. و هو مناسب لبعض كلمات المصنف قدّس سرّه في الرسائل من احتمال كون الملكية و الطهارة و نحوها أمورا واقعية كشف عنها الشارع.

و أمّا في خصوص المقام فقوله في المتن: «فلأنّ الخطابات لمّا وردت على طبق العرف حمل لفظ البيع و شبهه في الخطابات الشرعية على ما هو الصحيح المؤثّر عند العرف ..» ظاهر جدّا في أنّ المستعمل فيه في الأدلة هو خصوص الصحيح العرفي، لا الواقعي، و حينئذ يندرج تصرّف الشارع في الردع عن بعض البيوع في الإخراج الحكمي، فالعرف حتى بعد اطلاعه على فساد بيع الخمر يذعن ببقاء اعتبار الملكية له، و صحة مبادلته بمال.

كما أنّ قوله قبل ذلك: «يحمل البيع الصحيح على النقل المؤثّر» لا يبتني على كلام هداية المسترشدين من إرادة الصحة الواقعية، و ذلك لأنّ البيع أمر اعتباري، فيمكن أن يعتبر العرف تأثير البيوع الفاسدة شرعا، و لا يعتبر الشارع تأثيرها، إذ لا واقع للأمور الاعتبارية وراء الاعتبار حتى يجري حديث التخطئة و التصويب فيها.

هذا كلّه مضافا إلى: أنّ المصنف قدّس سرّه اعترض- فيما نسب إليه في التقريرات- على كلام المحقق التقي، و معه لا يظن اقتباس المتن منه. و محصله- بعد أجنبية التوجيه عن كلام الشهيدين- أنّ نظر العرف حجة في تشخيص المفاهيم، لا في تطبيق المفهوم المبيّن على المصاديق المشتبهة بعد العلم بالمفهوم بحدوده. و ما أفاده المحقق التقي من التخطئة لا مجال له في المقام، لعدم تبدل نظر العرف بعد كشف الشارع عن الخطأ، فلو حكم الشارع بنجاسة الكافر أمكن تبدل نظرهم، لإحاطة الشارع بقذارة معنوية خفيت عليهم. و أمّا إذا لم يتبدل النظر بعد الكشف و حكموا بوجود المصداق بعده أيضا كحكمهم بمصداقية الإنشاء بالفارسية

ص: 313

______________________________

لمفهوم البيع لم يكن وجه للتخطئة، بل الخروج حكمي، و قياس ذلك ببيع الهازل مما يصح السلب عنه حقيقة ممنوع. فراجع تمام كلامه هناك «1».

و بالجملة: لا ظهور في كلام المصنف في تخطئة نظر العرف و تصويبه، سواء ما أفاده في قوله: «نعم لا يبعد أن يقال» أو في قوله: «و أما وجه تمسك العلماء» كما لا ملزم لتنزيله على ذلك أصلا.

نعم تنظير البيوع الفاسدة شرعا بإنشاء الهازل- الذي لا يصدق عليه البيع عرفا حقيقة- لا يخلو من ظهور في خروج موارد النهي الشرعي عن المفهوم موضوعا، و هو المعبّر عنه بالتخطئة في مقام التطبيق، فيتّجه حينئذ ما استظهره السيد قدّس سرّه من وحدة معنى البيع واقعا و طريقية الأنظار إليه.

لكن الظاهر أنّ مجرّد التنظير ببيع الهازل لا يوجب الحمل على ما استفاده السيد من تخطئة نظر العرف في موارد الردع، و تصويبه في موارد الإمضاء، بعد ما عرفت من مناقشة المصنف في ما أفاده المحقق التقي، و تصريحه هنا بأنّ الموضوع له هو البيع المؤثّر عرفا.

فتدبّره فإنّه حقيق به، و اللّه العالم بحقائق الأمور.

و أمّا الأمر الثاني و هو: أنّ إمضاء المسبب هل يستلزم إمضاء السبب أم لا؟ فنقول:

قد يورد على المتن بأنّ وضع ألفاظ المعاملات كالبيع لما هو مؤثّر بنظر العرف خاصة أو للمصدر لا يجدي في التمسك بالأدلة الإمضائية لو شك في اعتبار شي ء في الإيجاب و القبول كالعربية و الماضوية، أو مطلق اللفظ، أو صيغة خاصة، و ذلك فإنّ عناوين المعاملات أسام للمسببات لا لأسبابها، و لتعددهما وجودا لا يكون إمضاء الأمر الاعتباري كالملكية إمضاء لسببه بنحو الإطلاق، بل يتعيّن إنشاؤه بسببه المتيقن، و هو الواجد لما يحتمل دخله في تأثيره.

نعم لو كان له سبب واحد كان إمضاؤه إمضاءه، إذ لولاه لزم لغوية إمضاء المسبّب هذا.

أقول: ينبغي البحث في جهتين: إحداهما: ورود الإشكال على المتن، و ثانيتهما: في أصل تصحيح التمسك بإطلاقات المعاملات في موارد الشك في المسبب أو في السبب.

______________________________

(1): مطارح الأنظار، ص 5 و 6

ص: 314

______________________________

أمّا الجهة الأولى فيمكن أن يقال: إنّ المصنف قدّس سرّه جعل الموضوع له- بناء على الصحيح- البيع المؤثّر عند العرف، و المراد به إمّا المعنى المصدري كما استظهره المحقق الخراساني قدّس سرّه و إما المعنى الاسمي كما استفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه بقرينة قوله: «أو على المصدر».

فإن أريد بالبيع المؤثّر عند العرف إنشاؤه إيجابا و قبولا لم يبق موضوع للإشكال، لفرض كون الموضوع له هو السبب المؤثّر في ترتب الملكية عليه، فالممضى هو الإيجاب و القبول، و معه لا مجال للبحث عن استلزام تنفيذ المسبب تنفيذ سببه، كما هو واضح.

و إن أريد بالبيع المؤثر عرفا معناه الاسمي كالملكية و الانتقال كان مقتضى إطلاق تنفيذ المسبب تنفيذ كل ما يراه العرف سببا له، و بيانه: أنّ ما دلّ على حلية التصرف المترتب على البيع العرفي يكون إطلاقه أفراديا و أحواليا، يعني: أنّ كل مال وقعت المبادلة عليه فهو حلال و يجب ترتيب الأثر عليه، سواء أ كان سببه عقدا يقطع بتأثيره شرعا، أم لا كالعقد بالفارسية و المعاطاة، إذ لو كانت حلّيّة المسبب مقيّدة بعدم حصولها من مشكوك السببية كالمعاطاة كان مقتضى عدم الإخلال بالغرض التنبيه عليه مع فرض كون المتكلم في مقام البيان لا الإهمال.

و دعوى أنّ المتبع أنظار العرف في تشخيص المفاهيم لا التطبيق ممنوعة، بأنّ مفروض الكلام إرادة الصحة العرفية، لا الصحة الواقعية حتى يتجه اختصاص نظرهم بتعيين حدود المفهوم لا تطبيقه على المصداق مسامحة، و عليه فالعرف كما يعتبر ملكية الخمر كذلك يتسبب إليها بالمعاطاة.

و منه يظهر أن الإطلاق في كلام المصنف قدّس سرّه لا يتعيّن في الإطلاق المقامي كما حمله عليه جمع من الأعيان، بل لا يبعد إرادة الإطلاق اللفظي بناء على وضع «البيع» للمعنى المصدري، كما يظهر وجهه بالتأمل.

هذا كله بناء على كون النسبة بين العقد و أثره نسبة السبب الى مسبّبه، و هما متعددان وجودا.

و أمّا بناء على إنكاره فلا مجال لهذا البحث، إمّا لأنّ النسبة بين صيغ العقود و الإيقاعات إلى المعاملات- بالمعنى الأعم- نسبة الآلة إلى ذيها كما اختاره شيخ مشايخنا المحقق

ص: 315

______________________________

النائيني قدّس سرّه على ما تقدم بيانه في بحث الإنشاء.

و على هذا المبنى فلمّا كانت العناوين المعاملية من البيع و الصلح و النكاح و الطلاق و العتق أفعالا مباشرية توجد بآلات خاصة كالصيغ الإنشائية كان إمضاؤها إمضاء للآلات المتعارفة.

و إمّا لأن المعاملات ليست أسامي لخصوص الإنشاء و لا لخصوص المنشأ، بناء على بطلان مبنى إيجادية الإنشاء، بل هي أسام لمجموع الأمر الاعتباري القائم بنفس المعتبر و إبرازه بمبرز خارجي.

و عليه ينحسم مادة الإشكال، إذ لا مسبّب و لا سبب، كما لا آلة و لا ذيها، فمعنى حلية البيع إمضاء الاعتبار القائم بنفس البائع المظهر بما يدل عليه و يحكى عنه. كما لا مجال للبحث عن أن إطلاق إمضاء المسبب لفظا هل يستلزم إطلاق السبب أم لا، ضرورة كون متعلق الإمضاء أمرا واحدا لا تعدد فيه حتى يتّجه البحث عن استلزام إطلاق المسبّب إطلاق السبب.

و إمّا لأنّ نسبة المصدر إلى اسمه ليس نسبة السبب الى المسبب، لاتحادهما ذاتا و اختلافهما اعتبارا، حيث إنّ الحدث مع النسبة الناقصة عين الحدث بدونها، فإمضاء المعنى المصدري- و هو الحدث المنسوب الى فاعل مّا- كالتمليك متحد مع الملكية التي هي اسم المصدر، فيسقط البحث عن أنّ إمضاء السبب أو المسبب هل يستلزم إمضاء الآخر أم لا؟

و لا يخفى انحلال المعضل بكلّ من هذه الوجوه الثلاثة، و يتم التمسك بإطلاق أدلة المعاملات سواء قلنا بوضعها للأعم أم لخصوص الصحيح.

إلّا أنّ في تمامية ما سلكه المحقق النائيني قدّس سرّه خفاء، لمغايرة الآلة لذيها وجودا، كمغايرة السبب للمسبب، فإشكال تعدد الوجود جار في الآلات أيضا.

و ينحصر الحلّ بأنّ دليل الإمضاء ظاهر في أنّ الممضى هي الجهة الصدورية الملحوظ فيها نسبة ناقصة، فمثل قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ظاهر في توجه الأمر بالوفاء الى الّذين تصدر عنهم العقود، فكأنّه قيل: «أوفوا بما تصدرونه من العقود» فحيثية الصدور ملحوظة في مقام الإمضاء، و من المعلوم إناطة صدور البيع بالآلة المعمولة عند العرف لإيجاده، فإمضاء ذي الآلة إمضاء لنفس الآلة.

ص: 316

الكلام في المعاطاة (1)

اشارة

______________________________

(1) لمّا فرغ المصنف قدّس سرّه من تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» تعرّض- تبعا للقوم- لحكم المعاطاة، و أنّه هل يعتبر في إفادة الملكية اللازمة إنشاء البيع باللفظ، أم يكفي إنشاؤه بالفعل، و قد فرّع الفقهاء هذا البحث على اعتبار الصيغة في المعاملة، كما لا يخفى على من راجع كلماتهم، قال المحقق في تعريف عقد البيع: «العقد هو اللفظ الدال على نقل الملك من مالك الى آخر بعوض معلوم. و لا يكفي التقابض من غير لفظ و إن حصل من الأمارات ما يدل على إرادة البيع .. إلخ» «1».

و ظاهر هذا التفريع اعتبار جميع ماله دخل في البيع بالصيغة في المعاطاة، من شرائط العوضين و المتعاقدين، و ينحصر الفرق في فقد العقد القولي.

ثم إنّ المصنّف قدّس سرّه بسط الكلام في المعاطاة و ما يتعلق بها، فتعرّض لجملة من أحكامها و فروعها في التنبيهات، و قدّم البحث عن مفهومها و حكمها الشرعي، في طيّ مقامات:

أحدها: بيان مفهومها، لأنّ معرفة الموضوع مقدّمة على حكمه، و يذكر فيه صور المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين.

ثانيها: الأقوال المذكورة فيها.

ثالثها: حكمها على ما يقتضيه الدليل الاجتهادي و الأصل العملي، و سيأتي بيانها

______________________________

(1): شرائع الإسلام، ج 2، ص 13

ص: 317

[المقام الأوّل: تعريف المعاطاة]

اشارة

اعلم: أنّ المعاطاة (1) [1] على ما فسّره جماعة (2): أن يعطي كلّ من اثنين عوضا عمّا يأخذه

______________________________

مرتّبا إن شاء اللّه تعالى.

المقام الأوّل: تعريف المعاطاة

(1) هذا شروع في المقام الأوّل المتكفّل لبيان مفهوم المعاطاة، و محصّله: أنّ مقتضى دلالة باب المفاعلة على قيام المبدأ باثنين هو أن يعطي كلّ من المتعاملين ماله للآخر، و هذا هو القدر المتيقن من قيام العقد الفعلي مقام العقد القولي، فلا ينافي ما سيأتي منه في التنبيه الثامن من تقوية كفاية وصول المالين أو أحدهما مع التراضي بالتصرّف بناء على الإباحة.

(2) كالعلّامة و الشّهيد الثاني و السّيد الطباطبائي، ففي شرح اللمعة: «و هي: إعطاء كل واحد من المتبايعين ما يريده من المال عوضا عمّا يأخذه من الآخر باتفاقهما على ذلك بغير العقد المخصوص» «1».

______________________________

[1] لمّا لم تقع المعاطاة في شي ء من الأدلة موضوعا لحكم فلا جدوى في التعرض لحقيقتها التي هي العطاء من الطرفين بناء على اشتراك المفاعلة كالتفاعل بين اثنين، بل لا بدّ من بيان ما تداول بين الناس من المعاملة المبنيّة على عدم الصيغة، و الظاهر أنّ المتعارف بينهم من المعاملة المسماة بالمعاطاة عدم اختصاصه بتحقّق التعاطي من الطرفين كما في السلف و النسيئة. بل يمكن تحقق الإيجاب به و القبول بالأخذ، و كون إعطاء الآخر وفاء بالمعاملة.

بل يمكن أن يقال: بعدم اعتبار الإعطاء و لو من طرف واحد أصلا كالمعاملة الواقعة بإنشاء العقد بألفاظ ملحونة أو فاقدة للشرائط.

______________________________

(1): الروضة البهية، ج 3، ص 222، و كذلك لاحظ: تذكرة الفقهاء، ج 1 ص 462، نهاية الأحكام، ج 2، ص 449، رياض المسائل، ج 1، ص 510

ص: 318

من الآخر (1). و هو (2) يتصوّر على وجهين:

[صور المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين]

أحدهما: أن يبيح كلّ منهما للآخر التصرّف فيما يعطيه من دون نظر

______________________________

(1) هذا معنى المعاطاة لغة بناء على المشهور بين علماء العربية في مدلول هيئة المفاعلة، قال في شرح النظّام: «و- فاعل- لنسبة أصله و هو مصدر ثلاثيّة إلى أحد الأمرين متعلقا بالآخر، للمشاركة صريحا، فيجي ء العكس ضمنا، نحو: ضاربته و شاركته. الى أن قال:

و بمعنى- فعّل- نحو: ضاعفته، بمعنى: ضعّفت. و بمعنى- فعل- نحو: سافرت بمعنى سفرت» «1».

و المستفاد من كلامه استعمال هيئة المفاعلة في غير الاثنين أيضا، فجعل المعاطاة إعطاء كلّ من اثنين- بحيث يكون استعمالها في إعطاء واحد لكونها من المفاعلة مجازا- غير ظاهر.

و قد عرفت آنفا أعمية المعاملة المتداولة من ذلك، لجريان النزاع فيما لو كان الإعطاء من طرف واحد، و غير ذلك.

صور المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين

(2) يعني: أنّ إعطاء كل واحد للآخر لمّا كان منبعثا عن القصد فإمّا أن يكون المقصود مجرّد إباحة التصرف بمقتضى الإذن المالكي، و إمّا أن يكون المقصود التمليك على حدّ البيع اللفظي.

ثم إنّ ظاهر المتن جعل مقسم الوجهين المذكورين المعاطاة المعنونة في كتاب البيع، حيث ذهب جمع من الخاصة و العامة إلى كونها مفيدة للملك، خلافا لمشهور القدماء من إفادتها الإباحة. و ليس المقسم مطلق التعاطي، و ذلك لإمكان تصويره على نحو لا يقصد فيها تمليك و لا إباحة، كالوديعة بناء على جريان المعاطاة فيها، و هكذا غيرها من العقود و الإيقاعات على ما سيأتي تفصيله في التنبيه الخامس إن شاء اللّه تعالى.

فان قلت: لو كان المقصود تصوير المعاطاة الواقعة بعنوان البيع فمن المعلوم أنّ مقصود المتبايعين هو تمليك ماليهما لا إباحتهما، فينبغي حصر المعاطاة- بقصد البيع- في الصورة الثانية

______________________________

(1): شرح النظام، ص 55

ص: 319

إلى تمليكه (1).

الثاني (2): أن يتعاطيا على وجه التمليك (3).

و ربما يذكر (4) وجهان آخران:

______________________________

و هي قصد التمليك، و إخراج قصد الإباحة عن حريم البحث.

قلت: نعم، إذ مقتضى التفريع أجنبية قصد الإباحة عن المعاطاة المقصود بها البيع، إلّا أنّ الموجب لذكر الوجه الأوّل- و هو قصد الإباحة- ما سيأتي تفصيله في المقام الثاني من دلالة بعض عبائر القوم على قصد الإباحة كما في كلام شيخ الطائفة: «و إنّما هي استباحات محضة» لظهور هيئة «الاستفعال» في قصد الإباحة، لا في ترتبها تعبدا على ما إذا قصدا التمليك.

و عليه فلا مانع من جعل قصد المتعاطيين للإباحة من أقسام المعاطاة في البيع.

(1) فتكون الإباحة بإزاء الإباحة، فالمقابلة بين الفعلين و هما الإباحتان.

(2) هذا هو الشائع من المعاطاة البيعية، و هو المناسب لعقد البحث عن حكمها في كتاب البيع، إذ لو لم يقصدا التمليك كان عدم ترتب الملك على تعاطيهما من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فلا بدّ من قصد التمليك حتى يتمحّض البحث عن حكمها من إفادة الإباحة أو الملك المتزلزل أو اللازم.

(3) فيكون مقصودهما تمليك عين بإزاء تمليك عوض.

(4) الذاكر صاحب الجواهر قدّس سرّه فإنّه جعل صور المعاطاة أربعا: أولاها: قصد الإباحة المطلقة مع التصريح بها. ثانيتها: قصد التمليك. ثم قال: «ثالثها: أن يقع الفعل من المتعاطيين، من غير قصد البيع و لا تصريح بالإباحة المزبورة، بل يعطي البقّال مثلا شيئا ليتناول عوضه، فيدفعه إليه .. الى أن قال: رابعها: أن يقصد الملك المطلق» «1».

و ظاهر كلامه في الصورة الثالثة: أنّ كل واحد من المتعاطيين يدفع مالا الى الآخر لا بقصد التمليك البيعي و لا بتصريح بالإباحة المالكية، فيكون المقصود الأصلي مجرّد حصول مال كلّ منهما عند الآخر، كما إذا دفع باذل الفلوس ماله الى البقّال ليتناول البقل، فقبض البقليّ

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 226 و 227

ص: 320

أحدهما: أن يقع النقل (1) من غير قصد البيع و لا تصريح بالإباحة المزبورة، بل يعطي شيئا ليتناول شيئا (2)، فدفعه الآخر إليه.

و الثاني: أن يقصد الملك المطلق، دون خصوص البيع.

و يردّ الأوّل (3)

______________________________

الفلوس و أعطى البقل إلى الباذل، ففي هذا التعاطي لم يقصدا التمليك، و لم يصرّحا بالإباحة.

و إنّما الحاصل به مطلق التسليط. و لم يستبعد صاحب الجواهر قدّس سرّه مشروعية هذا الوجه.

و أمّا الصورة الرابعة- و هي قصد الملك المطلق- فقد حكم قدّس سرّه بفسادها، لأنّ تمليك العين لا بدّ أن يكون بعنوان البيع أو الهبة أو الصلح، فمع عدم قصد خصوصية إحدى المعاملات لا ينطبق عليها عنوان خاص، فتبطل. إلّا أن يكون الأصل في تمليك الأعيان هو البيع، فيحمل عليه. و يصير كالصورة الثانية أي: قصد المتعاطيين التمليك البيعي.

(1) الموجود في الجواهر- كما تقدم آنفا- في بيان هذه الصورة: «أن يقع الفعل من المتعاطيين .. إلخ» لا «النقل» و لعل المصنف حكاه بالمعنى.

و كيف كان فالمراد بالنقل هو النقل الخارجي الحسّي المعبّر عنه بالمعاطاة، و ليس المراد به النقل الاعتباري- الذي يفسّر به البيع في جملة من الكلمات- أي الملكية المترتبة في موطن الاعتبار على الإعطاء و الأخذ الخارجيين.

و الوجه في إرادة النقل الخارجي في كلام صاحب الجواهر هو: أنّ المفروض عدم قصد المتعاطيين البيع و التمليك، فلا مقتضي لحصول الملكية بهذا التعاطي.

(2) بأن أعطى أحدهما قطعة ليتناول بقلا، فدفع صاحب البقل بقلة إلى باذل الفلوس.

(3) ناقش المصنف قدّس سرّه في كلا الوجهين المذكورين في الجواهر. و ما أفاده في منع أوّل الوجهين مبنيّ على أمرين:

الأوّل: أنّ النقل الخارجي- أي إعطاء كلّ واحد منهما ماله للآخر- فعل إرادي لهما، و ليس كحركة يد المرتعش خارجا عن الاختيار.

الثاني: أنّ العناوين المعاملية محصورة في أمور معلومة، بعضها يفيد ملك العين كالبيع

ص: 321

بامتناع (1) خلوّ الدافع [الواقع] عن قصد عنوان من عناوين البيع أو الإباحة (2)

______________________________

و القرض و الهبة، و بعضها يفيد ملك المنفعة كالإجارة و الصلح على المنفعة، و بعضها يفيد إباحة الانتفاع كالعارية، و بعضها يفيد الاستيمان في الحفظ عن التلف و الضياع كالوديعة، و بعضها يفيد الإذن في التصرف كالوكالة، إلى غير ذلك.

و على هذا فإذا وقع النقل الخارجي من الناقل الملتفت و كان قصده المعاملة امتنع خلوّه عن قصد عنوان خاص من عناوين المعاملات، فإمّا أن يقصد تمليك العين بعوض و هو البيع، أو يقصد التسالم على العين بعوض و هو الصلح، أو يقصد تمليك العين في قبال هبة عين أخرى، و هو الهبة المعوّضة، أو يقصد التسليط على الانتفاع و إباحته و هو العارية، أو يقصد المتعاطيان إباحة التصرف كما في الضيافة و هي الإباحة المالكية المصطلحة. و لا يعقل تحقق النقل و التعاطي من الشاعر المختار مجرّدا عن أحد العناوين المتقدّمة.

و عليه فلا وجه لما في الجواهر من تصوير المعاطاة على نحو النقل المطلق الخالي عن قصد البيع، و عن قرينة على إرادة الإباحة.

هذا توضيح مناقشة المصنف قدّس سرّه في الوجه الأوّل. و يمكن أن يورد على صاحب الجواهر بوجه آخر ذكرناه في التعليقة.

و ناقش في الوجه الثاني بما حاصله: أنّ «تمليك عين بعوض على وجه المقابلة بين المالين» هو مفهوم البيع، و ليس أمرا آخر حتى يعدّ الإعطاء بقصد التمليك المطلق أمرا آخر مغايرا للتعاطي بقصد التمليك البيعي. و عليه لم يظهر فرق بين الوجه الثاني و الرابع من صور المعاطاة في كلام صاحب الجواهر قدّس سرّه.

(1) وجه الاستحالة ما عرفت من أنّ الفعل الإراديّ- القابل للانطباق على عناوين مختلفة- يتشخّص بالقصد، فلا معنى للتعاطي المهمل أو المطلق.

(2) المراد بها الإباحة المصطلحة و لو استلزمت إتلاف العين كما في الضيافة و نحوها، و بهذا تفترق عن إباحة الانتفاع بالعارية، حيث إنّ المستعير يضمن العين لو أتلفها.

ص: 322

أو العارية أو الوديعة أو القرض أو غير ذلك (1) من العنوانات الخاصة [1].

______________________________

(1) كقصد الإعراض أو التوكيل، فالأوّل: بأن يقصد كلّ منهما بإعطاء ماله الإعراض عن ملكه و رفع المانع عن تملك غيره له، فيكون الفعل الصادر من كلّ منهما إعراضا، فيقع التقابل بين الإعراضين، و من المعلوم أنّ الإعراض عنوان قصدي كالعناوين الخاصة المزبورة.

و الثاني: بأن يقصد كلّ واحد من المتعاطيين توكيل الآخر في أن يأخذه لنفسه، إمّا تملكا و إمّا على وجه الإباحة، فيكون إعطاء كل منهما توكيلا معاطاتيا بإزاء توكيل.

______________________________

[1] يمكن منعه بعدم خلوّ المتعاطيين عن القصد، فإنّ الموجود في الجواهر في تقريب هذه الصورة «عدم قصد الملك و لا تصريح بالإباحة» في قبال الصورة الاولى و هي قصد الإباحة مع التصريح بها و لو بمعونة القرائن، فالمقصود في هذه الصورة الثالثة هو الإباحة المطلقة و إن لم يصرّح بها، و ذلك لأنّ كل واحد منهما يسلّط الآخر على ماله من دون تمليك، و التسليط غير المقرون بقصد التمليك إباحة مطلقة، يعني: أنّ فصلها أمر عدمي و هو عدم قصد قطع إضافة الملك عن نفسه، فالتسليط المتفصّل بهذا الفصل العدمي تسليط إباحي، فالقصد متحقق قطعا، و معه لا يبقى موضوع للإشكال عليه: بامتناع خلوّ الدافع عن قصد عنوان .. إلخ.

و إن شئت فلاحظ كلام الجواهر في حكم هذه الصورة: «و لعلّ القائل باشتراط الصيغة في البيع يشرّعه أيضا على جهة الإباحة التي هي كالأصل فيما يقصد به مطلق التسليط، فغيرها محتاج الى قصد آخر، بخلافها، فإنّه يكفي فيها قصد هذا التسليط المطلق» «1».

نعم يرد على الجواهر إشكال آخر نبّه عليه المحقق الأصفهاني قدّس سرّه، و هو: أنّ السلطنة حكم شرعي مترتب على العقود المعاملية و الإباحات المالكية، فتمليك العين بالبيع و الهبة و الصلح أثره السلطنة عليها، و هكذا السلطنة على المنفعة في تمليكها بالإجارة، و على الانتفاع في إباحته بالعارية و نحو ذلك، و من المعلوم إناطة تحقق السلطنة الاعتبارية- اللازمة للعنوان

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 227

ص: 323

______________________________

المعاملي و للإباحة- بتحقق ذلك العنوان الخاص الذي هو موضوع لها، فلو لم يقصد المتعاطيان عنوانا خاصا بل قصدا التسليط المطلق كان معناه ترتب اللازم الأعم من دون قصد الملزوم الخاص، و هو ممتنع، إذ لا وجود للازم بغير ملزومه «1».

ثم إنّ ما أفاده المصنف بقوله: «بامتناع خلوّ الدافع ..» يحتمل وجها آخر ذكره السيد قدّس سرّه بقوله: «و لعلّه من جهة امتناع إيجاد الجنس من دون فصل، فإنّ الإيجاد الإنشائي في ذلك كالإيجاد الخارجي في الامتناع، و لذا ذكروا أنّه لا يمكن الطلب بإرادة القدر المشترك بين الوجوب و الندب، بل لا بدّ من كونه في ضمن أحد الفصلين» «2».

و عليه فمنشأ استحالة خلوّ الدافع عن القصد هو استحالة تحقق الجنس- أي الإباحة المطلقة- بدون فصل معيّن من فصولها، هذا.

و الظاهر أنّ كلام السيد قدّس سرّه مقتبس ممّا أفاده صاحب الجواهر قدّس سرّه في الإشكال تارة على إرادة ترتب الإباحة عند قصد المتعاطيين البيع، و اخرى على الصورة الرابعة و هي قصد الملك المطلق، فقال في الموضع الأوّل: «فلا أعرف للثاني منها- و هو ترتب الإباحة على المعاطاة المقصود بها البيع- وجها، ضرورة أنّهم إن أرادوا أنّها من المالك فالفرض عدمها، لكون المقصود له أمرا خاصّا لم يحصل، فارتفع الجنس بارتفاعه. و إن أرادوا بها إباحة شرعية، فهو مع أنّه من الغرائب .. إلخ» «3».

و على هذا الأساس احتمل السّيد قدّس سرّه أنّ وجه استحالة الإباحة المطلقة- بنظر المصنف- هو وجه الاستحالة في الإباحة المالكية بنظر صاحب الجواهر، هذا.

لكن لا يبعد أن يكون مراد المصنف من تعليل بطلان الإباحة المطلقة بقوله: «بامتناع خلوّ الدافع عن القصد» هو ما أثبتناه في التوضيح من أن الإعطاء الخارجي فعل اختياري لا بدّ

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 23

(2) حاشية المكاسب، ص 66

(3) جواهر الكلام، ج 22، ص 222 و نظيره كلامه في ص 227 في استحالة الملك المطلق، فراجع.

ص: 324

و الثاني (1) بما تقدّم في تعريف البيع (2) من: أن التمليك بالعوض على وجه المبادلة (3) هو مفهوم البيع لا غير.

نعم (4) يظهر من غير واحد منهم في بعض العقود- كبيع (5) لبن الشاة مدّة

______________________________

(1) يعني: و يردّ الوجه الثاني بأن التمليك المطلق بين عين و عوض هو معنى البيع، و ليس قدرا جامعا بينه و بين الصلح و الهبة حتى يحمل على خصوص البيع- عند الشك في إرادة غيره- لأجل الغلبة مثلا. و عليه فالوجه الرابع في كلام الجواهر متحد مع الوجه الثاني فيه، و ليس وجها على حدة.

(2) في ردّ ما أفاده الشيخ الكبير من أن الأصل في تمليك الأعيان هو البيع، فيقدّم على الصلح و الهبة المعوّضة «1»، حيث قال المصنف: «ان تمليك الأعيان بالعوض هو البيع لا غير».

(3) و اشتمال الصلح على العين و الهبة المعوّضة على البدل لا يقتضي كون «التمليك بالعوض» مشتركا معنويا بين مفادات عقود ثلاثة، إذ المنشأ في الصلح هو التسالم لا التمليك.

و البدل في الهبة ليس مقابلا للعين الموهوبة، كما تقدم تفصيله، فراجع.

(4) استدراك على قوله: «ان التمليك بالعوض هو مفهوم البيع» يعني: أنّ ما ذكرناه- من إنكار تعدد مفهوم البيع و التمليك المطلق- ليس أمرا متفقا عليه، لذهاب غير واحد من الفقهاء إلى أعمية «التمليك المطلق» من البيع، و حينئذ يتجه ما أفاده صاحب الجواهر قدّس سرّه من جعل التعاطي بقصد التمليك البيعي وجها، و بقصد التمليك المطلق وجها آخر. فتصير المسألة مبنائيّة بعد وجود الخلاف فيها. نعم حكم صاحب الجواهر قدّس سرّه بفساد التعاطي بقصد الملك المطلق، فراجع.

(5) الأولى تبديل كلمة «البيع» بالتمليك، بأن يقال: «كتمليك لبن الشّاة مدّة ..» و ذلك لأنّ غرض المصنف قدّس سرّه من نقل هذا الكلام إثبات أعمية «تمليك العين بعوض على وجه المقابلة بين المالين» من البيع، فكما أن تمليك اللّبن مدّة لا يكون صلحا و لا هبة معوّضة و لا إجارة للشاة للبنها فكذا لا يكون بيعا، بل هو معاملة مستقلة، و من المعلوم أن هذه الأعمية منافية لما اختاره شيخنا الأعظم من أن «التمليك على وجه المقابلة بين العوضين» هو البيع لا أمر آخر.

______________________________

أن ينبعث عن قصد أحد العناوين المعاملية.

هذا مضافا الى ما أفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه من أنّ السلطنة ليست جنسا، بل لازما عامّا لكافة موارد التمليك و الإذن. و اللّه العالم بحقائق الأمور.

______________________________

(1): تقدم نقل كلامه في ص 248، فراجع.

ص: 325

و غير ذلك- كون (1) التمليك المطلق أعمّ من البيع.

[المقام الثاني: آراء الفقهاء في حكم المعاطاة]

اشارة

ثم إنّ (2) المعروف بين علمائنا في حكمها أنّها مفيدة

______________________________

و كيف كان فلا ريب في صحة ما نسبه المصنف إلى بعض الأصحاب من أعمية «تمليك العين بعوض» من البيع، للتصريح بصحته في مسألتين:

إحداهما: في تمليك لبن الشاة مدّة معلومة بعوض. و لعلّ الأصل فيه كلام العلّامة، حيث قال: «مسألة: قال الشيخ في النهاية: لا بأس أن يعطي الإنسان الغنم و البقر بالضريبة مدّة من الزمان بشي ء من الدراهم و الدنانير و السمن، و إعطاء ذلك بالذهب و الفضّة أجود في الاحتياط. و قال ابن إدريس: لا يجوز ذلك. و التحقيق: أنّ هذا ليس ببيع، و إنّما هو معاوضة و مراضاة غير لازمة، بل سائغة، و لا منع من ذلك .. إلخ» «1».

و وافقه المحقق الثاني قدّس سرّه في جامع المقاصد «2» و محكي تعليق الإرشاد «3».

ثانيتهما: في مسألة القبالة، و هي: أن يتقبّل أحد الشريكين بحصة صاحبه من الثمرة بخرص معلوم. قال السيد الفقيه العاملي قدّس سرّه: «إنّ هذا التقبيل هل هو معاملة برأسها غير الصلح و البيع أو أحدهما و يكون مستثنى من القاعدة؟ ظاهر الأصحاب الأوّل، كما في المسالك، و هو كما قال، بل صريح جماعة» «4».

و الغرض من نقل العبارتين هو مشروعية تمليك اللّبن مدّة و تمليك الثمرة، مع عدم اندراجه في البيع و سائر العقود المعهودة.

(1) بالرفع فاعل «يظهر». هذا تمام الكلام في المقام الأوّل المتكفل لمفهوم المعاطاة، و الوجوه المحتملة ثبوتا في قصد المتعاطيين.

و لا يخفى عدم انحصار الصّور في الأربعة المتقدمة، لإمكان أن يقصد أحدهما التمليك و الآخر الإباحة بحيث تكون الإباحة بإزاء التمليك، و سيأتي في التنبيه الرابع أحكام جملة من الصور إن شاء اللّه تعالى.

المقام الثاني: آراء الفقهاء في حكم المعاطاة

(2) هذا هو المقام الثاني أعني به الأقوال المذكورة في حكم المعاطاة، و هي ستة كما

______________________________

(1): مختلف الشيعة، ج 5، ص 248 و 249

(2) جامع المقاصد، ج 4، ص 110

(3) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 284

(4) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 391

ص: 326

لإباحة التصرّف (1)، و يحصل الملك بتلف إحدى العينين (2).

______________________________

سيأتي تصريح المصنف بها، لكنه قدّس سرّه أشار- فعلا- إلى ثلاثة منها، مقدّمة للخوض في تحرير محل النزاع حتى تتوارد الأقوال المختلفة على موضوع واحد.

و محصّله: أنه اختلف نظرا المحقق الكركي و صاحب الجواهر قدّس سرّهما في أن مصبّ الآراء المتضاربة في المعاطاة هل هو المعاملة الفعلية المقصود بها مجرد إباحة التصرف أم التي يقصد المتعاطيان بها التمليك كما في البيع بالصيغة؟ كما سيظهر إن شاء اللّه تعالى.

(1) كما في المسالك، حيث قال: «لكن هل يفيد- أي التقابض- إباحة تصرف كل منهما فيما صار إليه من العوض، نظرا إلى إذن كل منهما للآخر في التصرف، أم يكون بيعا فاسدا من حيث اختلال شرطه و هو الصيغة المخصوصة؟ المشهور الأوّل. فعلى هذا يباح لكل منهما التصرف، و يجوز له الرجوع في المعاوضة ما دامت العين باقية، فإذا ذهبت لزمت» «1».

و قد حكيت الشهرة على إفادتها الإباحة عن كفاية الفاضل السبزواري و مفاتيح المحدّث الفيض و غيرهما «2». و على هذا فالشهرة على الإباحة- التي هي القول الأوّل- متضافرة النقل. و هل الإباحة شرعية أم مالكية؟ سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

(2) كما صرّح به الشهيد الثاني بقوله: «لو تلفت العينان معا تحقق الملك فيهما. و لو تلفت إحداهما خاصة فقد صرّح جماعة بالاكتفاء به في تحقق ملك الأخرى» «3».

و المستفاد منه: أنّ المراد باللزوم هو الملك لا لزوم الإباحة، و إنّما الخلاف في كفاية تلف إحدى العينين في حصول الملكيّة- و تبدل الإباحة بالملك- أو توقفه على تلفهما معا.

فإن قلت: إنّ ما نسبه المصنف الى المشهور- من حصول الملك اللازم بتلف إحدى العينين في المعاطاة المفيدة للإباحة عندهم- غير سديد، لخلوّ عبارات الأصحاب عن الحكم بحصول الملك بالتلف، بل حكموا باللزوم بالتلف، فإنّ عبارة جمع من المتأخرين- كما صرّح به

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 3، ص 147

(2) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 154

(3) مسالك الأفهام، ج 3، ص 149

ص: 327

و عن المفيد (1) القول بكونها لازمة كالبيع. و عن العلّامة

______________________________

في جامع المقاصد- هي: أنّها تفيد الإباحة، و إنّما تلزم بتلف إحدى العينين. و ظاهره لزوم الإباحة- لا الملك- بالتلف، إذ حصول الملك بمجرّد التلف مع كون الحاصل قبله هو الإباحة خلاف القواعد» «1» و عليه فالأولى تغيير قول المصنف: «و يحصل الملك بتلف ..» بأن يقال:

«و تحصل الإباحة اللازمة بتلف إحدى العينين» كي لا يكون مخالفا لكلمات المشهور.

قلت: ما نسبه المصنف قدّس سرّه إلى المشهور في غاية المتانة، لما عرفت من صراحة عبارة الشهيد الثاني قدّس سرّه في تبدّل الإباحة- بالتلف- بالملك، لا صيرورة الإباحة لازمة بعد أن كانت جائزة. بل يتعيّن إرادة هذا المعنى أيضا من عبارة جامع المقاصد، لأنّ المحقق الثاني- كما سيأتي في المتن- استغرب من فتوى المشهور بترتب الإباحة على المعاطاة، و أنّها تنقلب الى الملك بسبب تلف إحدى العينين أو التصرف فيها، و لأجله حمل المحقق الثاني الإباحة- في كلمات القدماء- على الملك المتزلزل، إذ لا غرابة حينئذ في صيرورة الملك الجائز لازما بالتلف، لكونه كالعقد الخياري الذي ينقلب جوازه باللزوم بانقضاء زمان الخيار أو بإسقاطه.

(1) إشارة إلى ثاني الأقوال في المعاطاة، و هو كونها كالبيع القولي مفيدا للملكية، نسب الى المفيد منّا، و إلى بعض العامة. قال الشيخ المفيد قدّس سرّه: «و البيع ينعقد على تراض بين الاثنين فيما يملكان التبايع له، إذا عرفاه جميعا، و تراضيا بالبيع، و تقابضا، و افترقا بالأبدان» «2».

و دلالته على تأثير المعاطاة في الملك اللازم- كالبيع بالصيغة- إنّما هي لاقتصاره قدّس سرّه على التقابض، و عدم تعرّضه لشرطية الصيغة في البيع [1].

______________________________

[1] لكنّه أعمّ من عدم اعتبار الصيغة، لاحتمال كون عدم تعرضه للصيغة لأجل التسالم على اعتبارها في اللزوم، لا في صحته. و يؤيده ما في الجواهر من: «أن المفيد قدّس سرّه ترك التعرض لها- أي الصيغة- في الكتاب المزبور في النكاح و الطلاق و نحوهما مما لا إشكال في اعتبار

______________________________

(1): هداية الطالب إلى أسرار المكاسب، ص 156

(2) المقنعة، ص 591

ص: 328

و بعض العامّة (1) القول بكونها لازمة كالبيع (2). و عن العلّامة رحمه اللّه في النهاية (3)

______________________________

(1) يعني: جماعة منهم، على ما يظهر من تعبير بعضهم: «الصيغة في البيع هي كلّ ما يدلّ على رضاء الجانبين: البائع و المشتري، و هي أمران، الأوّل: القول و ما يقوم مقامه من رسول أو كتاب .. و الثاني: المعاطاة» «1». ثم نقل عن الشافعية: «أنّ البيع لا ينعقد إلّا بالصيغة الكلامية، أو ما يقوم مقامها .. أمّا المعاطاة فإنّ البيع لا ينعقد بها .. إلخ».

و المقصود من نقل هذه العبارة أن القول بكون المعاطاة لازمة كالبيع القولي مذهب جماعة من العامة، و لم ينقل الخلاف من غير الشافعية.

(2) يعني: كالبيع اللفظي.

(3) هذا إشارة إلى القول الثالث، و لعلّ المتفرّد به هو العلّامة في النهاية لا في سائر

______________________________

الصيغة فيه و أنّ بتركها يتحقق الزنا و إن حصل التراضي، بل هو من ضروريات الدين» «2».

و عن المختلف: «أن للمفيد قولا يوهم الجواز» ثم نقل العبارة المتقدمة و قال: «ليس في هذا تصريح بصحته، إلّا أنّه موهم» بل في كشف الرموز «3» في باب الفضول: نسبة اعتبار اللفظ المخصوص في البيع إلى المفيد و الطوسي قدّس سرّهما.

و على هذا فنسبة القول بعدم اعتبار اللفظ في البيع إلى المفيد قدّس سرّه لا تخلو من التأمل.

و لم ينسب هذا القول إلى غير المفيد من القدماء.

و أمّا قول المصنف: «يكفي في وجود القائل به قول العلّامة في التذكرة: الأشهر عندنا أنه لا بدّ من الصيغة» فلا يدل على وجود القول المزبور المنسوب الى المفيد، لاحتمال إرادة العلامة من قوله: «الأشهر» الإشارة الى ما نسب الى المفيد الذي قد عرفت التأمل في صحته، بل معارضة هذه النسبة لنسبة خلافه، و هو اعتبار الصيغة الخاصة في البيع الى المفيد كما تقدّم عن كشف الرموز.

______________________________

(1): الفقه على المذاهب الأربعة، ج 2، ص 155 و 156

(2) جواهر الكلام، ج 22، ص 211

(3) كشف الرموز، ج 1، ص 446 للشيخ الفقيه عزّ الدين أبو علي الحسن بن أبي طالب اليوسفي الآبي، و هو تلميذ المحقق، و كتب «كشف الرموز» شرحا على كتاب «النافع».

ص: 329

احتمال كونها فاسدا في (1) عدم إفادتها لإباحة التصرف.

[تحرير محلّ النزاع في المعاطاة]

و لا بدّ أوّلا (2) من ملاحظة

______________________________

كتبه، قال قدّس سرّه: «و المعاطاة ليست بيعا، .. و هل هو إباحة؟ أو يكون حكمه حكم المقبوض بسائر العقود الفاسدة؟ الأقرب الثاني، فلكل منهما مطالبة الآخر بما سلّمه إليه ما دام باقيا، و يضمنانه إن كان تالفا» «1».

و هذا مختاره في النهاية، فلا بد من حمل قول المصنف: «احتمال كونها ..» على الاحتمال الراجح الذي يسكن إليه الفقيه، لا مجرّد الاحتمال الثبوتي الموهوم، إذ المفروض أنّ العلّامة قدّس سرّه استقرب فساد المعاطاة.

(1) خلافا للمشهور القائلين بترتب الإباحة عليها و لو كانت بيعا فاسدا، و لعلّ الأولى بسلاسة العبارة أن يقال: «بيعا فاسدا في جميع الجهات حتى في عدم إفادتها إباحة التصرف» وجه الأولوية: اتفاق الأكثر على أنّ المعاطاة بيع فاسد لا يؤثر في النقل الملكي، و إنّما الخلاف في أنها فاسدة من جميع الجهات فيكون المأخوذ بالمعاطاة كالمأخوذ غصبا في حرمة التصرف و الضمان، أو أنّها فاسدة من حيث خصوص عدم ترتب الملك عليها، و لا تكون كالغصب، بل يباح التصرف في العينين.

تحرير محلّ النزاع في المعاطاة

(2) اقتصر المصنف قدّس سرّه هنا على ثلاثة من الأقوال، و سيأتي نقل تمامها قبيل استدلاله على المختار من إفادتها الملك. و غرضه الآن تحرير محلّ النزاع بين الفقهاء، إذ بعد ما عرفت في المقام الأوّل من تصوّر وجهين- بحسب قصد المتعاطيين- في المسألة لا بدّ من تعيين مصبّ الأقوال المتضاربة، و أنّ الفقهاء- القائلين بفساد المعاطاة أو بصحتها أو بجواز التصرفات غير المتوقفة على الملك، أو بغير ذلك- هل يكون موضوع حكمهم المعاطاة المقصود بها الملك، أم المقصود بها الإباحة؟ إذ بهذا يصير نزاعهم معنويا، لتوارد الآراء على موضوع واحد.

______________________________

(1): نهاية الأحكام، ج 2، ص 449

ص: 330

أن النزاع في (1) المعاطاة المقصود بها الإباحة أو في المقصود بها التمليك؟ الظاهر من الخاصة و العامة هو المعنى الثاني (2).

و حيث (3) إنّ الحكم بالإباحة بدون الملك قبل التلف و حصوله (4) بعده لا يجامع (5) ظاهرا قصد التمليك من المتعاطيين نزّل (6) المحقّق الكركي الإباحة في كلامهم على الملك الجائز المتزلزل، و أنّه (7) يلزم بذهاب إحدى العينين،

______________________________

و أمّا إذا قال بعضهم بفساد المعاطاة المقصود بها الملك، و قال آخرون بصحة المعاطاة المقصود بها الإباحة كان النزاع بينهم صوريّا لا معنويّا.

(1) الظرف متعلق بمحذوف، يعني: هل يكون محلّ النزاع المعاطاة المقصود بها الملك، أم المقصود بها الإباحة؟

(2) كما سيظهر عند نقل العبارات، فإنّ تفريع المعاطاة على اعتبار الصيغة في البيع أقوى شاهد على كون المراد هي المعاطاة المقصود بها التمليك، و أنّ للبيع فردين قوليّا و فعليّا.

(3) هذا شروع في تقرير النزاع بين المحقّق الثاني و صاحب الجواهر قدّس سرّهما في أنّ معركة الآراء هل هي المعاطاة المقصود بها الإباحة أم المقصود بها التمليك؟ فالمحقق الكركي ذهب الى الثاني مصرّا على حمل «الإباحة» في كلمات القدماء على الملك المتزلزل. و صاحب الجواهر حكم بلزوم إبقاء الإباحة على ظاهرها، و يتعيّن جعل محلّ النزاع هي المعاطاة المقصود بها الإباحة.

(4) بالجرّ معطوف على «الإباحة» أي: الحكم بحصول الملك بعد التلف.

(5) أمّا عدم اجتماع الحكم بالإباحة مع قصد التمليك فلأنّ الإباحة غير مقصودة، فما قصد لم يقع، و ما وقع لم يقصد. و أمّا عدم اجتماع الملك بعد التلف مع قصد التمليك فلأنّ قصد التمليك إذا لم يكن مؤثّرا في الملكية قبل التلف فكيف يؤثّر في الملكية بعده؟ و ليس هذا إلّا من كون التلف مملّكا، و هو كما ترى. و هذا دعا المحقّق الثاني إلى حمل الإباحة في كلامهم على الملك الجائز، و لزومه بالتلف.

(6) جواب «و حيث ان الحكم» و المراد بالتنزيل التوجيه و التصرف في ظاهر الكلام.

(7) معطوف على «الملك» و ضميره و ضمير «يلزم» راجعان الى الملك الجائز.

ص: 331

و حقّق (1) ذلك في شرحه على القواعد و تعليقه على الإرشاد بما لا مزيد عليه.

لكنّ بعض المعاصرين (2) لمّا استبعد هذا الوجه التجأ إلى جعل محل النزاع هي المعاطاة المقصود بها مجرّد الإباحة، و رجّح بقاء الإباحة في كلامهم على ظاهرها المقابل للملك، و نزّل مورد حكم قدماء الأصحاب بالإباحة على هذا الوجه (3)، و طعن على من جعل محلّ النزاع في المعاطاة بقصد التمليك، قائلا: «إنّ القول بالإباحة الخالية عن الملك مع قصد الملك ممّا لا ينسب إلى أصاغر الطلبة فضلا عن أعاظم الأصحاب و كبرائهم» «1» [1].

______________________________

(1) معطوف على «نزّل».

(2) هو صاحب الجواهر قدّس سرّه و وجه استبعاده هو: أنّ إرادة الملك من الإباحة- بعد نفي حصول الملك بالمعاطاة- في غاية البعد، بل غير صحيحة كما سيظهر من جملة من الكلمات المذكورة في المتن، مثل قول الشيخ في الخلاف: «فيتصرف كل منهما فيما أخذه تصرفا مباحا من دون أن يكون ملكه .. إلخ». و نحوه كلام غيره. و لذا أبقى صاحب الجواهر قدّس سرّه «الإباحة» المذكورة في كلامهم على حالها، و نزّل مورد حكم القدماء بالإباحة على المعاطاة المقصود بها الإباحة، لا التمليك.

(3) أي: الإباحة المقابلة للملك، لا المترتبة عليه.

______________________________

[1] لكن في حاشية العلامة الشهيديّ قدّس سرّه: أن صاحب الجواهر قدّس سرّه لم يجعل مورد نزاع العامة و الخاصة المعاطاة المقصود بها الإباحة، فجعل هذه النسبة إليه اشتباه، إذ من الأقوال كون المعاطاة بيعا مفيدا للملك اللازم كما عن المفيد و بعض العامة و لا سبيل إلى ذلك، إذ لا وجه لكون ما قصد به الإباحة لا التمليك بيعا، لأنّ قصد التمليك مقوّم للبيع العرفي. و هذا مما لا يمكن صدوره عن مثل صاحب الجواهر قدّس سرّه.

بل غرضه بيان أنّ مورد حكمهم بإفادة المعاطاة للإباحة ليس عين مورد حكمهم بإفادة المعاطاة للملك، و أنّ الإباحة إنّما يكون موردها المعاطاة التي قصد بها الإباحة،

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 224 و 225

ص: 332

و الإنصاف (1) أنّ ما ارتكبه المحقق الثاني في توجيه الإباحة بالملك المتزلزل بعيد في الغاية عن مساق كلمات الأصحاب مثل الشيخ في المبسوط و الخلاف، و الحلّي

______________________________

(1) بعد ما عرفت من كمال المقابلة بين دعويي المحقق الثاني و صاحب الجواهر قدّس سرّهما شرع المصنف قدّس سرّه في مناقشة كلتا الدعويين بمخالفتهما لظواهر كلمات الأصحاب، و لا ملزم بهذا الحمل و التوجيه، فلا بد من إبقائها على ظاهرها من قصد المتعاطيين التمليك، و ترتب الإباحة عليها تعبدا. و لا تفيد هذه المعاطاة ملكا متزلزلا، كما أنّه ليس محطّ النزاع و مصبّ الأقوال ما إذا قصد المتعاطيان الإباحة كما زعمه صاحب الجواهر أعلى اللّه مقامه.

و الدليل على بطلان التوجيهين المزبورين ما سيأتي من المصنف قدّس سرّه من الأخذ بظاهر كلمات أساطين الفقه، الآبية عن الحمل على الملك المتزلزل و على قصد الإباحة، فانتظر.

______________________________

فالحكم بالإباحة مختص بما إذا قصدت بالمعاطاة. و أمّا إذا قصد بها التمليك فلا يترتب عليها الإباحة، بل إمّا تفيد الملك اللازم أو الجائز أو هي بيع فاسد لا يترتب عليها شي ء.

و الحاصل: أنّ صاحب الجواهر قدّس سرّه ليس ممّن جعل مصبّ الأقوال المعاطاة المقصود بها الإباحة، لعدم صدور ذلك عن عاقل فضلا عن فاضل. فما أفاده المصنف قدّس سرّه من نسبة كون محل النزاع و مصبّ الأقوال الى صاحب الجواهر قدّس سرّه هو المعاطاة المقصود بها الإباحة اشتباه، فالنسبة في غير محلها «1»، هذا.

و لا يبعد ما أفاده العلامة الشهيديّ، فإنّ الجواهر يصرّح بذلك، حيث قال: «و أما دعوى أن النزاع فيما إذا قصد المتعاقدان بفعلهما البيع مثلا على حسب البيع بالصيغة و كان جامعا للشرائط عدا الصيغة، فهل يقع بيعا ذلك أو يكون إباحة، أم يقع بيعا فاسدا؟ كما وقع من المتأخرين، فلا أعرف للثاني منها وجها .. إلخ» «2» الى أن قال: «لا ريب في أن حمل كلام قدماء الأصحاب على ما ذكرناه من أن مرادهم بيان قابلية الأفعال للإباحة لو قصداها، و أنّ

______________________________

(1): هداية الطالب إلى أسرار المكاسب، ص 156 و 157

(2) جواهر الكلام، ج 22، ص 222

ص: 333

في السرائر، و ابن زهرة في الغنية، و الحلبي في الكافي، و العلّامة في التذكرة و غيرها،

______________________________

ذلك مشروع، دون التمليك البيعي مثلا خير من ذلك» «1».

فليس مقصود الجواهر جعل مصبّ جميع الأقوال المعاطاة التي قصد بها الإباحة، لأنّ ذلك مما يمتنع صدوره منه مع علوّ مقامه العلمي، فهذه النسبة اشتباه.

لكن ما أفاده الجواهر مخالف لظاهر كلمات القدماء، فإنّ عباراتهم ظاهرة في كون مصبّ الأقوال المعاطاة المقصود بها التمليك، بقرينة تفريع المعاطاة صحة و فسادا على اعتبار الصيغة في البيع و عدمه، و من المعلوم أنّ شرطية الصيغة إنّما تكون في مورد قصد التمليك، و نفي البيعية إنّما هو لأجل فقدان الشرط، و إلّا كان المتعيّن إسناد هذا النفي إلى عدم قصد التمليك و البيعية، لا إلى فقدان الشرط أعني الصيغة.

و بالجملة: فلا يرد على الجواهر ما أورده المصنف عليه من جعل مورد النزاع و الأقوال المعاطاة المقصود بها الإباحة.

لكن يرد عليه: أنّ جعل مورد قول القدماء بالإباحة المعاطاة المقصود بها الإباحة خلاف ظاهر كلماتهم، لما عرفت من أنّ موضوع الإباحة عندهم على ما هو ظاهر عباراتهم هو المعاطاة المقصود بها التمليك، فلاحظ و تدبّر، و اللّه تعالى هو الهادي.

و قد يوجّه كلام الأصحاب بما أفاده المحقق الخراساني قدّس سرّه من: أنّ المعاطاة المقصود بها الملك تؤثّر فيه بشرط التصرف في العين كتأثير القبض- بنحو الشرط المتأخر- في مملّكيّة عقد الصرف و السّلم. و أمّا الإباحة قبله فمالكية ضمنية و ليست شرعية. و لو سلّم كونها تعبّدية لم يكن لاستبعادها مجال بعد تحقق السيرة التي هي العمدة في الباب «2».

لكنك خبير بأنّ تنزيل التصرّف الملزم في المقام على القبض في بيع الصرف في توقف الملك عليه و إن كان ممكنا، إلّا أنّ مجرد الإمكان ثبوتا غير مجد في الالتزام به، بل لا بدّ من وفاء الدليل بإثباته.

و أمّا جعل الإباحة قبل التصرف مالكية ضمنية- أي في ضمن قصد التمليك-

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 224

(2) حاشية المكاسب، ص 10

ص: 334

بل كلمات بعضهم صريحة في عدم الملك كما ستعرف (1).

إلّا أنّ جعل محل النزاع ما إذا قصد الإباحة دون التمليك (2) أبعد منه (3)، بل لا يكاد يوجد [1]

______________________________

(1) و مع هذه الصراحة كيف تحمل الإباحة على الملك و لو الجائز منه؟

(2) كما صنعه صاحب الجواهر قدّس سرّه حيث إنّه جعل محلّ النزاع و مصبّ الأقوال المعاطاة المقصود بها الإباحة دون التمليك.

(3) أي: أبعد من توجيه الإباحة بالملك المتزلزل، وجه الأبعديّة أمور ثلاثة:

الأوّل: ظهور كلمات العامة و الخاصة في تفريع المعاطاة على اشتراط الصيغة في البيع و عدمه، فمن اشترطها فرّع عليه عدم كفاية المعاطاة. و من المعلوم عدم صحة هذا التفريع نفيا و إثباتا على صورة قصد الإباحة، فلا يصح أن يكون مورد النزاع صورة قصد الإباحة.

الثاني: أنّ مورد نفي الخاصة إفادة المعاطاة للملك عين مورد إثبات العامة لإفادتها الملك، و من المعلوم أنّ مورد الخلاف لا يمكن أن يكون صورة قصد الإباحة، بل لا بدّ أن يكون صورة قصد التمليك، إذ لا يصدر القول بالملك اللازم- مع قصد الإباحة- من عاقل فضلا عن فاضل.

الثالث: أنّ مورد البحث و الخلاف إنّما هو المعاطاة المتداولة بين الناس، و من المعلوم أنّها هي المعاطاة المقصود بها التمليك. و أمّا المعاطاة المقصود بها الإباحة ففي غاية الندرة، بل عامة الناس لا يلتفتون إلى الإباحة حتى يقصدوها، فلو كان محلّ النزاع بينهم المعاطاة المقصود بها الإباحة لزم تعرّضهم للنادر و إهمالهم لحكم ما هو الشائع بينهم و هذا في غاية البعد.

______________________________

فلم يتضح وجهه، لتقابل الإباحة المالكية و التمليك، ضرورة أن قصد التمليك معناه سلب إضافة المال عن نفسه و جعلها متعلقة بالآخذ، و لا يمكن الجمع بينه و بين الإباحة المالكية المنوطة بإبقاء ملكية الرقبة و جواز استردادها منه، لبقاء سلطنته على ماله و عدم انقطاعها عنه، فكيف يجمع في إنشاء واحد بين إبقاء السلطنة و إعدامها؟

[1] بل يوجد، كما في موضع من المبسوط، حيث قال- بعد وجوب تقديم الإيجاب

ص: 335

في كلام أحد منهم ما يقبل الحمل على هذا المعنى (1).

و لننقل أوّلا كلمات جماعة ممّن ظفرنا على كلماتهم ليظهر منه بعد تنزيل الإباحة على الملك المتزلزل كما صنعه المحقق الكركي، و أبعديّة جعل محلّ الكلام في كلمات قدمائنا الأعلام ما لو قصد المتعاطيان مجرّد إباحة التصرفات دون التمليك (2)، فنقول و باللّه التوفيق:

قال في الخلاف: «إذا دفع قطعة إلى البقلي أو الشارب فقال: أعطني بها بقلا أو ماء فأعطاه، فإنّه لا يكون بيعا، و كذلك سائر المحقّرات، و إنّما يكون إباحة له، فيتصرّف كل منهما فيما أخذه تصرّفا مباحا من دون أن يكون ملكه. و فائدة ذلك أنّ البقلي إذا أراد أن يسترجع البقل، أو أراد صاحب القطعة أن يسترجع قطعته

______________________________

(1) أي: كون مورد كلامهم صورة المعاطاة المقصود بها الإباحة.

(2) كما صنعه صاحب الجواهر قدّس سرّه.

______________________________

على القبول، و غيره مما يعتبر في البيع-: «فإذا ثبت هذا فكلّ ما جرى بين الناس إنّما هي استباحات و تراض، من دون أن يكون ذلك بيعا منعقدا. مثل: أن يعطي درهما للخبّاز فيعطيه الخبز، أو قطعة للبقلي فيناوله البقل، و ما أشبه ذلك. و لو أنّ كلّا منهما يرجع فيما أعطاه كان له ذلك، لأنّه ليس بعقد صحيح هو بيع» «1» فإنّ ظاهر الاستباحة هو قصد الإباحة، كما ذكره صاحب الجواهر قدّس سرّه «2».

إلّا أن يقال: ان قوله: «لانه ليس بعقد صحيح هو بيع» قرينة على إرادة البيع الشرعي المتقدم بالصيغة، لا العرفي. و من المعلوم أنّ هذا التعليل إنّما يصح فيما إذا كان المتعاطيان قاصدين للتمليك، و إلّا كان اللازم التعليل بعدم قصد الملك، لأنّ عدم المقتضي أولى من الشرط في استناد العدم إليه.

______________________________

(1): المبسوط في فقه الإماميّة، ج 2، ص 87

(2) جواهر الكلام، ج 22، ص 215

ص: 336

كان لهما ذلك، لأنّ الملك لم يحصل لهما. و به قال الشافعي. و قال أبو حنيفة:

يكون بيعا صحيحا و إن لم يوجد الإيجاب و القبول، و قال ذلك في المحقرات دون غيرها. دليلنا: أنّ العقد حكم شرعي، و لا دلالة في الشرع على وجوده هنا، فيجب أن لا يثبت (1). و أمّا الإباحة (2) بذلك فهو مجمع عليه لا يختلف العلماء فيها» «1» انتهى.

و لا يخفى (3) صراحة هذا الكلام في عدم حصول الملك (4)، و في أنّ محل الخلاف بينه و بين أبي حنيفة ما لو قصد البيع، لا الإباحة المجردة (5)، كما يظهر أيضا من بعض كتب الحنفية، حيث إنّه- بعد تفسير البيع بمبادلة مال بمال- قال: «و ينعقد بالإيجاب و القبول و التعاطي».

______________________________

(1) للاستصحاب.

(2) يعني: أنّ مقتضى عدم ثبوت العقد الشرعي عدم ترتب شي ء من الملك و الإباحة على المعاطاة، لانتفاء السبب المؤثر. و لكن الالتزام بالإباحة إنّما هو لدليل تعبدي، و هو الإجماع على تأثير التعاطي في إباحة التصرفات.

(3) غرضه وفاء عبارة الخلاف بأمرين:

أحدهما: عدم حصول الملك، و به يضعف تأويل المحقق الثاني للإباحة المذكورة في كلام الأصحاب بالملك.

ثانيهما: كون مورد الأقوال خصوص المعاطاة المقصود بها التمليك، و به يضعف ما أفاده الجواهر من جعل مورد النزاع المعاطاة المقصود بها الإباحة.

(4) فلا وجه مع هذه الصراحة لتأويل المحقق الكركي الإباحة بالملك المتزلزل.

(5) فلا يبقى وجه لما نسبه إلى الجواهر من جعل محل النزاع المعاطاة المقصود بها الإباحة لا التمليك.

______________________________

(1): الخلاف، ج 3، ص 41، المسألة: 59

ص: 337

و أيضا: فتمسّكه (1) بأنّ العقد حكم شرعي يدلّ على عدم انتفاء قصد البيعيّة، و إلّا (2) لكان الأولى بل المتعيّن التعليل به (3)، إذ مع انتفاء حقيقة البيع لغة و عرفا لا معنى للتمسّك بتوقيفيّة الأسباب الشرعية كما لا يخفى.

و قال في السرائر- بعد ذكر اعتبار الإيجاب و القبول، و اعتبار تقدم الأوّل على الثاني- ما لفظه: «فإذا دفع قطعة إلى البقليّ أو إلى الشارب فقال: أعطني، فإنّه لا يكون بيعا (4) و لا عقدا (5)، لأنّ الإيجاب و القبول (6) ما حصلا. و كذلك سائر المحقّرات و سائر الأشياء محقّرا كان أو غير محقّر من الثياب و الحيوان، أو غير ذلك، و إنّما يكون إباحة له، فيتصرّف كلّ منهما فيما أخذه تصرفا مباحا، من غير أن يكون ملكه (7)، أو دخل (8) في ملكه. و لكلّ منهما أن يرجع فيما بذله، لأنّ الملك لم يحصل لهما.

______________________________

(1) يعني: و كذا يدلّ تمسّك شيخ الطائفة ب «أن العقد حكم شرعي» على وجود قصد التمليك، و كان المانع عن حصوله انتفاء الصيغة الخاصة.

(2) أي: و إن لم يقصد المتعاطيان التمليك كان اللازم إسناد عدم الملك إلى عدم مقتضية و هو القصد، لا إلى عدم شرطه و هو العقد الذي هو سبب شرعي لترتيب آثار الملك.

(3) أي: بانتفاء قصد البيعية أي بانتفاء المقتضي للملك.

(4) حتى يشمله إطلاق قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ كي يكون التعاطي مفيدا للملك.

(5) حتى يكون كالعقد اللفظي مفيدا للملك بمقتضى عموم قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.

(6) أي: اللفظيّين. و كذا في قول المسالك: «و إن لم يوجد الإيجاب و القبول» فلو كان المفقود قصد التمليك كان التعليل به أولى، لأنّ التعليل بعدم المقتضي أولى منه بعد الشرط.

(7) أي: بنفس التعاطي.

(8) أي: بما يوجب الملك بعده كالتلف، و ذلك بقرينة جملة لم يذكرها المصنف، بعد قوله:

- فيما بذله- و هي: «بشرط إن بقيا، فإن لم يبق أحدهما بحاله كما كان أوّلا فلا خيار لأحدهما»

ص: 338

و ليس ذلك (1) من العقود الفاسدة، لأنّه لو كان عقدا فاسدا لم يصحّ التصرف فيما صار إلى كلّ واحد منهما، و إنّما ذلك (2) على جهة الإباحة» «1» انتهى.

فإنّ تعليله (3) عدم الملك بعدم حصول الإيجاب و القبول يدلّ على أن ليس المفروض ما لو لم يقصد التمليك (4). مع أنّ ذكره في حيّز شروط العقد يدلّ على ما ذكرنا (5). و لا ينافي ذلك (6) قوله: «و ليس هذا من العقود الفاسدة .. إلخ» كما لا يخفى.

______________________________

لدلالة انتفاء الخيار بعد التّلف على دخول العين الأخرى في ملك الآخذ. و عليه فقول ابن إدريس: «أو دخل في ملكه» ليس عطفا تفسيريا لقوله: «و من غير أن يكون ملكه».

(1) يعني: فيكون التعاطي المفيد للإباحة برزخا بين العقد القولي المفيد للملك و بين العقد الفاسد الذي يكون كالغصب في الحرمة و الضمان.

(2) أي: دفع القطعة إلى البقلي أو الشارب إنّما هو على جهة الإباحة، لا البيع حتى يقال:

إنّ البيع الفاسد كسائر العقود الفاسدة لا يجوّز التصرف مطلقا.

(3) غرضه قدّس سرّه أنّ كلام ابن إدريس واف بما هو المقصود من نقل عبارات الأصحاب- من أنّ محطّ الكلام في المعاطاة قصد الملك و ترتب الإباحة التعبّديّة عليها- و ذلك لوجهين:

أحدهما: تعليل عدم إفادتها الملك بانتفاء الشرط الشرعي و هو الصيغة.

ثانيهما: أنّ تفريع المعاطاة- على شرائط عقد البيع- ممّا يدلّ على أنّ قصد المتعاطيين تمليك مالهما مفروغ عنه.

(4) بل يكون مورد الكلام قصد التمليك، و إلّا كان الأولى تعليل عدم الملك بعدم المقتضي لا بفقدان الشرط كما لا يخفى.

(5) و هو قصد التمليك، لما عرفت آنفا من أنّ الاستناد إلى عدم المقتضي أولى من الاستناد إلى عدم الشرط، فهذا التفريع يدلّ على أنّ عدم بيعية المعاطاة إنّما هو لفقدان الإيجاب و القبول، لا لعدم قصد التمليك.

(6) المراد بالمشار إليه عدم حصول الملك بالتعاطي، و حصول الإباحة به في صورة

______________________________

(1): السرائر، ج 2، ص 250

ص: 339

و قال في الغنية- بعد ذكر الإيجاب و القبول في عداد شروط صحة انعقاد البيع كالتراضي و معلوميّة العوضين، و بعد بيان الاحتراز بكلّ من الشروط عن المعاملة الفاقدة له- ما هذا لفظه: «و اعتبرنا حصول الإيجاب و القبول تحرّزا عن القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري و الإيجاب من البائع، بأن يقول: بعنيه بألف، فيقول: بعتك بألف، فإنّه لا ينعقد بذلك، بل لا بدّ أن يقول المشتري بعد ذلك:

اشتريت أو قبلت، حتى ينعقد. و احترازا أيضا (1) عن القول بانعقاده بالمعاطاة، نحو أن يدفع إلى البقلي قطعة و يقول: أعطني بقلا، فيعطيه، فأنّ ذلك ليس ببيع، و إنّما هو إباحة للتصرف. يدل على ما قلناه الإجماع المشار إليه (2). و أيضا (3) فما اعتبرناه مجمع على صحة العقد به، و ليس على صحة ما عداه دليل. و لما ذكرنا (4) نهى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

قصد التمليك منه.

و تقريب وجه المنافاة هو: أنّه في صورة قصد البيع- مع فرض عدم ترتّب الأثر عليه- لا معنى لنفي كونه من العقود الفاسدة، إذ لا معنى للفساد إلّا عدم ترتب الأثر المقصود عليه، هذا.

و وجه عدم المنافاة: أنّ الفساد من حيثية البيع لا ينافي الصحة من الحيثية الأخرى، فلا منافاة بين فساد البيع من حيث البيعية، و صحته من حيث الإباحة. فليس مقصود السرائر نفي الصحة مطلقا، بل الصحة من حيث البيعية، فلا مانع من كونه صحيحا بلحاظ إفادته الإباحة، و هذا معنى ما ذكرناه من كون المعاطاة برزخا بين العقد اللفظي و الغصب.

(1) يعني: كما احترزنا عن انعقاد البيع بالاستدعاء.

(2) لم يصرّح السيد ابن زهرة قدّس سرّه بالإجماع على عدم بيعية المعاطاة حتى يشير إليه، و لعل مراده ما ذكره في أول البيع من شرطية الإيجاب و القبول، بلا نقل خلاف فيه.

(3) يعني: كما تحقّق- الإجماع على إفادة الإباحة، كذلك على نفي بيعية المعاطاة المقصود بها الملك.

(4) أي: و لاعتبار الإيجاب و القبول اللفظيين نهى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن بيع المنابذة.

ص: 340

عن بيع المنابذة و الملامسة و عن بيع الحصاة «1» على التأويل الآخر (1). و معنى ذلك (2) أن يجعل اللمس بشي ء و النبذ له و إلقاء الحصاة بيعا موجبا» «2» انتهى. فإنّ (3) دلالة هذا الكلام على أنّ المفروض قصد المتعاطيين التمليك من وجوه متعددة:

منها: ظهور أدلته الثلاثة (4) في ذلك (5).

و منها: احترازه عن المعاطاة و المعاملة بالاستدعاء بنحو واحد (6).

______________________________

(1) التأويل الأوّل المذكور في كلامه هو: أن يكون بيع الحصاة عبارة عن كون المبيع ما يقع عليه الحصاة، فبطلان البيع إنّما هو لجهالة المبيع، و فقدان شرط الصحة و هو العلم بالعوضين و هذا المعنى أجنبي عما نحن فيه، و المرتبط بالمقام معناه الآخر، و هو: أن يكون بيع الحصاة إيجاب البيع بنفس إلقاء الحصاة، و لذا فرّع بطلانه على اعتبار الإيجاب و القبول.

(2) أي: و معنى التأويل الآخر أن يجعل .. إلخ.

(3) غرضه: استظهار مدّعاه- و هو قصد التمليك بالمعاطاة- من عبارة الغنية.

(4) أوّلها الإجماع الذي معقده عدم حصول البيع بالمعاطاة.

ثانيها: قوله: «و أيضا فما اعتبرناه مجمع على صحة العقد به .. إلخ». و المراد بهذا الكلام هو كون الأصل في ما عداه البطلان، و المعاطاة تكون ممّا عداه.

و ثالثها: قوله: «و لما ذكرنا نهى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم .. إلخ» حيث إنّه لا وجه لبطلان المعاطاة إلّا فقدان اللفظ كإنشاء البيع بالملامسة.

(5) أي: في قصد المتعاطيين التمليك.

(6) حيث فرّع السيّد ابن زهرة- على اشتراط البيع بالإيجاب و القبول- أمرين:

أحدهما: المنع من انعقاده بالاستدعاء من المشتري.

و الآخر: المنع من انعقاده بالمعاطاة. و مقتضى التفريع وجود قصد التمليك في المعاطاة كوجوده في الاستدعاء.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 266، الباب 12 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث: 13

(2) غنية النزوع في الأصول و الفروع، ص 524 (الجوامع الفقهية).

ص: 341

و قال في الكافي- بعد ذكر أنه يشترط في صحة البيع أمور ثمانية- ما لفظه:

«و اشترط الإيجاب و القبول، لخروجه (1) من دونهما (2) عن حكم البيع» الى أن قال:

«فإن اختلّ شرط من هذه لم ينعقد البيع، و لم يستحق التسليم و إن جاز التصرف مع إخلال بعضها، للتراضي (3)، دون عقد البيع، و يصح معه الرجوع» «1» انتهى.

و هو في الظهور قريب (4) من عبارة الغنية.

و قال المحقق قدّس سرّه في الشرائع: «و لا يكفي التقابض من غير لفظ و إن حصل من الأمارات ما دلّ على إرادة البيع» «2» انتهى.

و ذكر (5) كلمة الوصل ليس لتعميم المعاطاة

______________________________

(1) أي: البيع الفاقد للإيجاب و القبول يخرج عن البيع شرعا و إن كان بيعا عرفا، و من المعلوم تقوّم البيع العرفي بقصد التمليك.

(2) أي: من دون الإيجاب و القبول.

(3) متعلق بقوله: «و ان جاز» يعني: و إن جاز التصرف للتراضي لا لأجل عقد البيع، إذ المفروض عدم تحققه بغير الإيجاب و القبول اللفظيين.

ثم لا يخفى أن قوله: «للتراضي» شاهد على أنّ الإباحة الحاصلة بالمعاطاة مالكية لا تعبدية، لفرض رضى كلّ من المتعاطيين بتصرف الآخر في المأخوذ بالمعاطاة. نعم تختص هذه الإباحة المالكية بما إذا علم المتعاطيان باشتراط الصيغة الخاصة في حصول الملكية و عدم انعقاد البيع بالتعاطي.

(4) وجه القرب صراحة قول أبي الصلاح: «لم ينعقد البيع، و لم يستحق التسليم» في نفي البيعية في فرض بناء المتعاطيين على التمليك.

(5) يعني: قوله: «و إن حصل .. إلخ» توضيحه: أنّ حرف الوصل يشير الى الفرد الخفي، و هو في عبارة المحقق قدّس سرّه يحتمل وجهين:

______________________________

(1): الكافي في الفقه لأبي الصلاح الحلبي، ص 352 و 353

(2) شرائع الإسلام، ج 2، ص 13

ص: 342

لما لم يقصد به البيع (1) بل للتنبيه على أنّه لا عبرة بقصد البيع من الفعل.

و قال في التذكرة في حكم الصيغة: «الأشهر عندنا أنّه لا بدّ منها، فلا يكفي التعاطي في الجليل و الحقير، مثل: أعطني بهذا الدينار ثوبا، فيعطيه ما يرضيه أو يقول: خذ هذا الثوب بدينار فيأخذه. و به قال الشافعي مطلقا، لأصالة بقاء الملك، و قصور الأفعال عن الدلالة على المقاصد. و عن بعض الحنفية و ابن شريح: في الجليل. و قال أحمد: ينعقد مطلقا، و نحوه قال مالك، فإنّه قال: ينعقد بما يعتقده الناس بيعا» «1» انتهى.

و دلالته على قصد المتعاطيين للملك لا تخفى من وجوه (2): أدونها جعل مالك موافقا لأحمد في الانعقاد من جهة أنه قال: «ينعقد بما يعتقده الناس بيعا».

______________________________

الأوّل: أن يكون مقصوده عدم كفاية التقابض في حصول الملك، سواء قصد المتعاطيان التمليك كما في البيع القولي، أم قصدا مجرّد إباحة التصرفات و الإذن فيها.

الثاني: أن يكون مقصوده عدم تأثير التقابض في ترتب الملك عليه، سواء قامت قرينة على أنّ المتعاطيين قصدا التمليك- كاستظهار قصدهما من المقاولة التي تسبق التقابض غالبا- أم لم تقم قرينة على قصد التمليك.

و المصنف قدّس سرّه استظهر الاحتمال الثاني، لأنّ المحقق قدّس سرّه فرّع عدم كفاية التقابض على العقد الدال على نقل الملك، فلا بدّ أن يكون المتعاطيان قاصدين للتمليك حتى يتجه التفريع المذكور، إذ لو كانا قاصدين للإباحة كان عدم حصول الملك مستندا إلى عدم المقتضي لا إلى فقد الشرط. و من المعلوم أنّ المبيح يجوز له الرجوع عن إذنه في التصرف، و له استرداد ماله.

(1) كما زعمه صاحب الجواهر قدّس سرّه حيث وجّه عدم ترتب الملك في المعاطاة بعدم قصده، إذ مقصودهما الإباحة لا التمليك.

(2) أحدها: قوله: «فلا يكفي التعاطي .. إلخ» فإنّ تفريعه على اعتبار الصيغة يدل على كون المتعاطيين قاصدين للتمليك، و أنّ الفساد نشأ من فقدان الشرط و هو الصيغة.

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462

ص: 343

و قال الشهيد في قواعده- بعد قوله: قد يقوم السبب الفعلي مقام السبب القولي و ذكر أمثلة لذلك- ما لفظه: «و أمّا المعاطاة (1) في المبايعات فهي تفيد الإباحة لا الملك و إن كان في الحقير عندنا» «1».

و دلالتها على قصد المتعاطيين للملك مما لا يخفى (2).

هذا كله (3) مع أنّ الواقع في أيدي الناس هي المعاطاة بقصد التمليك، و يبعد فرض الفقهاء من العامة و الخاصة الكلام في غير ما هو الشائع بين الناس، مع أنّهم صرّحوا بإرادة المعاملة المتعارفة بين الناس.

______________________________

ثانيها: قوله: «و قصور الأفعال .. إلخ» لظهوره في أنّ مقصود المتعاطيين هو الملك، و عدم الوقوع إنّما هو لقصور الأفعال عن الدلالة على المقاصد و ما في الضمائر.

ثالثها: قوله: «ينعقد بما يعتقده الناس بيعا» إذ لا معنى لوقوع البيع عند الناس بدون قصد التمليك كما لا يخفى.

(1) ليس في النسخة المطبوعة من قواعد الشهيد «قيام السبب الفعلي مقام القولي» لأنّه قدّس سرّه قال: «قد يقوم السبب الفعلي غير المنصوب ابتداء مقام الفعلي المنصوب ابتداء، كتقديم الطعام الى الضيف، فإنّه مغن عن الإذن في الأصح، و تسليم الهدية إلى المهدي إليه و إن لم يحصل القبول القولي في الظاهر من فعل السلف و الخلف، و كذلك صدقة التطوع .. إلخ».

نعم الأمثلة المذكورة قرينة على إرادة السبب القولي من قوله: «السبب الفعلي المنصوب» فراجع كلامه.

(2) يعني: أنّ المعاطاة عند غيرنا تفيد الملك.

(3) يعني: أنّه- مضافا الى كلمات الفقهاء الدالة على أنّ محلّ النزاع هو المعاطاة المقصود بها الملك- يكفي لإثبات المطلب المراجعة إلى سيرة العقلاء في بيوعهم المعاطاتية المبنيّة على التمليك لا على الإذن المالكي مع بقاء العينين على ملكهما كما كان قبل التعاطي.

______________________________

(1): القواعد و الفوائد، ج 1، ص 178، القاعدة: 47

ص: 344

ثم إنّك (1) قد عرفت ظهور أكثر العبارات المتقدمة في عدم حصول الملك، بل صراحة بعضها كالخلاف و السرائر و القواعد.

و مع ذلك (2) كلّه فقد قال المحقق الثاني في جامع المقاصد: «انّهم أرادوا بالإباحة الملك المتزلزل».

فقال: «المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع و إن لم يكن كالعقد في اللزوم، خلافا لظاهر عبارة المفيد (3)، و لا يقول أحد بأنّها بيع فاسد سوى المصنف في النهاية، و قد رجع عنه في كتبه المتأخرة. و قوله تعالى إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ عام (4) إلّا ما أخرجه الدليل. و ما (5) يوجد في عبارة جمع من متأخري الأصحاب- من أنّها تفيد الإباحة و تلزم بذهاب إحدى العينين- يريدون به عدم اللزوم في أوّل الأمر، و بالذهاب يتحقق اللزوم، لامتناع (6) إرادة الإباحة المجرّدة من أصل الملك إذ (7) المقصود للمتعاطيين الملك، فإذا لم يحصل كان بيعا فاسدا،

______________________________

(1) بعد أن استوفى المصنف قدّس سرّه مقصوده من نقل كلمات الفقهاء في تحرير محلّ النزاع، و أنّ مرادهم قصد الملك، و يترتب عليه الإباحة تعبدا، تعرّض لجملة مما أفاده المحقق الكركي قدّس سرّه في وجه حمل الإباحة على الملك الجائز، و سيورد المصنف عليه بإباء عبارات الأصحاب عن هذا الحمل.

(2) أي: مع صراحة بعضها، و ظهور بعضها الآخر.

(3) قد تقدمت عبارة المفيد التي استفيد منها كون المعاطاة بيعا لازما كالبيع القولي.

(4) يعني: أنّ الآية المباركة- التي هي من أدلة إمضاء البيع- قد أخذت التجارة فيها موضوعا للنفوذ و الصحة، و من المعلوم شمول «التجارة» لكلّ من القول و الفعل، و لا تختص بالمعاملة اللفظية.

(5) من هنا أخذ المحقق الكركي في التصرف في «الإباحة» الواردة في كلمات القوم بحملها على الملك الجائز.

(6) تعليل لقوله: «يريدون ..» و المعنى واضح.

(7) تعليل لامتناع إرادة الإباحة العارية عن الملك، و محصله: أنّ قاعدة «تبعية العقود

ص: 345

و لم يجز التصرف و كافة (1) الأصحاب على خلافه. و أيضا (2) فإنّ الإباحة المحضة لا تقتضي الملك أصلا و رأسا، فكيف يتحقق ملك شخص بذهاب مال آخر في يده.

و إنّما (3) الأفعال لمّا لم تكن دلالتها على المراد بالصراحة كالقول- لأنّها تدلّ بالقرائن- منعوا من لزوم العقد بها، فيجوز التّراد ما دام ممكنا، و مع تلف إحدى العينين يمتنع التّراد، فيتحقق اللزوم، و يكفي تلف بعض إحدى العينين، لامتناع التّراد في الباقي، إذ هو موجب لتبعض الصفقة و الضرر» «1» انتهى.

______________________________

للقصود» من القواعد المسلّمة عندهم، و عليه فلمّا كان المتعاطيان قاصدين للتمليك كان اللازم إمّا ترتب الملك على تعاطيهما حتى تتحقق متابعة عقد المعاطاة للقصد، و إمّا فساد أصل المعاملة و كون التصرف في العينين كالغصب في الحرمة و الضمان، و من المعلوم أنّ ترتب الإباحة المحضة ليس مقتضى صحة المعاملة و لا فسادها. فلا مجال للقول بها.

(1) يعني: و الحال أنّ كافة الأصحاب قائلون بجواز التصرف في المأخوذ بالمعاطاة.

و هذا الإجماع كاشف عن حصول الملك.

(2) هذا وجه آخر استدل به المحقق الثاني على ضرورة توجيه الإباحة بالملك المتزلزل.

و محصله: أنّ الفقهاء حكموا بلزوم المعاطاة بتلف إحدى العينين، و يستبعد جدّا أن تصير إحدى العينين ملكا لمن هي في يده بسبب تلف العين الأخرى في يد المتعاطي الآخر. و يزول هذا الاستغراب بالالتزام بحصول الملك الجائز حتى يصير لازما بتلف إحدى العينين، فإنّ ترتب الملك الجائز على العقد ثم انقلابه بالملك اللازم أمر واقع في الشريعة كما في موارد الخيارات.

(3) مقصود المحقق الثاني قدّس سرّه تأييد توجيه الإباحة بالملك الجائز، و محصله: أنّ الفقهاء حكموا بتوقف العقود اللازمة على إنشائها باللفظ، لقصور الأفعال عن تأدية القصود و المرادات، و لأجله منعوا من إفادة المعاطاة للملك اللازم، و حكموا بجواز ترادّ العينين مع الإمكان، و بلزوم الملك إذا تلفت إحدى العينين. و ليس مقصودهم من جواز التّراد حصول

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 4، ص 58

ص: 346

و نحوه المحكيّ عنه في تعليقه على الإرشاد، و زاد فيه: «أن مقصود المتعاطيين إباحة مترتبة على ملك الرقبة كسائر البيوع، فإن حصل مقصودهما ثبت ما قلنا، و إلّا لوجب أن لا تحصل إباحة بالكلية، بل يتعيّن الحكم بالفساد، إذ المقصود غير واقع، فلو وقع غيره لوقع بغير قصد، و هو باطل. و عليه يتفرّع النماء و جواز وطي الجارية، و من منع فقد أغرب» (1) انتهى.

و الذي (2) يقوى في النفس إبقاء ظواهر كلماتهم على حالها،

______________________________

الإباحة المجرّدة عن الملك كما اشتهر نسبة ذلك الى الأصحاب، بل مرادهم الملك الجائز الذي يجوز استرداد المال كما في العقد الخياري.

و النتيجة: أنّ جواز التراد أعم من الإباحة و الملك المتزلزل، فليس قرينة على إرادة الإباحة في كلمات الأصحاب.

(1) هذه العبارة قد نقلها السيد العاملي قدّس سرّه «1». و راجعنا نسخة مخطوطة من تعليق المحقق الكركي على إرشاد العلامة قدّس سرّهما و فيها زيادة على ما في المتن، و هي قوله: «و ممّا يرشد إلى ما قلناه- مضافا الى ما تقدم- عبارات القوم، فإنّ بعضها كالصريح فيما قلناه. قال المصنف في التحرير: فتجويز الفسخ يستلزم الاعتراف بثبوت ملك في الجملة. و كذا تسميتها معاوضة.

و الحكم باللزوم بعد الذهاب يستلزم ثبوت شي ء متزلزل قبله ليتصف باللزوم بعده .. إلخ».

(2) لمّا فرغ المصنف من نقل كلمات المحقق الثاني قدّس سرّهما في شرح القواعد و تعليقه على الإرشاد، شرع في تحقيقها، و المستفاد من أوّل كلام الماتن الى آخره مطالب ثلاثة.

أحدها: الإيراد على المحقق الكركي.

ثانيها: الانتصار له في إيراده على المشهور.

ثالثها: الاعتراض على المحقق الكركي مرّة أخرى بأن استلزام مقالتهم لمخالفة القواعد المسلّمة لا يوجب التصرف في كلامهم بحمل الإباحة على الملك المتزلزل. و سيأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 155

ص: 347

و أنّهم (1) يحكمون بالإباحة المجرّدة عن الملك في المعاطاة (2) مع فرض قصد المتعاطيين التمليك، و أنّ الإباحة لم تحصل بإنشائها ابتداء (3)، بل إنّما حصلت كما اعترف به في المسالك (4) من «استلزام إعطاء كلّ منهما سلعته مسلّطا عليها الإذن (5) في التصرف فيها بوجوه التصرفات».

______________________________

(1) عطف تفسيري لقوله: «حالها» و هذا هو المطلب الأوّل، و محصله: أنّه لا وجه لتنزيل الإباحة- الواردة في عبارات الأصحاب- على الملك المتزلزل كما أفاده المحقق الكركي، لكونه خلاف الظاهر، لا يصار إليه بلا قرينة، و المفروض عدم وجود قرينة على التصرف المزبور.

(2) خلافا للمحقق الثاني، حيث جعل الإباحة بمعنى الملك لئلّا يلزم تخلف العقد عن القصد، و قال: إنّ مرادهم بالإباحة هو الملك المتزلزل.

(3) يعني: كما هو مقتضى توجيه الجواهر، لأنّ المفروض أنّ المتعاطيين قصدا التمليك لا الإباحة.

(4) أي: كما اعترف الشهيد الثاني بحصول الإباحة في المسالك، حيث قال فيه- بعد نفي الملك احتجاجا بأنّ الناقل للملك لا بدّ أن يكون من الأقوال الصريحة في الإنشاء المنصوبة من قبل الشارع- ما لفظه: «و إنما حصلت الإباحة باستلزام إعطاء كلّ منهما الآخر سلعته مسلّطا عليها الإذن في التصرّف فيها بوجوه التصرّفات، فإذا حصل كان الآخر عوضا عمّا قابله، لتراضيهما على ذلك. و قبله يكون كل واحد من العوضين باقيا على ملك مالكه، فيجوز له الرجوع فيه. و لو كانت بيعا قاصرا عن إفادة الملك المترتب عليه لوجب كونها بيعا فاسدا إذ لم يجتمع شرائط صحته، و ما جاء من قبل الشارع أنّ البيع على قسمين، فما حصل فيه الإيجاب و القبول على وجههما لازم، و ما حصل فيه التراضي بدونه جائز، و من ثمّ ذهب العلامة في النهاية إلى كونها بيعا فاسدا، و أنّه لا يجوز لأحدهما التصرف فيما صار إليه أصلا» «1».

(5) بالنصب مفعول قوله: «استلزام» و «مسلّطا» حال من «إعطاء» يعني: أنّ الإعطاء التسليطي يستلزم الإذن في التصرف.

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 3، ص 148 و 149

ص: 348

و لا يرد عليهم (1) عدا ما ذكره المحقق المتقدم في عبارته المتقدمة (2) و حاصله (3): أن المقصود هو الملك، فإذا لم يحصل فلا منشأ لإباحة التصرف،

______________________________

(1) هذا هو المطلب الثاني، و هو تقوية كلام المحقق الثاني في الإيراد على المشهور، الذي دعاه الى حمل الإباحة- في كلامهم- على الملك الجائز.

(2) و هو قول المحقق الكركي: «إذ المقصود للمتعاطيين إنما هو الملك لا الإباحة».

(3) أي: حاصل ما ذكره المحقق الكركي: أنّ المقصود هو الملك، فإذا لم يحصل لزم عدم تأثير المعاطاة أصلا، لكونها عقدا فاسدا، فلا منشأ للإباحة.

ثم إنّ هذا بيان المطلب الثاني المشار إليه آنفا، و هو الانتصار للمحقق الثاني في الاعتراض على المشهور، و هو يتضمن أمرين، أحدهما: المناقشة في ترتب الإباحة على المعاطاة، و ثانيهما: تأييد المناقشة بالاستناد إلى إطلاق كلامهم.

أمّا أصل المناقشة فبيانها: أنّ الإباحة التي ادّعاها المشهور إمّا مالكية و إمّا تعبدية.

فإن أرادوا ترتب الإباحة المالكية على المعاطاة اتّجه عليهم: أنّه لا ريب في انتفائها، إذ مفروض الكلام قصد المتعاطيين للملك لا الإباحة المحضة، و من المعلوم إناطتها بالقصد كالملك.

و إن أرادوا ترتّب الإباحة التعبدية اتجه عليهم أوّلا: أنّ هذه الإباحة حكم شرعي يتوقف إسناده إلى الشارع على حجة شرعية، و المفروض خلوّ كلمات الأصحاب عن الاستناد إلى نصّ يدلّ على ترتب الإباحة على المعاطاة المقصود بها التمليك.

و ثانيا: لا ريب في أنّ قاعدة «العقود تابعة للقصود» من القواعد الفقهية المسلّمة بينهم، و مقتضى هذه التبعية عدم وقوع ما لم يقصده المتعاقدان، و عليه يستبعد جدّا أن يلغي الشارع التمليك الذي قصده المتعاطيان، و أن يحكم بحصول الإباحة المحضة غير المقصودة.

هذا مضافا إلى: منع أصل النسبة، إذ لم يثبت التزام المشهور بترتب الإباحة الشرعية على المعاطاة المقصود بها التمليك، فإنّ التأمل في كلماتهم يعطي ترتب الإباحة المالكية لا التعبدية، لقولهم «برضى المتعاطيين بتصرف كلّ منهما فيما يأخذه من الآخر بالمعاطاة» و من المعلوم

ص: 349

إذ (1) الإباحة إن كانت من المالك فالمفروض أنّه لم يصدر منه إلّا التمليك (2)،

______________________________

بعد- بل منع- حمل الرضا بالتصرف على أنّ الشارع حكم بترتب الإباحة على المعاطاة تعبدا من باب إعمال مولويّته، و لم يمض إذن المالك المبيح بتصرف الآخذ فيما أخذه.

فالنتيجة: أنّه- بعد بطلان إرادة الإباحة المالكية و التعبدية في كلمات المشهور- يتعين الالتزام بترتب الملك الجائز على المعاطاة طبقا لقصد المتعاطيين. و هذا هو الذي استظهره المحقق الثاني من عبارات القوم.

و أما تأييد المناقشة المتقدمة فبيانه: أنّه لا بدّ أن يريد المشهور بقولهم: «المعاطاة تفيد الإباحة» الملك. و ذلك لأنّهم حكموا بجواز تصرف المتعاطيين مطلقا فيما يأخذانه، سواء أ كان ذلك التصرف منوطا بالملك، كالبيع و الوقف و العتق و نحوها، أم لم يكن منوطا به، كجواز أكل المارّة من ثمرة الشجرة الممرور بها، و كجواز الأكل من بيوت من تضمّنته الآية المباركة من الأقارب.

و وجه التأييد واضح، فإنّ تجويز أنحاء التصرفات المخصوصة بالمالك- و من يقوم مقامه- يتوقف على صيرورة المتعاطيين مالكين لما يأخذانه، و إلّا لزم مخالفة حكم الشارع في قوله عليه السّلام: «لا بيع إلّا في ملك» و نحوه. و لو كان مقصودهم من الإباحة ظاهرها- لا الملك- كان عليهم تقييد جواز التصرف بأن يقولوا: «إنّ المعاطاة تفيد إباحة خصوص التصرفات غير المتوقفة على الملك» فإطلاق الجواز كاشف عن إرادة الملك.

و أمّا وجه التعبير بالتأييد فسيأتي.

(1) تعليل لقوله: «فلا منشأ لإباحة التصرف» و هذا وجه بطلان ترتب الإباحة على المعاطاة، و قد أوضحناه بقولنا: «فإن أرادوا ترتب الإباحة المالكية على المعاطاة اتجه عليهم .. إلخ».

(2) و من المعلوم أنّ التمليك مضادّ للإباحة، و ليست الإباحة من مراتب الملك، فإنّ حقيقة الإباحة هي الإذن في التصرف في ملك الغير، و هي غير إباحة التصرف للمالك في ملكه لقاعدة السلطنة.

ص: 350

و إن كانت (1) من الشارع فليس عليها دليل، و لم يشعر كلامهم بالاستناد إلى نصّ (2) في ذلك. مع (3) أنّ إلغاء الشارع للأثر المقصود و ترتيب غيره بعيد جدّا. مع (4) أنّ التأمّل في كلامهم يعطي إرادة الإباحة المالكية لا الشرعية (5).

و يؤيّد (6) إرادة الملك أنّ ظاهر إطلاقهم إباحة التصرف شمولها للتصرفات التي لا تصحّ إلّا من المالك كالوطي و العتق

______________________________

(1) معطوف على قوله: «إن كانت من المالك» و هذا إبطال لترتب الإباحة التعبدية على المعاطاة، و قد أوضحناه بقولنا: «و إن أرادوا ترتب الإباحة التعبدية اتجه عليهم أوّلا .. إلخ».

(2) بل استند بعضهم- كالخلاف و الغنية- إلى الإجماع، فراجع.

(3) هذا إشارة إلى الإشكال الثاني على المشهور إن أرادوا بالإباحة التعبدية، و قد تقدم بيانه بقولنا: «و ثانيا: لا ريب في أن قاعدة العقود تابعة للقصود .. إلخ».

(4) مقصوده قدّس سرّه منع صحة ما نسب الى المشهور من ترتب الإباحة التعبدية على المعاطاة، و من أنّ مرادهم من الإباحة هي المالكية. و قد عرفته بقولنا: «مضافا إلى منع أصل النسبة، إذ لم يثبت التزام المشهور .. إلخ».

(5) بل كلام المسالك- المتقدم آنفا- كالصريح في كون الإباحة مالكية، لقوله: «استلزام إعطاء كل منهما الآخر سلعته مسلّطا عليها الإذن في التصرف فيها».

(6) بعد أن أبطل المصنف قدّس سرّه ترتب الإباحة- بقسميها- على المعاطاة و أنّه يتعيّن إرادة ما استظهره المحقق الثاني قدّس سرّه من الملك الجائز من قولهم: «المعاطاة تفيد الإباحة» أراد تأييده بالاستناد إلى كلماتهم الظاهرة في جواز كلّ تصرف في المأخوذ بالمعاطاة سواء أتوقف على الملك أم لا، و من المعلوم أنّ المعاطاة لو لم تؤثّر في الملك لم يكن للمتعاطيين إباحة مثل البيع و العتق فيما وصل إليهما، فإنّ توقّف البيع على كون العوضين مملوكين- أو كالمملوكين- حكم شرعي ليس بيد المتعاطيين جوازه و منعه.

و أمّا وجه التعبير بالتأييد دون الدلالة- مع أنّ الإطلاق أصل لفظي يصح الاحتجاج به على المشهور- فهو: أنّ الأخذ بالإطلاق منوط بعدم معارض أقوى منه. و لعلّ صراحة

ص: 351

و البيع لنفسه (1)، و التزامهم (2) حصول الملك مقارنا لهذه التصرفات- كما إذا وقعت

______________________________

كلمة «الإباحة» في ما يقابل الملك مانعة عن انعقاد الإطلاق في قولهم: «المعاطاة تفيد الإباحة» فيكون نتيجة تقديم أقوائية الإباحة- في الإذن المجرّد- على إطلاق التصرف هي: اختصاص إباحة التصرف بما لا يتوقف على الملك، و قد صرّح بهذا التقييد الشهيد في محكي حواشيه على القواعد، حيث منع دفع المال- المأخوذ بالمعاطاة- بعنوان الخمس و الزكاة المتوقفين على الملك.

(1) تقييد البيع لنفسه لأجل أنّ المتعاطي يجوز له أن يبيع المأخوذ بالمعاطاة بقصد مالكه، فجواز البيع للمالك لا يصير مؤيّدا لإرادة الملك من «الإباحة» في كلام المشهور، و إنّما يحصل التأييد إذا استفيد من إطلاق كلام المشهور إباحة أن يبيع المباح له لنفسه بأن يصير الثمن ملكا له لا للمبيح.

(2) هذا دفع دخل مقدر، و حاصل الدخل: أنّ ما ذكره المصنف بقوله: «و يؤيد إرادة الملك» ممنوع، و ذلك لتوقف التأييد المزبور على أنّ المشهور أرادوا «بإباحة أنحاء التصرفات» حصول الملك للمتعاطيين بمجرّد التقابض، إذ يتعيّن حينئذ حمل الإباحة على الملك، ضرورة توقف بعض التصرفات على الملك.

و لكن يمكن منع هذه الاستفادة، بأن يلتزم المشهور بالملكية الآنيّة، و بيانه: أن المشهور أرادوا بالإباحة الإذن المقابل للملك، و تجويز البيع و العتق و الوقف ليس قرينة على إرادة الملك من حين التعاطي، فما دامت العين باقية على حالها فهي ملك المبيح، و إذا أراد المباح له بيعها أو وقفها دخلت العين في ملكه آنا مّا، فيكون ذلك التصرف المتوقف على الملك واقعا في ملكه، لا في ملك المبيح.

و عليه فلا وجه لاستفادة مالكية المتعاطيين- من حين التعاطي- من إطلاق قول المشهور بإباحة التصرفات. بل لا بد من إبقاء الإباحة على ظاهرها، و الالتزام بالملكية الآنيّة التي ليست هي عديمة النظير في الشريعة المقدسة. و ذلك كتصرف ذي الخيار، فإنّهم حكموا بأنّ البائع إذا جعل لنفسه الخيار صارت العين ملكا جائزا للمشتري، فإن أمضى البائع العقد

ص: 352

هذه التصرفات من ذي الخيار أو من الواهب الذي يجوز له الرجوع- بعيد (1).

و سيجي ء (2) ما ذكره بعض. الأساطين من أنّ هذا القول (3) مستلزم لتأسيس قواعد جديدة (4).

______________________________

صارت ملكا لازما للمشتري، و إن فسخ بقوله: «فسخت» عادت الى ملكه كما كانت قبل البيع، و إن فسخ بالفعل بأن باعها من شخص آخر فقد قالوا بصحة هذا البيع، و يكون فسخا فعليا للبيع الأوّل، و تصير العين ملكا له آنا مّا قبل بيعه الثاني حتى يقع البيع في ملكه.

و كذلك حكم الفقهاء بالملكية الآنيّة في رجوع الواهب عن هبته. و ليكن المقام كذلك.

و عليه فلا مجال للتأييد المتقدم.

(1) خبر قوله: «و التزامهم» و دفع للدخل المزبور. و حاصل الدفع: أنّ حمل إطلاق كلام المشهور على بقاء العينين على ملك المتعاطيين- و دخول كل منهما في ملك الآخر آنا مّا قبل التصرف المتوقف على الملك- بعيد جدّا، لعدم كون الملكية الآنيّة معهودة منهم في باب المعاطاة. و مجرّد التزامهم بها في فسخ ذي الخيار و رجوع الواهب لا يوجب الالتزام بها في المقام، فإنّ الجمع بين الأدلة يقتضي القول بالملكية الآنيّة في المسألتين السابقتين، و هما: فسخ ذي الخيار و رجوع الواهب.

بخلاف المعاطاة- بناء على المشهور من إفادتها للإباحة المحضة- إذ كان عليهم تقييد التصرفات الجائزة بما لم يتوقف على الملك، لا إبقاء «جواز التصرف» على إطلاقه حتى يتكلف لمشروعيّته بالملكيّة الآنيّة بلا دليل عليها. و عليه فالتأييد المتقدم في محله.

(2) مقصوده قدّس سرّه إقامة الشاهد على بعد حمل كلام المشهور على الملكية الآنيّة، و هو ما أفاده الفقيه كاشف الغطاء قدّس سرّه- و سيأتي كلامه مفصّلا- من أن القول بترتّب الإباحة المحضة على المعاطاة ثم تبدّلها بالملك يستلزم تأسيس قواعد جديدة. و ليس البعد منحصرا في الالتزام بدخول العين آنا مّا في ملك المباح له قبل تصرفه فيها، بل هناك محاذير أخرى سيأتي بيانها ان شاء اللّه تعالى.

(3) أي: القول المنسوب إلى المشهور، و هو إفادة المعاطاة للإباحة مع قصد الملك.

(4) يعني: فعلى هذا لا بدّ من إرادة الملك من الإباحة المذكورة في كلماتهم، لا ظاهرها من

ص: 353

لكنّ الإنصاف (1) أنّ القول بالتزامهم لهذه الأمور أهون من توجيه

______________________________

الإباحة المجرّدة عن الملك، لاستلزام ذلك تأسيس قواعد جديدة.

(1) هذا شروع في المطلب الثالث مما أفاده المصنف حول كلام المحقق الثاني قدّس سرّهما و محصّله: المناقشة في حمل الإباحة- في كلام المشهور- على الملك المتزلزل، و ذلك لوجهين:

أحدهما: راجع إلى منع الكبرى، و هو أصل الاستبعاد عن ترتيب آثار الملك على المأخوذ بالمعاطاة المفيدة للإباحة المحضة.

و ثانيهما: راجع الى منع الصغرى، و هو عدم جواز التصرفات المتوقفة على الملك في المأخوذ بالمعاطاة.

و توضيح الوجه الأوّل: أنّ حكم المشهور بإباحة التصرفات المتوقفة على الملك مع كون المعاطاة مفيدة للإباحة عندهم و إن لم يكن مستأنسا، إلّا أنّ في رفع اليد عن الإباحة بحملها على الملك الجائز- كما صنعه المحقق الكركي- محذورا أكثر، و ذلك لإمكان توجيه رأي المشهور بما ينطبق على القواعد الفقهية و لا تبقى غرابة في البين.

و بيانه: أنّ الدليل على الحكم الشرعي لا ينحصر في الآية و الرواية الواضحتين دلالة، بل الجمع بين الأدلة المختلفة لو اقتضى حكما شرعيا كان حجة أيضا بنظر الفقيه.

و على هذا يقال في تأييد كلام المشهور: إنّ هنا طائفتين من الأدلة.

إحداهما: استصحاب عدم مالكية المتعاطيين لما انتقل إليهما، بعد قصور الأدلّة الاجتهادية عن إفادة حكم المعاطاة.

ثانيتهما: الإجماع المدّعى في كلامهم على مشروعية أنحاء التصرفات في المأخوذ بالمعاطاة سواء توقفت على الملك أم لا. و من المعلوم أنّ الجمع بين هذين الدليلين يقتضي الالتزام بالإباحة العارية عن الملك ما لم يتصرف المباح له فيما أخذه تصرّفا متوقفا على الملك كالوقف و العتق، فإذا تصرّف فيه بهذا التصرف الخاص دخل في ملكه آنا ما.

و أما قاعدة «تبعية العقود للقصود» فهي قاعدة شرعية قابلة للتخصيص كما سيأتي تفصيله.

و عليه فليس في كلام المشهور ما يكون خارقا للقواعد الفقهية المسلّمة، و الأحكام

ص: 354

كلامهم (1)، فإنّ هذه الأمور لا استبعاد في التزامها إذا اقتضى الأصل عدم الملكية، و لم يساعد عليها (2) دليل معتبر، و اقتضى (3) الدليل (4) صحّة التصرفات المذكورة.

______________________________

الضرورية.

و توضيح الوجه الثاني- و هو المنع الصغرويّ-: أنّ جواز التصرفات المتوقفة على الملك ليس مجمعا عليه حتى يتجه الاستبعاد، بل هو من المسائل الخلافية، و ذلك لما يستفاد من تضاعيف كلماتهم، فشيخ الطائفة قدّس سرّه منع من مباشرة الجارية المهداة بالمعاطاة. و الشهيد منع من أداء الزكاة و الخمس بالمأخوذ بالمعاطاة، لتوقّفهما على الملك، و المعاطاة مفيدة للإباحة دون الملك.

و قد تحصّل: أنّ توجيه المحقق الكركي للإباحة بالملك المتزلزل- لأجل تلك الاستبعادات- غير سديد، فالأولى إبقاء ظواهر كلماتهم على حالها، و التخلّص عن الاستبعادات بوجه آخر.

________________________________________

جزائرى، سيد محمد جعفر مروج، هدى الطالب في شرح المكاسب، 7 جلد، مؤسسة دار الكتاب، قم - ايران، اول، 1416 ه ق

هدى الطالب في شرح المكاسب؛ ج 1، ص: 355

(1) بإرادة الملك من الإباحة كما صنعه المحقق الكركي قدّس سرّه و ذلك لأنّ الأمور المبعّدة المذكورة الموجبة لتأسيس قواعد جديدة لا استبعاد في التزامها إذا اقتضى الدليل صحة تلك التصرفات، مع أنّ صحّتها ليست مسلّمة عند الكل كما عرفت آنفا.

(2) أي: لم يقم على الملكية دليل معتبر حتى يكون حاكما على أصالة عدم حدوث الملك بالتعاطي.

(3) معطوف على قوله: «اقتضى» و مقصوده الجمع بين الاستصحاب و ما دلّ على نفوذ التصرف المتوقف على الملك في المأخوذ بالمعاطاة، و محصّله: الالتزام بالملكية الآنيّة أي دخول العين في ملك الآخذ في الآن المقارن للتصرف المتوقف على الملك كالبيع لنفسه و العتق و نحوهما. و قد تقدم توضيح هذا الوجه بقولنا: «و توضيح الوجه الأوّل: أن حكم المشهور ..

إلخ».

(4) الكلام كلّه في وجود هذا الدليل، و سيأتي تفصيله فيما يتعلق باستبعادات الفقيه كاشف الغطاء قدّس سرّه.

ص: 355

مع (1) أنّ المحكىّ عن حواشي الشهيد على القواعد: المنع عمّا يتوقف على الملك كإخراجه في خمس أو زكاة، و كوطي الجارية «1».

و ممّا يشهد (2) على نفي البعد عمّا ذكرنا من إرادتهم الإباحة المجرّدة مع قصد المتعاطيين التمليك: أنّه قد صرّح الشيخ في المبسوط «2» و الحلّي في السرائر كظاهر العلّامة في القواعد بعدم حصول الملك بإهداء الهديّة (3) بدون الإيجاب و القبول (4) و لو من الرّسول (5)،

______________________________

(1) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الإشكال على المحقق الكركي. و محصله: منع الصغرى، و به لا يبقى موضوع للاستبعاد أصلا، لفرض عدم جواز التصرف المتوقف على الملك في المأخوذ بالمعاطاة.

(2) وجه الشهادة: أنّه لو كان التعاطي مفيدا للملك المتزلزل لم يكن وجه لاستثناء وطي الجارية، لأنّه يسوغ بالملك و لو كان متزلزلا، فاستثناؤه يشهد بأنّ المعاطاة- المقصود بها التمليك- لا تسوّغ إلّا إباحة التصرف، دون التصرفات المتوقفة على الملك كالوطي، و مع هذا الاستثناء كيف تحمل الإباحة على الملك المتزلزل كما أصرّ عليه المحقق الثاني قدّس سرّه؟

(3) مطلقا سواء كانت جارية أم شيئا آخر.

(4) قال الشيخ: «و إذا وصلت الهدية الى المهدي إليه لم يملكها بالوصول و لم تلزم، و يكون ذلك إباحة من المهدي، حتى أنّه لو أهدي إليه جارية لم يجز أن يستمتع بها، لأنّ الإباحة لا تدخل في الاستمتاع. و من أراد الهدية و لزومها و انتقال الملك فيها الى المهدي إليه الغائب فليوكّل رسوله في عقد الهدية معه .. إلخ». و نحوه كلام ابن إدريس، فلاحظ.

(5) هذا إشارة إلى الفرد الخفي من الهدية المفيدة للملك. إذ تارة يكون العاقد هو الواهب الأصيل، و أخرى رسوله بالوكالة من مرسل الهدية، فلو لم يقترن إقباض الهدية بالعقد- سواء من المالك أم من وكيله- لم يفد إلّا إباحة التصرف، و لا تشرع التصرفات المنوطة بالملك فيه.

______________________________

(1): الحاكي هو الفقيه العاملي في مفتاح الكرامة، ج 4، ص 158

(2) المبسوط في فقه الإمامية، ج 3، ص 31، السرائر، ج 3، ص 177، قواعد الاحكام، ص 110

ص: 356

نعم (1) يفيد ذلك إباحة التصرف، لكن الشيخ استثنى وطي الجارية (2).

ثم (3) إنّ المعروف بين المتأخرين أنّ من قال بالإباحة المجرّدة في المعاطاة قال بأنّها ليست بيعا حقيقة كما هو ظاهر بعض العبائر المتقدمة (4) و معقد إجماع الغنية (5)

______________________________

(1) استدراك على قوله: «بعدم حصول الملك» و مقصوده أنّ الهبة المعاطاتية ليست عقدا فاسدا بالكليّة حتى لا يباح التصرف غير المنوط بالملك فيها، بل تؤثر في إباحة ما لا يتوقف على الملك.

(2) ففرق- بنظر شيخ الطائفة- بين الاستمتاع و بين سائر التصرفات، فتباح هذه دون الاستمتاع، لتوقفه على الملك، و لم يحصل حسب الفرض.

(3) غرضه قدّس سرّه من هذا الكلام الى الشروع في الأقوال: التنبيه على أمرين:

أحدهما: أنّهم اختلفوا فيما يراد من قول القدماء: «المعاطاة تفيد الإباحة» فاستظهر منه جماعة عدم كونها بيعا حقيقة، إذ البيع عقد مملّك، فترتب الإباحة المحضة على المعاطاة كاشف عن عدم كونها بيعا حقيقة، فيصح سلب الاسم عنها.

و استظهر منه المحقق الثاني قدّس سرّه الملك المتزلزل- كما تقدم كلامه مشروحا- فالمعاطاة بيع قطعا، و لا يقدح جواز الملك في بيعيّتها كما هو حال البيوع الخيارية، حيث إنه لا يصير الملك لازما إلّا بانقضاء أمد الخيار.

و لا يخفى على المتأمّل تقابل هذين الاستظهارين و تهافتهما.

ثانيهما: أنّ كلا الاستظهارين المذكورين ممنوع، فلا وجه لدعوى نفي بيعية المعاطاة المفيدة للإباحة، كما لا وجه لدعوى كون المعاطاة بيعا جائزا. و سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

(4) مثل قول الشيخ في الخلاف: «فإنّه لا يكون بيعا» و قول ابن إدريس في السرائر:

«فإنّه لا يكون بيعا و لا عقدا» و قول السيد ابن زهرة في الغنية: «فإنّ ذلك ليس ببيع، و إنّما هو اباحة للتصرف».

(5) حيث قال: «يدلّ على ما قلناه: الإجماع المشار إليه» و المشار إليه في كلامه هو نفي بيعية المعاطاة.

ص: 357

و ما أبعد ما بينه (1) و بين توجيه المحقق الثاني من إرادة نفي اللزوم.

و كلاهما (2) خلاف الظاهر.

و يدفع الثاني (3) تصريح بعضهم بأنّ شرط لزوم البيع منحصر في

______________________________

(1) يعني: ما بين نفي البيع حقيقة و بين توجيه المحقق الثاني من إرادة نفي اللزوم، و هذا هو الأمر الأوّل الذي ذكرناه.

(2) يعني: أنّ نفي بيعية المعاطاة، و توجيه الإباحة بالملك الجائز خلاف الظاهر.

أمّا كون الأوّل خلاف الظاهر فلأنّ المعاطاة بيع عرفي يقصد بها التمليك.

و أمّا الثاني فلأنّ الإباحة المحضة و الملك المتزلزل مغايرتان ماهية، فلا معنى لتنزيلها عليه، لكونه تصرفا في ظاهر الإباحة بلا شاهد.

(3) هذا شروع في إبطال كلا الاستظهارين سواء أراد المشهور من قولهم: «المعاطاة تفيد الإباحة» نفي البيعية أم الملك المتزلزل أم أرادوا معنى آخر.

و إرادة الملك الجائز من الإباحة و إن ناقش فيها المصنف قدّس سرّه بقوله: «لكن الإنصاف ..

إلخ» إلّا أن ما أفاده هنا وجه آخر للمناقشة فيه، و محصّله وجهان:

الأوّل: أنّ بعض الفقهاء صرّح بكون البيع عقدا لازما من غير جهة الخيارات، فتزلزله منوط بوجود خيار فيه، فلو لم يكن فيه خيار فلا بد من لزومه. فلو اقتضت المعاطاة ملكا جائزا كان ذلك مخالفا لطبع البيع المبني على اللزوم، و انحصار سبب جوازه في ثبوت خيار فيه. و عليه فصدق البيع على معاملة مساوق للزومه، و لا معنى لصدق البيع على المعاطاة مع الالتزام بإفادتها ملكا جائزا.

الثاني: أنّ جماعة صرّحوا بكون الإيجاب و القبول اللفظيين من شرائط صحة انعقاد البيع، لا من شرائط لزومه، و معنى هذا الاشتراط عدم بيعية المعاملة العارية عن الإيجاب و القبول، فكيف التزم المحقق الثاني قدّس سرّه بصدق البيع على المعاطاة حقيقة، و بإفادتها للملك الجائز.

ثم إنّه لا يخفى الفرق بين ما أورده المصنف على المحقق الثاني هنا. بقوله: «و يرد الثاني» و بين ما تقدم في قوله: «لكن الإنصاف أن القول بالتزامهم بهذه الأمور أهون ..» و ذلك لأنّ

ص: 358

مسقطات الخيار (1) فكلّ بيع عنده لازم من غير جهة الخيارات. و تصريح (2) غير واحد (3) بأنّ الإيجاب و القبول من شرائط صحة انعقاد البيع بالصيغة (4).

و أمّا الأوّل (5) فإن قلنا بأنّ البيع عند المتشرعة حقيقة في الصحيح

______________________________

مقصود المصنف هناك إبطال ما صنعه المحقق الكركي من حمل عبارات القوم على الملك المتزلزل. و مقصوده هنا إبطال أصل كون البيع مفيدا للملك الجائز، و هذا مع الغضّ عن أنّ حمل الإباحة على الملك المتزلزل ممكن أولا. و عليه فليس في كلمات المصنف هنا تكرار.

(1) كان الأولى بسلاسة العبارة أن يقال: «بأن شرط جواز البيع منحصر في الخيار».

(2) معطوف على «تصريح» و هذا إشارة إلى الوجه الثاني المانع عن الالتزام بإفادة المعاطاة ملكا جائزا. و المصرّح بتوقف صحّة البيع على العقد جمع، منهم القاضي حيث قال:

«و تفتقر صحته- أي صحة عقد البيع- الى شروط ثمانية .. و قول يقتضي إيجابا من البائع و قبولا من المبتاع» «1».

(3) كما تقدم في عبارتي الغنية و الكافي و غيرهما من جعل الإيجاب و القبول من شرائط الصحّة، لا من شرائط اللزوم.

(4) هذه اللفظة مخلّة بالمقصود، إذ الصيغة هي الإيجاب و القبول اللفظيان، فلا معنى لشرطية الصيغة للإيجاب و القبول.

و يمكن توجيهه: بأنّ البيع يقع بالصيغة تارة و بالفعل أخرى. فالبيع القولي يعتبر فيه الإيجاب و القبول، بخلاف الفعلي، إذ لا يعتبر فيه ذلك.

لكنه كما ترى، إذ «البيع بالصيغة» ليس إلّا البيع بالإيجاب و القبول.

نعم لو كانت العبارة: «انعقاد البيع باللفظ أو بالقول» أمكن توجيهها، و ذلك لأعمية مطلق اللفظ من الصيغة، فأمكن اعتبار لفظ خاص في البيع القولي، و أمّا البيع بالصيغة فهو بيع بلفظ خاص، فلا يعقل التقييد بالصيغة. فلاحظ.

(5) و هو نفي بيعيّة المعاطاة الذي صرّح به جماعة كالشيخ في الخلاف، و الحلّي

______________________________

(1): الكافي في الفقه، ص 352

ص: 359

- و لو (1) بناء على ما قدّمناه في آخر تعريف البيع من أنّ البيع في العرف اسم للمؤثّر منه في النقل، فإن كان في نظر الشارع أو المتشرعة من حيث إنّهم متشرعة و متديّنون بالشرع- صحيحا مؤثرا في الانتقال كان بيعا حقيقيّا، و إلّا كان (2) صوريّا، نظير بيع الهازل في نظر العرف «1»- فيصح (3) على ذلك نفي البيعيّة على وجه

______________________________

في السرائر، و ابن زهرة في الغنية. و مقصوده المناقشة في قولهم: «المعاطاة ليست بيعا» فإنّهم إن أرادوا نفي البيع العرفي كان واضح المنع، لما تقدم من أنّ المعاطاة المقصود بها التمليك بيع عرفي، و إنّما الكلام في صحته شرعا و عدمها.

و إن أرادوا نفي الصحة الشرعية أمكن توجيه النفي بأن يكون على نحو الحقيقة، و ذلك بما تقدم في التمسك بالإطلاقات من أنّ ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح المؤثّر عند العرف فالبيع موضوع لما يؤثّر في الملكيّة بنظر العرف، فإن كان مؤثّرا فيها بنظر الشارع بل المتشرّعة أيضا كان بيعا حقيقة. و إلّا كان البيع العرفيّ بيعا صوريّا لا حقيقيّا، كما أنّ بيع الهازل ليس عند العرف بيعا حقيقة.

و على هذا فبناء على جعل الإيجاب و القبول شرط صحة البيع، أو جعل البيع نفس العقد الدال على النقل- كما تقدم في كلام جماعة كالمحقق و ابن حمزة و العلامة في المختلف- كان البيع الصحيح هو المنشأ باللفظ، و صحّ سلب البيع عن المعاطاة حقيقة.

(1) هذا بيان للفرد الخفيّ، إذ الصحة إمّا أن تكون بنظر الشارع، كما كان ظاهر كلام الشهيدين من وضع ألفاظ المعاملات للصحيح، و عليه فعدم كون المعاطاة بيعا حقيقيا واضح.

حيث إنّ المشروط عدم عند عدم شرطه. و إمّا أن تكون بنظر العرف أي الإنشاء المستجمع لشرائط التأثير عندهم، فإذا كان مؤثّرا عرفا لا شرعا- لخلوّه عن الإيجاب و القبول اللفظيين- صحّ سلب العنوان عنه حقيقة، لعدم كونه مؤثّرا في النقل شرعا، و يعدّه العرف كإنشاء الهازل مما لا يصدق عليه البيع حقيقة.

(2) أي: و إن لم يكن البيع مؤثّرا في النقل كان بيعا صوريا.

(3) جواب قوله: «فان قلنا» و جملة الشرط و الجزاء جواب قوله: «و أما الأوّل»

______________________________

(1): تقدّم كلامه في ص 303، فراجع.

ص: 360

الحقيقة في كلام كل من اعتبر في صحته الصيغة أو فسّره بالعقد، لأنّهم (1) في مقام تعريف البيع بصدد بيان ما هو المؤثّر في النقل في نظر الشارع.

[تفصيل الأقوال في حكم المعاطاة]

إذا عرفت ما ذكرنا (2) فالأقوال في المعاطاة على ما يساعده ظواهر كلماتهم ستة (3):

اللزوم مطلقا (4) كما عن ظاهر المفيد (5)، و يكفي في وجود القائل به

______________________________

و لم يذكر المصنف قدّس سرّه عدلا لقوله: «فان قلنا» اتّكالا على وضوحه، و تقديره: أنه إذا لم نقل بالوضع للصحيح لا شرعا و لا عرفا- بل قلنا بالوضع للأعمّ منه و من الفاسد- فلا ريب في كون المعاطاة بيعا و إن كانت فاسدة.

(1) تعليل قوله: «فيصح» يعني: بناء على كلا القولين- من جعل الصيغة من شرائط الصحة أو تفسير البيع بالعقد المؤثّر- يتجه نفي بيعية المعاطاة، لفرض عدم تأثيرها في النقل و الانتقال، و إنّما تفيد إباحة التصرف مع بقاء العينين على ملك المتعاطيين المبيحين.

هذا تمام الكلام في تحرير محلّ النزاع و مصبّ الأقوال في المعاطاة.

و قد تحصّل: أنّ محطّ البحث هو المعاطاة المقصود بها الملك، لا الإباحة، و لم يتم توجيه المحقق الكركي من حملها على الملك الجائز، و لا توجيه صاحب الجواهر قدّس سرّهما من جعل مقصود المشهور القائلين بترتب الإباحة عليها ما لو قصدها المتعاطيان و لم يقصدا الملك.

تفصيل الأقوال في حكم المعاطاة

(2) هذا شروع في بيان الأقوال في حكم المعاطاة مقدّمة للاستدلال على القول المختار.

(3) بل سبعة، و القول السابع منسوب الى كاشف الغطاء قدّس سرّه في شرحه على القواعد من:

أنّ المعاطاة معاوضة مستقلة مفيدة للملك.

(4) أي: سواء كان الدال على التراضي لفظا أم غيره.

(5) قد تقدّمت عبارة المفيد، و مرّ الكلام في هذا الاستظهار. و كيف كان فقد اختاره المحقق الأردبيلي قدّس سرّه جازما بأنّ المعاطاة بيع صحيح مفيد للملك، قال: «فاعلم: أنّ الذي

ص: 361

قول العلامة قدّس سرّه في التذكرة: «الأشهر (1) عندنا أنّه لا بدّ من الصيغة» «1».

و اللزوم بشرط كون الدال على التراضي (2) أو المعاملة (3) لفظا (4). حكي عن

______________________________

يظهر أنّه لا يحتاج في انعقاد عقد البيع المملّك الناقل للملك من البائع إلى المشتري و بالعكس- إلى الصيغة المعيّنة كما هو المشهور. بل يكفي كل ما يدلّ على قصد ذلك مع الإقباض، و هذا المذهب منسوب الى الشيخ المفيد من القدماء، و إلى بعض معاصري الشهيد الثاني رحمه اللّه، و هو المفهوم عرفا من البيع .. إلخ» «2» و وافقه المحدث الكاشاني. ثم استدل المحقق الأردبيلي بأربعة عشر دليلا على مدّعاه، فراجع.

نعم في عدّ بعض معاصري الشهيد من أصحاب هذا القول تأمل، فإنّ الشهيد الثاني حكى عنه اعتبار مطلق اللفظ الدال على التراضي، لا خصوص الإيجاب و القبول اللفظيين.

(1) هذا التعبير يدلّ على وجود القول المعتدّ به بحيث يكون مشهورا، و إلّا كان المناسب التعبير عنه بالمشهور بدل «الأشهر» و سيأتي من المصنف في خاتمة الاستدلال اختيار هذا القول. و مستنده العمومات، كقوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ بعد وضوح كون المعاطاة المقصود بها التمليك بيعا عرفا.

(2) هذا هو القول الثاني، و الظاهر أنّ أوّل من قال به بعض مشايخ الشهيد الثاني، و لعلّ وجهه: إناطة العقود اللازمة بإنشائها بلفظ، فبدونه لا يصير لازما، لعدم دليل عليه.

(3) أي: المقاولة التي هي قبل إنشاء المعاملة، و إلّا فمفروض الكلام وقوع الإنشاء بالتعاطي.

(4) بأن كان اللفظ الفاقد للشرائط كالعربية و الماضوية- بناء على اعتبارهما- آلة إنشاء البيع.

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462

(2) مجمع الفائدة و البرهان، ج 8، ص 139 الى 142

ص: 362

بعض (1) معاصري الشهيد الثاني، و بعض (2) متأخّري المحدثين.

لكن في عدّ هذا من الأقوال في المعاطاة تأمّل (3).

و الملك الغير اللازم، ذهب إليه المحقق الثاني (4)، و نسبه الى كلّ من قال بالإباحة، و في النسبة ما عرفت (5).

______________________________

(1) و هو السيد حسن ابن السيد جعفر الكركي، كما حكاه السيد العاملي «1» عن حاشية المسالك، قال الشهيد الثاني- بعد نقل خلاف المفيد مع المشهور- ما لفظه: «و قد كان بعض مشايخنا المعاصرين يذهب الى ذلك أيضا، لكن يشترط في الدال كونه لفظا، و إطلاق كلام المفيد أعم منه .. إلخ» «2»

(2) كصاحب الحدائق، و نسبه الى جمع من علماء البحرين، فراجع «3».

(3) هذه العبارة حاشية من المصنف قدّس سرّه على قوله: «و اللزوم بشرط كون الدال .. إلخ» و لعل وجه التأمل هو: أنّه مع شرطيّة مطلق اللفظ يكون إنشاء البيع بالصيغة لا بالفعل، غاية الأمر ذهب هذا القائل الى عدم اعتبار لفظ خاص.

إلّا أن يكون المراد اعتبار اللفظ في مقام المساومة، لا إنشاء المعاملة، بل لا بد من إنشاء البيع باللفظ، فتأمل.

(4) هذا هو القول الثالث، ذهب اليه المحقق الكركي قدّس سرّه مصرّا عليه، حتى أوّل كلمات القائلين بالإباحة به، و تقدم نصّ كلامه في المتن. و استدل عليه بالسيرة المستمرة على معاملتهم مع المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك و بآيتي التجارة عن تراض و حلّ البيع.

(5) من الاشكال، و أنّ حمل «الإباحة» في كلمات القدماء على «الملك الجائز» بعيد غايته، بل خلاف تصريح بعضهم بعدم الملك.

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 156

(2) مسالك الأفهام، ج 3، ص 147

(3) الحدائق الناضرة، ج 18، ص 350 و 355

ص: 363

و عدم الملك مع إباحة جميع التصرفات (1) حتى المتوقفة على الملك، كما هو ظاهر عبائر كثير، بل ذكر في المسالك: «أنّ كل من قال بالإباحة يسوّغ جميع التصرفات» (2).

و إباحة (3) ما لا يتوقف على الملك، و هو الظاهر من الكلام المتقدم عن حواشي الشهيد على القواعد (4)، و هو (5) المناسب لما حكيناه عن الشيخ في إهداء الجارية من دون إيجاب و قبول.

______________________________

(1) هذا هو القول الرابع، و مستنده وجوه:

الأوّل: استقرار السيرة من الخاص و العام و النسوان و الصبيان على التصرف في المأخوذ بالمعاطاة و يؤيّده الإجماع المنقول عن الغنية و الروضة و المسالك المعتضد بالشهرة المحققة، إذ لم يقل أحد- ممّن عدا المفيد رحمه اللّه- بإفادة المعاطاة للملك الى زمان المحقق الكركي.

الثاني: الأخبار الدالة على حصر المحلّل و المحرّم في الكلام، فإنّها و إن اقتضت نفي الحلّ عند انتفاء الكلام، لكنها تحمل على نفي لزوم المعاملة عند انتفائه، جمعا بينها و بين ما دلّ على حصول الإباحة بالتراضي.

الثالث: استصحاب بقاء ملك المالك الأوّل مع فرض الشك في انتقال كل مال عن صاحبه إلى غيره.

(2) عبارة المسالك هذه: «لأنّ من أجاز المعاطاة سوّغ أنواع التصرفات» «1».

(3) هذا هو القول الخامس، و وجهه: أنّ الإباحة غير الملك، فدليل الإباحة- من الإجماع المنقول عن الغنية أو السيرة- لا يقتضي التصرفات المنوطة بالملك كالبيع و العتق و الوطي.

(4) حيث ذكر المصنف: أنّ المحكيّ عن حواشي الشهيد على القواعد: المنع عمّا يتوقف على الملك كإخراجه في خمس أو زكاة، و كوطي الجارية.

(5) يعني: و ما ذكره الشهيد- من إباحة التصرفات غير المتوقفة على الملك- هو

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 3، ص 149

ص: 364

و القول (1) بعدم إباحة التصرف مطلقا (2).

______________________________

المناسب لما حكيناه عن الشيخ في إهداء الجارية، حيث قلنا: «و صرّح الشيخ في المبسوط: بأنّ الجارية لا تملك بالهدية العارية عن الإيجاب و القبول و لا يحلّ وطيها» فإنّ المنع عن وطي الجارية المهداة بالهديّة المعاطاتية ينطبق على هذا القول أي: عدم الملك مع إباحة التصرف غير المتوقف على الملك.

(1) هذا هو القول السادس أي: كون المعاطاة بيعا فاسدا، و مستنده وجهان:

أحدهما: أنّ ما قصد لم يقع، لأنّ المقصود و هو الملك لم يقع، و الإباحة غير مقصودة، فلا وجه لحصولها، فالمرجع عمومات حرمة التصرف في مال الغير بدون رضاه.

ثانيهما: ما ورد من أنّه «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» قال في الوافي: «الكلام هو إيجاب البيع، و إنّما يحلّل نفيا و يحرّم إثباتا» «1».

(2) يعني: حتّى التصرفات غير المتوقفة على الملك، فتكون المعاطاة على هذا كالعقود الفاسدة التي ادّعي الإجماع على كون المقبوض بها كالمغصوب.

و هنا قول سابع ذكره السيد قدّس سرّه في حاشيته، و هو: «أنّ المعاطاة معاملة مستقلة مفيدة للملكية، و ليست بيعا و إن كانت في مقامه، و نسب هذا القول الى الشيخ الكبير كاشف الغطاء» «2».

و في مفتاح الكرامة عن حواشي الشهيد على قواعد العلّامة: «أنّها معاوضة برأسها إمّا لازمة و إما جائزة» و قال بعد أسطر: «حيث يجعلونها معاوضة برأسها» «3».

و الفرق بين هذا القول و بين ما عن المحقق الثاني- من كون المعاطاة بيعا جائزا- هو: أنّ المعاطاة بناء على قول الشيخ كاشف الغطاء ليست بيعا، فلا تجري عليها أحكام البيع، بخلافها على قول المحقق الثاني، لأنّ المعاطاة بناء عليه بيع جائز، فتجري عليها أحكام البيع.

______________________________

(1): الوافي، ج 3، ص 95، كتاب المعايش و المكاسب و المعاملات، الطبعة الحجرية.

(2) حاشية المكاسب، ص 68.

(3) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 158، 159.

ص: 365

نسب إلى ظاهر النهاية، لكن ثبت رجوعه عنه في غيرها (1).

و المشهور (2) بين علمائنا عدم ثبوت الملك (3) بالمعاطاة و إن قصد المتعاطيان بها التمليك، بل لم نجد قائلا به إلى زمان المحقق الثاني الذي قال به، و لم يقتصر على ذلك (4) حتى نسبه (5) الى الأصحاب (6).

______________________________

و مستند هذا القول السابع- مع عدم كونها بيعا- هو آية التجارة عن تراض، لوضوح صدق «التجارة» على المعاطاة و إن لم يصدق عليها البيع، لتوقف صدق البيع على الإيجاب و القبول اللفظيين. و هذا القول يدلّ على كون النزاع في المعاطاة صغرويا، لأنّه يكشف عن عدم صغرويتها للبيع، و عدم فرديّتها له، فيكون مساوقا لنفي بيعيّتها في العبائر المتقدمة.

(1) يعني: ثبت رجوع العلامة قدّس سرّه عن هذا القول في غير «نهاية الأحكام» من كتبه، و سيأتي كلامه في التحرير- الموهم لموافقته للمحقّق الكركي في الالتزام بالملك الجائز.

ثم إنّ النزاع في المعاطاة على هذه الأقوال صغرويّ على بعضها، و كبرويّ على بعضها الآخر، فإنّ من نفى بيعيّتها نظر إلى عدم صغرويّتها لمفهوم البيع بناء على كون النفي حقيقيّا.

و من قال ببيعيّتها و نفى صحّتها أو لزومها و أثبت جوازها كان نزاعه كبرويّا، لتسليمه بيعية المعاطاة، و إنّما يناقش في الكبرى، و هي: أنّ كل بيع لازم.

(2) بعد أن أشار إلى الأقوال و أربابها أراد التنبيه على ما هو المشهور منها و ما ليس كذلك، و ما تفرّد به بعض دون آخر.

(3) لما عرفت من أنّ حمل الإباحة في كلامهم على الملك الجائز- كما صنعه المحقق الكركي قدّس سرّه- بعيد جدّا.

(4) أي: على إفادة المعاطاة للملك.

(5) هذا الضمير و ضميرا «به» في الموضعين راجعة إلى الملك.

(6) حيث قال في جامع المقاصد و تعليقه على إرشاد العلامة: «المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع و إن لم تكن كالعقد في اللزوم» «1».

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 4، ص 58.

ص: 366

نعم (1) ربما يوهمه ظاهر عبارة التحرير، حيث قال فيه [1]: «الأقوى (2) أنّ المعاطاة غير لازمة، بل لكل منهما فسخ المعاوضة ما دامت العين باقية، فإن تلفت

______________________________

(1) هذا استدارك على قوله: «بل لم نجد قائلا به» يعني: أنّ كلام العلامة في التحرير يوهم ترتّب الملك على المعاطاة، فلعلّ الأولى نسبة إفادة الملك الجائز إلى العلامة المتقدم عصرا على المحقق الكركي قدّس سرّهما.

(2) فإنّ ظاهره وجود القول القوي بالملك اللازم. توضيحه: أن تعبير العلّامة ب «الأقوى» يحتمل أمرين، قال بكلّ منهما بعض.

الأوّل: أن يكون القول القوي- المقابل للأقوى- هو الإباحة المحضة التي هي القول المشهور المتداول على الألسن إلى زمان العلّامة.

الثاني: أن يكون القول القوي: الملك اللازم المنسوب الى المفيد.

و على كلا الوجهين يتمّ استشهاد المصنف قدّس سرّه بعبارة التحرير، لأنّ محطّ نظر شيخنا الأعظم هو قول العلامة: «ان المعاطاة غير لازمة» سواء أ كان مقصود العلامة من القول الآخر الملك اللازم المنسوب إلى المفيد، أم الإباحة التي ذهب إليها المشهور.

______________________________

[1] لا يقال: إنّ إيهام عبارة التحرير لإفادة المعاطاة للملك مبني على كون المراد بالمعاطاة في كلامه ما قصد به التمليك، و هو غير معلوم، لاحتمال أن يراد بها ما قصد به الإباحة، و لا ينافيه التعبير باللزوم و الفسخ، لأنّ هذا التعبير إنّما هو بلحاظ كون المعاطاة عقدا قد أنشئ بالفعل، كما أنّ التعبير بالمعاوضة إنّما هو لأجل كون الإباحة بإزاء الإباحة كما هو مقتضى باب المفاعلة، فالمعاوضة ثابتة، غاية الأمر أنّها بين الفعلين لا المالين، فلا حاجة معه الى ما تكلف به المصنف قدّس سرّه.

فإنه يقال: لا يراد هذا الاحتمال، لمكان قوله بعد ذلك: «بخلاف البيع الفاسد» إذ لا مجال لتوهم كون المعاطاة المقصود بها الإباحة كالبيع الفاسد حتى يدفع بذلك، و هذا بخلاف المقصود بها التمليك، فتدبر.

ص: 367

لزمت» «1» انتهى. و لذا (1) نسب ذلك إليه في المسالك. لكن (2) قوله بعد ذلك: «و لا يحرم على كل منهما الانتفاع بما قبضه، بخلاف البيع الفاسد» ظاهر في أنّ مراده مجرد

______________________________

(1) يعني: و لأجل توهم هذا الظهور قال الشهيد الثاني: «و عبارة العلّامة في التحرير كالصريحة في إفادة هذا المعنى، لأنّه قال: الأقوى عندي: أن المعاطاة غير لازمة .. إلخ» «2».

و ما أبعد ما بين تعبير المصنف بالإيهام و دعوى الشهيد الثاني التصريح.

(2) غرضه دفع قوله: «نعم ربما يوهمه ظاهر عبارة التحرير» و محصل ما أفاده تضعيفا لتوهم الظهور المزبور هو: أنّ منشأ توهم الظهور في الملك في عبارة التحرير أمور:

أحدها: قوله: «الأقوى».

ثانيها: قوله: «بل لكل منهما فسخ المعاوضة» لظهوره في كون المعاطاة من المعاوضات، كما أنّ الفسخ مخصوص بالعقود، و في موارد الإباحة استرداد للعين.

ثالثها: قوله: «فان تلفت لزمت» فإنّ جميع ذلك ظاهر في حصول الملك المتزلزل و لزومه بالتلف.

و المصنف قدّس سرّه ناقش في الجميع. أما في الأوّل فبأنّ المراد بقوله: «الأقوى» هو في مقابل قول المفيد باللزوم.

و أمّا في الثاني فبأن إطلاق المعاوضة عليها إنّما هو باعتبار قصد المتعاطيين. و كذا إطلاق الفسخ على الرد، لا باعتبار تحقق عقد مملّك.

و أمّا الثالث فبأنّ إطلاق اللزوم بالتلف إنّما هو بهذا الاعتبار أيضا.

و على فرض ظهور هذه الجمل في الملك يكون قوله: «و لا يحرم على كل منهما الانتفاع ..

إلخ» أظهر من تلك الجمل في عدم حصول الملك، إذ مع فرض حصوله لا يبقى مجال لقوله:

«و لا يحرم» لأنّه لا ينبغي الارتياب في جواز التصرف في الملك، فمع حصول الملك بالمعاطاة لا يبقى شك في حليّة التصرف.

______________________________

(1): تحرير الأحكام، ج 1، ص 164.

(2) مسالك الأفهام، ج 3، ص 148.

ص: 368

الانتفاع، إذ لا معنى [1] لهذه (1) العبارة بعد الحكم بالملك.

و أمّا قوله: «و الأقوى .. الى آخره» فهو إشارة إلى خلاف المفيد رحمه اللّه و العامة القائلين باللزوم [2].

و إطلاق (2) المعاوضة عليها باعتبار ما قصده المتعاطيان. و إطلاق الفسخ على الرّد بهذا الاعتبار (3)

______________________________

(1) أي: لقول العلامة: «و لا يحرم على كل منهما الانتفاع» إذ لو كانت المعاطاة مفيدة للملك، لم يكن معنى لحكم العلامة بعدم حرمة الانتفاع، لكون جواز انتفاع كلّ واحد منهما- فيما انتقل إليه- من آثار الملك، فلا حاجة الى التنبيه عليه، فصون كلام العلامة عن توضيح الواضح يقتضي إرادة الإباحة من الملك، لما بين الإباحة و جواز الانتفاع من الملائمة و المناسبة.

(2) معطوف على: «و أما قوله» و هو إشارة إلى منع المنشأ الثاني لظهور عبارة التحرير في الملك، و هذا هو إطلاق المعاوضة على المعاطاة، و إطلاق الفسخ على استرداد العينين ما دامتا باقيتين.

(3) أي: باعتبار قصد المتعاطيين.

______________________________

[1] بل لا معنى لهذه العبارة بعد الحكم بالإباحة، لأنّه تكرار لما يستفاد من العبارة السابقة على القول بالإباحة، بخلافه على القول بالملك، لأنّه بناء على هذا يكون من قبيل الحكم بعد حصول موضوعه، فكأنّه قال: «الأقوى: أن المعاطاة تفيد الملك غير اللازم، فلا يحرم على كل منهما الانتفاع بما قبضه، ليتحقق الملك. بخلاف البيع الفاسد، فإنّه يحرم الانتفاع فيه، لعدم تحقق الملك، فلا مسوّغ للتصرف فيه».

و عليه فما استظهره المسالك من عبارة التحرير و نسبه إليه من كون المعاطاة مفيدة للملك الجائز لا يخلو من جودة.

[2] لا يخفى أنّ المنسوب الى شيخنا المفيد و بعض العامة هو الملك اللازم، فالمقابلة تقتضي أن يكون المراد بقوله: «الأقوى أنّ المعاطاة غير لازمة» أنّ المعاطاة تفيد الملك الجائز، فاستظهار المسالك في محله، و اللّه العالم.

ص: 369

أيضا (1)، و كذا اللزوم (2).

و يؤيّد (3) ما ذكرنا- بل يدل عليه-: أنّ الظاهر من عبارة التحرير في باب الهبة توقفها على الإيجاب و القبول، ثم قال: «و هل يستغنى عن الإيجاب و القبول في هدية الأطعمة؟ الأقرب عدمه (4)، نعم (5) يباح التصرف بشاهد الحال» «1» انتهى.

و صرّح بذلك (6) أيضا في الهدية «2»، فإذا لم يقل (7) في الهبة بصحة المعاطاة فكيف يقول بها في البيع؟

______________________________

(1) أي: كصدق المعاوضة على المعاطاة باعتبار قصدهما.

(2) أي: إطلاق لزوم المعاطاة باعتبار القصد. و هذا منع المنشأ الثالث.

(3) أي: يؤيّد إرادة مجرّد الانتفاع- لا الملكية المتزلزلة- في عبارة التحرير ما أفاده العلامة في هديّة التحرير من توقف مملّكيّتها على الإيجاب و القبول اللفظيين، و إلّا أفادت إباحة محضة.

و التعبير بالتأييد لعلّه لاحتمال وجود تعبّد في البين فارق بين باب المعاطاة في البيع و الهدية. و الإضراب عنه إلى الدلالة ناظر الى منع التعبد، و كونهما من باب واحد.

(4) أي: عدم الاستغناء عن الإيجاب و القبول.

(5) الشاهد في تصريح العلامة قدّس سرّه بحصول إباحة التصرف في الهدية الفعلية، و لو كانت بالإيجاب و القبول اللفظيين لأفادت الملك.

(6) أي: بعدم استغناء الهدية عن الإيجاب و القبول اللفظيين، و بحصول مجرّد إباحة التصرف، كعدم استغناء الهبة عنهما.

(7) يعني: أنّ عدم التزام العلّامة قدّس سرّه بالمعاطاة في عقد الهبة يستلزم إنكار المعاطاة في البيع بالأولوية القطعية، إذ البيع عقد لازم، و الهبة جائزة، فتوقف العقد الجائز على إنشائه باللفظ يستلزم أولوية توقف العقد اللازم عليه.

______________________________

(1): تحرير الاحكام، ج 1، ص 281.

(2) المصدر، ص 284.

ص: 370

و ذهب (1) جماعة تبعا للمحقق الثاني إلى حصول الملك (2).

[المقام الثالث: الاستدلال على القول المختار]

[الدليل الأوّل: السيرة]

و لا يخلو عن قوّة، للسيرة (3) المستمرة على معاملة المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك في التصرف فيه بالعتق و البيع و الوطي و الإيصاء و توريثه، و غير ذلك من آثار الملك.

______________________________

(1) معطوف على قوله: «و المشهور بين علمائنا عدم ثبوت الملك بالمعاطاة» و هذا إشارة إلى القول الثاني- المعتنى به- في حكم المعاطاة، بعد القول المشهور النافي للملك.

(2) هذا مختاره قدّس سرّه من بين الأقوال الستة المتقدمة. و العبارة ظاهرة بدوا في الميل الى مختار المحقق الكركي قدّس سرّه من الملك المتزلزل. لكن مقصود المصنف قدّس سرّه- بقرينة أدلة مملّكيّة المعاطاة و ما سيأتي من أدلة اللزوم- هو الاستدلال على أصل إفادة المعاطاة للملك، مع الغض عن جوازه و لزومه، بقرينة قوله: «الى حصول الملك» و لم يقل «الملك المتزلزل» و ليس مقصوده تقوية خصوص الملك الجائز الذي أسّسه المحقق الكركي حتى يتوهم منافاة قوله:

«و لا يخلو عن قوة» لما سيأتي من الأدلة الثمانية على كون المعاطاة كالبيع بالصيغة مفيدة للملك اللازم.

ثم إن هذا شروع في المقام الثالث المتكفل لحكم المعاطاة بحسب الأدلّة الاجتهادية، و تعرّض المصنف لوجوه خمسة استدلّ بها القوم، و ناقش في بعضها. أوّلها: السيرة، ثانيها:

آية حلّ البيع، ثالثها: آية التجارة عن تراض. رابعها: حديث السلطنة، خامسها: الإجماع المركّب.

المقام الثالث: الاستدلال على القول المختار الدليل الأوّل: السيرة

(3) هذا هو الدليل الأوّل على مملّكية المعاطاة، و قد استدل به المحقق الثاني في ما تقدم من عبارتي جامع المقاصد و تعليق الإرشاد، و تبعه غيره ممّن قال بالملك.

ثم إنّ السيرة أمّا عقلائية و إمّا متشرعية، و المراد بالأولى بناء العقلاء- بما هو عقلاء- مع الغضّ عن تديّنهم بشريعة، كسيرتهم على الأخذ بظاهر الكلام في مقام الاحتجاج، و بالعمل

ص: 371

..........

______________________________

بإخبار الثقة و نحوهما. و المراد بالثانية عمل المتشرّعة بأمر و التزامهم به بما أنّهم متديّنون.

و الفارق بين السيرتين: أنّ اعتبار الاولى يتوقف على إمضاء الشارع لها و لو بعدم الردع، دون الثانية، لكونها إجماعا عمليا متلقاة من الشارع.

و الظاهر أنّ مقصود المصنف قدّس سرّه من السيرة هنا هي السيرة العقلائية دون المتشرعية، و ذلك لما سيأتي منه في التشكيك في حجيتها بقوله: «فهي كسائر سيرهم الناشئة عن المسامحة و قلّة المبالاة في الدين ..» و من المعلوم أنّ سيرة المتشرعة لا سبيل للطعن فيها بمثله، و إلّا لم تكن سيرة المتشرعة.

و كيف كان فالاستدلال بالسيرة العقلائية على ترتيب آثار الملك على المعاطاة منوط بأمور ثلاثة لا بدّ من إحرازها:

الأوّل: أصل ثبوت بناء العقلاء على معاملة الملك مع المأخوذ بالمعاطاة.

الثاني: استمرار عملهم من زماننا إلى عهد الشارع و عدم كونه من السير الحادثة.

الثالث: عدم ردع الشارع الأقدس عنه حتى يستكشف إمضاؤه له و تقريره إيّاه.

و هذه الأمور الثلاثة محققة في المقام.

أمّا الأمر الأوّل، فلوضوح استقرار بناء العقلاء على ترتيب آثار الملك على المعاطاة، لتصرفهم في المأخوذ بها بما يكون من شؤون سلطنة المالك خاصة، من جواز بيعه و عتقه و الإيصاء به الى الغير، و توريثه، و وقفه، و التصدّق به، و نحو ذلك من التصرفات التي يتوقف نفوذها على صدورها من المالك أو من يقوم مقامه، و لا تكون مشروعة من المباح له.

و لو كانت المعاطاة مؤثّرة في الإباحة المحضة دون الملك لكانت التصرفات المذكورة غير نافذة شرعا، و أوجب ذلك اختلال نظام المعيشة. و إنكار هذه السيرة مكابرة، فإنّها ثابتة من العقلاء بما هم عقلاء، و من المتشرعة بما هم متشرّعون. فدعوى كون المتيقن من هذه السيرة هو إباحة التصرفات لا الملكية مجازفة.

و أمّا الأمر الثاني: فلأنّ هذه السيرة ليست حادثة في الزمن المتأخر عن عصر الشارع،

ص: 372

[الدليل الثاني: آية حلّ البيع]

و يدلّ عليه (1)

______________________________

بل مقتضى تشابه الأزمنة و عدم نقل خلافها في التواريخ ثبوت هذه السيرة في عصر الشارع.

و قد أشار المصنف الى هذه الجهة بقوله: «المستمرة».

و أمّا الأمر الثالث فلأنه يكفي في إحراز الإمضاء- بعد ثبوت الاستمرار- عدم ثبوت الردع الشرعي، و لو لم تكن سيرة العقلاء مرضيّة له لزمه الردع عنها.

فان قلت: يكفي في الردع إطلاق دليل الاستصحاب القاضي بلزوم الجري العملي على اليقين- أو المتيقّن- السابق، و عدم نقضه بالشك، فأصالة عدم حدوث الملك بالمعاطاة حجة شرعية صالحة للردع. و كذا الإجماع المتقدم- في عبارة شيخ الطائفة و ابنا زهرة و إدريس- على كون المعاطاة مبيحة لا مملّكة. و عليه فالسيرة هنا ساقطة عن الاعتبار.

قلت: لا مجال للردع بإطلاق دليل الاستصحاب مع كون السيرة دليلا اجتهاديا حاكما على الاستصحاب، بعد البناء على حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكلّية، و أما الإجماع المنقول ففيه عدم حجيّته في نفسه خصوصا مع احتمال مدركيّته.

الدليل الثاني: آية حلّ البيع

(1) أي: و يدلّ على حصول الملك بالمعاطاة عموم قوله تعالى. و هذا هو الدليل الثاني على كون المعاطاة- كالبيع بالصيغة- في إفادة الملكية. و المذكور في المتن في تقريب دلالة الآية المباركة على المدّعى وجوه ثلاثة:

أوّلها: دلالة الآية بالمطابقة على حلية أنحاء التصرفات- تكليفا في المأخوذ بالمعاطاة سواء توقفت على الملك أم لا، و مدلولها الالتزامي الشرعي هو صحة المعاطاة أي: كونها مؤثّرة في النقل.

و الشاهد على ابتناء هذا الوجه على الملازمة الشرعية بين حلية البيع و صحته هو ما سيأتي منه قدّس سرّه في مقام المناقشة فيه بقوله: «و إباحة هذه التصرفات إنّما تستلزم الملك بالملازمة الشرعية الحاصلة في سائر المقامات .. إلخ».

ص: 373

..........

______________________________

ثانيها: دلالتها بالمطابقة على الصحة، لأنّ تعلق الحلية بالأمر الاعتباري يناسب إرادة الوضع لا التكليف، و معه لا حاجة الى تقدير الأفعال الخارجية التي هي متعلقات الأحكام التكليفية.

ثالثها: دلالة الآية بالملازمة العرفية- لا الشرعية- على صحة المعاطاة، و إفادتها للملك من أوّل الأمر. و سيأتي بيان الأخيرين عند تعرّض الماتن لهما.

و أما الأوّل فتقريبه: أنّه مبني على أمور مسلّمة:

أحدها: أنّ المعاطاة المقصود بها الملك بيع عرفا.

ثانيها: أنّ مقتضى إلقاء الخطابات الى العرف كون موضوع الأدلة الشرعية هو البيع الصحيح- بنظرهم، لا الصحيح- شرعا، لما تقدم قبيل بحث المعاطاة من أن المستعمل فيه- من كلمة البيع في الأدلة- هو النقل المؤثّر عند العرف.

ثالثها: أنّ الموجب لتقدير «التصرفات» و إرادة الحلية التكليفية من الآية المباركة- مع تعلق الحلّ بنفس البيع- أحد أمور أربعة:

الأول: ظهور «الحلّ» في التكليفي، خصوصا مع تأكّد هذا الظهور الذاتي بالعرضي و هو تحريم الربا، و عدم تعلق الحلّ التكليفي بالبيع بمعنى إنشاء التمليك، إذ لا يتوهم فيه غير الحلّ حتى يحتاج إلى البيان.

الثاني: ورود الآية مورد الامتنان، و من المعلوم عدم الامتنان في حلّيّة مجرّد الإنشاء، بل لا بدّ في حصول الامتنان من تحليل التصرفات المترتبة على البيع.

الثالث: كون البيع بنفسه غير اختياري، لترتبه على سببه بلا اختيار، فلا بدّ حينئذ من تقدير ما يصحّ تعلق الحلّ التكليفي به و هو التصرفات.

الرابع: أنّ الملكية اعتبار ذهني لا يتعلق بها الجعل، بل تنتزع من التكليف المجعول بالاستقلال.

و بهذا يتم الاستدلال، حيث إنّ إباحة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة تستلزم شرعا

ص: 374

أيضا (1) عموم (2) قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ «1» حيث إنّه (3) يدلّ على حليّة جميع التصرفات المترتبة على البيع [1].

______________________________

صحّتها، إذ لو لم تكن مؤثّرة في النقل لم يحلّ التصرف فيه أصلا.

هذا تقريب الاستدلال، و سيأتي مناقشة المصنف قدّس سرّه فيه من عدم اقتضائه أزيد من الملك الآنيّ، و أمّا حصول الملكية من أوّل الأمر فلا.

(1) أي: كما دلّت السيرة العقلائية الممضاة شرعا على صحة المعاطاة و تأثيرها في الملك من حين التعاطي.

(2) المراد به الشمول الصادق على كل من العموم الوضعي و الإطلاق الحكمي، لوضوح أنّ شمول «البيع» للقولي و الفعلي ليس بالوضع، بل بمعونة مقدمات الحكمة.

(3) يعني: حيث إنّ عموم الآية يدلّ على حلّيّة جميع التصرفات، و الوجه في هذه الدلالة بعد تقدير متعلق الحلّ أي- التصرف- هو العموم الناشي من حذف المتعلق، فتثبت حلّية كل تصرف في المأخوذ بالمعاطاة، سواء توقف على الملك أم لا.

______________________________

[1] الحق دلالة الآية على المدّعى بلا حاجة الى تقدير أصلا. و توضيحه يتوقف على تقديم أمور:

الأوّل: أنّ التصرفات المترتبة على البيع مختلفة بحسب الحكم، مثلا: إذا باع زيد فرسه بدنانير معيّنة، فركوبه حلال تكليفا، و بيعه و وقفه و هبته و صلحه و نحوها حلال وضعا، و إنفاقه واجب تكليفا، و حمل ما يحرم أكله و شربه عليه كالميتة و الخمر حرام تكليفا.

و الحاصل: أنّ التصرفات المترتبة على البيع مختلفة سنخا و حكما، لكون بعضها خارجيّا كالركوب و الأكل و الشرب و اللّبس، و هذا القسم محكوم بالحلّ التكليفي أو الحرمة أو الوجوب كذلك، كحرمة حمل المحرّمات من الخمر و لحم الخنزير و نحوهما عليه، و كوجوب الإنفاق عليه. و بعضها اعتباريا كالبيع و الصلح و الهبة و الوقف و العتق و نحوها،

______________________________

(1): البقرة، الآية 275.

ص: 375

______________________________

و هذا القسم محكوم بالحكم الوضعي كما لا يخفى.

الثاني: أنّ القيود الناشئة عن الحكم يمتنع دخلها في المتعلق، و من تلك القيود الصحة، فإنّها ناشئة عن الدليل، فدخلها في موضوع الدليل غير صحيح كما هو واضح.

الثالث: أن الحل في اللغة- كما عن الصحاح- هو الطلق الذي هو الإرسال و عدم المنع و الحجر، في مقابل الحرمة الّتي هي المنع و الحجر، و من المعلوم أنّ الحلّ بهذا المعنى أعم من التكليفي و الوضعي، فنفوذ البيع يصدق عليه الحلّ، لعدم منع عنه، في مقابل البيع غير النافذ، فإنّه ممنوع عنه، للمنع عن نفوذه و كونه كسائر البيوع النافذة. فمعنى حرمة بيع الملامسة و المنابذة و الحصاة و المجهول و غير ذلك هو عدم نفوذها و عدم ترتب الأثر المقصود عليها.

فكلّ من الحل و الحرمة يعمّ التكليفي و الوضعي، و تعيّن أحدهما في بعض الموارد إنّما هو بالقرينة، فتنظر بعض المحشين قدّس سرّه في جواز إرادتهما معا، نظرا إلى عدم القدر المشترك «1»، غير ظاهر الوجه.

فالمتحصل: أنّه مع عدم القرينة على إرادة خصوص أحدهما يحمل كلّ من الحلّ و الحرمة على القدر المشترك.

الرابع: أنّ الأصل عدم التجوز و عدم التقدير، فمع إمكان إرادة الظاهر لا تصل النوبة إلى ارتكابهما، لأنّه رفع اليد عن الظاهر و ارتكاب خلافه بلا دليل، فلا يصار إليه بلا موجب.

الخامس: أنّ الحلّ كالحرمة تارة يتعلق بالأعيان الخارجية كقوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعٰامِ «2». و أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ، وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ «3» و حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ «4». و اخرى يتعلق بالأفعال الخارجية كالأكل و الشرب

______________________________

(1): حاشية المحقق الايرواني على المكاسب، ج 1، ص 77.

(2) المائدة، الآية: 1.

(3) المائدة، الآية: 5.

(4) النساء، الآية: 23.

ص: 376

______________________________

و النكاح و غير ذلك. و ثالثة يتعلق بالأمور الاعتبارية المبرزة بمبرز خارجي أو المنشئة بإنشاء قولي أو فعلى كالصلح و البيع و الإجارة، و غيرها من الأمور الاعتبارية.

فإن تعلّق بأعيان خارجية لم يصح الكلام إلّا بتقدير فعل مناسب يتعلّق به الحكم، و إلّا كان لغوا، فدلالة الاقتضاء توجب التقدير المزبور، فيتعلق الحلّ في الآيات المتقدمة بالأكل و في آية حرمة الأمّهات بالنكاح.

و إن تعلّق بالأفعال الخارجية يصحّ الكلام من دون حاجة الى تقدير، كقوله تعالى:

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيٰامِ الرَّفَثُ إِلىٰ نِسٰائِكُمْ «1» لكون متعلق الحل- و هو الفعل كالرفث في الآية الشريفة- مذكورا في الكلام.

و إن تعلق بالأمور الاعتبارية فكذلك، لصحة تعلّقه بها من دون حاجة الى تقدير.

إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم: أن مقتضاه إرادة حلية نفس البيع من الآية الشريفة و عدم تقدير التصرفات، لأنّه خلاف الأصل كما عرفت، فمعنى الآية الشريفة- و اللّه العالم-: أنّ اللّه تعالى شأنه قد رخّص في إيجاد البيع و أطلقه، و لم يمنع عن تحققه في الخارج. فيراد بالحلّ الجامع بين التكليفي و الوضعي، فتدلّ الآية المباركة- بالمطابقة- على جواز البيع تكليفا و نفوذه وضعا. و لا ينبغي الارتياب في كون المعاطاة المقصود بها التمليك بيعا، فيشمله قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ لأنّ المراد بالبيع في هذه الآية المباركة هو معناه العرفي لا الشرعي، بمعنى ما يكون جامعا للشرائط الشرعية حتى يكون مؤثرا فعلا، لما عرفت- في بعض الأمور المتقدمة من امتناع دخل ما ينشأ عن الحكم في متعلقة، و المفروض أنّ الصحة مترتبة على الدليل، فلا يمكن أخذها في متعلقة. فالمقصود من البيع في الآية هو العرفي، فالبيع العرفي بمقتضى هذه الآية حلال تكليفا و وضعا، فالمعاطاة حلال كذلك، لأنّها بيع عرفي.

فالمتحصل: أنّ الاستدلال بقوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ على كون المعاطاة بيعا جائزا و نافذا في غاية المتانة.

______________________________

(1): البقرة، الآية: 187.

ص: 377

______________________________

و قد ظهر أن الدلالة على ذلك تكون مطابقيّة.

لا يقال: إنّ مقتضى المقابلة بين حلية البيع و حرمة الربا هو إرادة الحلية التكليفية في مقابل الحرمة التكليفية للربا، و حيث إنّ حلية البيع- الذي هو إنشاء تمليك عين بمال- تكليفا غير محتاجة إلى البيان، فلا بد من تقدير ليصحّ تعلق الحلية التكليفية به، و المقدّر هو التصرفات، فجميع التصرفات المترتبة على البيع حلال تكليفا بالدلالة المطابقية، و نفس البيع حلال التزاما، فالتصرفات المترتبة على المعاطاة حلال تكليفا و إن كانت متوقفة على الملك، فلا يستفاد من الآية الملكية بل حلية التصرفات، إذ لا يراد حينئذ من «أَحَلَّ» إلّا الحلية التكليفية كما هو ظاهر المصنف قدّس سرّه.

فإنّه يقال: لا مجال لإرادة حلية التصرفات المترتبة على البيع من قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ لما عرفت من اختلاف أحكامها بحيث لا يشملها الحلّ، و إرادة بعضها مما لا قرينة عليه، هذا.

مضافا إلى: لغوية ذلك، لتضمن أدلة تشريع تلك الأحكام لها، فتشريعها ثانيا ممتنع على الحكيم.

و إلى: أنّ الحمل على التصرفات محتاج الى تقدير أو تجوز. و كلاهما خلاف الظاهر جدّا من دون حاجة إليه، لما مرّ من صحة تعلق الحل بنفس البيع، و عدم الوجه في رفع اليد عن هذا الظاهر.

و أمّا حرمة الربا فليست قرينة على إرادة خصوص الحل التكليفي، لأنّ المرادة بالحرمة هو المنع و الحجر، في مقابل الإطلاق و الإرسال، فالمراد بحرمة الربا هو المنع عنها، و عدم نفوذ البيع فيها. و ليس المراد خصوص الحرمة التكليفية، لأنّها إن كانت عين حرمة التصرف في مال الغير فهي لغو، فلا بد من الالتزام بالتأكد، و هو خلاف الأصل. و إن كانت غيرها لزم تعدد العقاب على المخالفة، و تعدد الثواب على الموافقة، و هو كما ترى ممّا يبعد الالتزام به. و هذا يصلح لأن يكون قرينة على إرادة الحل الوضعي و هو نفوذ البيع من «أَحَلَّ» و يقابله حرمة الربا،

ص: 378

______________________________

فيراد بها عدم النفوذ.

فحاصل المعنى: أن البيع نافذ، و الربا غير نافذة، فبالقرينة المقامية يتعيّن إرادة الحلية الوضعيّة من «أَحَلَّ» و الحرمة الوضعيّة من «حَرَّمَ الرِّبٰا».

و مع الغضّ عن هذه القرينة لا مانع من إرادة القدر المشترك- و هو الإرسال- من «أَحَلَّ» و المنع الذي هو ضدّ الإرسال من «حَرَّمَ الرِّبٰا».

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا: ضعف ما أفاده المصنف قدّس سرّه من دلالة الآية الشريفة على حلّية التصرفات المترتبة على البيع، بل المراد الحلية الوضعية، فالبيع يوجب الملكية، لا أنّه يبيح التصرفات بدون الملكية كما أفاده المصنف قدّس سرّه حتى نحتاج الى الالتزام بالملك التقديري بالنسبة إلى التصرفات المتوقفة على الملك.

نعم يتجه ما أفاده قدّس سرّه من تعلق الحلية بالتصرفات بناء على أنّ المراد بالبيع خصوص الصحيح، حيث إنّه لا معنى حينئذ لحلية البيع الصحيح، بل لا بدّ من جعل متعلّق الحلّ التصرفات المترتبة على البيع الصحيح.

لكن لا مجال لذلك بعد البناء على إرادة البيع العرفي، و بعد ما عرفت من امتناع جعل الحلّ بالنسبة إلى التصرفات المختلفة الأحكام المترتبة على البيع.

و أما ما أفاده المصنف قدّس سرّه من جعل الحلّ متعلقا بالتصرفات ففيه أوّلا: أنّ التقدير خلاف الأصل، و لا موجب له بعد صحة تعلق الحلّ بنفس البيع الذي هو معاملة خاصة عرفية، حيث إنها من الأمور الاعتبارية التي يصح أن يتعلّق بها الحلية و الحرمة كما مرّ في بعض المقدمات.

و ثانيا: عدم صحة تعلق الحلّ التكليفي بتلك التصرفات بعد اختلافها في الأحكام كما تقدم أيضا.

و ثالثا: أنّ حليّة التصرفات لا تنطبق على المدّعى، و هو كون المعاطاة مفيدة للملك، لأنّ مجرّد إباحة التصرفات لا يدلّ على الملكية التي هي المدّعاة، إذ المفروض أنّ

ص: 379

______________________________

المحقق الثاني قدّس سرّه يلتزم بمملّكية المعاطاة، لا مجرّد كونها مبيحة للتصرفات، و المصنف قدّس سرّه يريد إثبات هذا المدّعى بالسيرة و بآية حلّ البيع. و من المعلوم أنّ حلية التصرفات- تكليفا- المترتبة على البيع لا تثبت الملكية، فالدليل لا ينطبق على المدّعى.

اللهم إلّا أن يقال: إنّ المقصود ترتب حلية جميع التصرفات- حتى المتوقفة على الملك- على البيع الصادق على المعاطاة، فالآية حينئذ تدلّ بالمطابقة على حلية التصرفات المترتبة على البيع، و بالالتزام على تأثير البيع الصادق على المعاطاة في الملكية.

لكن قد عرفت عدم صحة تعلق الحلّ بالتصرفات المختلفة حكما، فلا وجه لتقدير «التصرفات» و جعل الحلّ متعلّقا بها.

و أمّا شي ء من الوجوه الأربعة- من ظهور الحلّ في التكليفي، و ورد الآية مورد الامتنان، و كون البيع غير اختياري و انتزاعية الملكية- فلا يصلح لإثبات تقدير التصرفات و جعلها متعلقة للحل.

إذ في الأوّل أوّلا: منع الظهور في الحلّ التكليفي، بعد ما عرفت من عدم إرادة الحرمة التكليفية في قوله تعالى وَ حَرَّمَ الرِّبٰا.

و ثانيا: بعد تسليمه عدم مانع عن إرادة الحل التكليفي، لأنّ متعلقة المعاملة الخاصة المعهودة بين الناس، و حليّتها التكليفية ملازمة عرفا لحليتها الوضعية.

و في الثاني: حصول الامتنان بحلّ البيع العرفي تكليفا المستلزم لحلّه وضعا، فلا حاجة الى تقدير التصرفات.

و في الثالث: منع عدم اختيارية البيع، لأنّ المراد به هو المعاملة المتداولة بين العقلاء التي هي من أفعالهم الاختيارية. نعم ليست هذه المعاملة فعلا اختياريا لأحد المتعاقدين، لأنّها فعلهما معا، لا واحد منهما، فتأمّل.

و في الرابع: أن الملكية ليست اعتبارا ذهنيا، بل هي حكم وضعي قابل لتعلق الجعل به، استقلالا، كما تقدم مرارا.

ص: 380

______________________________

فتلخص من جميع ما ذكرنا: صحة الاستدلال بقوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ على كون المعاطاة مفيدة للملك، سواء أريد بالحل التكليفي أم الوضعي.

أمّا على الأوّل فلاستلزام حلّ المعاملة الخاصة البيعية تكليفا لحلّها وضعا، إمّا للامتنان، و إمّا لعدم احتياج الحلّ التكليفي المجرّد عن الوضعي إلى البيان، لوضوحه و عدم توهّم حرمته غاية الأمر أنّ دلالته على الحلّ الوضعي بناء على هذا تكون التزامية لا مطابقية.

و أمّا على الثاني- كما هو الأصح- فلكون متعلق الحلّ أوّلا و بالذات نفس البيع، فدلالته على نفوذ البيع و مملّكيته تكون بالمطابقة، فلا يتوقف الاستدلال بالآية المباركة على تجوز أو تقدير ليكون متعلق الحلّ التصرفات.

ثم إنه قد أورد على المصنف قدّس سرّه بوجوه عديدة، اثنان منها راجعان الى منع دلالة الآية الشريفة التزاما على إفادة البيع للملكيّة، و واحد منها راجع الى كون المعاطاة بيعا، و هي:

الأوّل: أن حلية التصرفات تكليفا لا تدلّ على الملكية بالدلالة الالتزامية، إذ لا ملازمة بينهما لا عقلا و لا شرعا. أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فلأنّ جواز التصرف في أموال الناس في حال الضرورة و المجاعة مسلّم عندهم، من غير أن يكون ذلك ملكا للمتصرّف. نعم التصرفات المنوطة بالملك تكشف عن حصوله آنا مّا قبل التصرف جمعا بين الأدلة. فالاستدلال بالآية الشريفة- بناء على كون مدلولها المطابقي حلية التصرفات تكليفا- على تحقق الملكية من حين التعاطي في غير محلّه، لعدم الملازمة بين الملكية و إباحة التصرّفات، هذا.

لكن يمكن دفعه بأنّ المراد التصرفات التي يرتّبها العقلاء على بيوعهم. و من المعلوم أنّ المتداول بينهم هي التصرفات المالكية، بمعنى: أنّ العرف يرى استناد تصرفات المشتري في المبيع الى مالكيّته له، لا إلى إباحة المالك أو الشارع له، و إباحة هذه التصرفات- لا محالة- تدل التزاما على ملكية المبيع للمشتري و الثمن للبائع.

و هذا بخلاف التصرفات المباحة من جهة الضرورة، فإنّ الضرورات تتقدر بقدرها. و من المعلوم ارتفاع الضرورة بمجرّد الإباحة في التصرف كالأكل، فلا موجب للالتزام بالملكية كما لا يخفى.

ص: 381

______________________________

الثاني: ما تقدّم من أنّ الحلّ التكليفي يمتنع أن يشمل جميع التصرفات، لاختلافها سنخا و حكما، فإنّ وجوب الإنفاق على الدابة المبيعة أو حرمة العمل عليها مما لا يمكن تناول الحلّ التكليفي له. و الالتزام بحلية بعض التصرفات دون بعضها بلا ملزم و بلا دليل يقتضيه.

و دعوى «شمول الحلّ لجميع التصرفات، غاية الأمر أنّه يخرج بعضها- كوجوب الإنفاق و حرمة الصرف في المعصية- بالدليل، فيخصّص عموم حلّ التصرفات بالدليل الخارجي» غير مسموعة، لمنافاة التخصيص للامتنان المناسب للمعلوم، و لمنافاته أيضا لما يقتضيه حذف المتعلق من إرادة العموم.

مضافا إلى: عدم الحاجة الى إثبات الحلّ التكليفي بالآية المباركة بعد ثبوته بأدلة تشريع تلك التصرفات، فيلزم إمّا المحال و هو إيجاد الحاصل، و إمّا ارتكاب خلاف الأصل، و هو التأكّد.

الثالث: أنه لو سلّم دلالة الآية الشريفة على جواز البيع وضعا و تكليفا، أو قلنا بدلالتها على حلية التصرفات و استكشفنا منها الملكية من أوّل الأمر، لكنّها لا تشمل المعاطاة، لعدم صدق البيع عليها، إذ لا يخلو إمّا أن يكون البيع من مقولة اللفظ أو من مقولة المعنى. و على التقديرين لا يصدق مفهوم البيع على المعاطاة.

أمّا على الأوّل فواضح. و أمّا على الثاني فلأنّ البيع و إن كان من مقولة المعنى، لكن صدق عنوان البيع عليه يتوقف على إبرازه باللفظ، لأنّ الكلام النفسي مدلول الكلام اللفظي.

و من المعلوم أنّ المعاطاة لم تبرز باللفظ، فتكون خارجة عن حدّ البيع، فلا وجه للاستدلال على مملّكيّتها بآية الحلّ، هذا.

و فيه: أنّ البيع ليس اسما لمجرّد اللفظ، و إلّا يلزم تحققه بلفظ «بعت» بدون الإنشاء.

و ليس أيضا اسما للاعتبار النفساني غير المبرز بمظهر خارجي، و إلّا لزم تحققه بنفس الاعتبار و إن لم يكن مبرزا خارجا، بل البيع هو الاعتبار النفساني المبرز بمظهر خارجي سواء أ كان لفظا أم فعلا، و لا دليل على حصر المبرز في اللفظ خاصة.

ص: 382

بل قد يقال (1): بأنّ الآية دالّة عرفا بالمطابقة على صحة البيع، لا مجرّد الحكم التكليفي (2).

لكنه محل تأمّل (3) [1].

______________________________

(1) هذا هو التقريب الثاني من وجوه الاستدلال بالآية الشريفة على مملكية المعاطاة، و لعلّه مختار من يقول بقابلية الأحكام الوضعية للجعل الاستقلالي، و أنّ الحلّية لو كانت ظاهرة بدوا في خصوص التكليف، إلّا أنّ ذلك منوط بتعلّقها بالتصرّف الخارجي كالأكل و الشرب، و أمّا إذا تعلقت بالتصرف الاعتباري من عقد أو إيقاع فلا، حيث إنّ الحلّ الوضعي عبارة عن نفوذ متعلقة و تأثيره في الأثر المقصود، فالبيع المقصود به التمليك تكون صحته عبارة عن تأثيره في الملكية، فالآية الشريفة حينئذ يكون مدلولها المطابقي إفادة البيع للملكيّة، و قد تقدّمت فرديّة المعاطاة للبيع و صغرويّتها له، فتشملها آية الحلّ.

و بهذا ظهر وجه الإضراب المستفاد من قوله: «بل قد يقال» لأولوية استظهار صحة البيع المعاطاتي من الآية الشريفة بالمطابقة من استظهارها بالدلالة الالتزامية المتفرعة على تمامية الدلالة المطابقية، فلو نوقش في دلالة الآية على حلية التصرفات المترتبة على البيع امتنع إثبات مملّكية المعاطاة كالبيع القولي، و هذا بخلاف ظهور الحلية ابتداء في الوضع.

(2) و هو إباحة التصرفات- المترتبة على البيع- المستلزمة لصحته.

(3) وجهه: أنّ حمل الحلّ على الوضعي خلاف الظاهر، لظهوره في التكليفي، و لا بدّ حينئذ من تعلّقه بالتصرفات مطلقا خارجية كانت أم اعتبارية، إذ لا يتوهم حرمة إنشاء البيع حتى يدفع بقوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ فلا بدّ أن يتعلق بالتصرفات. فالآية الشريفة تدل بالدلالة المطابقية على حلية التصرفات تكليفا، و بالدلالة الالتزامية على حلية البيع وضعا.

______________________________

[1] قد عرفت مفصّلا أنّه ظاهر الآية الشريفة، و لا ينبغي التأمل فيه. و دعوى ظهور «الحلّ» في التكليفي استنادا الى الوجوه المتقدمة قد عرفت ما فيها، فلاحظ و تدبّر.

ص: 383

و أمّا (1) منع صدق البيع عليه عرفا فمكابرة.

و أمّا (2) دعوى الإجماع في كلام بعضهم على عدم كون المعاطاة بيعا- كابن زهرة في الغنية- فمرادهم (3) بالبيع المعاملة اللازمة التي هي أحد العقود،

______________________________

(1) هذا راجع إلى أصل استدلاله قدّس سرّه على مملكية المعاطاة بالآية الشريفة بالدلالة الالتزامية، و ليس متعلقا بخصوص قوله: «بل قد يقال» و بيانه: أنّ الاستدلال بالآية المباركة منوط بصدق الموضوع- أعني به البيع- على المعاطاة، إذ بدونه لا يكون المورد فردا لموضوع الدليل حتّى يصحّ التمسّك به لإثبات حكمه، و لذا قال: «إنّ منع صدق البيع الذي هو موضوع الدليل على المعاطاة مكابرة» حيث إنّ صدق مفهوم البيع عرفا على المعاطاة من الواضحات التي لا يعتريها ريب. و قد أشرنا الى هذا بقولنا: «ان المعاطاة المقصود بها الملك بيع عرفا».

(2) هذا اعتراض على قوله: «فمكابرة» و حاصله: أنّ وضوح صدق البيع على المعاطاة عرفا- بحيث يكون منع صدقه عليها مكابرة- ينافي دعوى ابن زهرة رحمه اللّه: الإجماع على عدم بيعية المعاطاة.

(3) هذا دفع الاعتراض، و حاصله: أنّ المنافاة المذكورة مبتنية على أن يكون مراد المجمعين نفي بيعيّة المعاطاة حقيقة، و ليس الأمر كذلك، لأنّ مرادهم من البيع- الذي نفوه عن المعاطاة- هو المعاملة الصحيحة المؤثّرة في إفادة الملك فعلا الموصوفة باللزوم بحسب طبعها، و الجائزة لأمر خارج عن ذاته كالخيار. و إذا كان معقد إجماعهم على نفي البيع عن المعاطاة ذلك لم يكن منافاة بين هذا الإجماع النافي لبيعية المعاطاة و بين بناء العرف على بيعيّتها، لأنّ نفي الصحة غير نفي الحقيقة، و المنفي في كلامهم و معقد إجماعهم هو البيع الصحيح الشرعي كما مرّ، و المثبت هو البيع العرفي، فتعدّد مورد النفي و الإثبات فلا إشكال.

لا يقال: إنّ ظاهر عبارة الغنية عدم انعقاد البيع بالتعاطي، لا عدم لزومه، لقوله فيها:

«و أمّا شروطه فعلى ضربين، أحدهما شرائط صحة انعقاده، و الثاني شرائط لزومه، فالضرب الأوّل ثبوت الولاية في المعقود عليه .. و أن يحصل الإيجاب من البائع و القبول من المشتري ..

إلخ» و من المعلوم أنّ مقتضى شرطية الصيغة للانعقاد عدم بيعية المعاطاة حقيقة، فلا يشملها قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ.

و على هذا فقول المصنف: «و لذا صرّح في الغنية» شاهد على عدم بيعية المعاطاة،

ص: 384

و لذا (1) صرّح في الغنية بكون الإيجاب و القبول من شرائط صحة البيع.

و دعوى (2)- أنّ البيع الفاسد عندهم ليس بيعا-

______________________________

لا على عدم لزومها.

فإنّه يقال: إنّ مقصود السيد ابن زهرة قدّس سرّه عدم بيعية المعاطاة شرعا لا عرفا، إذ لو كان مراده نفي بيعيّتها عرفا لكان اللازم التمسك له بعدم الصدق العرفي الذي هو من قبيل عدم المقتضي، لا بالإجماع الذي هو دليل شرعي، و يكون من قبيل المانع. و عليه فالتمسك بالإجماع دليل على كون الإيجاب و القبول من الشرائط الشرعية لا العرفية، فصدق البيع على المعاطاة ممّا لا ينبغي الارتياب فيه. هذا.

و لو سلّم ظهور إجماع الغنية في نفي بيعية المعاطاة حقيقة قلنا: إنّه إجماع منقول، و قد ثبت في محله عدم حجيته، مضافا الى معارضته بدعوى المحقق الثاني: «ان المعروف بين الأصحاب كون المعاطاة بيعا».

(1) غرضه إقامة الشاهد على التصرف المزبور، و هو كون المنفي في كلامهم البيع الصحيح المؤثّر شرعا، لا البيع العرفي. وجه الشهادة: أنّه لو كان مرادهم ما هو ظاهر كلامهم- من نفي البيع حقيقة- لم يكن وجه لجعل الإيجاب و القبول من شرائط الصحة، بل كان اللازم حينئذ جعلهما من شرائط محقّق مفهوم البيع و حقيقته، فيستكشف من تصريح السيد في الغنية «بكون الإيجاب و القبول من شرائط صحة البيع» أنّ المنفي هو البيع الصحيح، لا البيع العرفي.

(2) هذه مناقشة في الاستشهاد بعبارة الغنية من جعلها قرينة على التصرف في كلامهم من عدم كون المعاطاة بيعا حقيقة.

توضيح المناقشة: أنّ كلام السيد ابن زهرة قدّس سرّه يكون شاهدا على التصرف في كلامهم لو كان البيع الفاسد بيعا عندهم ليكشف ذلك عن وضعه للأعم، و ذلك ممنوع، فتكون الصحة مساوقة لتحقق المفهوم، فبانتفائها ينتفي الحقيقة، فيكشف ذلك عن وضعه للصحيح. و عليه فتصريح ابن زهرة في الغنية- بكون الإيجاب و القبول من شرائط الصحة- لا يكون شاهدا على التصرف في كلامهم بحمل النفي على نفي الصحة مع بقاء الحقيقة، حيث إنّه بناء على هذا

ص: 385

قد عرفت (1) الحال فيها [1].

______________________________

يكون نفي الصحة مساوقا لنفي الحقيقة.

و نتيجة ذلك: أنّه لا يصحّ الاستدلال بالآية الشريفة على مملّكية المعاطاة، إذ المفروض عدم كونها بيعا حقيقة.

(1) هذا دفع المناقشة المزبورة، و حاصل الدفع: أنّه قد ذكرنا سابقا: أنّ البيع ليس إلّا إنشاء تمليك عين بمال، و لم يؤخذ في مفهومه قيد التعقب بالقبول فضلا عن الإيجاب و القبول اللفظيين.

و يمكن أن يكون نظره بقوله: «قد عرفت الحال» إلى ما تقدم عن جامع المقاصد من قوله: «المعروف بين الأصحاب أن المعاطاة بيع و إن لم يكن كالعقد في اللزوم». و على التقديرين يكون البيع الفاسد بيعا حقيقة و إن لم يكن مؤثرا شرعا.

هذا تمام الكلام في التقريب الأوّل و الثاني من وجوه الاستدلال بآية حلّ البيع، و بقي التقريب الثالث، و سيأتي بقوله: «فالأولى حينئذ التمسك في المطلب بأن المتبادر عرفا من حلّ البيع صحّته شرعا» فانتظر.

______________________________

[1] لا يخفى أنّ البيع الفاسد و إن كان بيعا عرفيّا، لكن فساده شرعا يمنع عن التمسك بقوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و نحوه من أدلة نفوذ البيع و صحته، و المقصود من إثبات بيعية المعاطاة هو الاستدلال على صحتها بهذه الآية و نحوها. فجعل المنفي في معقد إجماع الغنية صحة البيع لا حقيقته: و إن كان متينا في نفسه، لكنه ينافي التمسك بالآية المزبورة لكون المعاطاة بيعا نافذا، بل تصير المعاطاة حينئذ كبيع المنابذة و الملامسة و نحوهما من البيوع الفاسدة الخارجة عن حيّز عموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و الوجه في خروج المعاطاة عن العموم المزبور هو إجماع الغنية على عدم كونها بيعا صحيحا.

فتوجيه معقد الإجماع بإرادة البيع الصحيح ينتج ضدّ المقصود- الذي هو إثبات بيعية المعاطاة- حتى يصح الاستدلال لها بمثل أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ فالأولى كما تقدم منع الإجماع أوّلا، و منع حجيته بعد تسليمه ثانيا.

ص: 386

[الدليل الثالث: آية التجارة عن تراض]

و ممّا ذكر (1) يظهر وجه التمسك بقوله تعالى إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ.

______________________________

الدليل الثالث: آية التجارة عن تراض

(1) أي: من جعل متعلّق الحلّ في آية حلّ البيع: التصرفات و ملازمتها شرعا لصحة البيع و نفوذه يظهر وجه التمسك بقوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ «1». و هذا هو الدليل الثالث ممّا تعرض له المصنف قدّس سرّه من الأدلة على مملّكية المعاطاة. و قد سبقه في الاستدلال به المحقق الكركي قدّس سرّه في كلامه المتقدم عن جامع المقاصد و تعليق الإرشاد، و المحقق الأردبيلي قدّس سرّه في شرح الإرشاد «2».

و لا يخفى أنّ الوجوه الثلاثة المشار إليها في الاستدلال بآية حلّ البيع تجري في هذه الآية المباركة أيضا، و المهمّ منها فعلا- بنظر الماتن- هو الوجه الأوّل، أعني به دلالة الآية بالمطابقة على حلية التصرف تكليفا في المأخوذ بالتجارة عن تراض، و بالدلالة الالتزامية على صحتها و مملّكيتها، لأنه قدّس سرّه أحال تقريب الاستدلال بهذه الآية المباركة على ما ركن إليه في آية حلّ البيع، فيقال: المعاطاة المقصود بها الملك تجارة عن تراض- إذ التجارة هي التصرف في رأس المال طلبا للربح «3»- و التصرفات المالكيّة المترتبة على التجارة جائزة، فالتصرف في المأخوذ بالمعاطاة جائز، و هذا الجواز التكليفي يستلزم شرعا صحة المعاطاة و مملّكيتها.

و كيف كان فوجوه الاستدلال بهذه الآية الشريفة متعددة، من جهة كون الأكل كناية عن التصرف أو عن التملك، و من جهة كون النهي في المستثنى منه مولويا أو إرشادا إلى الفساد، و كون الجواز في المستثنى إباحة تكليفية أو إرشادا إلى الصحة، و من كون الاستثناء متصلا أو منقطعا. لكن المهم منها اثنان، تعرض المصنف لأحدهما، و سيأتي ذكر الآخر في التعليقة

______________________________

(1): النساء الآية: 28.

(2) جامع المقاصد، ج 4، ص 58، مجمع الفائدة و البرهان، ج 8، ص 142.

(3) مفردات ألفاظ القرآن الكريم للراغب الأصفهاني، ص 73.

ص: 387

..........

______________________________

إن شاء اللّه تعالى.

و توضيح الوجه المذكور في المتن منوط بالإشارة إلى أمرين:

أوّلهما: أنّ النهي في المستثنى منه ظاهر في حرمة الأكل تكليفا، فيكون الجواز في المستثنى ظاهرا في الحلية التكليفية أيضا.

ثانيهما: أنّ متعلّق النهي و ان كان هو الأكل لكن لا يراد به ظاهره أي الازدراد المقابل للشرب قطعا، بل المراد به التصرف في أموال الناس بغير حق، و مقتضى حذف المتعلق إرادة مطلق التصرف سواء أ كان متوقفا على الملك أم لا، إذ لا قرينة في الآية الشريفة على إرادة صنف خاص من التصرفات. و مقتضى المقابلة إرادة حلية كل تصرف- سواء توقف على الملك أم لا- في المأخوذ بالتجارة عن تراض.

قال في مجمع البيان: «ذكر الأكل و أراد سائر التصرفات، و إنّما خصّ الأكل لأنّه معظم المنافع .. الى أن قال: و في قوله: بالباطل قولان: أحدهما: أنّه الربا و القمار و النجش و الظلم، عن السدي، و هو المروي عن الباقر عليه السّلام. و الآخر: أنّ معناه: بغير استحقاق من طريق الأعواض، عن الحسن. قال: و كان الرجل منهم يتحرّج عن أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية إلى أن نسخ ذلك بقوله في سورة النور وَ لٰا عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ .. الى قوله أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتٰاتاً .. إلى أن قال: و ثالثها: أنّ معناه: أخذه من غير وجهه، و صرفه فيما لا يحلّ له، إلّا أن تكون تجارة أي مبايعة» «1».

و بوضوح الأمرين المتقدمين نقول في تقريب الاستدلال بالآية المباركة: إنّ «الأكل» كناية عن مطلق التصرف، إذ لا قرينة على إرادة فعل خاص، فيتعيّن إرادة مطلق التصرف، و المعنى حينئذ: أنّه لا تتصرّفوا في أموال الناس بالأسباب الباطلة، إلّا أن يكون ذلك السبب تجارة عن تراض كالمعاطاة التي هي تجارة لغة و عرفا. و الاستثناء من الحرمة التكليفية يقتضي الحلّ التكليفي، فتدل الآية بالمطابقة على حليّة التصرفات- تكليفا- المترتبة على

______________________________

(1): مجمع البيان، ج 5، ص 37.

ص: 388

..........

______________________________

التجارة عن تراض، و تدلّ على تحقق الملكية من أوّل الأمر- لا حين إرادة التصرف- بالملازمة العرفية، لأنّ السلطنة المطلقة على شي ء لا تنفك عرفا عن الملكية، و إن كانت الملكية قد تنفك عن السلطنة كالمحجور لأحد موجبات الحجر من صغر أو فلس أو جنون أو غيرها.

و بالجملة: فوزان الاستدلال بهذه الآية المباركة وزان الآية المتقدمة، غاية الأمر أنّ الاستدلال بهذه الآية لا يتوقف على التقدير، لكون متعلق الجواز مذكورا و هو «الأكل» المراد به التصرف. بخلاف الاستدلال بتلك الآية، فإنّه منوط بتقدير التصرفات. فالاستدلال بهاتين الآيتين على مملكية التجارة و البيع- الذي تكون المعاطاة من أفراده- يكون بالدلالة الالتزامية الشرعية، لأنّ مدلولهما المطابقي هو حلية التصرفات تكليفا كما عرفت [1].

______________________________

[1] و يرد عليه- مضافا الى ما أورد به على الاستدلال بآية حل البيع- أنّ عموم التصرفات للتصرفات الاعتبارية غير ظاهر، لأنّ الأكل الذي هو تصرف خارجي و إن لم يكن نفسه بمراد، إلّا أن المتيقن من التعدي عنه هو التصرفات الخارجية. و أمّا التعدي إلى التصرفات الاعتبارية المغايرة سنخا للتصرفات الخارجية فلا قرينة عليه. و الدلالة الالتزامية الدالة على الملكية لا يكفي فيها إباحة التصرفات الخارجية، فلا يصح الاستدلال بهذه الآية المباركة بالدلالة الالتزامية على مملّكية المعاطاة التي هي تجارة عن تراض.

و يرد عليه أيضا ما أفاده المحقق الايرواني قدّس سرّه من: أنّ غاية مدلول الآية حلية التصرفات المترتبة على المعاطاة، و أمّا الملكية من أوّل الأمر فلا، لكفاية الملكية الآنيّة في حلية مطلق التصرف المتوقف على الملك «1».

و هذا الإشكال- الذي أورد به المصنف على الاستدلال بآية الحل- مخصوص بالتقريب الأوّل. و أمّا التقريب الثالث و هو دلالة الآية على الصحة بالملازمة العرفية بينها و بين الحلية فهو سليم عن هذا الإشكال، إذ المفروض أنّ العرف يرتّب آثار الملك على المعاطاة من حين

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 77.

ص: 389

______________________________

التعاطي، سواء تصرّف فيه بما يتوقف على الملك أم لا.

هذا ما يتعلق بالوجه الأوّل الذي استظهره المصنف قدّس سرّه من الآية الشريفة.

الوجه الثاني:- الذي لم يتعرض له في المتن- هو: أن المراد من الأكل التملك، فإنّه الشائع بعد الصرف عن ظاهره، للقطع بعدم إرادته بالخصوص في المقام، لوضوح عدم إرادة خصوص المأكولات هنا، و هذا النحو من الاستعمال متعارف في القرآن الكريم و كلمات الفصحاء. و إرادة «التملك» أظهر من إرادة «التصرف» الذي هو مبنى الوجه الأوّل. إذ «التجارة عن تراض» إنّما تكون من الأسباب الناقلة للملك، فتملّك الأموال لا بدّ أن يكون بها، فإنّ التجارة تناسب الملكية، لا مجرّد جواز التصرف تكليفا.

و كيف كان فمفاد الآية- بناء على كون الأكل كناية على التملك-: أنّه يحرم عليكم تملّك أموال الناس إلّا بالتجارة عن تراض. و المراد بالتجارة هي العرفية، كما هو شأن كل موضوع عرفي يقع في حيّز حكم من الأحكام، و من المعلوم أنّ المعاطاة تجارة عرفية، فيشملها المستثنى، فيجوز تملك الأموال بالمعاطاة.

و عليه فالآية بهذا التقريب تدل بالدلالة المطابقية على المقصود و هو إفادة المعاطاة للملك. كما أن تقريب الاستدلال بها على الوجه الأوّل يكون بالدلالة الالتزامية، على ما عرفت مفصّلا.

بقي التعرض لأمر، و هو: أنّ الاستثناء متصل أو منقطع، و ما يترتب عليه من إفادة الآية حصر السبب المملّك في التجارة عن تراض و عدمها، فنقول: لم يظهر من المصنف قدّس سرّه هنا أحد الأمرين، لكنه صرّح بانقطاع الاستثناء في ردّ أدلة بطلان بيع الفضولي، و هو المحكي عن جمع من المفسّرين. و الظاهر أنّه كذلك، إذ لا معنى لكون التجارة عن تراض سببا للملكية مع انطباق عنوان الباطل عليها. فإنّ عقد المستثنى منه و إن دلّ على العموم، إذ ليس شي ء من الأكل بالباطل مرخّصا فيه، لكنه لا يدل على حصر محلّل الأكل في التجارة عن تراض.

و لا فرق في هذه الجهة بين كون «تجارة» مرفوعا- كما عن الكوفيين- بناء على أنّ «كان» تامّة، يعني: إلّا أن تقع تجارة عن تراض، إذ من المعلوم أنّ التجارة كذلك ليست من جنس

ص: 390

______________________________

الباطل حتى يكون المعنى: إلّا أن تكون التجارة الباطلة تجارة عن تراض. و بين كون «تجارة» منصوبا- كما عن عاصم و حمزة و الكسائي- على أن يكون «كان» ناقصة، و التقدير: إلّا أن تكون التجارة تجارة عن تراض، أو: أموالكم أموال تجارة، بحذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه.

و الحاصل: أنّ «التجارة عن تراض» ضدّ الباطل، فلا تكون من جنسه حتى يكون الاستثناء متصلا. فما في تقرير بحث السيد المحقق الخويي قدّس سرّه: «من كون الاستثناء متصلا، حيث قال المقرّر: «فان كان الاستثناء متصلا كما هو الظاهر و الموافق للقواعد العربية كان مفاد الآية: أنّه لا يجوز تملك أموال الناس بسبب من الأسباب، فإنّه باطل، إلّا أن يكون ذلك السبب تجارة عن تراض، فتفيد الآية حصر الأسباب الصحيحة للمعاملة بالتجارة عن تراض» «1» غير ظاهر، لأنّ «الباطل» يكون نعتا للسبب المستفاد من الباء السببية، فالمعنى: أنّه يحرم تملّك أموال الناس بسبب باطل إلّا أن يكون ذلك السبب الباطل تجارة عن تراض، إذ النعت قيد للمنعوت، و الاستثناء يكون من مجموع النعت و المنعوت، كقوله: «جاءني العلماء العدول، أو:

أكرم العلماء العدول إلّا زيدا» فإنّه لا ينبغي التأمّل في عدم صحة هذا الاستثناء إذا لم يكن زيد عالما عادلا. و مجرد كونه عالما لا يكفي في صحة هذا الاستثناء، لخروجه عن العام موضوعا من دون حاجة الى الاستثناء، بل الاستثناء حينئذ مستهجن عند أبناء المحاورة.

من غير فرق في ذلك بين التخصيص الفردي كالمثال، و بين النوعي كقوله: «أكرم العلماء العدول إلّا شعراءهم، أو فلاسفتهم، أو البصريين منهم» أو غير ذلك من الأنواع، فإنّ هذا الاستثناء لا يصح إلّا إذا كان المستثنى من العلماء العدول.

نعم إذا كان الكلام هكذا: «كل تجارة باطلة إلّا تجارة عن تراض» كان الاستثناء متصلا، لكنه ليس كذلك، لأنّ «الباطل» في الآية الشريفة نعت للموصوف المستفاد من الباء السببية، فالكلام يكون هكذا: «لا تتصرّفوا في أموال الناس بالسبب الباطل، إلّا أن يكون ذلك السبب

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 2، ص 103.

ص: 391

______________________________

الباطل تجارة عن تراض» و فساده غنيّ عن البيان. هذا.

مضافا إلى: أن اتصال الاستثناء و إن كان مقتضى القواعد العربية، لأنّه إخراج حكمي متفرع على اندراج المستثنى موضوعا في المستثنى منه، فالانقطاع منوط بقرينة، إلّا أنّه يناط بعدم معارضته بأصل عقلائي آخر، فإنّ الحذف و التقدير خلاف الأصل، و لا وجه لترجيح أصالة الاتصال على أصالة عدم التقدير.

ثمّ إنّ مقتضى انقطاع الاستثناء هو عدم حلّ تملك أموال الناس بالأسباب الباطلة، و إناطة حلّة بالتجارة عن تراض، فالمستفاد حينئذ من الآية الشريفة حكمان كلّيان، أحدهما:

عدم كون الأسباب الباطلة مملّكة أو محلّلة. و الآخر: كون التجارة عن تراض محلّلة أو مملّكة.

و عليه فلا تدل الآية على انحصار التصرف أو التملك بالتجارة عن تراض حتى يقال:

بعدم صحة هذا الحصر، لوجود سبب آخر غير التجارة عن تراض كالهبة و الصدقة و الوقف و غيرها من الأسباب الناقلة للأموال، و أنّ هذا الحصر يوجب النسخ أو التخصيص المستهجن- كما في البلغة- حيث قال قدّس سرّه ما ملخصه: انّه لو كان الاستثناء في آية التجارة عن تراض متصلا لزم منه إمّا القول بالنسخ، و إمّا القول بكثرة التخصيص المستهجن، بداهة أنّ أسباب حلّ الأكل ليست منحصرة بالتجارة عن تراض، بل يحلّ ذلك بالهبات و الوقوف و الصدقات و الوصايا و أروش الجنايات، و سائر النواقل الشرعية و الإباحات، سواء أ كانت الإباحة مالكيّة أم شرعية، فلا ملازمة حينئذ بين أكل المال بالباطل و بين ما لا يكون تجارة عن تراض، فيمكن انتفاء التجارة عن تراض مع كون أكل المال بالحق لا بالباطل كالهبات و الصدقات و نحوهما.

و إن دفع قدّس سرّه هذا الإشكال بأنّ ما يحتاج تملّكه بالقبول يندرج في التجارة عن تراض، لأنّ المراد بها هو الاكتساب عن تراض، و من المعلوم صدقها على الهبة و الوصية التمليكية بناء على اعتبار القبول فيها، و كذا الصدقات المندوبة. و ما لا يحتاج الى القبول كالوقوف و أروش الجنايات و الوصايا- بناء على عدم اعتبار القبول فيها- فلا بأس بالتزام التخصيص فيها، و ليس

ص: 392

______________________________

ذلك من التخصيص المستهجن «1».

بل يمكن أن يقال: بخروجها عن دائرة كل من المستثنى و المستثنى منه بالتخصص، و ذلك لأنّ المستثنى منه في الآية المباركة هو تملك مال الغير بالاختيار بغير التجارة عن تراض، فالمستثنى هو تملك مال الغير بالتجارة عن تراض.

و على هذا فلا يندرج مثل الوقوف و أروش الجنايات في شي ء من المستثنى و المستثنى منه، لعدم اندارجها في التملك الاختياري، فتخرج عن حريم مورد الآية رأسا، فلا يلزم شي ء من محذوري النسخ و تخصيص الأكثر المستهجن.

لكن الإنصاف أن هذا الجواب الذي اختاره السيد الخويي قدّس سرّه أيضا لا يخلو من تأمل، فإنّ التجارة و إن لم تكن مرادفة للبيع، لاقتضاء العطف في قوله تعالى لٰا تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لٰا بَيْعٌ المغايرة بينهما، إلّا أنّ صدقها على قبول الهبة و الوصية التمليكية في غاية الغموض، إذ التجارة لغة هي «المعاملة برأس المال بقصد الاسترباح» و صدقها على مجرد قبول المتهب و الموصى له محل تأمّل. و عليه لا بد من الالتزام بالتخصيص كما يلتزم به في ما لا يعتبر فيه القبول كالوقوف و أروش الجنايات و الوصايا بناء على عدم اعتبار القبول فيها.

و قد يقال: بعدم ارتكاب التخصيص في ما لا يتوقف على القبول كالوقوف و التملك بالخمس و الزكاة و نحوها، لخروجها عن دائرة المستثنى و المستثنى منه تخصصا، و ذلك لأنّ المستثنى منه هو تملك مال الغير بالاختيار بغير التجارة عن تراض، فالمستثنى هو تملك مال الغير بالتجارة عن تراض. و على هذا فلا يندرج مثل الوقوف في شي ء من المستثنى و المستثنى منه، لعدم كون التملك فيه اختياريا، فتخرج عن حريم الآية رأسا، فلا يلزم شي ء من محذوري النسخ و تخصيص الأكثر المستهجن.

إلّا أنّه يشكل أيضا بعدم اختصاص المستثنى منه بالتملك الاختياري و إن كان ظاهر الآية ذلك، فإنّ تطبيق «الباطل» في عدة من النصوص على القمار و الربا و ما يؤخذ بحكم

______________________________

(1): بلغة الفقيه، ص 130.

ص: 393

[الدليل الرابع: حديث السلطنة]

و أما قوله (1): «الناس مسلّطون على أموالهم» «1»

______________________________

الدليل الرابع: حديث السلطنة

(1) هذا إشارة إلى رابع الأدلة على مملّكية المعاطاة، و إن ناقش المصنف في دلالته بما سيأتي بعد تقريب الاستدلال به، فنقول: قد استدلّ بهذا النبوي على كون المعاطاة مفيدة للملك، بتقريب: أنّ المراد بتسلّط الناس و قدرتهم على أموالهم هو نفوذ تصرفاتهم فيها، و مقتضى عموم السلطنة- المستفاد من الحكمة أو حذف المتعلق- نفوذ جميع التصرفات الخارجية و الاعتبارية التي منها المعاطاة، و من المعلوم أنّ نفوذ المعاطاة المقصود بها التمليك هو كونها مملّكة كسائر الأسباب المملّكة. و المنع عن نفوذ المعاطاة في الملكية مناف لعموم السلطنة الذي يقتضيه الحديث.

______________________________

حكّام الجور و نحوها مانع من الاختصاص المزبور، فالمنهي عنه ليس التملك، بل تمليك المقامر حرام قطعا بمقتضى التطبيق. و عليه فما عدا التجارة عن تراض مندرج في عقد المستثنى منه سواء أ كان تمليكا أو تملكا اختيارا أو غير اختياري. و لا مفرّ من الإشكال إلّا إنكار الحصر المترتب على اتصال الاستثناء.

الأمر الثاني: الظاهر أنّ المراد بالباطل ما لا سببية له واقعا للأكل و التصرف، كما أنّ السبب الحق هو المؤثّر في التملك و التصرف واقعا، و ذلك لما أشرنا إليه من تطبيق الأكل بالباطل على القمار بمثل قوله عليه السّلام: «ذلك القمار» «2» مع أنه سبب حق عرفي.

و معه لا مجال لدعوى إرادة الحق و الباطل العرفيين، و حمل التطبيق على التخصيص أو التخطئة أو الحكومة. فإنّ لسان التطبيق آب عن حمله على أحد الأمور المذكورة كما لا يخفى.

______________________________

(1): بحار الأنوار، ج 2، ص 272

(2) وسائل الشيعة، ج 12، ص 121، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 14، و نحوه الحديث:

1 و 8 و 9.

ص: 394

فلا (1) دلالة فيه على المدّعى، لأنّ عمومه باعتبار أنواع السلطنة (2)،

______________________________

(1) غرضه المناقشة في دلالة الحديث المزبور على مملّكية المعاطاة. و حاصل المناقشة:

أنّ الاستدلال به على المقام منوط بعمومه لأسباب أنواع السلطنة و موجبات تحققها، حتى يقال: إنّ تمليك المال بالمعاطاة من أنواع السلطنة المشمولة للحديث، فالتمليك بالبيع القولي كما يكون جائزا كذلك البيع المعاطاتي.

لكنه ليس كذلك، لأنّ المتيقن من الحديث هو السلطنة على أنواع التصرفات من البيع و الهبة و الصلح و غيرها من التصرفات الاعتبارية، فإذا شكّ في قدرة المالك على نوع من أنواع التصرفات حكم له بالعموم المزبور. و أمّا بالنسبة إلى سبب حصول ذلك النوع و أنّه هل يحصل بفعل أو قول خاص أم لا؟ فلا يتمسك لذلك بالعموم المذكور، لأنّ الحديث مهمل بالنسبة إليه، فهو مجمل من هذه الجهة، و إن كان مطلقا من جهة أنواع التصرف. و لمّا كان الشك في مملّكية المعاطاة شكّا في السبب لم يكن للحديث إطلاق من هذه الحيثية حتى يتمسك به و يثبت به سببيّة المعاطاة للتمليك.

و إن شئت فقل: القدر المسلّم من العموم هو العموم بحسب الكمّ لا بحسب الكيف، فلا وجه للاستدلال بالحديث لمشروعية الأسباب. و من هنا اشتهر أنّ قاعدة السلطنة ليست مشرّعة للأسباب، بل هي في مقام جواز المسببات- و هي الأمور الاعتبارية كالهبة و الصلح- و عدم حجر المالكين عن أنواع التصرفات في أموالهم، و التقلب فيها، فإذا دلّ دليل على اعتبار اللفظ مثلا في البيع و أنّ النقل لا يتحقق إلّا بصيغة مخصوصة لم يكن ذلك منافيا لقاعدة السلطنة و مخصّصا لها.

و بعبارة أخرى: سببية شي ء لحصول نوع ثابت من السلطنة تكون حكما، و قاعدة السلطنة لا تشرّع الحكم، و لذا قيل: انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ان الناس مسلطون على أموالهم» لا على أحكامهم بحيث تكون سببية الأسباب تحت سلطنتهم.

(2) كالبيع و الصلح و الهبة و المزارعة و المساقاة و نحوها، فعموم السلطنة- المستفاد من الحكمة أو حذف المتعلّق- لا يجدي في الأسباب.

ص: 395

فهو (1) إنّما يجدي فيما إذا شك في أنّ هذا النوع من السلطنة ثابتة للمالك و ماضية شرعا في حقه أم لا، أمّا إذا قطعنا بأن سلطنة خاصة كتمليك ماله للغير نافذة في حقه ماضية شرعا، لكن شك في أنّ هذا التمليك الخاص هل يحصل بمجرّد التعاطي مع القصد (2) أم لا بدّ من القول الدال عليه (3) فلا يجوز (4) الاستدلال على سببية المعاطاة في الشريعة للتمليك بعموم تسلط الناس على أموالهم.

و منه (5) يظهر أيضا عدم جواز التمسك به لما سيجي ء من شروط الصيغة.

______________________________

(1) أي قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ان الناس مسلّطون» إنّما يجدي في دفع الشك عن نوع التصرف.

(2) أي: قصد التمليك قصدا مجرّدا عن اللفظ.

(3) أي: على التمليك.

(4) جواب «أما إذا قطعنا» و هذا متفرّع على عدم كون الحديث ناظرا إلى الأسباب، حيث إنّ النظر إلى المسببات- و هي أنواع التصرفات- غير النظر إلى الأسباب، فإنّ تشريع السلطنة على البيع- أي التمليك- ليس ناظرا إلى تشريع أسبابه، فالاستدلال بالحديث المزبور لإثبات كون المعاطاة مفيدة للملك غير تام.

و بالجملة: فالحديث مهمل بالنسبة إلى الأسباب، فلا يصح الاستدلال به لسببية المعاطاة للتمليك.

(5) أي: و من عدم كون الحديث ناظرا إلى الأسباب يظهر أيضا عدم جواز التمسك به في مقام آخر، و هو نفي ما يشك في اعتباره في الصيغة، لوحدة المناط، يعني: كما لا يجوز التمسك بالحديث لسببية المعاطاة للتمليك، كذلك لا يجوز التمسك به لما سيجي ء من شروط الصيغة، إذ المفروض عدم كون الحديث ناظرا إلى الأسباب التي منها المعاطاة و البيع القولي، فلا يجري فيه أصالة العموم أو الإطلاق حتى يصح التمسك به لنفي الشك في شرطية شي ء

ص: 396

..........

______________________________

في الصيغة [1].

______________________________

[1] ينبغي البحث هنا في جهتين: الاولى في سند الحديث، و الثانية في دلالته.

أما الأولى فحاصل الكلام فيها: أن النبوي المزبور رواه العلامة المجلسي قدّس سرّه في البحار «1» عن عوالي اللئالي «2»، و رواه ابن أبي جمهور في مواضع أربعة من عواليه، فرواه تارة عن كتب بعض الأصحاب، و اخرى عن بعض كتب الشهيد، و ثالثة عن الفاضل المقداد، و رابعة عن ابن فهد الحلّي. و الواسطة بين ابن أبي جمهور و هذه العدّة من الفقهاء هم من الأعلام الثقات المذكورين في مقدمة الكتاب في عداد مشيخته.

إلّا أنّ الحديث مرسل، إذ لم يذكر له في كتبهم سند حتى يفحص عن رجاله، فالتعويل عليه في استنباط الحكم الشرعي منوط بإحراز عمل المشهور به حتى يطمأنّ بصدوره عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بناء على المبنى المنصور من كون عمل المشهور برواية ضعيفة سندا جابرا لضعفها، و إعراضهم عن رواية صحيحة موهنا لها.

و الظاهر اعتماد الفقهاء على هذه الرواية و اسنادها إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعنوان «قال» لا «روي عنه» حتى من دأبه نقد أسناد الأحاديث و تمييز صحيحها عن سقيمها.

و الذي ظفرت عليه في كتب الفقه الاستدلالية هو: أنّ أوّل من أسند الحديث الى المعصوم عليه الصلاة و السلام هو العلامة في المختلف، حيث قال في مسألة جواز تفضيل بعض الأولاد في العطية- ردّا على ابن الجنيد-: «فإن قصد بذلك التحريم فهو ممنوع، للأصل، و لقوله عليه السّلام: الناس مسلّطون على أموالهم .. إلخ» «3» و قريب منه قوله في التذكرة في كراهة

______________________________

(1): بحار الأنوار، ج 2، ص 272.

(2) عوالي اللئالي، ج 1، ص 222، رقم الحديث: 99. و ص 457، رقم: 198، و ج 2، ص 138، رقم: 383 و ج 3، ص 208، رقم: 49.

(3) مختلف الشيعة، ج 6، ص 278.

ص: 397

______________________________

الاحتكار: «و لأنّ الإنسان مسلّط على ماله» «1».

و تكرر ذكر الحديث في كتب من تأخّر عنه كالمحقق الأردبيلي، ففي شرح الإرشاد:

«و النقل مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الناس مسلّطون على أموالهم» «2» و جعله من القواعد المسلّمة في مواضع «3».

و كذا الشهيد الثاني، حيث ذكر الحديث كدليل على الحكم في مواضع «4»، و رماه في موضع آخر بضعف السند «5».

و قال الشيخ في المبسوط و الحلي في السرائر: «و أما إذا أراد أن يحفر بئرا في داره و أراد جاره أن يحفر لنفسه بئرا بقرب ذلك لم يمنع منه، بلا خلاف في جميع ذلك، و إن كان ينقص بذلك ماء البئر الأولى، لأنّ الناس مسلّطون على أملاكهم» «6». و المظنون قويّا أنه نقل الحديث بالمعنى.

و لم أجد في كلمات القدماء استنادهم الى هذا الحديث، إلّا أنه نسب فخر المحققين قدّس سرّه في موضعين من الشرح إلى جماعة كالمفيد و أبي علي و ابن البرّاج و ابن إدريس الاستدلال به، فقال في كراهة التفرقة بين أم الولد و ولدها قبل الاستغناء: «احتج القائلون بالكراهة و بالأصل، و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الناس مسلطون على أموالهم» «7».

و كذلك نسب الفاضل الآبي الى ابن إدريس استدلاله في هذه المسألة بحديث

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 489.

(2) مجمع الفائدة و البرهان، ج 9، ص 358.

(3) لاحظ المصدر، ص 214، 243، 380، 390.

(4) مسالك الافهام، ج 6، ص 28، 135، 314.

(5) مسالك الافهام، ج 6، ص 310.

(6) المبسوط في فقه الإمامية، ج 3، ص 272، السرائر، ج 2، ص 382.

(7) إيضاح الفوائد، ج 1، ص 444.

ص: 398

______________________________

السلطنة «1».

و قال فخر المحققين في مسألة خروج منجزات المريض من الأصل أو الثلث: «و احتج القائلون بالثاني- أي بالخروج من الأصل- بأنه مالك، و الأصل جواز تصرف المالك في ملكه، لعموم قوله عليه السّلام: الناس مسلطون على أموالهم. و الجواب أن العام يخصص بالخاص» «2».

و عدم ظفرنا باستدلال مثل المفيد في المقنعة و ابن إدريس في السرائر لا ينافي حجية إخبار فخر المحققين قدّس سرّه بأنّهم احتجوا على الحكم بهذا الحديث، و لم يقل: «و يحتج لهم» حتى يحتمل استنادهم الى حجة أخرى، لكونه من باب عدم الوجدان الذي لا يدلّ على عدم الوجود.

فدعوى حصول الاطمئنان من مجموع ما ذكرناه- و لم نذكره من كلمات الفقهاء- بعمل المشهور بهذا الحديث في أبواب عديدة من الفقه الشريف قريبة جدّا.

نعم لا يتوقع العمل به ممن يقتصر في حجية الخبر على الوثوق المخبري خاصة في الأخبار الآحاد كصاحب المدارك و من حذا حذوه، لكن المبنى كفاية مطلق الوثوق بالصدور سواء نشأ من وثاقة الرواة- مع العمل بالمضمون- أم من فتوى المشهور به. هذا.

و قد يناقش في سند الحديث بما في تقرير السيد الخويي قدّس سرّه من منع انجبار ضعفه بعمل المشهور بما محصله: أنّ الشهرة إن كانت بنفسها حجة أخذ بها، و إلّا فإنّ ضمّها إلى غير الحجة لا يوجب الاعتبار، و قد اشتهر أنّ فاقد الشي ء لا يكون معطيا له. و احتمال اطلاع المشهور على قرائن تدل على صدور الرواية و لم نظفر بها غير مفيد. مع أنّه منقوض بتصريحهم بعدم انجبار ضعف الدلالة بعمل المشهور مع وحدة الملاك في البابين. و احتمال الاطلاع على القرائن مشترك بينهما. هذا بحسب الكبرى. و أما خصوص هذا النبوي فلما فيه من احتمال استنادهم في فتياهم بصحة البيع المعاطاتي إلى غيره من الوجوه التي استدل بها

______________________________

(1): كشف الرموز، ج 1، ص 514.

(2) إيضاح الفوائد، ج 2، ص 594.

ص: 399

______________________________

على ذلك. مضافا الى أن المشهور بين القدماء هو القول بالإباحة، فلا شهرة على إفادة الملك حتى يدعى استنادهم الى حديث السلطنة كي ينجبر ضعفه سندا «1».

لكنه غير ظاهر. أما بحسب الكبرى فلأنّ المدّعى حصول الوثوق بالصدور تكوينا من عمل المشهور برواية ضعيفة، و موضوع دليل حجية الخبر الواحد هو الخبر المفيد للوثوق به سواء أ كان خبريا أو مخبريا. و الدليل على اعتبار الشهرة إنما يحتاج إليه لو كان الترجيح بها تعبديا و لو لم تكن مفيدة للوثوق، فيقال: إنّ المرجحية فرع الحجية.

و لا فرق في حصول هذا الوثوق العقلائي بين الجهل بحال رواة الحديث، و الجرح فيهم، و عدم معرفتهم رأسا كما في المرسلات، لما عرفت من أنّ مناط الحجية هو الوثوق.

و أمّا النقض بجبر ضعف الدلالة فهو كما ترى قياس مع الفارق، لأنّ الدلالة عبارة عن ظهور اللفظ في المعنى، و لا بد من إحراز هذا الظهور بالوجدان لكلّ من يريد الأخذ بالكلام و الاحتجاج به، إذ لو لم يكن ظاهرا كان من المجمل الذي لا يكون حجة عند العقلاء، و لذا قيل:

إنّ المجمل و المبيّن من الأمور الإضافية، إذ ربما يكون لفظ ظاهرا في معنى عند شخص، و غير ظاهر فيه عند آخر.

و عليه فكون لفظ ظاهرا عند شخص أو جماعة لا يوجب حجيته عند من لا يرى اللفظ ظاهرا في المقصود، لعدم بناء العقلاء- الذي هو دليل حجية الظواهر- على حجية كلام لا ظاهر له بنظر شخص و إن كان له ظاهر بنظر غيره.

و هذا بخلاف الصدور، فإنّ العمل ممّن له تثبّت و خبرة بكلام يكشف عن صدوره من متكلمه، و يكون العمل محرزا لصدوره بنحو يوثق به، و المفروض أن الوثوق بالصدور هو مناط الحجية. و لو فرض كون العمل في مقام موجبا للظهور العرفي بنظر شخص آخر لم نضايق في حجيته.

و بالجملة: الظهور مترتب على دلالة تصورية لمفردات الجملة الكلامية، و تصديقية

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 2، ص 100

ص: 400

______________________________

للهيئة الحاصلة من ضمّ المفردات بعضها إلى بعض، و الظهورات أمور وجدانية لا بد من حصولها عند كل من يتمسّك بكلام. و لو فرض حصوله بعملهم كان حجة ببناء العقلاء لأنّ عمل المشهور حينئذ جهة تعليلية لحصول الظهور، نظير قول اللغوي، و لا نعني بهذا حجية استظهار شخص- و فهمه من الكلام- على غيره تعبدا.

و أما بحسب الصغرى فلكفاية عمل المشهور برواية في مورد واحد في تحقق الجبر، و لا يعتبر استنادهم إليها في جميع المقامات، و عليه فذهاب المشهور إلى الإباحة في المعاطاة و اعتمادهم على غير حديث السلطنة لا يوجب قدحا في انجباره إذا أحرز عملهم به في مسألة أخرى، لاتصافه بالحجية بعملهم به إجمالا. و عدم استدلال المشهور به في غير ذلك المورد- لعدم دلالته بنظرهم على غير ما فهموه منه- غير قادح في حجية سنده.

فالمتحصل: أنّ انجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور- إذا كان الاستناد موجبا للوثوق تكوينا بصدوره- مما لا ينبغي الارتياب فيه، و إن لم يكن استنادهم إليه توثيقا للرواة، إذ المدار في الحجية هو الوثوق بالصدور و ان لم يحصل وثوق بالرواة.

فتلخص: أنّ الاشكال كلّه في إحراز عمل المشهور بخصوص هذا النبوي لا سيّما مع كون قاعدة سلطنة الناس على أموالهم أصلا عقلائيّا متّبعا عندهم في جميع الأعصار و الأمصار.

و أمّا تصحيح السند بما أثبته ابن أبي جمهور في مقدمة العوالي «من رواية جميع أحاديث كتابة بطرق متعددة عن مشايخ الحديث، و منهم إلى الأئمة المعصومين عليهم الصلاة و السلام فيصير هذا النبوي مسندا لا مرسلا» فلا يخلو من تأمل ذكرناه في ما يتعلق بأحاديث قاعدة الميسور من شرح الكفاية «1». هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

و أمّا الجهة الثانية- و هي دلالة الحديث- فمحصّل الكلام فيها: أنّه يحتمل فيه وجوه ثلاثة، ذهب الى كل منها ذاهب:

الأوّل: تشريع السلطنة للمالك على أنحاء التصرفات كمّا و كيفا- كما هو مبنى الاستدلال به على مملّكية المعاطاة- فإذا شكّ في جواز بيع ماله أو في كيفية بيعه كالمعاطاة

______________________________

(1): منتهى الدراية، ج 6، ص 367 الى 371.

ص: 401

______________________________

و الصيغة الملحونة أمكن دفع الشك بهذا الحديث، فإنّ أصل البيع و كيفية إنشائه تصرّف في المال، مشروع بمقتضى جعل السلطنة. و يستفاد عمومه لجميع التصرفات من حذف المتعلق و هو التصرف، إذ السلطنة التشريعية على الأموال كناية عن السلطنة على التصرف فيها، و حذف المتعلق يفيد العموم، فيدل الحديث على إمضاء جميع الأسباب المتداولة عند العرف، كدلالة آية حلّ البيع على إمضاء البيوع العرفية.

و مال إلى هذا الوجه السيّدان صاحبا البلغة و العروة قدّس سرّهما. بل هو ظاهر استدلال صاحب الجواهر قدّس سرّه على مشروعية المعاطاة المقصود بها الإباحة مع التصريح بها و لو بالقرائن، حيث قال: «لعموم تسلط الناس على أموالهم» «1». بل هو مقتضى كلام المصنف قدّس سرّه في أوّل تنبيهات المعاطاة: «و حيث إن المناسب لهذا القول التمسك في مشروعيته بعموم: أنّ الناس مسلّطون على أموالهم كان مقتضى القاعدة نفي شرطية غير ما ثبتت شرطيته».

الثاني: أنّ الحديث في مقام تشريع أنحاء التصرفات كمّا- لا كيفا- فللمالك السلطنة على بيع ماله و إجارته و هبته و الصلح عليه و نحوها، فلو شكّ في مشروعيّة الهبة- مثلا- جاز التمسك لإثباتها بالحديث. و لكن لو شكّ في اعتبار صيغة خاصة فيها أو حصولها بالتعاطي لم يكن الحديث متكفّلا لهذه الجهة لعدم كونه في مقام تشريع الأسباب و تنفيذها.

و هذا الوجه هو مختار المصنف قدّس سرّه هنا.

الثالث: أنّ الحديث في مقام بيان سلطنة المالك- بما هو مالك- على التصرفات المشروعة في أمواله في مقابل الحجر، فالمالك غير محجور عن التصرف في ماله، فليس الحديث في مقام تشريع السلطنة لا كمّا و لا كيفا، حتى يتمسك به لرفع الشك في أصل جواز تصرّف خاص في المال و لا في كيفية وقوعه، بل لا بد من إحراز مشروعية التصرفات و أسبابها بوجه آخر، و يقتصر مدلول الحديث على إثبات استقلال المالك في تصرّفاته المشروعة، و عدم توقفها على إجازة الغير. مثلا إذا شكّ في استقلال الزوجة في هبة شي ء من مالها كان الحديث دالّا على استقلالها و عدم توقف هبتها على إمضاء الزوج. و أمّا إذا شك في أنّ للمالك

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 218.

ص: 402

______________________________

هبة ماله أو شك في التسبب إليها بالفعل كما يتسبب إليها بالإيجاب و القبول اللفظيين لم يصحّ التمسك بهذا الحديث في شي ء من المقامين.

و هذا الوجه مختار المحقق الخراساني قدّس سرّه في حاشية الكتاب «1» و ارتضاه بعض الأعاظم.

و لعلّه يستفاد من كلام المصنف قدّس سرّه في التنبيه الرابع، حيث قال- في ردّ التمسك بالحديث لإثبات الملك التقديري جمعا بينه و بين أدلة توقف مثل العتق و البيع على الملك- ما لفظه: «بأنّ عموم الناس مسلّطون على أموالهم إنّما يدلّ على تسلّط الناس على أموالهم، لا على أحكامهم، فمقتضاه إمضاء الشارع لإباحة المالك كلّ تصرف جائز شرعا، فالإباحة و إن كانت مطلقة، إلّا أنّه لا يباح بتلك الإباحة المطلقة إلّا ما هو جائز بذاته في الشريعة». لصراحة كلامه قدّس سرّه في عدم مشرّعية الحديث للتصرف المشكوك حكمه.

و هنا احتمال رابع حكي عن المحقق الرشتي و أفاده المحقق الإيرواني قدّس سرّهما و هو: كون الحديث أضيق مدلولا مما تقدم، فإنّ ظاهر تسلّط المالك على التصرف في ماله مع بقاء الموضوع و هو المال، و من المعلوم أنّ إخراج المال- عن إضافته إلى المالك- ليس تصرّفا في المال المضاف الى مالكه، لأنّه من قبيل إعدام الموضوع بالحكم «2»، فالحديث قاصر عن إثبات جواز التمليك. هذا.

هذه محتملات الحديث ثبوتا. و قد عرفت أنّ لكلّ منها قائلا، و لا بد من عطف عنان البحث الى مقام الاستظهار، فنقول و به نستعين:

يستدل للقول الأوّل بوجهين:

أحدهما: أنّه مقتضى عموم المتعلق المحذوف- و هو التصرف- فإنّ كل ما يعدّ تصرفا للمالك في ماله يكون نافذا و مسلّطا عليه، و من المعلوم أنّ البيع المعاطاتي تصرف في المال،

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 12 و 14.

(2) حاشية المكاسب للسيد الاشكوري، ص 10. حاشية المكاسب للمحقق الايرواني، ج 1 ص 77.

ص: 403

______________________________

فالمالك مسلّط عليه، و لا معنى لسلطنته عليه إلّا جوازه و نفوذه شرعا. و بيانه: أنّ هنا أمورا ينبغي الالتفات إليها:

أحدها: أنّ السلطنة تشريعية لا تكوينية.

ثانيها: ظهور السلطنة في الوضع، لعدم السلطنة على التكليف الشرعي كما هو واضح، فلسلطنة المالك على التصرف في ماله عبارة عن نفوذ تصرفاته في ماله و إمضائها.

ثالثها: أنّ الأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد، فإنّه خلاف الأصل، فيقدّم عليه عند الدوران بينهما.

رابعها: أنّ حذف المتعلّق يفيد العموم كما في مثل قوله عليه السّلام: «الماء يطهّر، و لا يطهّر» إلّا إذا كان هناك قرينة على خلافه.

إذا تحققت هذه الأمور كان مقتضاها الإطلاق كمّا و كيفا، إذ لا قرينة على إرادة تصرف خاص من متعلق السلطنة، و حذفه يفيد العموم، و حمله على خصوص الأنواع دون أسبابها- كما عليه المصنف هنا- بلا قرينة، بل الحذف و التأسيس قرينتان على العموم، إذ لو حمل على خصوص الأنواع- دون أصناف كل منها- لزم كون الحديث مؤكّدا لا مؤسّسا. و من المعلوم أنّ نقل المال الى شخص بالمعاطاة أو بغيرها ممّا يراه المالك سببا للنقل تصرف في ماله، و هو- بمقتضى عموم الحديث- مسلّط على هذا التصرف، و منع المالك عنه ينافي عموم السلطنة.

و بعبارة اخرى: أنّ منع الإطلاق في الحديث يوجب انسداد باب التمسك بالإطلاق، و مجرّد احتمال الإهمال لا يقتضي رفع اليد عن ظاهر الكلام الذي هو كاف في إحرازه، من دون حاجة الى الإحراز القطعي الموجب لانسداد باب الإطلاق. و من المعلوم أنّ إطلاق السلطنة يشمل جميع أنحائها حتى إخراج المال عن ملكه كابقائه، إذ لا فرق- في نظر العقلاء- في السلطنة على المال بين الإبقاء و الإخراج و لو بالإعراض، ضرورة كون كل منهما من حصص السلطنة التي موضوعها إضافة المال الى المالك، و الإخراج يتعلق بهذه الإضافة، و في الرتبة المتأخرة تزول الإضافة. نظير العتق و الوقف، فإنّهما يتعلقان بهذه الإضافة مع انعدامها في الرتبة المتأخرة.

ص: 404

______________________________

و الكاشف عن هذا الإطلاق جواز التصريح به و بتقييده: بأن يقال: المالك مسلّط على التصرف الإبقائي و الإخراجي إلّا التصرف الكذائي.

و الحاصل: أنّه لا ينبغي التأمل في كون الإبقاء و الإخراج من حالات الملك اعتبارا، و من أنحاء التصرفات التي يشملها إطلاق دليل السلطنة، فلا فرق في ثبوت السلطنة على المال لمالكه بين التصرفات أصلا من إعدام المال و إتلافه بأكل و شرب و ضيافة، و من إخراجه عن ملكه مع بقاء عينه كبيعه و هبته، فإنّ من راجع العقلاء في معاملاتهم مع أموالهم يرى أنّهم يثبتون السلطنة للمالك على إبقاء المال و إخراجه على نهج واحد.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه فإنّه- بعد أن أورد على المتن من «جعل حقائق المعاملات أنواع السلطنة» بأنّ السلطنة المجعولة هي القدرة على التصرفات المعاملية المتحققة بترخيص الشارع تكليفا و وضعا، فتحقق بالترخيص تكليفا القدرة على إيجادها بما هي عمل من الأعمال، و بالترخيص وضعا القدرة على المعاملة بما هي معاملة مؤثرة في مضمونها، فالتصرفات متعلقات السلطنة لا عينها و أنواعها- قال ما محصله: انّ إطلاق الحديث لا يكون بلحاظ الكمّ خاصة، بل إطلاقه بلحاظ الكيف أقوى منه بلحاظ الكم، و ذلك لأنّ السلطنة على البيع مثلا باعتبار تخصّصها بمتعلّقها تكون حصّة من طبيعي السلطنة، و لمّا كان البيع المتحقق بالمعاطاة حصّة من طبيعي البيع قطعا كانت السلطنة على هذه الحصة حصّة من طبيعي السلطنة، فإذا كان الشارع في مقام الترخيص التكليفي و الوضعي لذي المال- و هو المحقّق لحقيقة السلطنة- فلا محالة تكون الأسباب ملحوظة إمّا ابتداء و بنفسها، أو بتبع لحاظ المسببات المفروضة حصصا، و بهذا الاعتبار لها نفوذ و مضيّ، كما هو مقتضى اعتراف الماتن بقوله: «ثابتة للمالك و ماضية في حقه شرعا» و لا نفوذ و لا مضي إلّا بملاحظة الأسباب و لو من حيث القيدية المحصّصة للتمليك و المحصّصة للسلطنة «1».

و لعلّ هذا الوجه أقوى من سابقه في إثبات السلطنة المطلقة كمّا و كيفا، بلحاظ أنّ

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 26.

ص: 405

______________________________

مقتضى إطلاق السلطنة على البيع هو السلطنة على كل حصّة من طبيعي البيع. و يتعيّن المصير إليه لو لا النقض- الآتي بيانه- المانع عن الالتزام بالإطلاق أصلا.

و يستدل للقول الثاني بأنّ دليل السلطنة يثبت أنحاء السلطنة على المال بما هو مضاف الى مالكه، فكل سلطنة راجعة الى هذه الإضافة جائزة و نافذة، بخلاف ما لا يرجع الى ذلك، بل يرجع إلى الحكم الشرعي، فإنّه لا موجب لإثباته، إذ لم يرد «الناس مسلطون على أحكامهم» و الشك في اعتبار الصيغة أو غيرها مما يتعلّق بالسبب يرجع الى الحكم الشرعي، و هو كون الفعل كالقول سببا للنقل و الانتقال، و من المعلوم أنّه أجنبي عن حيثية إضافة المال إلى مالكه، فلا يندرج تحت سلطنة المالك على ماله، بل هو من الأحكام المقرّرة شرعا أو عرفا، فلا بد فيه من الرجوع الى الشرع أو العرف.

و بالجملة: ليس كون شي ء سببا لتحقق البيع أو الهبة أو كون الإعراض مزيلا للملكية من حدود السلطنة و شؤونها حتى يشمله دليل السلطنة، فدليل السلطنة يشمل المسببات دون الأسباب، و إطلاقها بالنسبة الى جميع أنحاء التصرفات المترتبة على إضافة المال الى مالكه محكّم، لا ما يكون أجنبيا عن هذه الحيثية، مثل دخل العربية و نحوها في سببية البيع مثلا للتمليك.

و يستدل للقول الثالث: بأنّ إضافة المال الى المالك حيثية تقييدية في حكم الشارع بالسلطنة و تصلح قرينة على عدم إرادة العموم في المتعلق، و أنّ المراد به خصوص الأحكام الراجعة إلى المالك من حيث كونه مالكا، كما إذا شكّ مثلا في نفوذ هبة المالك ماله بدون إذن أولاده أو ولاة أمره، و أنّه يفتقر هذا التصرف إلى إذنهم أم لا؟ فيدفع الشك المزبور بهذا الحديث الدال على استقلال المالك في تصرفاته المشروعة، و عدم كونه محجورا عنها، و ليس للغير مزاحمته فيها.

و أمّا الأحكام الشرعية- المتعلقة بالمال- التي لا ربط لها بحيثية إضافته إلى المالك فليس الحديث متكلفلا بها و لا ناظرا إليها. و من المعلوم أنّ جواز بيع المالك ماله للغير

ص: 406

______________________________

و تمليكه إيّاه حكم شرعي غير مرتبط بالمالك من حيث كونه مالكا. و كذا سببية المعاطاة للتمليك ليست من أحكام إضافة المال الى المالك حتى يتمسك بإطلاق السلطنة لإمضاها.

فمعنى الحديث- و اللّه العالم- أنّ للمالك كل تصرف ثبتت له مشروعيته في ماله، بلا حاجة الى مراجعة شخص آخر، فتصرّف المالك نافذ بالاستقلال.

و هذا هو السّر في عدم تمسك أحد من الأصحاب بهذا الحديث لجواز أكل ما يشك في حلية لحمه كالإرنب المملوك، بدعوى إطلاق السلطنة على المال لكل تصرف خارجي و اعتباري.

بل مقتضى إطلاق مشرّعية الحديث وقوع المعارضة بينه و بين أدلة بعض المحرّمات كحرمة أكل الطحال و نحوه من أجزاء حيوان مأكول اللحم، و حرمة شرب العصير العنبي قبل ذهاب ثلثيه، بتقريب: أنّ إطلاق السلطنة قاض بجواز الأكل و الشرب و بصحة بيعهما، و دليل حرمة الأكل و الشرب شامل لما إذا كانا مملوكين أو مغصوبين أو مرخّصا فيهما من قبل مالكيهما، فيتعارض الإطلاقان بالعموم من وجه في الطحال و العصير المملوكين، و يتساقطان لفقد المرجح، فتصل النوبة إلى عمومات الحلّ، و هذا مما لا يظنّ أن يجترئ عليه متفقة فضلا عن فقيه.

و التخلص من هذا النقض منوط بقصر مدلول الحديث على جعل استقلال الملّاك في تصرفاتهم المشروعة في أموالهم و عدم حجرهم عنها.

نعم يشكل هذا الوجه الذي ركن إليه المحقق الخراساني قدّس سرّه- و ربما استفيد من كلام المصنف قدّس سرّه أيضا- بما أفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه من: أنّ المقتضي للسلطنة هو إضافة المال الى مالكه، و المقتضى هو القدرة المجعولة تكليفا و وضعا، و لا مانع من الإخبار بثبوت السلطنة بمجرد ثبوت مقتضيها سواء أ كانت هي فعلية أم شأنية، لوجود مانع كالصغر و الفلس و نحوهما.

و أمّا الحجر فهو مانع عن فعلية السلطنة، و لم يعهد الإخبار عن عدم المانع عن الشي ء بمجرد ثبوت مقتضية، فإنّ عدم المانع يستند الى عدم سببه لا إلى وجود المقتضي و هو الملكية.

ص: 407

______________________________

و عليه فلا وجه لحمل الحديث- الظاهر في جعل السلطنة التي تقتضيها الملكية- على بيان أمر عدمي و هو الحجر المانع عن نفوذ تصرّفات المالك.

لكن يمكن أن يقال: إنه لا غرابة في استظهار استقلال المالك و عدم حجره من الحديث، إذ لو كانت إضافة الملكية حيثية تعليلية في جعل السلطنة بأن كانت العبارة «الناس مسلطون على أموالهم لأنّها أموالهم» أمكن استبعاد إسناد عدم الحجر إلى تمامية المقتضي، بناء على جريان حديث المقتضي و المقتضي في موضوعات الأحكام الشرعية. مع أنّ مقام الاستظهار من الخطابات الملقاة إلى العرف مقام آخر، فالمهمّ قالبية اللفظ للمراد، و تعارف إفادته به، و لا مانع من إرادة عدم الحجر و حرمة المزاحمة من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الناس مسلطون على أموالهم».

و لو فرض عدم تمامية ما أفاده المحقق الخراساني قدّس سرّه من سوق الحديث بحسب ظهوره الأوّلي في الاحتمال الثالث دار الأمر بين سقوطه رأسا بعد تعذر الأخذ بمشرّعيته لأنواع التصرفات و أسبابها، و بين حمله على إفادة مجرّد استقلال الملّاك في تصرفاتهم المشروعة في أموالهم، و الظاهر أنّه المتعيّن.

هذا مضافا إلى: تقييد الإطلاق من حيث السبب بما دلّ على حرمة أكل أموال الناس بالباطل واقعا، و سيأتي توضيحه في أدلة اللزوم إن شاء اللّه تعالى.

و قد تحصّل من هذا البحث الطويل الذيل أمور:

الأوّل: اعتبار الحديث سندا بعمل المشهور و إرسالهم إياه إرسال المسلّمات.

الثاني: أنه لا يستفاد من الحديث أزيد من استقلال المالك في التصرف، لا مشرّعيته كمّا و كيفا.

الثالث: أنّه لا فرق في سلطنة المالك على ماله في التصرفات المشروعة بين التصرف المزيل لعلقة الملكية و المبقي لها.

الرابع: أنّه لا مانع من التمسك بإطلاق السلطنة عند الشك في ورود دليل على منع المالك عن بعض أنحائها، لأنّ مرجعه الى الشك في وجود المانع، و الإطلاق يدفعه.

ص: 408

و كيف كان (1) ففي الآيتين (2) مع السيرة (3) كفاية.

اللهم إلّا أن يقال (4): إنّهما (5) لا تدلان [1] على الملك، و إنّما تدلّان على إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك، كالبيع و الوطي و العتق و الإيصاء،

______________________________

(1) يعني: سواء تمّ الاستدلال بحديث السلطنة على مملّكية المعاطاة أم لم يتم، لما عرفت من المناقشة في دلالته، لعدم كونه ناظرا الى تشريع السلطنة على الأسباب حتى يؤخذ بإطلاقه.

________________________________________

جزائرى، سيد محمد جعفر مروج، هدى الطالب في شرح المكاسب، 7 جلد، مؤسسة دار الكتاب، قم - ايران، اول، 1416 ه ق

هدى الطالب في شرح المكاسب؛ ج 1، ص: 409

(2) و هما آية حلّ البيع، و التجارة عن تراض، لأنّ حلية مطلق التصرفات تستلزم شرعا مملّكية المعاطاة.

(3) أي: السيرة العقلائية المستمرة إلى عصر المعصومين عليهم السّلام، الممضاة بعدم الردع عنها.

إلى هنا تعرّض المصنف قدّس سرّه لأدلة أربعة على إفادة المعاطاة للملك، و اختار وفاء ثلاثة منها بالمقصود، و ناقش في دلالة حديث السلطنة كما عرفت مفصّلا.

(4) مقصوده من هنا إلى قوله بعد أسطر: «فالأولى التمسك في المطلب بأن المتبادر عرفا من حلّ البيع صحته شرعا» الخدشة في دلالة الآيتين و السيرة على إفادة المعاطاة للملك من حين التعاطي.

(5) أي: أنّ الآيتين لا تدلان على الملك- من أوّل الأمر- الذي ادّعاه المحقق الثاني و وافقه المصنف بقوله: «لا يخلو من قوة». و ليعلم أنّ مناقشته في الآيتين ليست بمعنى كونهما أجنبيتين عن تأثير المعاطاة في الملكية رأسا كما كان حديث السلطنة أجنبيا عنه، بل غرضه قدّس سرّه من الخدشة في دلالة الآيتين الكريمتين هو: أنّ المدّعى حصول النقل الملكي من حين وقوع التعاطي، و الآيتان إنّما تدلّان على حصول الملكية الآنيّة قبل تصرف كل من

______________________________

[1] بل تدلان على الملك. أمّا الأوّلى فبالدلالة المطابقية إن أريد بحلّ البيع ما هو أعم من التكليفي و الوضعي، و بالالتزامية إن أريد به خصوص التكليفي.

ص: 409

..........

______________________________

المتعاطيين فيما أخذه من الآخر تصرّفا منوطا بالملك كالوقف و العتق، و لا تدلّان على الملك من أوّل الأمر.

و توضيح المناقشة: أنّ دلالة الآيتين على كون المعاطاة كالبيع القولي مفيدا للملكية من أوّل الأمر تتوقف على مقدمات ثلاث:

الاولى: أنّ المدلول المطابقي للآيتين هو حكم تكليفي أعني به إباحة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة.

الثانية: أنّ حلية بعض أنحاء التصرفات تكليفا و صحتها وضعا منوطة بصدورها من المالك، لا من المباح له.

الثالثة: أنّ إباحة جميع التصرفات المترتبة على البيع تستلزم شرعا تأثير المعاطاة- التي هي بيع عرفي- في الملكية من أوّل الأمر.

و لو اختلّت إحدى هذه المقدمات اختلّ الاستدلال بالآيتين على تأثير المعاطاة في الملكية من أوّل الأمر. و غرضه قدّس سرّه منع المقدمة الثالثة- و هي الملازمة الشرعية بين الحلية التكليفية و الملكية- و ذلك لأنّ الملازمة بين إباحة التصرف المترتب على البيع القولي و بين

______________________________

و أما الثانية فهي و إن كان مفادها حلية التصرفات، إلّا أنّها لمّا كانت مترتبة على التجارة عن تراض فهم العرف منه صحة التجارة، و أنّ ترتّب حلية تلك التصرفات على التجارة يكون لأجل التجارة، فيكون من قبيل ذكر اللازم و إرادة الملزوم، نظير قول مالك الأمة بعد تزويجها من الغير: «يجوز لك وطيها» فلا يفهم منه إلّا الزوجية، لا جواز الوطي من باب التمليك.

فما أفاده المصنف قدّس سرّه من «استفادة الملكية في سائر المقامات من جهة الإجماع على الملازمة الشرعية بين إباحة التصرفات و الملكية، و الإجماع في البيع المعاطاة مفقود» في غاية الغموض. فالإنصاف وفاء الآيتين بالدلالة على مملكية المعاطاة.

و أما مناقشته قدّس سرّه في السيرة فممنوع لمن راجع السيرة و أهلها.

ص: 410

و إباحة (1) هذه التصرفات إنّما تستلزم الملك

______________________________

الملكية ثابتة من جهة قيام الإجماع على إباحة مطلق التصرف حتى المتوقف على الملك، و هو كاشف عن حصول الملكية بمجرد العقد اللفظي. و أمّا في البيع المعاطاتي فلا دليل على هذه الملازمة، بل صرّح بعض الفقهاء بالتفكيك بينهما، فقال بإباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك، و بعدم إفادة المعاطاة للملك، و تتوقّف الملكية على تلف إحدى العينين. و مع هذا التصريح كيف تتجه دعوى الملازمة الشرعية بين حلية التصرفات المترتبة على البيع و بين الملك من أوّل الأمر؟

نعم لا مناص من الالتزام بالملكية الآنامائيّة إذا أراد أحد المتعاطيين أن يتصرّف في المأخوذ بالمعاطاة- بما يتوقف على الملك، جمعا بين الأدلة، و لكن هذه الملكية الآنيّة أجنبية عن المدّعى و هو تأثير المعاطاة في الملك من أوّل الأمر.

و قد تحصل مما ذكرنا: قصور دلالة الآيتين الكريمتين على إثبات مملكية المعاطاة على حدّ البيع القولي.

(1) هذا إشارة إلى توهم و دفعه- و قد اتّضحا مما ذكرناه- أمّا التوهم فحاصله: أنّ الآيتين و إن لم تدلّا مطابقة على الملك، لكنهما تدلّان عليه التزاما، إذ الإباحة المطلقة تقتضي حصول الملك من أوّل الأمر، لوجود الملازمة بينهما كما في غير مقامنا من البيوع القولية، حيث إنّه يحصل الملك في البيع القولي من حين العقد بلا إشكال، فوزان البيع المعاطاتي وزان البيع القولي في استكشاف الملكية- من أوّل الأمر- من إباحة التصرفات حتى المتوقفة على الملك، للملازمة الشرعية بين الإباحة المطلقة و بين الملك كذلك. فتحقق اللّازم أي الملك من أوّل الأمر في البيع المعاطاتي، و هو المطلوب.

و أمّا الدفع فحاصله: أنّ القياس مع الفارق، بداهة كون الملازمة بين إباحة التصرفات و بين الملكية من أوّل الأمر- في البيع اللفظي- شرعية، لا عقلية و عادية حتى يتعدّى من موردها و هو البيع القولي إلى المعاطاتي.

و الوجه في كون الملازمة شرعية: أنّ الدليل على حصول الملكية من حين العقد هو الإجماع على عدم انفكاك الملك عن العقد المفيد لإباحة جميع التصرفات في العوضين، و من المعلوم اختصاص هذه الملازمة بالبيع القولي الذي هو المقيس عليه.

ص: 411

بالملازمة الشرعية (1) الحاصلة في سائر المقامات من الإجماع و عدم القول بالانفكاك (2)، دون المقام (3) الذي لا يعلم ذلك (4) منهم، حيث (5) أطلق القائلون (6) بعدم الملك إباحة التصرفات،

______________________________

و أمّا البيع المعاطاتي فلم يثبت فيه التلازم المزبور، بل علم من المشهور الانفكاك بينهما فيه، لأنّ القدماء- مع قولهم بالإباحة و عدم مملّكية المعاطاة- قائلون بإباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك، على ما يقتضيه إطلاق كلماتهم، حيث لم يقيّدوا «إباحة التصرف» بما لا يتوقف على الملك.

و يشهد بهذا الإطلاق فهم الشهيد الثاني قدّس سرّه على ما صرّح به في المسالك من «أنّ من أجاز المعاطاة سوّغ أنواع التصرفات» «1» فإنّه لا مسوّغ لهذه النسبة إليهم إلّا إطلاق كلماتهم.

(1) هذه الكلمة هي القرينة القطعية على أنّ مراد المصنف قدّس سرّه من الاستدلال بالآيتين- بالتقريب الأوّل من الوجوه الثلاثة- هو الملازمة الشرعية بين الإباحة التكليفية و مملكية المعاطاة و صحتها. و تقييد الملازمة ب «الشرعيّة» لأجل التنبيه على أنّ الملازمة لو كانت عرفية كانت حليّة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة دالة على إفادة الملك من حين التعاطي كالبيع القولي، إذ لا يرى العرف فرقا بينهما في إفادة الملك من أوّل الأمر.

(2) بين إباحة جميع التصرفات و بين الملك من أوّل الأمر، و أنّ الملكيّة لا تتوقف على التصرف أو التلف و نحوهما من الملزمات.

(3) و هو البيع المعاطاتي، و هذا إشارة إلى الدفع المتقدم بقولنا: «ان القياس مع الفارق .. إلخ».

(4) أي: عدم الانفكاك بين إباحة جميع التصرفات و بين الملك من أوّل الأمر.

(5) تعليل لقوله: «لا يعلم ذلك منهم» فإنّ إطلاق إباحة التصرفات مع القول بعدم الملك يوجب القول بالانفكاك بين إباحة التصرفات و بين الملك.

(6) كقول الشيخ في الخلاف: «و إنّما يكون إباحة له، فيتصرف كل منهما فيما أخذه تصرّفا مباحا من غير أن يكون ملكه» و نحوه عبارة ابن إدريس و السيد ابن زهرة و القاضي

______________________________

(1): مسالك الافهام، ج 3، ص 149.

ص: 412

و صرّح (1) في المسالك «بأنّ من أجاز المعاطاة سوّغ جميع التصرفات» غاية الأمر (2) أنه لا بدّ من التزامهم بأنّ التصرّف المتوقف على الملك يكشف عن سبق الملك عليه آنا ما، فإنّ (3) الجمع

______________________________

الحلبي و غيرهم، و قد تقدمت في المقام الأوّل المنعقد لتحرير محل النزاع في المعاطاة.

(1) معطوف على «أطلق القائلون» يعني- مضافا الى إطلاق كلام القدماء- صرّح في المسالك، و مقصوده قدّس سرّه أنّ كلمات الأصحاب في الحكم بإباحة التصرف و إن كانت دالة بإطلاقها على إباحة كل تصرف حتى ما يتوقف على الملك، إلّا أنّه يؤيّد هذا الاستظهار بفهم الشهيد الثاني قدّس سرّه حيث نسب الى المشهور إباحة مطلق التصرفات مع التزامهم بعدم الملك.

و على هذا فالقول بالملازمة غير معلوم بل معلوم العدم، فكيف يقاس البيع المعاطاتي- الذي لم يثبت فيه الإجماع على الملازمة بين إباحة كل تصرف و بين الملك- على البيع القولي الذي ثبت فيه الإجماع المزبور.

و عليه فلا يحصل الملك الابتدائي بالمعاطاة، و تصل النوبة إلى الملكية الآنيّة من باب الجمع بين الأدلة.

(2) غرضه قدّس سرّه توجيه فتوى المشهور حتى لا يرد عليهم إشكال، محصّله: أن نفي مملّكية المعاطاة ينافي إباحة التصرفات المتوقفة على الملك كالعتق و الوقف، فإنّهما لا يقعان من المباح له. فأجاب قدّس سرّه بأنّ المشهور لا بدّ أن يلتزموا بالملكية الآنامّائية في التصرفات المنوطة بالملك، و إلّا كان اللازم تخصيص إباحة التصرف، بما يتوقف على الملك، فإذا لم ينبّه المشهور على هذه الملكية الآنيّة فإنّما هو للاتّكال على وضوحها لا لأجل إنكارها.

(3) تعليل لقوله: «يكشف عن سبق» يعني: أن دخول المأخوذ بالمعاطاة في ملك المتصرّف- آنا مّا- يستفاد من الجمع بين دليلين، أحدهما: ما دلّ على إباحة جميع التصرفات في المأخوذ بالمعاطاة.

ثانيهما: الأدلة الخاصة على توقف بعض التصرفات على الملك و عدم صحتها من المباح له، مثل قولهم عليهم السّلام: «لا بيع إلّا في ملك، لا وقف إلّا في ملك، لا عتق إلّا في ملك».

فالجمع بين كل واحد من هذه و بين الإجماع على إباحة جميع التصرفات يقتضي

ص: 413

بين إباحة هذه التصرفات (1) و بين توقفها على الملك يحصل بالتزام هذا المقدار (2)، و لا يتوقّف على الالتزام بالملك من أوّل الأمر ليقال: إنّ مرجع هذه الإباحة أيضا الى التمليك (3).

و أمّا ثبوت السيرة و استمرارها على التوريث فهي (4) كسائر سيراتهم الناشئة عن المسامحة و قلّة المبالاة في الدين ممّا لا يحصى في عباداتهم و معاملاتهم و سياساتهم كما لا يخفى.

و دعوى (5) أنّه لم يعلم من القائل بالإباحة جواز مثل هذه التصرفات المتوقفة

______________________________

الالتزام بدخول المال في ملك المتعاطي- آنا مّا- حتى يقع البيع و الوقف و العتق في ملكه، لا في ملك المبيح.

(1) المتوقفة على الملك.

(2) أي: الملك آنا ما.

(3) يعني: حتى يصحّ التمسك بالآيتين على مملّكية المعاطاة من أوّل الأمر.

و بهذا ظهرت المناقشة في دلالتهما على كون المعاطاة كالبيع القولي مفيدا للملك من أوّل الأمر. و لهذه المناقشة تتمة سيأتي بيانها بعد الخدشة في السيرة.

(4) غرضه المناقشة في الدليل الأوّل و هو السيرة- التي تشبّث بها سابقا على صحة المعاطاة و إفادتها الملك- بأنّ هذه السيرة من السير التي لا عبرة بها، لنشوها عن المسامحة و قلّة المبالاة بالدين، فلا يكشف استمرارها عن رضى المعصوم عليه السّلام بها حتى تكون حجة، و من المعلوم أنّ مجرّد الاستمرار الى عصر المعصوم عليه السّلام ليس إمضاء لها، فهي كسيرتهم على المنكرات كأكل الربا و حلق اللحى، فهل يكون مجرّد تعارفها في عصر المعصوم إمضاء لها؟

و لا يخفى أنّ الخدشة في السيرة بما في المتن ظاهر في أنّ السيرة المستدل بها على مملّكية المعاطاة هي العقلائية لا المتشرعية، إذ لو كانت متشرعية كانت حجة بمجرّد إحراز استمرارها، لأنّها إجماع عملي كاشف عن رضى الشارع.

(5) كان المناسب ذكر هذه الدعوى قبل قوله: «و أما ثبوت السيرة .. إلخ» لأنّ هذه

ص: 414

على الملك، كما يظهر من المحكي «1» عن حواشي الشهيد على القواعد من: منع إخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس و الزكاة و ثمن الهدي، و عدم جواز وطي الجارية المأخوذة بها (1). و قد صرّح الشيخ «2» رحمه اللّه بالأخير في معاطاة الهدايا، فيتوجّه التمسك

______________________________

الدعوى من بقية الإشكالات المتعلقة بالآيتين، و غرض المستشكل نفي ما أفاده المصنف قدّس سرّه من الملكية الآنيّة و إثبات الملكية من أوّل الأمر، و أنّه لا وجه للجمع بين الأدلة بالالتزام بالملك آنا ما.

و توضيح ذلك: أنّ نفي الإجماع على الملازمة بين إباحة جميع التصرفات و بين الملك مبني على العلم بأنّ المشهور- القائلين بعدم الملك من أوّل الأمر- ملتزمون بإباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك، لأنّه حينئذ يثبت عدم الإجماع على الملازمة بين إباحة جميع التصرفات و بين ثبوت الملك من أوّل الأمر.

لكنّه لم يعلم هذا الالتزام منهم، إذ لا طريق الى العلم بذلك إلّا الإطلاق، و هو غير ثابت، لعدم إحراز كونهم في مقام البيان من هذه الجهة، لقوّة احتمال إرادتهم التصرفات غير المتوقفة على الملك، كما يؤيّده- بل يشهد به- ما عن الشهيد قدّس سرّه في حواشيه على القواعد:

من منع التصرفات المتوقفة على الملك، كإخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس، و الزكاة، و ثمن الهدي، و عدم جواز وطي الجارية المأخوذة بالمعاطاة. و كذا يشهد به تصريح شيخ الطائفة في المبسوط بعدم جواز وطي الجارية المأخوذة بالهدية المعاطاتية.

و عليه فإذا لم يثبت من القائلين بالإباحة جواز التصرفات المتوقفة على الملك فيتمسك في إثبات جوازها بالآيتين، إذ لا دليل آخر حسب الفرض على حلية هذه التصرفات، فيثبت الملك من أوّل الأمر، فيكون المأخوذ بالمعاطاة كالمأخوذ بالبيع اللفظي في ثبوت الملك من أوّل الأمر.

(1) أي: بالمعاطاة البيعية، في قبال معاطاة الهدايا الآتية في كلام شيخ الطائفة.

______________________________

(1): الحاكي هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة، ج 4، ص 158.

(2) المبسوط في فقه الإمامية، ج 3، ص 315.

ص: 415

حينئذ (1) بعموم الآية على جوازها، فيثبت الملك (2)، مدفوعة (3) بأنّه و إن لم يثبت ذلك (4) إلّا أنّه لم يثبت (5) أنّ كلّ من قال بإباحة جميع التصرفات قال بالملك من أوّل الأمر.

______________________________

(1) أي: حين عدم العلم بالتزام القائلين بالإباحة بجواز التصرفات المنوطة بالملك يتوجه التمسك بعموم الآية بجواز تلك التصرفات من أوّل الأمر.

(2) يعني: من أوّل الأمر، لأنّه مقتضى عموم الآية، فتكون الآيتان ردّا على القائلين بالإباحة، و لا وجه للالتزام بالملكية الآنيّة من باب الجمع بين الأدلة.

(3) هذا دفع الدعوى المذكورة، و حاصله: أنّ مجرّد عدم المعلومية- و جواز إثبات هذا النحو من التصرفات و لو بالآيتين- غير كاف في إثبات المطلوب و هو الملكية من أوّل الأمر، بل يتوقف ذلك على إثبات الملازمة بالإجماع، و أنّ كل من قال بإباحة جميع التصرفات قال بحصول الملك من أوّل الأمر، و دون إثبات هذه الملازمة خرط القتاد.

(4) أي: و إن لم يثبت من القائل بالإباحة جواز التصرفات المتوقفة على الملك. و وجه عدم الثبوت: تصريح الشهيد بعدم جواز بذل المأخوذ بالمعاطاة في الخمس و الزكاة المتوقفين على الملك.

(5) يعني: لم يثبت التلازم بين إباحة جميع التصرفات و بين الملك من أوّل الأمر. و وجه عدم ثبوت الملازمة: إمكان التزام القائل بإباحة جميع التصرفات- حتى المتوقفة على الملك- بالملك في آن التصرف، لا بالملك من أوّل الأمر، فيتعيّن حينئذ الالتزام بالملكية الآنيّة جمعا بين الأدلة.

و قد تحصّل الى هنا: أنّ المصنف قدّس سرّه أبطل استدلاله بالآيتين الشريفتين بناء على التقريب الأوّل، و هو حلية التصرفات المترتبة تكليفا على البيع و استلزامها شرعا مملّكية المعاطاة من أوّل الأمر كالبيع القولي.

ص: 416

فالأولى (1) حينئذ التمسك في المطلب بأنّ المتبادر عرفا من حلّ البيع صحته شرعا، هذا.

______________________________

(1) هذا متفرع على المناقشة في دلالة الآيتين بالملازمة الشرعية بين حلية التصرف و الملكية من أوّل الأمر. و مقصوده تقريب دلالة الآيتين على مملكية المعاطاة بوجه آخر، و هذا تقريب ثالث أشرنا إليه في صدر البحث عن آية حلّ البيع، و محصله: إثبات الملازمة العرفية بين إباحة التصرف و بين الملك. و توضيحه: أن متعلّق الحلّ هو التصرفات المترتبة على البيع، و حليّتها يتصور على نحوين:

أحدهما: مجرّد تحليل التصرفات الموقوفة على الملك، و هذا المدلول المطابقي لا يستلزم شرعا و لا عرفا صحة المعاطاة و مملّكيتها من حين الانعقاد. و قد تقدّم وجه عدم الملازمة بالتفصيل.

ثانيهما: تحليل التصرفات المترتبة على البيع بما أنّه معاملة يتسبب بها إلى الملك، بأن تدلّ الآية على حلية التصرف بخصوص هذا السبب- أي البيع الصادق على المعاطاة- و من المعلوم أنّ جواز التصرف بهذا السبب الخاص يلازم عرفا سببية المعاطاة للحلية و تأثيرها فيها، و هذا معنى استلزام الحلية التكليفية للصحة و النفوذ عرفا، يعني: أنّ المعاطاة من حين انعقادها بيع مؤثر في النقل الملكي، و لا بد من ترتيب آثار البيع عليها في إفادة الملكية من أوّل الأمر.

و هكذا يقال في استلزام إباحة الأكل لسببية التجارة عن تراض، يعني: أنّ حلية التصرف المتوقف على الملك فيما يؤخذ بالتجارة عن تراض- بما أنّها سبب مملّك- تستلزم صحتها و تأثيرها في الملكية من أوّل الأمر، و إلّا لم تكن الحلية مستندة إلى سببية التجارة، لإمكان تصوير الملكية الآنامائية.

و قد تحصل من كلمات المصنف في الاستدلال بآيتي الحلّ و التجارة وجوه ثلاثة:

الأوّل: دلالة الآيتين على حلية التصرفات المترتبة على البيع و التجارة تكليفا بالمطابقة، و دلالتهما بالملازمة الشرعية على الصحة و الملكية. و قد ناقش فيه بمنع الملازمة

ص: 417

[الدليل الخامس: الإجماع المركّب]
اشارة

مع إمكان (1) إثبات صحة المعاطاة في الهبة و الإجارة ببعض

______________________________

الشرعية، و إنّما غايته إثبات الملكية الآنيّة قبل التصرف المنوط بالملك.

الثاني: دلالة الآيتين على الحكم الوضعي و هو الصحة لا مجرّد الحكم التكليفي. و قد ناقش فيه بالأمر بالتأمل فيه. و لعلّ وجهه انتفاء الجامع بين الحلّ التكليفي و الوضعي، فلا بد أن يراد أحدهما، و مقتضى ظهوره في التكليف تعلقه بالتصرفات، و هو الوجه الأوّل.

الثالث: دلالة الآيتين بالمطابقة على حلية التصرفات، و بالملازمة العرفية على صحة المعاملة المعاطاتية، يعني: أن مدلول الآيتين ليس مجرّد اشتراك المعاطاة مع البيع و التجارة في ترتيب الآثار حتى تنفك الملكية عن الحلية، بل مدلولهما هو الحلية الناشئة من سببيّتهما للملك، لكونهما سببين عرفيين له. و هذا هو الذي استقرّ عليه رأيه في الحكم بإفادة المعاطاة للملك. هذا.

و يحتمل أن يريد المصنف قدّس سرّه بهذا الوجه الثالث أمرا آخر، و هو: دلالة الآية بالمطابقة على صحة البيع المعاطاتي، و لعلّه أوفق بقوله: «بأن المتبادر عرفا من حلّ البيع صحته شرعا» لا ما ذكرناه- أخذا من المحقق الأصفهاني قدّس سرّه- من إرادة الملازمة العرفية بين تحليل التصرفات و صحة المعاطاة. و عليه يكون مختاره قريبا من التقريب الثاني و هو إرادة الحل الوضعي.

لكن قد يشكل بأنّ دلالة الآية بالمطابقة على الصحة ينافي انتزاع الوضعيات من التكليف و عدم استقلالها بالجعل، فلعلّ الأولى إرادة الملازمة العرفية كما ذكرناه.

الدليل الخامس: الإجماع المركّب

(1) هذا إشارة إلى دليل خامس على مملّكية المعاطاة، و هو الاستدلال بالإجماع المركّب حتى إذا نوقش في الأدلة الثلاثة المتقدمة من الآيتين و السيرة. تقريبه: أنّ من الممكن تصحيح المعاطاة في الهبة و الإجارة ببعض إطلاقاتهما، و تتميمه في البيع بالإجماع المركّب، إذ لا يقول أحد بصحة المعاطاة في الهبة و الإجارة و عدم صحتها في البيع، فكل من يقول بصحتها فيهما يقول بصحتها في البيع.

ص: 418

إطلاقاتهما (1) [1] و تتميمه في البيع بالإجماع المركّب، هذا.

______________________________

(1) أي: إطلاقات الهبة و الإجارة. أما إطلاق أدلّة الهبة، فكرواية جرّاح المدائني، قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن عطيّة الوالد لولده يبينه، قال: إذا أعطاه في صحّة جاز» «1» تقريب الإطلاق: أنّ الإعطاء إن لم يكن ظاهرا في خصوص الإعطاء الخارجي- لا المترتب من باب الوفاء على الإيجاب و القبول اللفظيين- فلا أقلّ من شموله لكل من الهبة القولية و الفعلية، و الوجه في الإطلاق عدم استفصال الامام عليه السّلام عن أنّ العطيّة هل كانت باللفظ أم بالفعل.

و كرواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «الهبة جائزة قبضت أو لم تقبض، قسمت أو لم تقسم» «2» الحديث.

و أما إطلاق بعض أدلة الإجارة فمثل ما جاء في حديث تحف العقول: «و أما تفسير الإجارات فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملكه، أو يلي أمره من قرابته أو دابته أو ثوبه بوجه الحلال من جهات الإجارة» «3» و وجه الإطلاق: عدم تقييد الإجارة النافذة شرعا بما إذا وقعت بالإيجاب و القبول اللفظيين.

و كذلك ما في مكاتبة اليقطيني الى الامام أبي محمد العسكري عليهما السّلام: «في رجل دفع ابنه الى رجل و سلّمه منه سنة بأجرة معلومة ليخيط له، ثم جاء رجل، فقال: سلّم ابنك منّي

______________________________

[1] هذا لا يخلو من غرابة، لأنّ إطلاقات البيع إن لم تكن أزيد من إطلاقاتهما لم تكن بأقلّ منها، مضافا إلى أنّه يرد عليهما من الاشكال ما يرد على إطلاقه.

و إلى: أنّ المحكي عن المصنف قدّس سرّه إنكار وجود الإطلاق فيهما.

و إلى: أنّه لا معنى لدعوى الإجماع المركب في المقام مع وجود القول بالفصل، و هو ذهاب مشهور القدماء إلى الإباحة. و سيأتي بعض ما يناسب المقام في التنبيهات.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 13، ص 344، الباب 11 من كتاب الهبات، الحديث: 5.

(2) وسائل الشيعة، ج 13، ص 335، الباب 4، من كتاب الهبات الحديث: 4

(3) تحف العقول، ص 331.

ص: 419

مع (1) أنّ ما ذكر- من أنّ للفقيه التزام حدوث الملك عند التصرف المتوقف عليه-

______________________________

بزيادة، هل له الخيار في ذلك؟ و هل يجوز له أن يفسخ ما وافق عليه الأوّل أم لا؟ فكتب عليه السّلام:

يجب عليه الوفاء للأوّل ما لم يعرض لابنه مرض أو ضعف» «1» فإنّ الدفع و التسليم ظاهران في إنشاء عقد الإجارة بهما، لا كونهما وفاء بإنشاء الإجارة بالصيغة سابقا على الدفع. و لا أقلّ من الإطلاق المستند إلى ترك الاستفصال، فإنّه عليه الصلاة و السّلام لم يسأل هل أنشئت الإجارة باللفظ أم لا؟ و إنّما حكم بوجوب الوفاء للأوّل مطلقا، سواء كان إنشاؤها باللفظ أم بالفعل.

فان قلت: هذا الإطلاق محكّم في آية حل البيع أيضا، لشمول العنوان للمعاملة الفعلية و القولية على حدّ سواء، لصدق البيع العرفي على المعاطاة قطعا، و معه لا حاجة الى تطويل الطريق بالتمسك بإطلاق الهبة و الإجارة أوّلا و إثبات عدم الفصل بين البيع و بينهما ثانيا.

فنفس إطلاق البيع على المعاطاة كاف في ترتيب آثاره عليها.

قلت: إطلاق الآية المباركة و إن كان ثابتا بدوا، إلّا أنّ تشتت الأقوال في المعاطاة و إجماع السيد ابن زهرة على نفي بيعيتها أوجبا ضعف الإطلاق و قوّة اختصاص البيع- المفيد للملك اللازم- باللفظي، و عدم شموله للمعاطاة، و لأجله تصدّى المصنف قدّس سرّه للتمسك بالإجماع المركب.

(1) غرضه تصحيح الاستدلال بآيتي الحلّ و التجارة- بالملازمة الشرعية بين الحلية التكليفية و الملك من أوّل الأمر- و إبطال ما نوقش فيه بقوله: «اللّهم إلّا أن يقال: إنّهما لا تدلّان على الملك، و إنّما تدلّان على إباحة جميع التصرفات .. غاية الأمر: أنّه لا بد من التزامهم بأن التصرف المتوقف على الملك يكشف عن سبق الملك عليه آنا ما .. إلخ».

و حاصل وجه الإبطال- الكاشف عن صحة الاستدلال بالآيتين- هو: أنّ الالتزام بالملك آنا ما قبل التصرف ممّا لا يليق بالمتفقّه فضلا عن الفقيه، فهو فاسد، و لا يمنع عن الاستدلال بالآيتين على الملكية من أوّل الأمر. فالاستدلال بهما على مملكية المعاطاة كالبيع

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 13، ص 254، الباب 15 من أحكام الإجارة، الحديث: 1.

ص: 420

لا يليق (1) بالمتفقه فضلا عن الفقيه، و لذا (2) ذكر بعض الأساطين في شرحه على القواعد، في مقام الاستبعاد:

[استلزام القول بالإباحة تأسيس قواعد جديدة]
اشارة

أنّ القول بالإباحة المجرّدة مع فرض قصد المتعاطيين التمليك و البيع مستلزم لتأسيس قواعد (3) جديدة: «

______________________________

القولي صحيح، و الالتزام بالملك الآنيّ قبل التصرف فاسد. و عليه فإمّا أن يقال بإفادة المعاطاة لإباحة التصرفات و عدم حصول الملك أصلا حتى آنا ما قبل التصرف، و إما أن يقال بإفادتها للملك من أوّل الأمر، و حيث لا سبيل للالتزام بالأوّل تعيّن الأخير و هو إفادتها للملك من حين التعاطي.

(1) خبر «أنّ ما ذكر» و وجه عدم اللياقة هي الاستبعادات التي ذكرها الفقيه كاشف الغطاء قدّس سرّه على المشهور القائلين بالإباحة.

(2) أي: و لأجل فساد الملك آنا ما قبل التصرف ذكر كاشف الغطاء قدّس سرّه في مقام الاستبعاد .. إلخ، حيث نقل في شرح القواعد بعض الأقوال في حكم المعاطاة، و قال: «و القول بمجرد الإباحة و الاذن في التصرف من غير ملك، كما ادعيت عليه الشهرة و نقل فيه الإجماع، و هو مردود بالسيرة المستمرة القاطعة في إجراء حكم الأملاك على ما أخذ بالمعاطاة من إيقاع عقد البيع و الإجارة و الهبة و الصلح و الصدقة و جميع العقود و ما يتعلق بتمليك الأعيان أو المنافع عليه، و تعلق العتق و الوقف و الحبس و الرهن و الربا و النذر و الأيمان و الوصايا و نحوه به، و كذا حكم المواريث و الأخماس و الزكوات و استطاعة الحج، و النظر إلى الجواري و لمسهن و وطئهن و تحليلهن و تزويجهن و نحو ذلك. فيلزم إمّا إنكار ما جاز بديهة أو إثبات قواعد جديدة: منها: أن العقود و ما قام مقامها لا تتبع القصود .. إلخ».

استلزام القول بالإباحة تأسيس قواعد جديدة

(3) يعني: أنّ القول بالإباحة يستلزم تأسيس قواعد جديدة لم تكن مشروعة، و مع استلزام القول بالإباحة لتأسيسها يتعيّن المصير إلى كون المعاطاة مفيدة للملك من أوّل الأمر.

و بعبارة أخرى: إباحة جميع التصرفات تستلزم قواعد غير مشروعة، فعدم مشروعيتها دليل إنّي على فساد القول بإفادة المعاطاة للإباحة.

ص: 421

[القاعدة الاولى: عدم تبعية العقود للقصود]

منها: أنّ العقود (1) و ما قام مقامها لا تتبع القصود.

______________________________

ثم إنّ هنا أمورا ينبغي التنبيه عليها:

الأوّل: أنّ أصول استبعادات كاشف الغطاء قدّس سرّه ثمانية، و ان انحلّ بعضها الى استبعادين أو أكثر كما سننبّه عليه إن شاء اللّه تعالى.

الثاني: أنّ جملة من هذه الاستبعادات قد نبّه عليها المحقّق الثاني قدّس سرّه الذي التجأ إلى تأويل القول بالإباحة إلى الملك المتزلزل. و لكنّه قدّس سرّه لم يذكرها بهذا الترتيب و البسط كما صنعه الشيخ الفقيه كاشف الغطاء قدّس سرّه.

الثالث: أن هذه الاستبعادات تدور بين ترتيب آثار الملك على غير الملك، و بين كون التلف و التصرف مملّكا- عند التلف أو التصرف، من دون ربط له بالإباحة بما هي. و عليه ينبغي أن يضاف إلى قوله: «التمليك و البيع»: و حصول الملكية قبل التلف أو التصرف.

القاعدة الاولى: عدم تبعية العقود للقصود

(1) هذا هو الاستبعاد الأوّل، أي: القاعدة الجديدة التي لا بدّ من تأسيسها لو قلنا بإفادة المعاطاة- المقصود بها الملك- للإباحة المحضة، و حصول الملكية آنا ما قبل التصرف المملّك.

و توضيحه: أنّ العناوين الاعتبارية كالملكية و الزوجية و الحرية و البينونة لا تترتب على أسبابها- من الإنشاء اللفظي و الفعلي- قهرا، بل يناط ترتبها بقصد ذلك العنوان الإنشائي، و لذلك أسّس الفقهاء «رضوان اللّه عليهم» قاعدة «أنّ العقود تابعة للقصود». و هذه الجملة تتكفل عقدين، أحدهما: إيجابي، و هو لزوم وقوع ما يقصده المتعاقدان. و الآخر سلبي و هو عدم وقوع ما لا يقصدانه.

و على هذا فلو ترتّبت الإباحة المحضة على المعاطاة المقصود بها الملك لزم مخالفة كلا العقدين، و لا بدّ من تأسيس قاعدة جديدة، و هي: «أنّ العقود لا يلزم متابعتها للقصود» إذ المقصود هو الملك و لم يحصل، و الحاصل و هو الإباحة لم يكن مقصودا. و لا سبيل للفقيه أن يلتزم بهذه القاعدة الجديدة. و يتوقف إنكارها على القول بإفادة المعاطاة للملك من حين انعقادها.

ص: 422

[القاعدة الثانية: مملّكية التصرف أو إرادته]

و منها (1): أن يكون إرادة التصرف من المملّكات،

______________________________

القاعدة الثانية: مملّكية التصرف أو إرادته

(1) هذا ثاني اللوازم الفاسدة المترتبة على مقالة المشهور من إفادة المعاطاة لإباحة التصرف دون الملك، و محصله: لزوم تأسيس قاعدة فقهية جديدة لم تكن معهودة من ذي قبل، و هي: كون إرادة التصرف- أو نفس التصرف أو هما معا- من الأسباب المملّكة. توضيحه: أنّ مقصود المتعاطيين- و هو الملكية- لم يحصل حسب الفرض. و حيث إنّ بعض التصرفات كالبيع و الوقف و العتق موقوف على الملك، فلا بد أن تكون مجرد إرادة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة موجبة لدخول المباح له في ملك مريد التصرف، أو تكون تلك الإرادة مع نفس التصرف مملّكة بأن يكون كل من الإرادة و التصرّف جزء السبب المملّك.

و كلا الشقّين ممنوع، لأنّ إدخال المال في ملك الآخذ قبل التصرف- حتى يقع ذلك التصرف في ملكه- لم يكن مشمولا لإذن المالك الأوّل الدافع للمال، لأنّه قصد التمليك، و لم يحصل حسب الفرض، فالإذن الضمني في إدخاله في ملكه لم يكن موجودا حين التعاطي، فكيف يجوز للآخذ إدخال مال الغير في ملك نفسه بمجرد تصرفه فيه أو بإرادة تصرّفه؟

فإن قلت: لا مانع من إدخال المأخوذ بالمعاطاة في ملك الآخذ بمجرد التصرف أو بإرادته، لوجود الإذن في التملّك ضمنا من قبل الدافع، نظير الإذن الضمني في التملّك في مسألتين:

إحداهما: فيما إذا أمر شخص غيره بعتق عبده من قبل الآمر.

و ثانيتهما: فيما إذا أمره بالتصدق بماله عنه.

مثلا: إذا قال زيد لعمرو: «أعتق عبدك عنّي» كان أمره متضمّنا للوكالة في أمرين، الأول: تمليك عمرو عبده لزيد، الثاني: عتق العبد عن الآمر- و هو زيد- فالمأمور يملّك عبده لزيد بالأصالة، لكونه مالكا للعبد، و يقبل هذا التمليك- عن زيد- بالوكالة، ثم يعتقه عن الآمر بالوكالة أيضا. و عليه فالإذن الضمني في إدخال العبد في ملك زيد متحقق.

و كذا الحال في مسألة الأمر بالتصدق.

و ليكن المقام من قبيل هذين الفرعين المتسالم على صحتهما. يعني: أنّ من يدفع ماله

ص: 423

فيملك العين (1) أو المنفعة (2) بإرادة التصرف بهما (3)، أو معه (4) دفعة (5)، و إن لم يخطر (6)

______________________________

للغير بالمعاطاة يعلم بترتب إباحة جميع التصرفات- حتى المتوقفة على الملك- على الدفع، و هذا يتضمن كون الآخذ مأذونا في إدخال المال في ملك نفسه قبل التصرف المتوقف على الملك. و مع وجود هذا الإذن لا يلزم تأسيس قاعدة جديدة، و هي كون التصرف في مال الغير إحدى المملّكات.

قلت: قياس المقام بالأمر بالعتق و الصدقة مع الفارق، لوجود الإذن و التوكيل فيهما، بخلاف المعاطاة، فإنّ المقصود أمر واحد و هو التمليك بنفس التعاطي، و المفروض عدم حصوله، لأنّ الشارع ألغى هذا القصد و حكم بترتب الإباحة المحضة، فكيف يتضمن الدفع إذنا للآخر في التمليك، بل مقتضاه أمّا حرمة التصرف المتوقف على الملك، و المفروض عدم التزامهم بها، و إمّا جعل إرادة تصرّف الآخذ موجبة لدخول المال في ملكه. و هذا هو القاعدة التي لم تعهد من الفقهاء، و التخلص منها يتوقف على إنكار الإباحة رأسا، و الالتزام بالملك كالبيع القولي.

(1) فيما إذا كان المعاطاة في البيع، الذي هو تمليك عين بعوض.

(2) فيما إذا كانت المعاطاة في الإجارة- التي هي تمليك المنفعة بعوض- كتمليك سكنى الدار سنة بدينار.

(3) الباء بمعنى «في» أي: يتملّك الآخذ العين أو المنفعة بمجرّد إرادة تصرّفه في كلتيهما.

(4) معطوف على «ارادة التصرف» يعني: لا فرق في لزوم تأسيس قاعدة جديدة بين الالتزام بمملّكية إرادة التصرف وحدها، و بين جعل المملّك مؤلّفا من إرادة التصرف و نفس التصرف.

(5) قيد لقوله: «فيملك» يعني: فيملك العين أو المنفعة دفعة. و لعلّ المقصود بالدفعة عدم دخل لفعل المالك المبيح في تملك صاحبه للمال أصلا.

(6) إذ لو خطر ببال المالك المبيح الإذن في التصرف صارت المعاطاة نظير الأمر بالعتق و الصدقة في اشتمالهما على التوكيل في التملك.

ص: 424

ببال المالك الأوّل الإذن (1) في شي ء من هذه التصرفات، لأنّه (2) قاصد للنقل من حين الدفع، لأنّه (3) لا سلطان له بعد ذلك (4). بخلاف (5) من قال: أعتق عبدك عنّي، و تصدّق بمالي عنك.

[القاعدة الثالثة: ترتيب آثار الملك على المباح]

و منها (6): أنّ

______________________________

(1) حتى يكون إذنه دخيلا في تملّك صاحبه لما أخذه بالمعاطاة.

(2) تعليل لعدم خطور الإذن ببال المالك في شي ء من التصرفات، يعني: أنّ عدم الخطور إنّما هو لأجل كون المالك قاصدا للنقل حين إعطاء المال، و لا سلطنة له بعد ذلك على المال حتى يخطر بباله الإذن في التصرف، حيث إنّ المالك يعتقد- حين الإعطاء- صيرورة المال ملكا للآخذ و خارجا عن حيّز سلطنته.

(3) أي: لأنّ المالك قاصد للنقل من حين الدفع لا من حين تصرّف الآخذ، و هذا تعليل لعدم كون المالك معتقدا بمالكية نفسه بعد الإعطاء حتى يأذن للآخر في التصرف في المال، بل يرى سلطنته منقطعة بعد الإعطاء، فكيف يتمشى منه الإذن في التصرف في المال؟

(4) أي: بعد الدفع.

(5) مقصود كاشف الغطاء قدّس سرّه بهذا منع تمسّك القائل بالإباحة لإثبات الإذن الضمني المالكي- في تملك المباح له قبل تصرّفه في المأخوذ بالمعاطاة- بمقايسته بما تسالموا عليه من صحة الأمر بالعتق و التصدق. و وقوعهما عن الآمر لا المأمور. و قد أوضحناه بقولنا: «فان قلت .. قلت .. إلخ».

القاعدة الثالثة: ترتيب آثار الملك على المباح

(6) هذا هو الاستبعاد الثالث المترتب على القول بالإباحة، و القاعدة الجديدة التي لا بدّ من تأسيسها هي: الحكم بترتب عدّة من الأمور على ما في يد المباح له، مع عدم كونه ملكا له، مع أنّ هذه الأمور من آثار الملك و شؤونه، و لازم عدم إفادة المعاطاة للملك هو تعلّقها بغير الملك، لأنّ المال المأخوذ بالمعاطاة- مع بقاء عينه و عدم تلفها- باق على ملك مالكه الأوّل، و لم ينتقل الى الآخذ، و مع ذلك يتعلق به الأمور المذكورة في المتن، و هي أحد عشر موردا.

فإن قلت: لا يلزم تأسيس قاعدة جديدة و هي ترتيب آثار الملك على المباح، و ذلك

ص: 425

الأخماس (1)

______________________________

لأنّ المنسوب إلى القدماء و إن كان إفادة المعاطاة للإباحة المجرّدة عن الملك، إلّا أنّهم قالوا بحصول الملك عند تلف إحدى العينين أو كلتيهما. و على هذا فالعين الباقية بحالها عند أحد المتعاطيين تصير ملكا له بمجرد تلف الأخرى عند الآخر، أو تصرفه فيها.

مثلا إذ تعاطى زيد و عمرو جنسا زكويا كالحنطة و الشعير بمائة دينار، و اجتمعت شرائط وجوب الزكاة في الحنطة و الشعير، فإنّهما تدخلان في ملك عمرو بمجرّد تصرّف زيد في الدنانير، و عليه فإذا حكم الشارع على عمرو بوجوب إخراج زكاتهما لم يستلزم تأسيس قاعدة جديدة و هي إخراج الزكاة من المباح لا الملك، بل كان وجوب الزكاة مترتبا على الملك، لفرض دخولهما في ملكه بمجرد تصرف زيد في الدنانير.

قلت: مبنى هذا الاستبعاد هو بقاء العين و عدم تصرف الآخر أو الشك فيه، إذ هنا صور ثلاث:

الأولى: العلم بتصرف زيد في الثمن أو العلم بتلفه.

الثانية: العلم بعدم تصرفه في الثمن أصلا و العلم ببقائه.

الثالثة: الشك في تصرّفه فيه و في بقائه و تلفه. و تأسيس قاعدة جديدة يبتني على الصورتين الأخيرتين، ضرورة أنّه مع العلم بعدم تصرف زيد في الثمن أو الشك فيه- و كذا مع العلم ببقائه- تكون الحنطة و الشعير مباحة لعمرو و ليستا ملكا له، و مع ذلك يجب عليه إخراج الزكاة، فثبت ما استغربه الفقيه كاشف الغطاء قدّس سرّه من ترتيب حكم الملك- و هو وجوب إخراج الزكاة- على غير الملك.

(1) هذا هو المورد الأوّل من الموارد الأحد عشر، و توضيحه: أنّه إذا كان المأخوذ بالمعاطاة فاضلا عن مئونة سنته بأن بقي على حاله من دون أن يتصرّف فيه إلى أن مضت السّنة عليه، فإنّه يجب عليه أداء خمسه، مع أنّه ليس بملك له، و إنّما أبيح له التصرف فيه. فيلزم تأسيس قاعدة جديدة، و هي: عدم اختصاص وجوب الخمس بما يملكه الإنسان و يفضل عن مئونته، بل يعمّ كل ما في يده سواء أ كان ملكا أم مباحا، و هو غريب.

ص: 426

و الزكوات (1) و الاستطاعة (2) و الديون (3) و النفقات (4) و حقّ المقاصّة (5) [المقاسمة]

______________________________

(1) هذا هو المورد الثاني، و قد ظهر المراد به آنفا.

(2) هذا ثالث الموارد، و توضيحه: أنّه إذا كان الثمن في المعاطاة وافيا بمئونة الحج، و بقي إلى آن خروج الرّفقة، فإنّه لا بد أن يحكم على الآخذ بأنّه مستطيع واجد للزاد و الراحلة، مع وضوح عدم كونه مالكا لهما بالمعاطاة، بل أبيح له التصرف في ذلك الثمن، فيلزم ترتيب حكم الملك- و هو وجوب الحج على من له الزاد و الراحلة- على غير الملك.

(3) هذا رابع الموارد، و توضيحه: أنّ المديون يجب عليه أداء دينه ممّا يملكه، فإذا اشترى بالمعاطاة شيئا و أراد أداء دينه به- مع عدم صيرورته ملكا له- لزم جواز أداء الدين بالمباح لا بالملك، و هو كما ترى.

(4) هذا خامس الموارد، و بيانه: أنّه يجب على الزوج الإنفاق على زوجته- بل على غيرها من الأقارب مع التمكن- و النفقة إنّما تجب عند مالكيته لما ينفقه، فلو تعامل بالمعاطاة و اشترى الطعام و الملبس، وجب عليه صرفهما في النفقة الواجبة، مع عدم دخولهما في ملكه، بل وقعا في يده بعنوان الإباحة. فيدور الأمر بين عدم وجوب الإنفاق أصلا- لعدم كونه مالكا- و بين وجوبه عليه حتى في المباح، و لا سبيل للأوّل، و الثاني هو معنى تأسيس قاعدة جديدة.

(5) هذا سادس الموارد، و توضيحه: أنّ المديون الذي لا يؤدّي دينه- إمّا قصورا و إمّا تقصيرا- إذا باع بالمعاطاة شيئا، و كان ثمنه وافيا بدينه، فظفر به الدائن، جاز له أخذه منه تقاصّا، مع أنّ المأخوذ مقاصّة لا بد أن يكون ملكا للمديون حتى يجوز للدائن أخذه مقاصّة، و لا يكفي مجرّد الإباحة و وقوع الشي ء في يد المديون.

هذا بناء على كون العبارة «حق المقاصة». و بناء على ما في بعض نسخ شرح القواعد من «حق المقاسمة» فبيانه: أنّه إذا اشترك اثنان في شراء شي ء مشاعا، ثبت لكل منهما حق القسمة و إفراز حصته من حصة شريكه، مع أنّه ليس ملكا له، بل ثبت بالمعاطاة مجرد إباحة التصرف، و عليه يلزم تعلق حق القسمة بما في اليد دون الملك.

ص: 427

و الشفعة (1) و المواريث (2) و الربا (3) و الوصايا (4) تتعلّق بما في اليد،

______________________________

(1) هذا سابع الموارد، و بيانه: أنّه إذا كانت دار مشتركة بين زيد و عمرو، فباع زيد حصّته من بكر بالمعاطاة، فيثبت لعمرو حق الشفعة، و يستحق إرجاعها إلى نفسه ببذل مثل الثمن الى بكر. فعلى القول بإفادة المعاطاة للإباحة المحضة يلزم تعلق حق الشفعة بحصة الشريك- أي زيد- مع عدم خروجها عن ملكه، و من المعلوم أنّه لا بدّ في تعلّق حق الشفعة من خروج الحصة عن ملك الشريك.

(2) هذا ثامن الموارد، كما إذا اشترى زيد بالمعاطاة دارا و مات، فإنّها تنتقل كسائر أمواله إلى ورثته، مع أنّ هذه الدار لم تكن ملكا للمورّث، بل كانت في يده مباحة، فيلزم تأسيس قاعدة جديدة: و هي: تعلق الإرث بالمباحات و عدم اختصاصه بالأملاك و الحقوق.

(3) هذا هو المورد التاسع، و بيانه: أنّه إذا كان العوضان في المعاطاة من جنس واحد مع التفاضل، فإنّ الزيادة محرّمة، فلو لم تكن المعاطاة مفيدة للملك لم يكن وجه لحرمة الزيادة، لأنّ موضوع الحرمة هو المعاملة الصحيحة المؤثّرة في الملك لولا الربا، و من المعلوم فقدان الصحّة بدون الربا أيضا، إذ المفروض عدم كون المعاطاة بيعا مؤثّرا و لو بدون الربا.

و كما إذا باع المأخوذ بالمعاطاة بجنسه مع التفاضل.

(4) هذا عاشر الموارد، و بيانه: أنّه إذا أوصى شخص بصرف المأخوذ بالمعاطاة في الوجوه البرّيّة، أو أوصى بإعطائه لشخص بعد وفاته، فإنّ المعاطاة لو أفادت الإباحة لزم كون الوصية بمال غيره لا بمال نفسه، لفرض عدم دخوله- بمجرد المعاطاة- في ملكه [1].

______________________________

[1] هذا هو المقصود، لا ما عن المحقق النائيني قدّس سرّه من التكسب به مرارا بالمعاطاة، حتى يستشكل عليه بكونه مسبوقا بالتصرّف الذي هو المملّك.

ص: 428

مع (1) العلم ببقاء مقابله (2) و عدم (3) التصرف فيه، أو (4) عدم العلم به (5)، فينفى (6) [فيقى] بالأصل،

______________________________

(1) قيد لقوله: «تتعلق» يعني: أنّ تأسيس قاعدة جديدة يبتني على أحد أمرين على سبيل منع الخلوّ:

الأوّل: العلم ببقاء العين الأخرى في يد المتعاطي الآخر، و أنّها لم تتلف بعد، و لم يتصرّف فيها أصلا.

الثاني: الشك في بقائها، أو تصرّفه فيها.

فلو علم أحد المتعاطيين بأنّ العين الّتي أخذها المتعاطي الآخر قد تلفت أو تصرّف فيها لم يلزم تأسيس قاعدة جديدة، لأنّ هذه العين أيضا تصير ملكا لزيد بمجرد تصرف عمرو في تلك العين. و قد أوضحنا هذا بقولنا: «ان قلت .. قلت ..» راجع (ص 426).

(2) أي: مقابل ما في اليد، إذ مع تلف العين الأخرى عند عمرو يصير ما في يد زيد ملكا له قهرا.

(3) معطوف على «بقاء» يعني: مع العلم بعدم تصرف عمرو في ما أخذه بالمعاطاة.

و الوجه في هذا العطف أنّ الموجب لتبدل الإباحة بالملك- عند المشهور أحد أمرين: إمّا تلف إحدى العينين، و إمّا التصرف فيها.

(4) معطوف على «العلم» يعني: أو مع عدم العلم ببقاء مقابله عند الآخذ، فيحكم ببقائه بالاستصحاب. و عليه ففي كلتا الصورتين- و هما العلم ببقاء مقابله، أو الشك في بقائه- يكون ما بيده ملكا للغير، و مع ذلك يجري عليه أحكام الملك.

(5) أي: عدم العلم ببقاء المقابل، و عدم العلم بعدم التصرف في المقابل.

(6) هذه الكلمة اختلف ضبطها في نسخ شرح القواعد، ففي بعضها «فينفى» و في بعضها «فيبقى» و على كل منهما لا يختلف المقصود. إذ لو كانت «فينفى أو فينتفي» كان الضمير المستتر راجعا إلى «عدم التصرف فيه» يعني: يحرز- باستصحاب عدم تصرف عمرو في العين- أنّ ما في يد زيد لم ينتقل إلى ملكه، فيلزم ترتيب آثار الملك عليه مع كونه محكوما بالإباحة المحضة.

و لو كانت «فيبقى بالأصل» كان الضمير المستتر في الفعل المبني للفاعل راجعا إلى كل

ص: 429

فتكون (1) متعلّقة بغير الأملاك. و أنّ (2) صفة الغنى و الفقر

______________________________

من «بقاء مقابله، عدم التصرف فيه» يعني: يحرز- ببركة الاستصحاب- بقاء العين الأخرى في يد عمرو على حالها و لم تتلف، و يحرز أيضا عدم تصرف عمرو فيها، و يترتب على كلّ- من البقاء و عدم التصرف- كون ما في يد زيد مباحا لا ملكا له.

و لعلّ الأوفق بسياق الكلام: «فينفى بالأصل» أي: فينفى بالأصل التصرف المشكوك فيه، و يحرز الموضوع المؤلّف من وجودي و هو بقاء العين، و عدمي و هو عدم التصرف فيه.

(1) هذا متفرّع على إحراز بقاء العين الأخرى في يد عمرو و عدم تصرفه فيها، إمّا بالوجدان و إمّا بالتعبد، إذ في كلتا الصورتين يلزم تأسيس قاعدة جديدة، و هي تعلّق أحكام الملك بما ليس ملكا، كما مرّ في الموارد العشرة.

(2) الظاهر أنّه معطوف على قوله: «أن الأخماس» و لازمه أن يكون هذا أمرا على حدة في مقابل الموارد العشرة من الأخماس و الزكوات. لكن حيث إنّ القاعدة التي يتعيّن تأسيسها في الجميع هي إجراء حكم الملك على ما ليس بملك كان المناسب جعل قوله: «و أنّ الغنى» المورد الحادي عشر لما تقدم عليه.

و كيف كان فتوضيحه: أنّ الاتّصاف بالفقر و الغنى موقوف على الملك، فإن كان الإنسان واجدا لمئونة سنته و لو بالقوة كان غنيّا و حرم عليه أخذ الصدقات، و الخمس إن كان هاشميا. و إن لم يكن واجدا لها- و لو بالقوّة- كان فقيرا و جاز له أخذها.

و عليه فإذا باع زيد بالمعاطاة شيئا من مئونته- ككتاب يحتاج إليه- بثمن غال لصرفه في نفقة عياله، و لم يتلف الكتاب في يد المشتري و لم يتصرف فيه، و بقي الثمن في يد زيد أيضا و هو واف بمئونة سنته، فإنّه يلزم تأسيس قاعدة جديدة، و هي: دوران الغنى و الفقر مدار الإباحة دون الملك، و ذلك لأنّ الكتاب باق على ملك زيد حسب الفرض، كما أنّ الثمن باق على ملك عمرو، فلو صار زيد غنيّا بالمأخوذ بالمعاطاة كان معناه ترتّب الغنى على مجرّد كون المال في يده و إن كان ملكا للغير، و صار عمرو فقيرا بشراء الكتاب مع أنّ الثمن باق على ملكه.

و الحاصل: أنّه يلزم ترتب صفة الغنى و الفقر على ما في اليد مع كونه ملكا للغير، فيترتب وجود الغنى على المأخوذ بالمعاطاة، و يرتفع به الفقر مع عدم كون هذا المأخوذ ملكا،

ص: 430

تترتّب عليه (1) كذلك (2)، فيصير (3) ما ليس من الأملاك بحكم الأملاك.

[القاعدة الرابعة: مملّكية تصرف أحد المتعاطيين للآخر]

و منها (4): كون التصرف من جانب مملّكا للجانب الآخر (5). مضافا إلى غرابة (6) استناد الملك الى التصرف.

______________________________

فالآخذ غني و ليس بمالك، و المعطي للمال فقير مع عدم خروج المال عن ملكه.

(1) أي: على ما في اليد و إن لم يكن ملكا له.

(2) أي: مع العلم ببقاء مقابله و عدم التصرف فيه، أو مع الشك في البقاء و التصرف.

و هذا إشارة إلى الصورتين المتقدمتين.

القاعدة الرابعة: مملّكية تصرف أحد المتعاطيين للآخر

(3) هذا هي القاعدة التي يلزم تأسيسها لو قيل بإفادة المعاطاة للإباحة المحضة.

(4) أي: و من القواعد الجديدة، و هذه رابع الاستبعادات، و هو يتضمن أمرين لا بدّ من تأسيسها.

أحدهما: كون أصل التصرف في المباح سببا لدخوله في الملك، و هو بعيد، لأنّ الأسباب المملّكة المعهودة من الشرع محصورة في أمور اختياريّة و قهرية، و ليس التصرف منها، فالاختيارية إمّا خارجية كحيازة المباحات، و إمّا اعتبارية كالبيع و الإجارة و المضاربة و الصلح و نحوها. و القهريّة كالموت و الارتداد. فكيف حكم المشهور بدخول المأخوذ بالمعاطاة في الملك بالتصرف فيه؟

ثانيهما: أن يكون تصرف أحد المتعاطيين في المأخوذ بالمعاطاة موجبا لصيرورة الآخر مالكا لما في يده. و هذا أكثر غرابة من الأوّل.

(5) و لم يعهد كون التصرف من جانب مملّكا للجانب الآخر، إذ لم يتحقق إلّا أمران، أحدهما: المعاطاة، و الآخر: التصرف، و المفروض أنّ الأوّل لم يؤثّر في الملكية، فالمملّك هو التصرف.

(6) وجه الغرابة أنّ التصرف مؤخّر طبعا عن الملك، لأنّه مقتضى توقف التصرف على الملك، و مع تأخّره عن الملك كيف يستند الملك إليه؟

ص: 431

[القاعدة الخامسة: ترتب آثار غير معهودة على التلف]

و منها (1): جعل التلف السماوي (2) من جانب مملّكا للجانب الآخر (3).

و التلف (4) من الجانبين مع التفريط معيّنا للمسمّى

______________________________

القاعدة الخامسة: ترتب آثار غير معهودة على التلف

(1) أي: و من القواعد الجديدة التي لا بدّ من تأسيسها بناء على القول بالإباحة، و هذا الاستبعاد الخامس يتضمن قواعد أربعة تتعلق بتلف إحدى العينين أو كلتيهما.

الاولى: أنّ المشهور قالوا: «إذا تلفت إحدى العينين لزمت» و التلف الملزم أعم من الاختياري كالأكل و الشرب و نحوهما من التصرفات الخارجية و الاعتباريّة، و القهري و هو ما لم يكن بإرادة الإنسان كالسيل و الصاعقة و الزلزال و شبهها من أنواع البلاء، المعبّر عنها بالتلف السماوي.

و وجه الغرابة: أنّ تلف المال قهرا عند أحد المتعاطيين كيف يوجب دخول المال الآخر في ملك المتعاطي الآخر قهرا؟ فإنّ مملّكية هذا التلف السماوي أكثر مئونة من مملّكية تصرف أحدهما للآخر، إذ التصرف فعل اختياري قد يتيسّر توجيه مملّكيته، و أمّا التلف القهري فلا.

هذا و سيأتي بيان القواعد الثلاث الأخر التي تضمنها هذا الاستبعاد الخامس.

(2) التقييد بالسماوي في قبال الإتلاف الأناسي فإنّه تصرّف في المال، و يندرج في الاستبعاد الرابع، و هو غرابة مملّكية التصرف.

(3) فيلزم أن يكون أكل الهرّة مثلا للحم المأخوذ بالمعاطاة مملّكا للثمن الذي أخذه الآخر بالمعاطاة. و من المعلوم أن كون التلف مملّكا و ناقلا في غاية البعد. و أمّا بناء على إفادة المعاطاة للملك فلا يلزم هذا المحذور أصلا.

(4) معطوف على «التلف» و هذا إشارة إلى القاعدة الثانية التي ينبغي تأسيسها، و بيانها: أنّ مقتضى تأثير المعاطاة في خصوص الإباحة هو: أنّ العينين باقيتان على ملك مالكيهما، و هما أمانتان عند المتعاطيين، و من المعلوم أنّ إتلاف الأمانة و التفريط في حفظها يوجب ضمان بدلها الواقعي من المثل أو القيمة، لاقتضاء قاعدة «على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» اشتغال الذمة بالبدل الواقعي، لا بالمسمّى، فإنّه مخصوص بالمعاوضة الصحيحة، كما إذا باع زيد كتابا بدينار من عمرو، و كانت قيمته الواقعية دينارين، فتبيّن غبن زيد بدينار، فإذا أتلف كلّ منهما

ص: 432

من الطرفين (1)، و لا رجوع إلى قيمة المثل (2) حتى يكون له الرجوع بالتفاوت.

و مع حصوله (3) في يد الغاصب

______________________________

ما في يده مفرّطا في ذلك كان الضمان بالمسمّى، و لا يرجع زيد على عمرو بدينار آخر و هو التفاوت بين المسمّى و القيمة الواقعية.

و على هذا فلو أتلف كل من المتعاطيين ما في يده لزم أن يضمن للآخر بدله الواقعي، لعدم كون المعاطاة عقدا صحيحا مملّكا حسب الفرض، بل هي مبيحة للتصرف، و معه كيف حكم المشهور بأنّ إتلاف المأخوذ بالمعاطاة لا يوجب انتقال الضمان من المسمّى إلى الواقعي؟

إذ مقتضى قاعدة «اليد» استقرار البدل الواقعي على العهدة، و لا وجه لصيرورة الضمان معاوضيّا.

(1) مع أنّ مقتضى قاعدة «اليد» هو الضمان بالبدل الواقعي من المثل أو القيمة، و جواز الرجوع بالتفاوت.

(2) يعني: كما هو مقتضى قاعدة المعاوضة الفاسدة حتى يرجع المغبون منهما الى التفاوت.

مثلا: إذا أعطى كتاب المكاسب بدينار، فأتلف كلّ منهما ما في يده مفرّطا في ذلك، فالضمان على كل منهما يكون بالمسمّى، فإذا كانت قيمة الكتاب دينارين مثلا لا يرجع مالك الكتاب على الآخر- الآخذ له- بدينار يكون ما به التفاوت بين المسمّى و بين القيمة الواقعية.

(3) أي: و مع حصول المأخوذ بالمعاطاة في يد الغاصب، و هذا إشارة إلى القاعدة الثالثة التي تضمّنها الاستبعاد الخامس، و حاصل ذلك: أنّه إذا تعاطي زيد و عمرو كتابا بدينار، فغصب بكر الكتاب، سواء تلف عنده أم بقي بحاله. فإن قلنا بأن القابض بالمعاطاة- و هو عمرو- هو الذي يطالب الكتاب من الغاصب كان القول به بعيدا، لأنّ غصب الغاصب للمأخوذ بالمعاطاة أو تلفه عنده كيف يوجب ملكية المأخوذ للقابض بالمعاطاة حتى تصير المطالبة من الغاصب للمالك؟ إذ لم يعهد نهوض دليل على كون الغصب أو التلف عند الغاصب من النواقل الشرعية.

و إن قلنا بأنّ المطالب هو القابض بالمعاطاة- و هو عمرو- مع فرض عدم تملكه للمأخوذ بالمعاطاة بسبب غصب الغاصب أو تلف المال عنده كان أيضا بعيدا جدّا، حيث إنّ

ص: 433

أو تلفه (1) فيها، فالقول بأنّه (2) المطالب (3) لأنّه (4) تملّك بالغصب أو التلف في يد الغاصب غريب (5)، و القول (6) بعدم الملك بعيد جدّا.

مع (7) أنّ في التلف القهري

______________________________

المطالبة من الغاصب من شؤون سلطنة المالك على ماله، فليس لغير المالك سلطنة المطالبة من الغاصب.

(1) يعني: تلف المأخوذ بالمعاطاة في يد الغاصب.

(2) أي: بأنّ القابض بالمعاطاة.

(3) بصيغة الفاعل، و المراد به القابض بالمعاطاة.

(4) أي: لأنّ القابض بالمعاطاة.

(5) خبر «فالقول» و هذا إشارة إلى أحد الأمرين الغريبين، و قد تقدم بقولنا: «فإن قلنا بأن القابض بالمعاطاة- و هو عمرو- هو الذي يطالب .. إلخ».

(6) معطوف على «فالقول» و هذا إشارة إلى ثاني الأمرين الغريبين، و وجه الغرابة:

ما عرفت من أنّ المباح له إذا لم يصر مالكا للمأخوذ بالمعاطاة- بسبب غصب الغاصب أو التلف عنده- لم يكن له حقّ مطالبة تلك العين- أو بدلها- من الغاصب، لأنّ الغاصب ضامن للمالك المبيح لا للآخذ المباح له. و معنى هذا عدم جواز رجوع المباح له على الغاصب لاسترداد ماله. مع أنّه لا ريب في ثبوت حق المطالبة للآخذ، و هو كاشف عن كونه مالكا لما أخذه بالمعاطاة، و لا أثر من الإباحة في نظر العرف أصلا.

(7) هذا إشكال آخر على مملّكية التلف القهري غير ما أفاده بقوله: «جعل التلف السماوي من جانب مملّكا للجانب الآخر» و هذه هي القاعدة الرابعة التي تضمّنها الاستبعاد الخامس. و مقصود كاشف الغطاء قدّس سرّه إنكار أصل مملّكية التلف القهري سواء أ كان التلف في يد الغاصب أم القابض.

و حاصل الاشكال: أنّه إن قلنا بأنّ القابض بالمعاطاة ملك المأخوذ بها قبل التلف كان عجيبا، إذ لو حصلت الملكية بغير سبب لزم وجود المعلول بلا علّة، و لو حصلت بسبب التلف لزم تقدم المعلول على علّته، و كلاهما غير معقول.

ص: 434

إن ملك التالف قبل التلف فعجيب (1)، و معه (2) بعيد، لعدم قابليته. و بعده (3) ملك معدوم. و مع عدم (4) الدخول في الملك (5) يكون ملك الآخر بغير عوض.

______________________________

و إن قلنا بحصول الملكية مع التلف كان بعيدا، إذ لا موجب لها في خصوص زمان التلف دون ما قبله. مضافا إلى: أنّ زمان التلف هو زمان انتفاء الملكية لا حدوثها.

و منه يظهر بطلان الملكية بعد التلف- لو قيل بها- لأنّ تملك المعدوم غير معقول.

و عليه لا يعقل مملّكية التلف القهري أصلا. لا قبله و لا مقارنا له و لا بعده.

(1) لما عرفت آنفا من أنّه إمّا من تقدم المعلول على العلّة، و إمّا من وجود المعلول بلا علّة.

(2) أي: و مع التلف فبعيد، و الأولى اقتران «بعيد» بالفاء، لاقتضاء العطف على «قبل التلف» كونه جزاء لقوله: «ان ملك» فكأنّه قال: «و إن ملك التالف مقارنا للتلف فبعيد» و الوجه في البعد ما أفاده بقوله: «لعدم قابلية» لأنّ آن التلف هو آن انتفاء الملكية بانتفاء المملوك، فكيف تحصل الملكية مقارنة للتلف؟

(3) أي: بعد التلف، يعني: يكون حصول الملكية- بعد تلف المأخوذ بالمعاطاة- من ملك المعدوم، و هو غير معقول. و الأولى أيضا اقتران «ملك» بالفاء لما أشرنا إليه آنفا.

(4) هذا بمنزلة نتيجة ما أفاده من عدم معقولية مملّكية التلف القهري، يعني: و لازم عدم دخول المأخوذ بالمعاطاة- بسبب التلف- هو اجتماع العوض و المعوّض عند المتعاطي الآخر.

(5) يعني: في صورة التلف إن بني على عدم صيرورة التالف ملكا للقابض لزم منه أن يكون ملك المتعاطي الآخر لما قبضه- من صاحبه- بلا عوض، و لازمه الجمع بين العوض و المعوّض.

فإن قلت: إذا لم يكن التلف مملّكا لمن تلف عنده المال فليكن غير مملّك للمتعاطي الآخر أيضا بالنسبة إلى العوض.

قلت: لا سبيل لنفي ملكية الآخر لما عنده، و ذلك لوجهين.

أحدهما: قيام السيرة على صيرورة المال ملكا للقابض بمجرّد تلف إحدى العينين عند الآخر.

و ثانيهما: بناء المتعاطيين على معاملة الملك مع المأخوذ بالمعاطاة.

ص: 435

و نفي الملك (1) مخالف للسيرة و بناء (2) المتعاطيين.

[القاعدة السادسة: التصرف سبب مملّك قهرا أو اختيارا]

و منها (3): أنّ التصرف إن جعلناه من النواقل القهرية فلا يتوقف على النيّة فهو بعيد، و إن أوقفناه عليها (4) كان الواطي للجارية (5) من غيرها (6)

______________________________

(1) يعني: و نفي ملك المتعاطي الآخر لما قبضه بالمعاطاة مخالف للسيرة التي قامت على كونه مالكا له.

(2) بالجر معطوف على «السيرة». أمّا كون نفي ملك المتعاطي الآخر لما قبضه بالمعاطاة مخالفا لبناء المتعاقدين فلأنّ المفروض كونهما قاصدين للتمليك بالمعاطاة كقصدهما له بالبيع القولي.

القاعدة السادسة: التصرف سبب مملّك قهرا أو اختيارا

(3) أي: و من القواعد الجديدة التي لا بدّ من تأسيسها بناء على القول بالإباحة: أنّ التصرف .. إلخ. و هذا هو الاستبعاد السادس، و هو ناظر إلى بعد مملّكية التصرف سواء أ كان من النواقل القهرية أم الاختياريّة.

توضيحه: أنّ التصرف لا يكون مملّكا و لا ناقلا، إذ لو قلنا بذلك، فإن كانت مملّكيته قهرية- أي: بلا حاجة إلى نيّة التملّك- كان بعيدا، إذ لا دليل عليه، و مجرّد الإمكان لا يجدي في الوقوع.

و إن كانت مملّكيّته متوقفة على قصد التملك لزم منه ما لم يلتزم به أحد، و هو كون الواطئ للجارية المأخوذة بالمعاطاة واطيا لها بالشبهة إذا لم ينو تملكها به، و جريان حكم وطي الشبهة عليه.

و كذا لزم منه كون الجاني على ما أخذه بالمعاطاة و المتلف له جانيا على مال الغير و متلفا له لا لمال نفسه، و هذا خلاف ما جرت عليه سيرتهم، و نتيجة ذلك بعد كون نفس التصرف مملّكا، بل لا بدّ من القول بحصول الملكية من أوّل الأمر.

(4) أي: و إن قلنا بتوقف ناقلية التصرف على النيّة لزم منه كون الواطئ للجارية ..

إلخ.

(5) المأخوذة بالمعاطاة.

(6) أي: من غير النّيّة.

ص: 436

واطيا بالشبهة [1] و الجاني عليه و المتلف له (1) جانيا على مال الغير و متلفا له (2).

[القاعدة السابعة: مملّكية حدوث النماء]

و منها (3): أنّ النماء الحادث قبل التصرف (4) إن جعلنا حدوثه مملّكا له (5) دون العين فبعيد، أو معها (6) فكذلك (7)،

______________________________

(1) تذكير هذا الضمير و ضمير «عليه» باعتبار المأخوذ بالمعاطاة.

(2) أي: لمال الغير.

القاعدة السابعة: مملّكية حدوث النماء

(3) أي: و من القواعد الجديدة التي لا بد من تأسيسها هو: أنّه لا بد من القول بمملّكية حدوث النماء، و هو غير معهود، توضيحه: أنّه يجوز للآخذ بالمعاطاة التصرف في نماء المأخوذ بها الحادث في العين قبل التصرف فيها، و جواز التصرف في النماء إمّا لأجل كون حدوث النماء مملّكا له، و إمّا لأنّ المالك الأصلي أذن له في التصرف في النماء كإذنه في التصرف في ذي النماء.

و على الأوّل فإن قلنا بكون حدوث النماء مملّكا للنماء فقط- أي بدون ذي النماء- كان بعيدا، إذ لا وجه للتفكيك في الملكية بين النماء و الأصل، خصوصا في النماء المتصل. مع أنّه لم يعهد من مذاق الشارع الأقدس كون حدوث النماء من موجبات تملك النماء.

و إن قلنا بأنّ حدوث النماء مملّك له و للأصل معا كان بعيدا أيضا، لمنافاته لظاهر أكثر الفقهاء القائلين بعدم حصول الملكية في المأخوذ بالمعاطاة من دون التصرف فيه.

و على الثاني- و هو أن يكون التصرف في النماء مستندا إلى إذن المالك- قلنا: إنّ شمول الإذن- في التصرف في العين- للتصرف في النماء أمر خفي، فلا يمكن الالتزام به، حيث إنّ المالك الأصلي لم يأذن للمباح له إلّا في التصرف في نفس المأخوذ بالمعاطاة لا في نماءاته المتكوّنة منه بعد التعاطي.

(4) التقييد بالقبليّة لأجل كون التصرف قبل حدوث النماء مملّكا للأصل، فلا يبقى موضوع للاستبعاد.

(5) هذا الضمير و ضمير «حدوثه» راجعان الى النماء.

(6) أي: جعل حدوث النماء مملّكا له و للعين معا.

(7) أي: بعيد.

______________________________

[1] إذا كان جهله عن قصور، و إلّا كان زانيا.

ص: 437

و كلاهما (1) مناف لظاهر الأكثر. و شمول (2) الإذن له خفيّ.

[القاعدة الثامنة: مملكية التصرف تستلزم اجتماع المتقابلين]

و منها (3): قصر التمليك على التصرف

______________________________

(1) أي: كون حدوث النماء مملّكا للنماء خاصة- أو مملّكا للعين و النماء معا- خلاف ظاهر الأكثر، لأنّهم قائلون بمملّكية التصرف، لا بمملّكية حدوث النماء.

(2) هذا دفع دخل مقدر، حاصله: عدم كون حدوث النماء مملّكا من جهة مخالفة المشهور، و لكن نقول بجواز التصرف في نماء المأخوذ بالمعاطاة من باب إذن المالك في التصرف.

فأجاب قدّس سرّه عنه بأنّ شمول الإذن المالكي لإباحة التصرف في النماء خفيّ، خصوصا إذا كان حدوث النماء بعد وقوع المعاطاة بزمان طويل، كما إذا تعاطيا سخلة بدينار فأحبلت بعد سنة، أو تعاطيا على شجرة بدينار فأثمرت بعد أشهر، فإنّه لم يعلم إذن المالك في التصرف في لبن الشاة أو ثمرة الشجرة، لاحتمال- غفلته حين التقابض- عن التصرف في النماء حتى يأذن له.

القاعدة الثامنة: مملكية التصرف تستلزم اجتماع المتقابلين

(3) أي: و من القواعد الجديدة: قصر التمليك .. إلخ، و هذا هو الاستبعاد الثامن و الأخير من استبعادات كاشف الغطاء قدّس سرّه و هو يتضمن استبعادين:

أحدهما: أنّه يلزم من مملّكية التصرف اجتماع المتقابلين في واحد، أي صيرورة الموجب و القابل واحدا في المعاطاة.

ثانيهما: أولوية استناد الملكية إلى نفس المعاطاة من استنادها الى التصرف.

توضيحه: أنّه يلزم- بناء على إفادة المعاطاة للإباحة، و استناد مملّكية التصرف إلى إذن المالك، لأجل كون الإذن في الشي ء إذنا فيما يتوقف عليه- كون المتعاطي موجبا و قابلا، لأنّه موجب من ناحية المالك المبيح، حيث إنّه مأذون من المالك في تمليك المال لنفسه، و قابل لتملّكه للمال.

لكنه- بناء على استناد مملّكية التصرف إلى إذن المالك- يلزم أن يكون نفس التعاطي مملّكا بالأولوية، و ذلك لاقتران التعاطي بقصد التمليك من المعطي، دون التصرف الصادر بعد المعاطاة، لانفصاله عنها، بخلاف التعاطي، فإنّ الإذن في التمليك مقرون به.

و بالجملة: فالإذن في التصرف المملّك يوجب مملّكية نفس المعاطاة بالأولوية

ص: 438

مع الاستناد فيه (1) إلى: أنّ إذن المالك فيه (2) إذن في التمليك، فيرجع (3) الى كون المتصرّف في تمليك نفسه موجبا قابلا، و ذلك (4) جار في القبض، بل هو (5) أولى منه، لاقترانه (6) بقصد التمليك، دونه» انتهى (7).

و المقصود من ذلك كلّه استبعاد هذا القول (8)، لا أنّ الوجوه المذكورة تنهض في مقابل الأصول و العمومات (9)، إذ ليس فيها تأسيس قواعد جديدة لتخالف

______________________________

(1) أي: أنّ التمليك المستند إلى الإذن في التصرف جار في القبض أيضا و هو الأخذ من المعطي، لاقتران الإعطاء بقصد تمليك المعطي.

(2) أي: أن إذن المالك في التصرف إذن في أن يتملّك المتصرّف المأخوذ بالمعاطاة.

(3) يعني: أن مآل إذن المالك في التصرف إلى صيرورة المتصرّف موجبا و قابلا.

(4) يعني: أنّ ما ذكر- من كون الإذن في التصرف إذنا في التمليك- جار في القبض.

(5) أي: القبض المعاطاتي أولى من التصرف الذي تكون مملكيّته مستندة إلى: أنّ إذن المالك في التصرف إذن في التمليك. وجه الأولوية ما عرفته من اقتران المعاطاة بقصد التمليك دون التصرف، فإنّ الإذن في التمليك و إن كان موجودا حين التصرف أيضا فيتملّك المتصرف المأخوذ بالمعاطاة، إلّا أنّ الإذن في التمليك موجود في نفس زمان المعاطاة، فليكن هو المملّك بوجوده الحدوثي، لا بوجوده البقائي.

هذا ظاهر العبارة. لكن التعليل لا يخلو من مسامحة، إذ الإذن المملّك موجود من زمان حدوثه بالمعاطاة إلى جميع الآنات المتأخرة، و لا يعتبر حدوث إذن آخر في زمان التصرف حتّى تتجه الأولويّة.

(6) أي: لأن القبض مقترن بالاذن المملّك، دون التصرف، فإنّ إذن التمليك غير مقترن به، بل الاذن سابق عليه.

(7) أي: انتهى ما ذكره بعض الأساطين في مقام الاستبعاد عن القول بالإباحة.

(8) أي: القول بإفادة المعاطاة للإباحة.

(9) و هي ما يأتي إليه الإشارة في كلامه من أدلة توقف التصرفات على الملك، و عموم «على اليد» و غير ذلك. و ليس المراد بها العمومات الدالة على صحة المعاطاة و كونها بيعا مفيدا للملكيّة كما قد يتوهم، إذ لو كانت تلك العمومات دالّة على مملكية المعاطاة كانت

ص: 439

القواعد المتداولة بين الفقهاء.

[المناقشة في القواعد المرتبة على القول بالإباحة]
[1- المناقشة في ما يتعلق بقاعدة التبعية]

أمّا (1) حكاية تبعية العقود و ما قام مقامها للقصود ففيها أوّلا (2):

______________________________

هي المعوّل و لم تصل النوبة الى هذه الاستبعادات التي هي كالدليل الإنّي كاشفة عن فساد القول بالإباحة.

و اعلم أنّ غرض الشيخ الكبير قدّس سرّه من بيان الوجوه المزبورة هو: أنه لو لم يتم الاستدلال على مملّكية المعاطاة بما تقدم من آيتي الحلّ و التجارة و غيرهما كفى في إثبات مملّكيتها ما ذكر من الاستبعادات، و إلّا لزم تأسيس قواعد جديدة. و المصنف قدّس سرّه ناقش في ذلك بأنّ تلك الوجوه لا تفي بإثبات المقصود، و هو إفادة المعاطاة للملك، لأنّ لتلك الأمور نظائر في الشريعة، فليست قواعد جديدة توجب رفع اليد عن القول بالإباحة.

المناقشة في القواعد المرتبة على القول بالإباحة

(1) أجاب المصنف قدّس سرّه عن استبعادات كاشف الغطاء قدّس سرّهما بوجهين: أحدهما:

بالتفصيل بالنظر في كل واحد من الأمور الثمانية، كما ستقف عليه. و الآخر بالإجمال، و هو الذي تعرض له في آخر كلامه بقوله: «مع أنه لم يذكرها للاعتماد» و هو اعتذار عن كاشف الغطاء بأن مقصوده مجرّد الاستبعاد عن الالتزام بهذه القواعد، لا أنّها تصلح لرفع اليد عن القول بالإباحة.

1- المناقشة في ما يتعلق بقاعدة التبعية

(2) قد أجاب المصنف قدّس سرّه عن أوّل تلك الوجوه بجوابين، أحدهما حلّي، و الآخر نقضي.

و محصل الأوّل هو: أنّ المعاطاة ليست من صغريات تلك القاعدة، لأنّ مورد تلك القاعدة هو العقود الصحيحة شرعا، و معنى الصحة ترتب الأثر المقصود عليها، فإذا دلّ دليل على صحة عقد البيع فمعناه ترتب الأثر المقصود- و هو الملكية- عليه، و يستحيل مع صحته عدم ترتب الأثر عليه، إذ ليس ذلك إلّا التناقض. و أمّا إذا لم يدلّ دليل على صحة عمل بمعنى ترتب الأثر المقصود عليه، و لكن حكم الشارع في مورده بالإباحة التي لم تكن مقصودة من ذلك العمل لم يلزم تخلف العقد عن القصد.

ص: 440

أنّ المعاطاة ليست عند القائل بالإباحة المجردة من العقود (1)، و لا من القائم مقامها (2) شرعا، فإنّ (3) تبعية العقد للقصد و عدم انفكاكه عنه إنّما هو لأجل دليل صحة ذلك العقد بمعنى (4) ترتب الأثر المقصود عليه، فلا يعقل (5) حينئذ الحكم بالصحة مع عدم ترتب الأثر المقصود عليه. أمّا المعاملات الفعلية التي لم يدلّ على صحتها (6) دليل

______________________________

و المعاطاة التي لا تفيد الملكيّة- و تترتب عليها الإباحة شرعا- كذلك، لأنّ الإباحة حكم شرعي تعبدي يترتّب على المعاطاة، و ليست هذه الإباحة عقديّة حتى يلزم من ثبوتها محذور مخالفة العقد للقصد.

و بالجملة: المعاطاة التي لم يترتّب عليها الملكية- التي هي المقصودة منها- موضوع لحكم الشارع بالإباحة، نظير حكمه بجواز الأكل من أموال الناس في المجاعة، و جواز أكل المارّة من ثمرة الشجرة التي يمرّ بها و إن لم يرض به المالك، بناء على جواز الأكل مطلقا، و عدم إناطته برضى المالك.

(1) خبر «أنّ المعاطاة» أي: ليست من العقود حتى تندرج في كبرى «تبعية العقود للقصود» فعدم ترتب الملكية على المعاطاة يكون من السالبة بانتفاء الموضوع، إذ ليست عقدا حتى يجري فيها قاعدة التبعية.

(2) كالوصية التمليكية بناء على كون قبول الموصى له شرطا لا جزء، فإذا قبل الموصى له ترتب عليه أثر العقد الصحيح و إن لم تكن هذه الوصية عقدا حقيقة، لأنّه مؤلّف من جزأين الإيجاب و القبول، فلو كان القبول شرطا صار العنوان ملحقا بالعقد حكما. و على كلّ فالمعاطاة عند القائل بالإباحة ليست عقدا و لا قائمة مقامه، بل هي إباحة تعبدية.

(3) تعليل لقوله: «ليست من العقود» و قد عرفت توضيحه.

(4) هذا مفسّر لقوله: «صحة العقد» يعني: أنّ معنى صحة العقد ترتب أثره الذي قصده المتعاقدان.

(5) هذا نتيجة حكم الشارع بصحة عقد، و أنّه يمتنع انفكاك الأثر عن العقد الصحيح.

(6) على مذاق القدماء القائلين بإفادة المعاطاة للإباحة.

ص: 441

فلا يحكم بترتب الأثر المقصود عليها (1) كما نبّه عليه (2) الشهيد في كلامه المتقدم من:

أن السبب الفعلي لا يقوم مقام السبب القولي في المعاملات.

نعم (3) إذا دلّ الدليل على ترتب أثر عليه حكم به و إن لم يكن مقصودا.

و ثانيا (4): أنّ تخلّف العقد عن مقصود

______________________________

(1) أي: على المعاملات الفعلية.

(2) أي: نبّه الشهيد قدّس سرّه على عدم صحة المعاملة الفعلية، و أنّ السبب الفعلي لم يقم دليل على صحته و تأثيره. حيث قال: «و أما المعاطاة في المبايعات فهي تفيد الإباحة دون الملك» «1».

و هذه العبارة و إن لم تكن صريحة في عدم قيام السبب الفعلي مقام القولي، إلّا أنّها تدل عليه بالالتزام، إذ السبب القولي- و هو الإيجاب و القبول- يؤثّر في الملكية المقصودة من البيع، و لمّا لم تكن المعاطاة مشتملة على القول لم تكن مؤثّرة في الملكية، و أمّا تأثيرها في الإباحة فهو تعبد محض، و لولاه لكان مقتضى القاعدة فسادها و عدم تأثيرها أصلا حتى في إباحة التصرف.

(3) استدراك على قوله: «فلا يحكم» و غرضه دفع التنافي بين عدم ترتب الأثر المقصود على المعاطاة و بين إفادتها لإباحة التصرف بدليل خاص و إن لم تكن الإباحة مقصودة، إذ المقصود هو الملك، و لم يحصل.

(4) هذا هو الجواب الثاني- أي النقض بموارد ثبت فيها التخلف عن القصد- و حاصله:

أنّه لا غرابة في تحلف العقد عن القصد، لوقوعه في موارد، نبّه المصنف على خمسة منها في المتن و سيأتي بيانها.

و لا يخفى أنّ ظاهر الكلام ذكر موارد النقض على قاعدة «تبعية العقود للقصود» و أنّها ليست كالقواعد العقلية الآبية عن التخصيص، فورد تخصيصها بموارد خمسة، و لتكن المعاطاة

______________________________

(1): القواعد و الفوائد، ج 1، ص 178، رقم القاعدة 47 و عبارة المتن منقولة بالمعنى كما سبق التنبيه عليه.

ص: 442

المتبايعين (1) كثير، فإنّهم (2) أطبقوا على أنّ عقد المعاوضة إذا كان فاسدا

______________________________

سادسة تلك الموارد، فهي عقد يقصد به الملك، و لكنها تفيد الإباحة.

لكن في عبارة المصنف احتمال آخر تفطّن له المحقق الأصفهاني قدّس سرّه و هو: أنّ غرضه من ذكر موارد النقض ليس تخصيص قاعدة التبعية، بل انّ ترتب الإباحة على المعاطاة المقصود بها الملك تخلّف صوري غير قادح بعموم القاعدة، فالقاعدة آبية عن التخصيص و لو بمورد واحد. و الشاهد على إرادة هذا الاحتمال أمران:

أحدهما: صراحة كلام المصنف: «فلا يعقل حينئذ الحكم بالصحة مع عدم ترتب الأثر المقصود عليه» في أن الشارع إذا حكم بصحة عقد و ترتّب أثر خاصّ عليه امتنع تخلف ذلك الأثر عن القصد. و أمّا ترتب أثر آخر- غير مقصود- على العقد فلا ينافي صحته أصلا.

و ثانيهما: أنّ الموارد الخمسة المذكورة في المتن من هذا القبيل، لأنّ العقد إمّا ليس بصحيح فلا يبقى موضوع للتخلف، و إمّا يكون التخلف صوريا.

هذا ما احتملناه، و عليك بالتدبر في كلام المصنف قدّس سرّه لعلّك تقف على حقيقة الأمر.

(1) الأولي تبديله ب «المتعاقدين» ليشمل المورد الخامس و هو نسيان ذكر الأجل في النكاح المنقطع، و كذا المورد الثاني، لعدم اختصاص مفسدية الشرط الفاسد و عدمها بالبيع.

(2) هذا شروع في بيان المورد الأوّل، و هو انقلاب ضمان المسمّى إلى الواقعي عند فساد العقد، توضيحه: أنّ المقصود في العقد المعاوضي هو الضمان بالمسمّى، مع أنّه في فاسده واقعي، فإذا باع متاعه بدينار ثمّ تبيّن فساد البيع كان ضمان كل من العوضين بقيمته الواقعية، مع أنّ هذا الضمان لم يكن مقصودا، بل المقصود كان ضمان المتاع بالدينار، و بالعكس، فتخلّف العقد عن القصد، لأنّ المقصود منه هو الضمان بالمسمّى، مع أنّ الضمان صار بالقيمة الواقعية، و هو غير مقصود.

فان قلت: إنّ عموم قاعدة تبعية العقود للقصود باق بحاله، و لم ينتقض بانقلاب ضمان المقبوض بالعقد الفاسد من المسمّى إلى الواقعي. وجه عدم النقض: أنّ ضمان القيمة الواقعية

ص: 443

يؤثّر في ضمان كلّ من العوضين القيمة (1)، لإفادة (2) العقد الفاسد الضمان عندهم فيما يقتضيه صحيحه،

______________________________

لا يستند إلى العقد حتى يتخلّف عن القصد، بل إلى قاعدة اليد، إذ من المعلوم أنّ كلّا من المتعاقدين وضع يده على مال الآخر. و مقتضى وضع اليد هو الضمان الواقعي. و عليه فلا وجه للنقض على كاشف الغطاء قدّس سرّه بما أفاده المصنف من تبدّل الضمان المسمّى- عند فساد العقد- بضمان القيمة الواقعية.

قلت: إن عموم القاعدة قد خصّص بمورد النقض، و ذلك لأنّ انقلاب ضمان المسمّى إلى ضمان القيمة الواقعية لا يستند إلى قاعدة اليد، لدلالة كلماتهم على أنّ المؤثّر في الضمان الواقعي هو نفس العقد الفاسد، و إقدامهما على الضمان. و إنّما ذكر بعض الأصحاب قاعدة اليد مستندا للضمان الواقعي، و لا عبرة به، إذ المهم رعاية نظر الأكثر. و قد عرفت أنّ مستندهم في هذا الانقلاب الى نفس الإقدام العقدي لا غير. و به يتّجه صورة النقض على قاعدة التبعيّة.

(1) بالنصب مفعول «ضمان» و المراد به القيمة الواقعية، قال في الجواهر في مسألة المقبوض بالعقد الفاسد: «و لذا أطلق المصنف و غيره الضمان على وجه يراد منه الضمان بالمثل أو القيمة. بل لعلّه هو الظاهر من معاقد إجماعاتهم في المقام، فضلا عن التصريح به من بعضهم ..» «1».

و عليه فضمان المقبوض بالعقد الفاسد بالبدل الواقعي كأنّه من مسلّماتهم، و لذا كان الأولى التعبير «بالبدل» من التعبير بالقيمة، إلّا أن يريدوا بالقيمة ماليّته الفعلية، و الأمر سهل.

(2) تعليل لقوله: «يؤثّر» يعني: أنّ تأثير العقد المعاوضي الفاسد- كالبيع- في الضمان بالبدل الواقعي لا المسمّى إنّما هو لكونه من صغريات قاعدة مسلّمة عندهم و هي: «أنّ كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، و أنّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» و حيث إنّ البيع الصحيح يؤثّر في الضمان بالعوض المسمّى كان فاسده مؤثّرا في الضمان بالعوض الواقعي من المثل أو القيمة.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 258، و لاحظ كلامه أيضا في ص 413 و 414 من نفس الجزء.

ص: 444

مع (1) أنّهما لم يقصدا إلّا ضمان كل منهما (2) بالآخر [1].

و توهّم (3) أنّ دليلهم على ذلك قاعدة اليد

______________________________

(1) هذا هو محطّ الاشكال و النقض على قاعدة تبعية العقود للقصود، حيث إنّ الضمان بالبدل الواقعي غير مقصود للمتعاملين بالعقد الفاسد، و قد حصل، و المقصود- و هو الضمان بالمسمّى- لم يحصل، فتخلّف العقد عن القصد.

(2) أي: كل من العوضين، يعني: أنّهما لم يقصدا إلّا الضمان المعاوضي لا الواقعي، فوقع ما لم يقصد، و قصد ما لم يقع.

(3) غرض المتوهّم الذّب عن عموم قاعدة تبعية العقود للقصود، و عدم نقضه بتبدل ضمان العوض المسمّى بضمان البدل الواقعي في المقبوض بالعقد الفاسد، و أنّ الموجب للضمان الواقعيّ هو قاعدة اليد لا العقد الفاسد. حتّى يتوهّم حصول ما لم يقصده المتعاقدان، و قد تقدّم توضيحه بقولنا: «ان قلت .. قلت ..».

______________________________

[1] فيه: أن سبب الضمان في العقود الفاسدة كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى هو اليد لا العقد حتى يلزم تخلف العقد عن القصد، و لذا لا يحكم بضمان المسمّى بنفس تحقق المعاملة بالإيجاب و القبول مع عدم تحقق القبض و الإقباض، فلو كان مجرّد الإقدام العقدي موجبا للضمان لكان الإقدام هنا على المعاملة متحققا، فلا بد فيه من الحكم بالضمان مع عدمه قطعا.

و الحاصل: أنّ مورد تبعية العقد للقصد هو ما إذا صحّ العقد، إذ لا معنى حينئذ لعدم ترتب الأثر عليه، و ليس هذا إلّا التناقض، لأنّ مرجع النقض إلى صحة العقد مع تخلفه عن القصد، و من المعلوم مناقضة الصحة- التي هي ترتب الأثر المقصود- مع تخلف العقد عن القصد، فإنّ تخلفه عن القصد ليس إلّا عدم ترتب الأثر المقصود على العقد، فكيف يجتمع الصحة مع التخلّف؟.

ص: 445

مدفوع (1) بأنّه لم يذكر هذا الوجه (2) إلّا بعضهم معطوفا على الوجه الأوّل، و هو إقدامهما على الضمان، فلاحظ المسالك (3).

و كذا (4) الشرط الفاسد- لم يقصد المعاملة إلّا مقرونة به-

______________________________

(1) خبر «و توهم» و دفعه، و قد تقدم توضيحه بقولنا: «قلت: ان عموم القاعدة قد خصّص بمورد النقض، و ذلك ..».

(2) أي: قاعدة اليد الموجبة للضمان الواقعي- لا المسمّى- في العقد الفاسد.

(3) قال الشهيد الثاني في شرح قول المحقق قدّس سرّهما: «و لو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه و كان مضمونا عليه» ما لفظه: «لا إشكال في ضمانه إذا كان جاهلا بالفساد، لأنّه أقدم على أن يكون مضمونا عليه، فيحكم عليه به، و ان تلف بغير تفريط. و لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» «1» [1].

هذا ما يتعلّق بأوّل الموارد الخمسة من النقض على قاعدة التبعية.

(4) معطوف على «فإنهم أطبقوا» و هذا هو المورد الثاني من موارد النقض، و حاصله:

أنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد عند أكثر القدماء، مع أنّ ما قصد- و هو العقد المقيّد بالشرط الفاسد- غير واقع، و الواقع الذي هو ذات العقد- المعرّى عن الشرط- لم يقصد، فتخلّف العقد عن القصد. نعم بناء على مفسديّة الشرط الفاسد للعقد لم يتوجّه هذا النقض على بعض الأساطين، لكنّه خلاف التحقيق.

______________________________

[1] الإنصاف أن هذا الكلام ظاهر بل صريح في استنادهم في الحكم بالضمان في المقبوض بالعقد الفاسد إلى دليلين: أحدهما الاقدام و الآخر قاعدة اليد، و توجيهه تارة بما في المتن من أنّ المعتمد منهما هو الإقدام دون اليد، و اخرى بأن ذكر الاقدام ليس للاستدلال به مستقلا بل لإتمام الاستدلال باليد و بيان عدم كونها مجانيّة، بلا شاهد و مما لا يرضى به صاحبه. و التفصيل موكول إلى مسألة المقبوض بالعقد الفاسد إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 3، ص 154.

ص: 446

غير (1) مفسد عند أكثر القدماء (2) [1].

و بيع (3) ما يملك و ما لا يملك

______________________________

(1) خبر «الشرط الفاسد» و جملة «لم يقصد» صفة للشرط الفاسد، و ضمير «به» راجع الى الشرط الفاسد.

(2) قال في مفتاح الكرامة: «الأصحاب في البيع الذي تضمّن شرطا فاسدا على أنحاء:

الأوّل: صحة البيع و بطلان الشرط. و هو خيرة الشيخ في المبسوط، و ابن سعيد في الجامع، و الآبي في كشف الرموز، و المحكي عن أبي علي و القاضي، و ربما حكي عن الحلي و لم أجده في السرائر، و وافقهم أبو المكارم في الشرط المخالف لمقتضى العقد أو للسنة .. و وافقهم ابن المتوج في الشرط الفاسد الذي لا يتعلق به غرض، كما لو شرط أكل طعام بعينه أو لبس ثوب و نحوه، فليتأمّل» «1». و عليه فنسبة الحكم إلى جماعة من القدماء في محلّها.

(3) معطوف على «فإنهم» و هذا ثالث موارد النقض، و حاصله: أنّ بيع المملوك و غير المملوك صحيح عند المحققين بالنسبة إلى المملوك، و باطل بالنسبة إلى غير المملوك، كما لو باع الشاة و الخنزير- صفقة واحدة- من شخص. مع أنّ مقصود المتبايعين- و هو بيع المجموع- لم يقع في الخارج، فما قصد لم يقع، و ما وقع لم يقصد.

______________________________

[1] فيه: أنّ الشرط إن كان ممّا علّق عليه العقد كما إذا قال: «بعتك هذا الكتاب إن قدم الحاج» كان العقد باطلا لأجل التعليق.

و إن كان الشرط التزاما آخر في ضمن الالتزام العقدي، فإن كان من باب تعدد المطلوب لا من باب تقييد الالتزام العقدي به لم يسر فساد الشرط الى العقد، و لم يلزم تخلّف العقد عن القصد. و إن كان من باب وحدة المطلوب سرى فساده الى العقد، و لم يجب الوفاء لا بأصل العقد و لا بشرطه، و لا مورد حينئذ للنقض على قاعدة التبعية، لاختصاص مورده بالعقود الصحيحة.

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 732.

ص: 447

صحيح عند الكلّ (1) [1].

و بيع الغاصب (2) لنفسه يقع للمالك مع إجازته على قول كثير (3) [2].

______________________________

(1) و في الجواهر- بعد الاستدلال على الصحة فيما يملك-: «مضافا الى عدم الخلاف المعتدّ به بين من تعرّض له» «1».

(2) معطوف على «فإنهم أطبقوا». و هذا رابع النقوض، و هو ما إذا باع الغاصب لنفسه المال المغصوب، فإنّ جمعا كثيرا ذهبوا إلى أنّ البيع يقع عن المالك فضولا، و تتوقف صحّته على إجازته، مع أنّ المقصود- و هو كون البيع للبائع- لم يقع، و الواقع- و هو وقوع البيع عن المالك- غير مقصود.

(3) بل نسبه المصنف في بيع الفضولي إلى المشهور، حيث قال: «المسألة الثالثة: أن يبيع الفضولي لنفسه، و هذا غالبا يكون في بيع الغاصب .. و الأقوى فيه الصحة وفاقا للمشهور».

______________________________

[1] فيه: أنّ العقد ينحلّ إلى عقدين أحدهما صحيح، و الآخر باطل، و لا يلزم تخلف العقد عن القصد.

إلّا أن يقال: إن مقصود المصنف النقض على كاشف الغطاء قدّس سرّهما بما إذا كان المقصود انضمام ما يملك و ما لا يملك، إذ يلزم حينئذ من إمضاء بيع ما يملك- دون ما لا يملك- تخلّف القصد عن الواقع، فيتم صورة النقض.

لكن يندفع بخروجه عن قاعدة التبعية أيضا، لاختصاصها بالعقود الصحيحة، و المفروض عدم صحته فيما لا يملك.

[2] فيه: ما مرّ في تعريف البيع من: أنّه تبديل إنشائي بين عين متمولة و بين عوض متموّل في جهة الإضافة، أو: تمليك عين بمال. و على كلّ فقصد وقوعه عن المالك أو البائع خارج عن حدوده، فقصده لغو، كما يأتي تفصيله في بيع الفضولي إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 320.

ص: 448

و ترك (1) ذكر الأجل في العقد المقصود به الانقطاع يجعله دائما على قول نسبه في المسالك و كشف اللثام إلى المشهور (2) [1].

______________________________

(1) معطوف على «فإنّهم أطبقوا» و هذا خامس النقوض، و محصله: أنّ العاقد إذا ترك ذكر الأجل في النكاح المنقطع انقلب دائما على ما أفتى به جماعة، مع أنّ المقصود هو الزواج المنقطع لا الدائم، فالمقصود غير واقع، و الواقع غير مقصود.

(2) قال في المسالك: «و لو قصدا المتعة و أخلّا بذكر الأجل، فالمشهور بين الأصحاب:

أنّه ينعقد دائما، و هو الذي اختاره المصنف، لأنّ لفظ الإيجاب صالح لكل منهما، و إنّما يتمحّض للمتعة بذكر الأجل، و للدوام بعدمه، فإذا انتفى الأوّل ثبت الثاني. و لأنّ الأصل في العقد الصحة، و الفساد على خلاف الأصل. و لموثقة عبد اللّه بن بكير .. الى أن قال: ليس فيه دلالة على أنّ من قصد المتعة و لم يذكر الأجل يكون دائما، بل إنّما دلّ على أنّ الدوام لا يذكر فيه الأجل، و هو كذلك، لكنه غير المدّعى، و حينئذ فالقول بالبطلان مطلقا أقوى» «1».

و عليه فليس انقلاب العقد دائما- عند ترك ذكر الأجل- مسلّما عندهم حتى يصحّ النقض به، إذ لا بد في صحة النقض من تسلّم المورد، و مع الخلاف لا يصح النقض به كما لا يخفى.

______________________________

[1] و يدلّ عليه موثّق ابن بكير، قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في حديث: إن سمّى الأجل فهو متعة، و إن لم يسمّ الأجل فهو نكاح بات» «2».

لكن الانصاف- كما أفاده في المسالك- كون الحديث أجنبيا عن المدّعى و هو ما إذا قصدا المتعة و أخلّا بذكر الأجل انعقد دائما، بل ظاهر الحديث كونه في مقام اعتبار ذكر الأجل في المتعة، و عدم اعتباره في النكاح الدائم، و لا دلالة فيه على أنّه إذا قصدا المتعة و نسيا ذكر الأجل انعقد دائما، حتى يلزم فيه تخلف العقد عن القصد.

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 1، ص 539 (الطبعة الحجرية) كشف اللثام، ج 1، كتاب النكاح ص 50.

(2) وسائل الشيعة، ج 14، ص 469، الباب 20 من أبواب المتعة، الحديث: 1.

ص: 449

______________________________

فالذي ينبغي أن يقال: إنّ بناء العاقد إن كان على إنشاء النكاح المنقطع- و لكن نسي ذكر الأجل عند الإنشاء و قصد النكاح الدائم- فلا شبهة في وقوعه دائما، لأنّه المقصود بعد نسيان ذكر الأجل. و إن كان بناء العاقد على إنشاء المتعة، و لكن نسي ذكر الأجل أو تركه عمدا فالقاعدة تقتضي البطلان، لأنّ المقصود بالفرض و هو المتعة لم ينشأ، و المنشأ صورة هو الدوام، لكنه غير مقصود، و من المعلوم أنّ الإنشاء هو إبراز الأمر النفساني في الخارج، و مع فرض عدم قصد الدوام لا يكون ذلك مبرزا باللفظ. و المتعة و إن كانت مقصودة، لكنها لم تبرز باللفظ، فلا بد من الالتزام بعدم وقوع شي ء من الدوام و المتعة.

أمّا الأوّل فلعدم كونه مقصودا، و قصد عنوان العقد و مضمونه لا بدّ منه في وقوعه.

و أمّا الثاني فلفقدان شرط صحته أعني ذكر الأجل، على ما دلّت عليه الروايات.

فما عن المشهور كما في عبارة المسالك المتقدمة عند شرح كلام المصنف- من: أنّه مع البناء على إنشاء النكاح المنقطع لكنه غفل حين الإنشاء و لم يذكر الأجل انعقد دائما استنادا إلى الوجوه الثلاثة المتقدمة في المسالك: من أصالة الصحة و من تعيّن الدوام بعد انتفاء الانقطاع، للإخلال بشرطه و هو ذكر الأجل، و لموثقة ابن بكير المتقدمة- في غاية الإشكال.

أمّا في أصالة الصحة: فلأنّها غير مشرّعة، بل شأنها تطبيق الكبرى على الصغرى، و متعلق الخطاب على المأتي به.

و بعبارة أخرى: شأن أصالة الصحة إثبات مطابقة الواقع مع المأتيّ به، و أمّا كون الشي ء الفلاني شرطا شرعيا لعقد أو لا فلا يمكن إثبات شرطيته أو نفيها بأصالة الصحة.

و أمّا في تعيّن الدوام بعد انتفاء الانقطاع: فلأنّ العقد لا يتمحّض لأحدهما إلّا بإنشائه بما يكون دالّا عليه، و الإنشاء منوط بالقصد، و المفروض أنّ المقصود هو المتعة، و القصور يكون في الدالّ، لعدم ذكر الأجل نسيانا، فلا يقع شي ء من النكاحين. أمّا الدوام فلعدم قصده، و أمّا الانقطاع فلفقدان شرطه و هو ذكر الأجل.

و أمّا في موثقة ابن بكير فلعدم الدلالة كما عرفت آنفا.

فالحق بطلان العقد رأسا، فأين تخلّف العقد فيه عن القصد؟ هذا.

ص: 450

______________________________

ثم إنّه قد يتمسّك للمشهور برواية أبان بن تغلب في حديث صيغة المتعة: «أنّه قال لأبي عبد اللّه عليه السّلام: فإنّي أستحيي أن أذكر شرط الأيّام قال: هو أضرّ عليك. قلت: و كيف؟ قال: لأنّك إن لم تشرط كان تزويج مقام، و لزمتك النفقة في العدة، و كانت وارثا و لم تقدر على أن تطلّقها إلّا طلاق السّنة» «1».

بتقريب: أنّ الاستحياء ظاهر في ان مقصوده النكاح المنقطع، لكن الحياء أوجب إهمال ذكر الأجل، و مع ذلك يحكم بأنّ المترتّب على هذا الإنشاء هو النكاح الدائم، فثبت المطلوب و هو تخلّف العقد عن القصد، إذ المقصود هو المنقطع، و لم يقع، و الواقع و هو الدائم غير مقصود، هذا.

و فيه: أنّ المحتمل كون السؤال عمّا إذا بدا له القصد إلى الدوام حياء عمّا يعتبر في قوام المتعة من اشتراط ذكر الأجل، فيقصد الدوام لذلك، فيقع في لوازمه و أحكامه، فنبّهه الامام عليه الصلاة و السلام على أنّ ذلك يضرّه.

و على هذا فلا يصح الاستدلال بهذا الخبر على انقلاب العقد المعرّى عن ذكر الأجل دائما مع كون المقصود المنقطع. هذا.

و قد يقال: إنّ مقتضى القاعدة هو ما ذهب إليه المشهور من انقلاب العقد دائما، بتقريب: أنّ الزواج فيهما حقيقة واحدة، و ليس له إلّا قسم واحد، و أنّ الزمان مطلقا ظرف وقوع الزوجية، و ليس قيدا فيهما أبدا، و ذكر الأجل مع ذلك- فيما يسمّى بالمتعة- حكم شرعي، و يكون تنزيلا له عند ذكر الأجل منزلة ما يكون الزمان قيدا له.

و يدلّ على كون الدوام و الانقطاع حقيقة واحدة قوله تعالى عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ ..، فَمَنِ ابْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ العٰادُونَ «2» فإنّ الزوجية في المتعة و الدوام لو كانت مختلفة الحقيقة لم يكن وجه لاستناد أصحابنا القائلين بمشروعية المتعة الى هذه

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 14، ص 470، الباب 20 من أبواب المتعة، الحديث: 2.

(2) المؤمنون، الآية: 7.

ص: 451

______________________________

الآية الشريفة، في قبال العامّة المنكرين لمشروعية المتعة. و لوحدة حقيقة الزوجية و عدم اختلافها استقرّ بناؤهم على عدم الحاجة في النكاح الدائم إلى اعتبار الدوام. و لو كانت نظير ملك المنافع لكان اللازم ذكر الغاية و الدوام. هذا ما عن بعض الأجلّة على ما في فوائد «1» المحقق صاحب الكفاية قدّس سرّه.

لكن فيه ما لا يخفى، فإن المتعة تباين النكاح الدائم في جهات ثلاث:

إحداها: في السبب الموجب للإنشاء، فإنّ في عقد المتعة لا بدّ من ذكر المهر و الأجل، بخلاف الدوام فإنّه لا يعتبر فيه شي ء من ذلك، بل يعتبر في الدوام أن لا يكون مغيّا بغاية و أجل.

ثانيتها: في المسبب، فإنّ المنشأ في المتعة- و هو الزوجية المحدودة بوقت خاص الّتي تزول بمجرد انقضاء أجلها من دون حاجة إلى طلاق- مغاير لما ينشأ في الدائم، لأنّ المنشأ فيه هو الزوجية غير المحدودة.

ثالثتها: في الأحكام و الآثار، لاختصاص الدوام بحرمة الخامسة، و بالإرث، و وجوب الإنفاق، و ثبوت الطلاق، و القسم و غير ذلك. و اختصاص المتعة ببذل المدّة، و تنقيص المهر بالامتناع عن الاستمتاع.

و هذا الاختلاف الفاحش في هذه الجهات الثلاث يدلّ على كونهما نوعين متغايرين.

و لا ينافي ذلك وضع لفظي التزويج و النكاح للقدر المشترك بين الدوام و المتعة، و ذلك لأنّه كلفظ التمليك الذي وضع للقدر المشترك بين الهبة و البيع، فيكون تخصيصه بكل منهما بالقرينة.

و ممّا ذكرنا ظهر: أنّ النكاح يكون جنسا للدوام و المتعة، و هما نوعان له، فهنا أمور ثلاثة:

أحدها: زواج مرسل، و هو المسمّى بالنكاح الدائم.

ثانيها: زواج محدود بوقت خاص، و هو المسمّى بالمنقطع.

______________________________

(1): حاشية الرسائل، ص 299.

ص: 452

نعم (1) الفرق بين العقود و ما نحن فيه: أنّ التخلّف عن القصود يحتاج الى

______________________________

(1) استدراك على قوله: «و ثانيا» أن تخلف العقد عن مقصود المتبايعين كثير» و حاصله: أن مقتضى قابلية عموم «تبعية العقود للقصود» للتخصيص بالموارد الخمسة المتقدمة و إن كان جواز تخصيصها بمورد سادس و هو المعاطاة المقصود بها الملك، حيث إنّها لا تؤثّر إلّا في الإباحة المجرّدة عن الملك، إلّا أنّ في الخروج عن عموم قاعدة التبعية فرقا بين المعاطاة و بين تلك الموارد الخمسة. و الفارق هو: أنّ التخلف في المعاطاة إنّما هو من جهة عدم المقتضي للتبعية، لما تقدم من عدم قيام دليل- بعد- على صحتها و ترتب الملك المقصود عليها، و التخلف في الموارد الخمسة يكون من جهة وجود المانع، و هو الدليل الدال على خروجها عن أدلة صحة العقود. فخروج المعاطاة عن قاعدة التبعية يكون بالتخصص، و خروج غيرها عنها يكون بالتخصيص.

هذا ظاهر المتن أو صريحه في الفرق بين المعاطاة و موارد النقض.

______________________________

ثالثها: زواج جامع بينهما متحد معهما في الخارج. لكن المنشأ للآثار و المحمول بالحمل الشائع ليس إلّا اثنين.

فالمتحصل من جميع ما ذكرنا: أنّ الدوام و الانقطاع ماهيتان مختلفتان، و ليستا حقيقة واحدة، فإذا قصد إنشاء المتعة و نسي ذكر الأجل، أو تركه عمدا بطل العقد رأسا، و لا ينعقد المتعة، لفقدان شرطها و هو ذكر الأجل، كما لا ينعقد الدوام لعدم قصده.

فما في الجواهر من كون الانقلاب على وفق القواعد مع اعترافه ظاهرا بكون الأجل في المنقطع قيدا و شرطا، بتوهّم: «كفاية إنشاء أصل النكاح و عدم اشتراط الأجل في حصول الدوام، و في محل البحث قد أنشئ النكاح بلا شرط الأجل فهو الدائم» «1» لا يخلو من غموض، لأنّ إنشاء القدر الجامع لا يكفي في إنشاء أحد أفراده ضرورة، بل لا بدّ في وقوع الفرد و تحقّقه من إنشاء خصوصه، لا الجامع بينه و بين غيره.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 30، ص 173، 174.

ص: 453

الدليل المخرج عن أدلة صحة العقود (1)، و ما نحن فيه (2) عدم الترتب مطابق للأصل.

[2- التصرف مملّك للمتصرف]

و أمّا (3) ما ذكره من لزوم كون إرادة التصرف مملّكا فلا بأس بالتزامه

______________________________

لكن بناء على اختصاص قاعدة «تبعية العقود للقصود» بالعقود الصحيحة الممضاة شرعا استحال التخلّف عن القصد فيها كما نبّه عليه المصنف قدّس سرّه بقوله: «لم يعقل».

و عليه فموضوع القاعدة خصوص العقود الصحيحة، لا الأعم منها و من الفاسدة، فالعقد الفاسد- كالمعاطاة- خارج موضوعا عن عموم القاعدة. و الفارق بين العقد الفاسد و المعاطاة حينئذ هو عدم صدق العقد على المعاطاة المفيدة للإباحة، بخلاف العقد الفاسد، فإنّه عقد عرفا و إن لم يكن صحيحا شرعا.

(1) كما دلّ في نسيان ذكر الأجل في المتعة، بناء على ما عن المشهور من انقلابها قهرا بالدّوام.

(2) و هو المعاطاة على مسلك القدماء من إفادتها الإباحة المحضة. هذا تمام ما أفاده المصنف في ردّ أوّل استبعادات كاشف الغطاء قدّس سرّه، و أنّه لا يلزم تأسيس قاعدة جديدة- في قبال قاعدة تبعية العقود للقصود- بعنوان «أن العقود لا تتبع القصود» بل العقود الصحيحة لا تتخلّف عن القصود، و لو تخلّفت لم يقدح ذلك في عموم القاعدة، إذ ما من عام إلّا و قد خصّ.

2- التصرف مملّك للمتصرف

(3) هذا شروع في مناقشة ثاني الاستبعادات المذكورة في شرح القواعد، و هو: استبعاد كون إرادة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة مملّكة له للمتصرّف فيه.

و محصل ما أفاده المصنف: أنّه و إن لم يدلّ دليل مستقل على مملّكية إرادة التصرف، إلّا أنّه لا ينحصر الدليل الشرعي في ذلك، بل الجمع بين الدليلين- أو الأدلة- لو اقتضى حكما شرعيا كفى في الأخذ به، كما هو غير عزيز في الفقه.

و المقام من هذا القبيل، لوجود طوائف ثلاث من الأدلة لا بد من الجمع بينها.

الاولى: استصحاب بقاء علقة كل من المتعاطيين بما دفعه للآخر، كما إذا تعاطى زيد و عمرو كتابا بدينار، فأصالة بقاء الكتاب على ملك زيد، و أصالة بقاء الدينار على ملك

ص: 454

إذا كان مقتضى الجمع بين الأصل (1) و دليل جواز التصرف المطلق (2) و أدلّة توقف بعض التصرفات على الملك (3)،

______________________________

عمرو تقتضي بقاء هذه الملكية و عدم زوالها أصلا إلّا بقيام حجة على قطع هذه العلقة.

الثانية: الإجماع على إباحة مطلق التصرف في المأخوذ بالمعاطاة سواء توقّف على الملك أم لم يتوقف.

الثالثة: الأدلة الدالة على توقف بعض التصرفات على الملك، كالبيع و العتق و الوقف.

و مقتضى الجمع بين هذه الطوائف الثلاث هو الحكم بأنّ المأخوذ بالمعاطاة يدخل في ملك الآخذ بمجرّد إرادة التصرف فيه بما يتوقف على الملك.

و الجمع بهذا النحو قد التزموا به في مسألتين:

إحداهما: تصرّف ذي الخيار- فيما انتقل عنه بمثل البيع- تصرفا منوطا بالملك، كما إذا باع مبيعه الخياري على شخص آخر، فإنّ مقتضى الجمع بين سلطنته على فسخ العقد الأوّل و توقف صحة بيعه ثانيا على دخول المال في ملكه هو: أنّ إرادة بيع ماله في زمن الخيار توجب فسخ العقد السابق و تملّكه له آنا ما حتى يصح بيعه ثانيا من شخص آخر.

و ثانيتهما: تصرف الواهب- فيما وهبه لغيره- تصرّفا منوطا بالملك.

و عليه فكما أن تصرّف ذي الخيار- فيما انتقل عنه- بأحد التصرفات المتوقفة على الملك يكشف عن انفساخ العقد و رجوع المال الى مالكه الأوّل. و كذا تصرف الواهب في الهبة يكشف عن انحلال عقد الهبة و عود العين الموهوبة إلى الواهب، و وقوع تصرفه في ملكه.

فكذلك المقام، أعني به المعاطاة، فإنّ المتعاطي- الذي يتصرف فيما أخذه بالمعاطاة- يتملّك المأخوذ بها قبل تصرفه بإرادة التصرف.

(1) المراد به استصحاب بقاء كل من المالين على ملك المعطي ماله للآخر.

(2) و هو الإجماع المدّعى في كلام بعضهم على إباحة مطلق التصرفات في المأخوذ بالمعاطاة.

(3) مثل ما قيل: من دلالة «لا بيع و لا وقف و لا عتق إلّا في ملك» على اعتبار إضافة الملكية في نفوذ بيعه و وقفه و عتقه و نحوها من التصرفات.

ص: 455

فيكون (1) كتصرف ذي الخيار و الواهب فيما انتقل عنهما بالوطي (2) و البيع و العتق و شبهها (3) [1].

______________________________

(1) يعني: فيكون الالتزام بمملّكية إرادة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة نظير الالتزام بمملّكية إرادة التصرف من قبل ذي الخيار و الواهب.

(2) هذا و «البيع و العتق» متعلق ب «تصرف ذي الخيار و الواهب» يعني: أنّ ذا الخيار و الواهب إذا لم يفسخا العقد بل تصرفا في ما انتقل عنهما تصرّفا متوقفا على الملك- كالمباشرة مع الأمة المبيعة ببيع خياري أو الموهوبة بهبة جائزة- كان ذلك التصرف فسخا فعليا، و إرادة الفسخ توجب عود المال الى الملك، فيقع التصرف في ملكي الواهب و ذي الخيار.

(3) كالوقف. و قد تحصّل: أن مملّكية إرادة التصرف ليست قاعدة غريبة يلزم تأسيسها لو قيل بإفادة المعاطاة للإباحة- كما زعمه كاشف الغطاء قدّس سرّه- بل لا بدّ من الالتزام بها، لاقتضاء الجمع بين الأدلة ذلك. مضافا الى وجود نظيره في الفقه.

______________________________

[1] لا يخفى: أنّ جهة الاشكال إن كانت هي استبعاد مملكية إرادة التصرف فما أفاده المصنف قدّس سرّه في رفعها- من كون ذلك مقتضى الجمع بين أصالة بقاء الملك الى زمان التصرف، و بين دليل جواز التصرف المطلق، و بين أدلة توقف بعض التصرفات على الملك من قبيل البيع و العتق- متين. إلّا أنّ ظاهر كلام بعض الأساطين عدم كون الاشكال من جهة كون الإرادة من المملّكات حتى يدفع ذلك بأنّه مقتضى الجمع بين الأدلة.

بل جهة الإشكال هي كون مملكية الإرادة خلاف سلطنة المالك على ماله، حيث إنّ كلّا من المتعاطيين إنّما يقصد الملك حال التعاطي، لا حال التصرف، فوقوع الملك حال التصرف خلاف سلطنته على ماله. و لذا فرّق بين المعاطاة و بين قوله: «أعتق عبدك عنّي، و تصدّق بما لي عنك» حيث انّ تمليك عبده لمن أمره بالعتق كان ناشئا عن إذنه. و كذا تملك المال الذي أمر بالصدقة به عنه كان بإذن المالك، و ليس فيه مخالفة للقاعدة المذكورة أعني سلطنة المالك.

ص: 456

______________________________

فقياس مملّكيّة إرادة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة على تصرف ذي الخيار و الواهب- فيما انتقل عنهما- في غير محله، إذ ليس فيه مخالفة لقاعدة السلطنة بعد فرض ثبوت الخيار و جواز الرجوع في الهبة.

و الحاصل: أنّ الاشكال في المقام راجع الى تخصيص قاعدة السلطنة. بخلاف النظائر المزبورة.

و أمّا إذا بنينا على الملكية من أوّل الأمر فلا يلزم تخصيص عموم السلطنة أصلا، لكون الملكية مقصودة للمتعاطيين، فيتعيّن البناء عليه لدفع محذور هذا التخصيص، فيبني على ثبوت الملكية من أوّل الأمر حتى لا يلزم تخصيص قاعدة السلطنة. فالجمع بين الأدلّة يقتضي الملكية من أوّل الأمر.

نعم يلزم منه خلاف استصحاب بقاء المال على ملك مالكه الى حين التصرف. لكن عموم قاعدة السلطنة يدفع هذا الاستصحاب، فإنّ أصالة العموم و عدم التخصيص تصلح لإثبات الملكية من أوّل الأمر، فلا يبقى شك في بقاء الملك على ملك مالكه حتى يجري فيه الاستصحاب. هذا.

مضافا الى: أنّ تنظير مملّكيّة إرادة التصرف بتصرف ذي الخيار و الواهب لا يخلو من تأمّل آخر نبّه عليه المحقق الأصفهاني قدّس سرّه، و هو: أنّ تصرف ذي الخيار بالفعل إمّا بعنوان السبب أو بعنوان الكاشف عن قصد الفسخ و الرجوع على الخلاف في المسألة، و على كلّ فالفعل الاختياري الذي قصد به الفسخ محقّق، بخلافه في المقام و هو: أنّ نفس تصرف أحدهما مملّك قهري، لا أنّه يقصد التملك، بل ربما يكون غافلا عنه، فلا وجه لهذا التنظير.

و المناسب للمقام التنظير بباب الرجوع بالمباشرة في المطلقة الرجعية بناء على حصوله بمجرد الاستمتاع و لو لم يقصد به الرجوع أصلا، فإنّ الشارع حكم على غشيانها أنّه رجوع إليها «1».

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 29.

ص: 457

[3- تعلق الاستطاعة و الغنى بالمأخوذ بالمعاطاة]

و أمّا (1) ما ذكره من «تعلّق الأخماس و الزكوات إلى آخر ما ذكره» فهو استبعاد محض.

______________________________

3- تعلق الاستطاعة و الغنى بالمأخوذ بالمعاطاة

(1) هذا شروع في ردّ ثالث استبعادات كاشف الغطاء قدّس سرّه و هو لزوم تعلق الأخماس و الزكوات و نحوهما بما في اليد دون الملك، مع أنّ المعهود من الشرع تعلّقها بالملك.

و ما أفاده المصنف قدّس سرّه في ردّه أمران أحدهما: منع أصل الاستبعاد، و أنّه لا مانع من الالتزام بعدم تعلق هذه الأمور الأحد عشر- المذكورة في الاستبعاد الثالث- بالمأخوذ بالمعاطاة بناء على إفادتها للإباحة كما عليها القدماء.

و ثانيهما: المنع الصغروي، بمعنى أنّ بعض الأمور المذكورة في كلامه لا مانع من الالتزام به، و إجرائه في المأخوذ بالمعاطاة، لعدم توقفه على الملك، و معه لا يبقى موضوع للاستبعاد، لأنّه يتوقف على اختصاص الموارد الأحد عشر بالملك حتى يستغرب من عدم تعلقها بالمأخوذ بالمعاطاة، فإذا لم تتوقف على الملك بل جرت في المباح أيضا التزمنا بترتبها على ما في اليد و إن لم يصر ملكا أصلا.

و توضيح الوجه الأوّل- و إن لم تف به العبارة لقصورها- هو: أنّ الحكم بعدم تعلق الخمس و الزكاة و الاستطاعة و نحوها بالمأخوذ بالمعاطاة استبعاد محض، فلا بأس بالالتزام بعدم التعلّق.

فان قلت: إنّ عدم التعلّق مخالف للسيرة القائمة على تعلق المذكورات بالمأخوذ بالمعاطاة، فلا وجه لدعوى عدم التعلق، مع قيام السيرة على تعلق هذه الأمور بالمأخوذ بالمعاطاة، و هذا التعلق المستند إلى السيرة كاشف عن إفادة المعاطاة للملك، لا لإباحة التصرف.

قلت: لا ريب في قيام السيرة على التعلّق، و لكن على هذا تكون السيرة دليلا على التعلق و إن كان التعلّق مخالفا للقاعدة، فتكون السيرة دليلا على تخصيصها. فالقاعدة تقتضي عدم التعلق، و لكن في خصوص هذه الأمور نلتزم بالتعلق لأجل دليل تعبدي و هو السيرة.

ص: 458

و دفعه بمخالفته (1) للسيرة رجوع إليها (2). مع (3) أنّ تعلّق الاستطاعة الموجبة للحجّ، و تحقّق الغنى المانع عن استحقاق الزكاة لا يتوقفان على الملك [1].

______________________________

و حينئذ فالسيرة دليل على التعلّق، لا على الاستبعاد المزبور الذي يريد بعض الأساطين جعله دليلا على مملّكية المعاطاة، لأنّ غرضه كون الاستبعاد دليلا على إفادة المعاطاة للملك، لا السيرة، فجعل السيرة دليلا على الملكية من أوّل الأمر رجوع عن الاستبعاد إلى السيرة.

(1) هذا الضمير و ضمير «دفعه» راجعان الى عدم التعلّق.

(2) أي: إلى السيرة، و أنّ الرجوع الى السيرة عدول عن جعل الاستبعاد دليلا على مملّكية المعاطاة إلى جعل السيرة دليلا على مملّكيّة المعاطاة.

(3) هذا إشارة إلى الوجه الثاني و هو المنع الصغروي، يعني: أنّ الأمور المذكورة في كلام كاشف الغطاء ليس جميعها متوقفة على الملك، حتى يلزم تأسيس قاعدة جديدة لو قلنا بتعلقها بالمأخوذ بالمعاطاة المفيدة للإباحة لا الملك. و وجه عدم توقفها على الملك هو: أنّ الاستطاعة كما تحصل بملك الزاد و الراحلة كذلك تحصل بإباحتهما بالبذل نصّا و فتوى.

و كذلك الغنى المانع عن استحقاق الزكاة، لأنّ الظاهر صدقه عرفا بوجدان ما يحتاج إليه في مئونة سنته و إن لم يكن مملوكا له. و تفسير الفقير في كلمات الفقهاء ب «من لا يملك قوت سنته» يراد به من لا يجد ذلك و لو بنحو الإباحة، فليتأمّل.

______________________________

[1] ظاهر اقتصار المصنف قدّس سرّه على الاستطاعة و الغنى هو تسليم توقف غيرهما على الملك.

لكنّه يستشكل فيه. أمّا في توقف تعلق حق الديّان على الملك فبأنّ المباح له و إن لم يكن مالكا للعين، لكنه مالك لأن يملكها باسترداد العوض أو بالتصرف فيما عنده، فللغريم إلزامه بأحدهما.

و فيه: أنّ الإلزام فرع الحق، و ليس في المعاطاة حق، بل حكم شرعي و هو السلطنة على الاسترداد أو التصرّف فيما عنده، لكون الإباحة تعبّديّة لا مالكية، و لذا ليس له إسقاطها، فحديث التوقف على الملك في محله.

نعم إن كان المراد بالتوقّف على الملك كون الوفاء متوقفا على الملك بحيث

ص: 459

______________________________

لا يحصل الوفاء إلّا بما يملكه، لا بما يباح له ففيه: عدم التوقف على الملك، لجواز التبرع بالوفاء.

________________________________________

جزائرى، سيد محمد جعفر مروج، هدى الطالب في شرح المكاسب، 7 جلد، مؤسسة دار الكتاب، قم - ايران، اول، 1416 ه ق

هدى الطالب في شرح المكاسب؛ ج 1، ص: 460

و أما النفقات فالظاهر عدم توقفها- بمعنى وجوب الإنفاق- على الملك، كما هو قضية إطلاق قوله تعالى وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ «1».

و أما حق الشفعة فالظاهر عدم ثبوتها للمباح له، لاختصاصها بالبيع، و المفروض عدم كون المعاطاة على هذا المبنى بيعا.

إلّا أن يقال- كما في حاشية المحقق صاحب الكفاية قدّس سرّه- بكفاية البيع العرفي في تحقق الشفعة، و المفروض أن المعاطاة بيع عرفي، فيشملها دليل حق الشفعة «2»، هذا.

لكن فيه: أنّ حق الشفعة عبارة عن أخذ الشريك ما باعه شريكه من حصته و تملكه و لو قهرا، فإنّ للشريك سلطنة على أخذ الحصة المبيعة من المشتري و تملكها منه، و هو فرع صيرورة المأخوذ بالمعاطاة ملكا لمن اشتراه بالمعاطاة. و مجرد كون المعاطاة بيعا عرفيا مع عدم ترتب الأثر الشرعي عليها من الملكية غير مجد. فالشفعة لا تترتب إلّا على البيع المؤثّر في الملكية حتى يكون المشتري مالكا لموضوع حق الشفعة، و يتسلّط الشريك على أخذه من المشتري و لو قهرا، هذا.

و لو أريد من تعلق حق الشفعة ثبوته للمباح له إذا باع شريكه المالك حصّته من شخص، فالحكم بعدم ثبوته أوضح، لكون موضوع الحق هو الشريك الذي لا ينطبق ضرورة على المباح له.

و أما المواريث فتختص بالملك و الحق اللّذين هما منفيّان بناء على الإباحة.

و أمّا الربا فهو إمّا مختص بالبيع، و إمّا جار في مطلق المعاوضة. و المعاطاة بناء على الإباحة ليست بشي ء منهما.

و أمّا الوصية فهي متوقفة على الملك، لعدم دليل على نفوذها في ملك الغير فالمرجع

______________________________

(1): البقرة، الآية: 233.

(2) حاشية المكاسب، ص 13.

ص: 460

[4- تصرّف أحد المتعاطيين مملّك للجانب الآخر]

و أمّا (1) كون التصرّف مملّكا للجانب الآخر فقد ظهر جوابه (2) [1].

______________________________

4- تصرّف أحد المتعاطيين مملّك للجانب الآخر

(1) هذا رابع الاستبعادات التي ذكرها كاشف الغطاء قدّس سرّه من كون تصرف أحد المتعاطيين في المأخوذ بالمعاطاة موجبا لصيرورة العوض في ملك المتعاطي الآخر قهرا.

(2) يعني: ظهر جوابه ممّا ذكره في الجواب عن الاستبعاد الثاني، بقوله: «فلا بأس بالتزامه إذا كان مقتضى الجمع .. إلخ» و حاصل ذلك الجواب: أن مملّكية التصرف تكون مقتضى الجمع بين الأدلة، فإذا كانت مملّكية التصرف من أحدهما للجانب الآخر مقتضى الجمع بين الأدلة فلا إشكال. و إن لم يكن مملّكا للجانب الآخر- بأن كان مملّكا للمتصرف فقط- لزم اجتماع العوض و المعوّض في ملك المتصرّف، و هو كما ترى. و عليه فالجمع بين الأدلة يقتضي كون التصرّف مملّكا للطرف الآخر أيضا.

______________________________

فيها أصالة عدم ترتب الأثر.

و أمّا توقف الإخراج في الخمس و الزكاة على الملك فلم يظهر له وجه وجيه، لاحتمال جواز تبرّع الغير في وفائهما عمّا استقرّ في ذمة المالك، لأنّهما كسائر الديون التي يجوز التبرّع بوفائها. نعم توقف تعلقهما على الملك لا يخلو من وجه، لكن فيه بحث موكول الى محله.

و أمّا ثمن الهدي فالظاهر عدم توقف صحة الهدي على كون ثمنه ملكا للحاجّ كما يظهر من هدي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ما في بعض الروايات.

و أمّا حق المقاسمة و الافراز فهو لا يختص بالمالك، بل يثبت لكل من أبيح له التصرف في المال المشاع و إن لم يكن مالكا لجزء منه. فعلى القول بإفادة المعاطاة للإباحة لا يلزم تأسيس قاعدة جديدة من الالتزام بثبوت حقّ الافراز لغير المالك.

[1] قد عرفت أنّ هذا الجمع مخالف لقاعدة سلطنة المالك على ماله، فمقتضى الجمع هو الالتزام بالملك من أوّل الأمر.

ص: 461

[5- تلف إحدى العينين مملّك للطرفين]

و أمّا (1) «كون التلف مملّكا للجانبين»

______________________________

5- تلف إحدى العينين مملّك للطرفين

(1) هذا خامس الاستبعادات، و المراد بالتلف أعم من تلف إحدى العينين أو كلتيهما.

و محصل ما أفاده جوابا عنه هو: أنه يمكن أوّلا أن لا نلتزم بمملّكية التلف أصلا، بدعوى كون التلف من مال مالكه بدون ضمان من تلف في يده، للإذن المالكي أو الشرعي، غاية الأمر أنّ التالف إن كان إحدى العينين فقط صارت الإباحة لازمة، فلا يجوز لمن تلف مال الآخر في يده أن يرجع على الآخر بماله الذي في يده.

هذا، مع الغض عن إجماع أو سيرة على مملّكية التلف. و مع النظر إليه فلا إشكال، لأنّه قبل التلف آنا ما ينتقل كل من المالين إلى آخذه، فيقع التلف في ملكه، فيكون ضمان كل منهما بعوضه المسمّى، لا بالمثل أو القيمة، فيكون المقام نظير تلف المبيع قبل قبضه في يد البائع في رجوعه آنا ما قبل التلف إلى ملكه.

و الوجه في الالتزام بالملكية التقديرية هو دوران الأمر بين وجهين:

أحدهما: تخصيص عموم اليد- المقتضي للضمان بالمثل أو القيمة في المعاطاة كسائر موارد اليد- بالإجماع و السيرة القائمين على عدم الضمان بالمثل أو القيمة في مورد المعاطاة.

و ثانيهما: التخصّص، بأن يلتزم بالملكية من أوّل الأمر، حفظا لعموم «على اليد» عن التخصيص.

و مقتضى القاعدة- على ما قيل في محلّه- و إن كان تقديم التخصّص على التخصيص المقتضي للحكم في المعاطاة بالملكيّة من أوّل الأمر، لكن أصالة عدم الملكيّة تقتضي عدم الملكية إلّا آنا ما قبل التلف، و عدم حصول الملكية من أوّل الأمر.

ثم إنّ غرض المصنف قدّس سرّه مراعاة عموم دليل اليد عن التخصيص و إبقائه على عمومه، لما ثبت في محله من تقديم التخصّص على التخصيص عند الدوران بينهما، فيحكم في المقام- لأجل عموم اليد- بأنّ ضمان المسمّى في المأخوذ بالمعاطاة خارج عن موضوع عموم «على اليد» بالإجماع، و ليس الإجماع مخصّصا لعموم اليد، لأنّه بعد فرض دخول كلّ من المالين في

ص: 462

فإن ثبت (1) بإجماع (2) أو سيرة (3) كما هو الظاهر كان (4) كلّ من المالين مضمونا بعوضه (5) فيكون تلفه (6) في يد كلّ منهما من ماله مضمونا بعوضه (7)

______________________________

ملك آخذه آنا ما قبل التلف يقع التلف في ملكه، فيكون أجنبيّا عن موضوع دليل اليد- و هو مال الغير- فيبقى عموم اليد بحاله، و مقتضى عمومها عدم كون الضمان بالمسمّى من أفراده، لصيرورة العوضين ملكا للمتعاطيين، فضمان المسمّى ليس مستندا إلى عموم اليد، بل إلى الإجماع.

و الكاشف عن صيرورة المالين قبل التلف آنا مّا ملكا للمتعاطيين هو العموم المذكور، فلا يكون الإجماع المزبور مخصّصا لعموم اليد، بل عمومها يثبت كون المأخوذ بالمعاطاة داخلا في ملك الآخذ و أنّ التلف وقع في ملكه، لا في ملك الغير الذي هو موضوع اليد.

و بالجملة: فغرض المصنف قدّس سرّه حفظ عموم اليد عن التخصيص، لا إثبات ضمان المسمّى به [1].

(1) لم يذكر المصنف عدلا لقوله: «فان ثبت» فالأولى أن يقال: «كما ثبت» بقرينة اعترافه بثبوته بقوله: «كما هو الظاهر».

و كيف كان فقوله: «فان ثبت» و ما بعده جواب الشرط في قوله: «و أما كون التلف ..».

(2) الإجماع على مملّكيّة التصرّف و التلف موجود في بعض كلمات القدماء.

(3) أي: السيرة العقلائية الممضاة شرعا و لو بعدم الردع.

(4) جواب «فان ثبت». أي: كان ضمان المأخوذ بالمعاطاة بالمسمّى، لكون العقد المعاوضي صحيحا، و لا موجب لانقلاب ضمان المسمّى بالواقعي.

(5) أي: بعوضه المسمّى.

(6) أي: تلف المأخوذ بالمعاطاة.

(7) أي: بعوضه المسمّى لا الواقعي.

______________________________

[1] فلا يرد عليه ما أفاده السيد قدّس سرّه بقوله: «لا يخفى أن الحكم بالضمان بعوضه

ص: 463

______________________________

المسمّى ليس عملا بعموم- على اليد- لأنّ مقتضاه وجوب المثل أو القيمة لا المسمّى، فمع فرض الإجماع على الملكية لا بدّ من الالتزام بتخصيص قاعدة اليد إذا لم نحكم بالملكية من أوّل الأمر» «1».

وجه عدم الورود ما عرفته: من أن غرض المصنف قدّس سرّه ليس إثبات ضمان المسمّى بعموم اليد، إذ المفروض أنّ هذا الضمان يثبت بحصول الملكية للمتعاطيين قبل التلف آنا ما، على ما ادّعي عليه من الإجماع، فليس ضمان المسمى بعموم اليد حتى يتوجه عليه إشكال السيد قدّس سرّه بأن ضمان المسمى ليس عملا بقاعدة اليد .. إلخ، فلاحظ و تأمل.

ثم لا يخفى أنّ إثبات الملك للآخذ بعموم «على اليد» في المقام من جزئيات مسألة أصولية، و هي: أنّه إذا ورد عام، ثم علم بعدم ثبوت حكمه لشي ء شكّ في فرديّته للعامّ، فبالتمسك بأصالة العموم و صيانته عن التخصيص يحكم بعدم كون ما شكّ في فرديّته للعام من أفراده، و بخروج ذلك المشكوك فيه عن موضوع العام، لا عن حكمه.

ففي المقام يتمسك بعموم «اليد» و به يحرز أنّ اليد هنا ليست يدا على مال الغير الذي هو موضوع قاعدة اليد، بعد العلم بعدم كون الضمان هنا محكوما بحكم العام أعني اليد التي حكمها ضمان المثل أو القيمة. فبعموم اليد يحرز خروج الضمان هنا عن موضوعه و هو مال الغير نظير ما إذا علم بعدم محكومية زيد بوجوب الإكرام، و شك في أنّ عدم وجوب إكرامه هل هو لأجل التخصيص و إخراجه عن حيّز حكم «العلماء» أم لعدم كونه من أفراد العلماء، فنشك في أنّ خروجه عن دليل وجوب إكرام العلماء يكون بالتخصص أو التخصيص.

لكن التمسك بالعموم لإثبات أنّ الخارج منه حكما خارج منه موضوعا من المسائل النظرية التي يمنعها بعض، و إن نسبه المصنف- على ما في التقرير المنسوب إليه- إلى الأصحاب، حيث قال المقرّر ما لفظه: «و على ذلك- أي التمسك بأصالة العموم- جرى ديدنهم

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 72.

ص: 464

نظير تلف المبيع قبل قبضه في يد البائع (1)، لأنّ (2) هذا هو مقتضى الجمع بين هذا الإجماع (3) و بين عموم (4) «على اليد ما أخذت» «1» و بين أصالة عدم الملك إلّا في

______________________________

(1) في وقوع التلف في ماله، لا في مال المشتري.

(2) علّة لكون التلف من مال ذي اليد، المتوقف على كونه ملكا له قبل التلف.

(3) أي: الإجماع على كون المأخوذ بالمعاطاة مضمونا بعوضه المسمّى لا بقيمته الواقعية.

(4) المقتضي للضمان بالبدل الواقعي من المثل أو القيمة.

______________________________

في الاستدلالات الفقهية، كاستدلالهم على طهارة الغسالة على أنّها لا تنجّس المحل، فإن كان نجسا غير منجّس يلزم تخصيص قولنا: كل نجس منجّس» «2».

و عليه فينعكس قولنا: «كل عالم يجب إكرامه» بعكس النقيض الى قولنا: «كل من لا يجب إكرامه ليس بعالم».

لكن الحق عدم صحته، إذ لم يثبت بناء أهل اللسان على هذا التمسك. و لذا تأمّل فيه في الكفاية.

فالتمسك بعموم «اليد» في المقام لإثبات كون العوضين في المعاطاة ملكا للمتعاطيين محل النظر. فالقول بتخصيص عموم اليد هنا ممّا لا مانع منه، هذا.

مضافا إلى: عدم التزام الأصحاب بما نسب إليهم في التقريرات في جميع الموارد، فلاحظ كلماتهم. و لعلّ عدم التزامهم إنّما هو لعدم ثبوت مدركها و هو بناء العقلاء على إحراز عنوان الخارج من حكم العام بأصالة العموم، فحجيّة العام في ذلك مشكوكة، و الأصل عدم حجيته.

و عليه ففي المقام لا مجال لقاعدة اليد، لكونها أمانية مالكية أو شرعية، فمقتضى القاعدة عدم الضمان.

نعم قام الإجماع على ثبوت الضمان بالمسمّى، فيدلّ إنّا على تحقق الملكية آنا ما قبل التلف، فيصير كل من المالين ملكا لآخذه، و يقع التلف في ملكه.

______________________________

(1): عوالي اللئالي، ج 1، ص 224، الحديث: 106.

(2) مطارح الأنظار، ص 295.

ص: 465

الزمان المتيقّن (1) بوقوعه (2) فيه.

توضيحه (3): أنّ الإجماع لمّا دلّ على عدم ضمانه (4) بمثله أو قيمته حكم بكون التلف من مال ذي اليد (5)، رعاية لعموم «على اليد ما أخذت» فذلك الإجماع مع العموم المذكور بمنزلة الرواية الواردة في «أنّ تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه» (6) فإذا قدّر التلف من مال ذي اليد فلا بدّ من أن يقدّر في آخر أزمنة إمكان تقديره، رعاية (7) لأصالة عدم حدوث الملكية

______________________________

(1) و هو الزمان المتصل بالتصرف.

(2) أي: بوقوع الملك في ذلك الزمان، و هو زمان التصرف.

(3) أي: توضيح أنّ مقتضى الجمع بين عموم اليد و الإجماع و استصحاب عدم الملك هو الالتزام بحدوث الملك للآخذ في الآن المتصل بالتصرف، أو بالتلف: أن الإجماع .. إلخ.

(4) أي: دلّ الإجماع على عدم ضمان التالف ببدله الواقعي من المثل أو القيمة، بل دلّ على ضمانه بالمسمّى.

(5) يعني: يحكم بحصول الملكية لذي اليد قبل التلف رعاية لعموم «اليد» من عروض التخصيص عليه، إذ مع بقاء المالين على ملك مالكيهما يلزم تخصيص عموم اليد، و المفروض أنّ التخصص مقدّم على التخصيص.

(6) فكما أنّ تلك الرواية تدلّ على أنّ كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه- لا من مال المشتري- المترتب على انفساخ العقد قبل التلف و عوده إلى ملك البائع، و إلّا لم يكن من ماله، و كان ضمانه بالمثل أو القيمة لا ضمان المسمّى، فكذلك الإجماع على الضمان بالمسمّى في المقام- بضميمة إبقاء العموم على حاله- يدلّ على كون التلف من مال ذي اليد، المتوقف على حصول الملكية آنا ما قبل التلف.

(7) تعليل لما أفاده من لزوم فرض ملكية الآخذ في آخر أزمنة تقدير الملكية، و هو الآن المتصل بالتلف، لأنّ مقتضى الاستصحاب بقاء المال على ملك الدافع إلى زمان تلفه في يد الآخذ، و في آن التلف ينقطع الاستصحاب، لقيام الدليل على انتقال المال- في ذلك الآن- الى ملك الآخذ.

ص: 466

قبله (1)، كما (2) يقدّر ملكيّة المبيع للبائع و فسخ البيع من حين التلف استصحابا لأثر (3) العقد.

[6- يجوز للمبيح و المباح له المطالبة من الغاصب]

و أمّا (4) ما ذكره من صورة غصب المأخوذ بالمعاطاة فالظاهر- على القول بالإباحة- أنّ لكل منهما (5) المطالبة ما دام باقيا، و إذا تلف فظاهر إطلاقهم «التملّك بالتلف» تلفه من مال المغصوب منه (6).

______________________________

(1) أي: قبل آخر أزمنة إمكان تقدير الملك، و هو الآن المتصل بالتلف.

(2) هذا تنظير لجزاء «إذا» الشرطية، و هو قوله: فلا بد من أن يقدّر في آخر أزمنة إمكان تقديره .. إلخ يعني: كما يقدّر ملكية المبيع للبائع المترتبة على انفساخ البيع من حين تلفه لا قبله، لكون استصحاب ملكيته للمشتري- التي هي أثر العقد- مانعا عن حدوث ملكية المبيع للبائع قبل التلف.

(3) و هو ملكية المبيع للمشتري عند ما يتلف في يد البائع، ففي الآن قبل التلف ينقطع أثر العقد و تزول ملكية المشتري، و ينتقل المال إلى البائع حتى يقع التلف في ماله، لا في مال المشتري.

6- يجوز للمبيح و المباح له المطالبة من الغاصب

(4) هذا سادس الاستبعادات التي ذكرها كاشف الغطاء قدّس سرّه، و هو ناظر إلى حكم مطالبة المأخوذ بالمعاطاة لو غصبه غاصب.

(5) أي: من المتعاطيين، أمّا جواز المطالبة للمالك فواضح، لأنّه من شؤون سلطنته على ماله. و أمّا جوازها للمباح له فلأنّه- بناء على القول بالإباحة- يكون الآخذ مسلّطا على جميع التصرفات، و مطالبة الغاصب به من شؤون تلك السلطنة، هذا إذا كانت العين باقية.

و أمّا مع تلفها فمقتضى إطلاقهم «كون التلف مملّكا» و عدم تقييده بالتلف عند المباح له- و شموله للتلف عند الغاصب- هو: صيرورة التالف بيد الغاصب آنا ما قبل التلف ملكا للمباح له. فعلى هذا لا يكون المطالب من الغاصب إلّا المباح له، لأنّه المالك للتالف حسب الفرض، فمطالبته على طبق القاعدة و لا يلزم تأسيس قاعدة جديدة كما زعمه كاشف الغطاء قدّس سرّه.

(6) و هو الذي أخذ منه المال، فله المطالبة، لا للمالك الأوّل، لذهاب ملكه بالتلف.

ص: 467

نعم (1) لو قام إجماع [لو لا قام الإجماع] كان تلفه من مال المالك لو لم يتلف عوضه (2) قبله.

[7- احتمال حدوث النماء في ملك المبيع]

و أمّا (3) ما ذكره من حكم النماء فظاهر المحكي

______________________________

(1) هذا استدراك على قوله: «فظاهر إطلاقهم .. إلخ» و حاصله: أنّ مقتضى إطلاق مملّكية التلف هو كونه مملّكا مطلقا سواء أ كان العوض باقيا أم تالفا، فتلف إحدى العينين مملّك للجانبين. نعم إذا لم يتم هذا الإطلاق، و قلنا باختصاص التملّك بالتلف بتلف كلا العوضين فحينئذ يلاحظ أنّ العوض الآخر تلف قبل تلف المغصوب عند الغاصب أو لا، فعلى الأوّل يكون المطالب من الغاصب هو المباح له، و إلّا فالمطالب هو المالك الأصلي.

هذا بناء على كون العبارة كما في النسخ المتداولة: «نعم لو قام إجماع .. إلخ».

و أمّا بناء على كونها: «لو لا قام الإجماع» كما أنّه حكي كون نسخة المصنف المصحّحة كذلك، فالمراد بها: أنّه لو لا الإجماع على الملكيّة قبل التلف آنا ما كان مقتضى القاعدة اختصاص حق المطالبة من الغاصب بالمالك، لكون العين تالفة في ملكه، إلّا إذا تلفت العين الأخرى قبل تلف المغصوب، فإنّ حق المطالبة حينئذ للمغصوب منه، لأنّه صار مالكا للمغصوب منه بسبب تلف عوضه قبله.

و على كل حال لا تخلو العبارة من سوء التأدية، فتدبّر فيها.

(2) أي: لو لم يتلف عوض المغصوب قبل تلف نفس المغصوب.

7- احتمال حدوث النماء في ملك المبيع

(3) هذا سابع الاستبعادات، و هو ما ذكره الفقيه كاشف الغطاء قدّس سرّه حول حكم نماء المأخوذ بالمعاطاة، و كان حاصله: استبعاد كون حدوث النماء مملّكا للأصل.

و حاصل جواب المصنف قدّس سرّه: أنّ هنا احتمالين يندفع الاستبعاد بكل منهما:

الأوّل: أنّ حدوث النماء لا يوجب صيرورة النماء و لا أصله ملكا للآخر، بل كلاهما باق على ملك الدافع، لا القابض، فكما يجوز للدافع الرجوع في العين- ما دامت باقية و لم يتصرف فيها- و استردادها من الطرف الآخر، فكذا يجوز استرداد نمائها، لأنّه حدث في ملكه. و على هذا لا يلزم تأسيس قاعدة جديدة، لأنّ المحكي عن بعض القائلين بالإباحة تبعية النماء للأصل في عدم الانتقال الى الآخذ.

ص: 468

عن بعض (1) أنّ القائل بالإباحة لا يقول بانتقال النماء إلى الآخذ، بل حكمه حكم أصله (2) [1].

و يحتمل (3) أن يحدث النماء في ملكه (4)

______________________________

الثاني: أنّ حدوث النماء يوجب ملكيّته للآخذ، لأنّ المالك قد أباح التصرف في العين و توابعها، فإباحة الأصل موضوع لحكم الشارع بملكية النماء حين حدوثه، يعني: أنّ كلّا من إباحة الأصل و حدوث النماء- معا- موضوع لحكم الشارع بملكية النماء. و مع التزام القائل بالإباحة بملكية النماء للآخذ لم يبق مجال للإشكال عليه بالاستبعاد و تأسيس قاعدة جديدة.

(1) لا يحضرني القول بعدم الانتقال، كما حكاه المصنف عن بعض. نعم احتمله الشهيد الثاني قدّس سرّه حيث ذكر في المراد بالإباحة وجهين: أحدهما الملك المتزلزل، و الآخر: الإباحة المحضة التي هي الإذن في التصرف، ثم قال: «و على الوجهين يتفرّع النماء، فان قلنا بالأوّل- أي الملك المتزلزل- كان تابعا للانتقال و عدمه. و إن قلنا بالثاني احتمل كونه مباحا لمن هو في يده كالعين، و عدمه» «1». و في الجواهر جزم بتبعية النماء للعين على جميع الأقوال، سواء قلنا بالملك أم بالإباحة، و باللزوم أم بالتزلزل، فلاحظ «2».

(2) و هو الذي جعله في شرح القواعد ظاهر الأكثر، فدخوله في ملك الآخذ يحتاج إلى التصرف الذي تتوقف سببيته للملك على إذن المالك فيه، و قد تقدّم أنّ شمول إذن المالك- في التصرف في ذي النماء- للتصرف في النماء خفيّ كما صرّح به بعض الأساطين.

و الحاصل: أنّ النماء بحكم الأصل في عدم الملكية، فكما لا يكون الأصل ملكا للآخذ فكذلك النماء. نعم يباح له التصرف في النماء كإباحة التصرف في الأصل.

(3) حاصله: أنّ إباحة الأصل موضوع لحكم الشارع بملكية النماء حين حدوثه، فإباحة الأصل و حدوث النماء معا موضوع لحكم الشارع بملكية النماء.

(4) أي: في ملك الآخذ، يعني: بأن يكون حدوث النماء- بضميمة إباحة التصرف في الأصل- مملّكا له.

______________________________

[1] لكن يستشكل فيه بأنّ لازمه جواز الرجوع فيه ما دام باقيا و إن تلف أصله،

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 3، ص 149.

(2) جواهر الكلام، ج 22، ص 233.

ص: 469

بمجرّد الإباحة [1].

______________________________

لاختصاص أدلة مملكية التلف بمملكيته للعين، دون النماء. كما أنّ لازمه عدم جواز تصرف المباح له فيه، لما عرفت من خفاء شمول الاذن للتصرف في الأصل للإذن في النماء سيّما المنفصل.

[1] و ببيان آخر: انّ كلام كاشف الغطاء قدّس سرّه يتضمّن استبعادين:

أحدهما: ما ذكره في الصدر من مملّكية حدوث النماء.

و ثانيهما: ما أفاده في ذيل كلامه من شمول الإذن المالكي للتصرف في النماء، خصوصا النماء المنفصل، مع عدم الملازمة بين الاذن في الأصل و نمائه.

و جواب المصنف قدّس سرّه- على فرض تسليمه، لكونه مجرّد احتمال لا يغني شيئا- ناظر الى الصدر، دون الذيل و هو خفاء شمول الإذن المالكي للنماء. فكما يشكل أصل مملّكية حدوث النماء، كذلك جواز التصرف فيه استنادا إلى إذن المالك في التصرف في الأصل.

و ما أفاده المصنف- من أنّ القائل بالإباحة لا يلتزم بمملكية حدوث النماء- غير كاف، لأنّ حدوث النماء لو لم يكن مملّكا كان هو ملكا للمبيح لا للمباح له، و لا بد من استناد جواز تصرف المباح له فيه الى أنّ إذن المالك في الأصل إذن في نمائه. و لكن لا مجال لهذا الإذن المالكي هنا، لأنّ مفروض الكلام ترتب الإباحة على المعاطاة تعبدا لا مالكيّا، و مع قصر جواز التصرف على المأخوذ بالمعاطاة لا كاشف عن إباحة التصرف في النماء، لأنّ المسوّغ في التصرف إمّا تمليك، و إمّا إباحة مالكية أو شرعية، و المفروض انتفاء الأوّلين، فينحصر المسوّغ في تحليل التصرفات بحكم الشارع، و لا ريب في أنّ المسلّط عليه نفس العين و نماؤه المتصل التابع له عرفا، و أمّا المنفصل فلا.

و لم يتعرض المصنف قدّس سرّه للجواب عن الإشكال المزبور. و لعلّه لشمول الاذن للنماء، فإنّ الإذن في الأصل- مع عدم منع المالك عن التصرف في النماء مع القدرة عليه و العلم بكون العين منشأ للنماء الواقع تحت يد آخذ العين- ملازم عرفا للإذن في التصرف في توابعها، فلو لم يكن راضيا بالتصرف في النماء لكان عليه التنبيه عليه بالنهي عنه، فيمكن التمسك بالإطلاق المقامي على شمول الإذن للنماء.

فلا يتوجّه عليه ما أفيد من «كون تصرف المباح له في النماء تصرفا في مال غيره بدون

ص: 470

______________________________

إذنه، فهو حرام عقلا و شرعا» «1». و ذلك لكفاية الإطلاق المقامي في تحقق الإذن في التصرف في النماء. و معه لا يكون حراما كما لا يخفى.

و قد أجاب المحقق النائيني قدّس سرّه عن إشكال النماء بما هذا نصّه: «فالحق أن يقال: إنّ مقتضى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الخراج بالضمان «2» أن يكون النماء ملكا له- أي للمباح له- بناء على ما سيجي ء في معنى الخبر .. الى ان قال: و حاصله: أنّ كل من تعهد ضمان شي ء بالتضمين المعاملي فمنافعه له، و هذا من غير فرق بين أن يكون التضمين على نحو الإباحة أو التمليك، فإنّ مقتضى إطلاقه كون منافعه للضامن. و معنى كون الشخص ضامنا لما يتملكه أو لما أبيح له هو: أنّه لو تلف كان دركه عليه و صار عوضه المسمّى ملكا للطرف الآخر .. إلخ» «3».

و فيه: ضعف النبوي- سندا و عدم انجباره- كما قيل- بعمل المشهور.

و لا يرد عليه ما في تقرير سيدنا الخويي قدّس سرّه: «من عدم شمول الحديث لموارد التضمين على نحو الإباحة، لوجهين: أحدهما: أنّ لازم ذلك أن لا يكون للمالك الأصلي حق الرجوع الى النماء، مع عدم كون الأصل ملكا للمباح له، و هو بعيد.

ثانيهما: أنّ لازمه التفكيك بين الأصل و نمائه. و هو غريب» انتهى ملخصا «4».

و ذلك لأنّه بعد فرض دلالة النبوي على ذلك- و اعتباره سندا- لا وجه للإشكالين المذكورين، لأنّه يخصص عموم قاعدة سلطنة المالك على ماله، و عموم دليل تبعية النماء للعين، بل يكون حاكما عليهما.

و الحاصل: أنّ إطلاق «الخراج بالضمان» للتضمين على نحو الإباحة محكّم، و مقتضاه ملكية النماء بسبب ضمان الأصل و لو على نحو الإباحة. و تقييده بالتضمين على نحو التمليك

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 2، ص 121.

(2) عوالي اللئالي، ج 2، ص 219، الحديث: 89.

(3) منية الطالب، ج 1، ص 58.

(4) مصباح الفقاهة، ج 2، ص 122.

ص: 471

[المناقشة في سائر وجوه الاستبعاد]

ثم إنّك (1)

______________________________

المناقشة في سائر وجوه الاستبعاد

(1) لمّا لم يتعرض المصنف قدّس سرّه لدفع جميع استبعادات كاشف الغطاء و اقتصر على جملة منها أراد إحالة دفع ما بقي منها على ما أفاده من الأجوبة، و لنذكرها تتميما للكلام:

فمنها: ما أفاده كاشف الغطاء قدّس سرّه في الاستبعاد الخامس في مملكية التلف القهري بقوله: «إن ملك التالف فعجيب، و معه بعيد، لعدم قابليته، و بعده ملك معدوم».

إذ يرد عليه: إمكان اختيار الشق الأوّل و هو تملّك التالف آنا ما قبل التلف، لما عرفت في نظائره من أنّ الملكية الآنيّة وجه جمع بين الأدلة. و عليه يكون التلف كاشفا عن سبق دخول المال في ملك الآخذ آنا ما، كما أنّ تلف المبيع في يد البائع- قبل قبضه من المشتري- كاشف عن انفساخ العقد و عود المال الى ملك البائع آنا ما، و وقوع التلف في ملكه.

و ليس التلف سببا للملك حتى يتجه استعجاب كاشف الغطاء قدّس سرّه.

مضافا إلى: أنّ تعليل استحالة دخول المال في ملك الآخذ بعد التلف بقوله:

«و بعده ملك معدوم» ممنوع، إذ لو تمّ لم يختصّ بما بعد التلف، بل يجري في الدخول مقارنا لآن التلف، لأنّ حال التلف حال العدم، و لا واسطة بين الوجود و العدم.

و منها: ما أفاده كاشف الغطاء قدّس سرّه في الاستبعاد السادس من قوله: «انّ التصرف إن جعلناه من النواقل القهرية، فلا يتوقف على النيّة فهو بعيد».

إذ يرد عليه: أنّه لا مانع من كون التصرف ناقلا قهريا غير متوقف على النيّة، لاقتضاء الجمع بين الأدلة ذلك، و لا بعد فيه.

و منها: ما أفاده في الاستبعاد الثامن بقوله: «قصر التمليك على التصرف مع الاستناد فيه الى أنّ إذن المالك فيه إذن في التمليك، فيرجع إلى كون المتصرّف في تمليك نفسه موجبا قابلا،

______________________________

بلا مقيّد، فإطلاقه محكم.

نعم الاشكال كلّه في ضعف سنده و عدم انجباره، و سيأتي تفصيل الكلام فيه في المقبوض بالعقد الفاسد إن شاء اللّه تعالى.

ص: 472

مما ذكرنا (1) تقدر على التخلّص عن سائر ما ذكره (2).

مع (3) أنّه رحمه اللّه لم يذكرها للاعتماد.

______________________________

و ذلك جار في القبض بل هو أولى منه».

إذ يمكن أن يجاب عن اتحاد الموجب و القابل بأحد وجوه:

الأوّل: أنّ التصرف مملّك، للجمع بين الأدلة، فلا حاجة الى الإيجاب و القبول حتى يلزم اتحاد الموجب و القابل، إذ ليس هنا إذن من الدافع للآخذ في تمليك المال لنفسه حتى يكون الآخذ موجبا و قابلا، كي يتوهم استحالته، لكونهما متقابلين لا يجتمعان في واحد.

الثاني: أنّه لا مانع من اتحاد الموجب و القابل في العقود مع تعددهما اعتبارا كما حقق في محلّه، و ليسا متقابلين حتى يستحيل اجتماعهما في واحد.

الثالث: أنّ اتحاد الموجب و القابل إنّما يترتب على الإذن المالكي في تمليك الآخذ المال لنفسه، و هذا لا مجال له هنا، لأنّ الإباحة تعبدية مستندة الى الإجماع، لا مالكية.

و أمّا قوله في ذيل كلامه: «و ذلك جار في القبض» ففيه: أنّ القبض لا يتوقف على الملك حتى يكون الإذن فيه إذنا فيما يتوقف عليه من جهة اقتضاء الجمع بين الأدلة مملكية القبض حينئذ. و هذا بخلاف الإذن في البيع و الوقف و نحوهما من التصرفات المتوقفة على الملك، فإنّ الإذن فيها إذن في التملك الذي تتوقف عليه تلك التصرفات، و إلّا يلزم لغوية الإذن في البيع و شبهه.

و عليه ففرق واضح بين القبض و البيع، و مجرّد اقتران القبض بقصد التمليك لا يجعله مساويا لتلك التصرفات، فضلا عن أولويته منها.

هذا تمام الكلام في الجواب التفصيلي الحلّي الذي أفاده المصنف عن استبعادات كاشف الغطاء قدّس سرّهما.

(1) يعني: في دفع جملة من استبعادات بعض الأساطين قدّس سرّه.

(2) كالاستبعاد الأخير و جملة مما تضمّنه الاستبعادان الخامس و السادس.

(3) هذه الجملة ناظرة الى جميع الاستبعادات الثمانية التي ذكرها الفقيه

ص: 473

و الانصاف أنّها استبعادات في محلّها (1).

[فذلكة الكلام في المقام الثالث]

و بالجملة (2): فالخروج

______________________________

كاشف الغطاء قدّس سرّه و هو جواب ثان عنها كما أشرنا إليه قبل الشروع في مناقشة كل واحد من الأمور الثمانية. و مقصود المصنف: أنّ الأجوبة المتقدمة لو لم تكن وافية بدفع تلك الاستبعادات لم يقدح بقاؤها على حالها في القول بإفادة المعاطاة للإباحة تعبّدا.

و وجه عدم القدح: أنّ كاشف الغطاء قدّس سرّه لم يذكر هذه الاستبعادات من باب إقامة الدليل على تعيّن إفادة المعاطاة للملك، و إنّما كان مقصوده مجرّد استبعاد القول بالإباحة، فلا بد للقول بالملك من إقامة دليل آخر حتى لو لم يمكن المناقشة في تلك الاستبعادات، و بقيت على حالها.

(1) و ذلك لأنّ غاية ما أفاده المصنف قدّس سرّه في تصحيح القول بالإباحة و التخلّص عن تلك الاستبعادات هو اقتضاء الجمع بين الأدلة للقول بالملك الآنامّائي قبل التصرف أو إرادته أو قبل التلف. مع أنّ مقصود كاشف الغطاء قدّس سرّه من هذه الوجوه إنكار هذا الجمع، للخدشة في تلك الأدلة، فإنّ إجماع السيد ابن زهرة مظنون المدركية بحديث نهي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن بيع المنابذة و الملامسة، مع أنّه إجماع منقول، و بسقوطه عن الحجية لا يبقى موضوع للجمع المزبور من باب دلالة الاقتضاء، حتى يترتب أثر الملك على غير الملك، أو جعل ما لم يعهد سببيّته للتمليك سببا له كالتلف و التصرف، أو إرادته على التفصيل المتقدم [1].

فذلكة الكلام في المقام الثالث

(2) هذا إلى قوله: «فالقول الثاني لا يخلو عن قوّة» نتيجة ما فصّله المصنف قدّس سرّه في المقام الثالث المنعقد لتحقيق حكم المعاطاة، من الاستدلال على الملك بوجوه خمسة، ثم المناقشة في

______________________________

[1] و يمكن الإيراد على بعض الأساطين بالالتزام بعدم مملكية المعاطاة إلى الآخر، و مع ذلك نلتزم بترتيب جميع آثار الملكية على المأخوذ بالمعاطاة، و لا يلزم من ذلك إلّا مخالفة قاعدة واحدة، و هي جعل ما ليس بملك بحكم الملك في جميع الآثار، فلا يلزم من القول بالإباحة مخالفة قواعد عديدة و تأسيس قواعد جديدة، فتدبّر.

ص: 474

..........

______________________________

الدلالة الالتزامية الشرعية، و في السيرة، و توجيه الملك الآني، ثم استبعادات كاشف الغطاء المترتبة على قول مشهور القدماء من إفادتها للإباحة، ثم المناقشة فيها، فالمقصود فعلا بيان المختار من الأقوال.

و توضيح ما أفاده قدّس سرّه: أنّ هنا طائفتين من الأدلة تقتضي إحداهما المصير الى مسلك القدماء من الإباحة المحضة، و تقتضي ثانيتهما القول بالملك بنفسه مع الغضّ عن خصوصيّة الجواز و اللزوم.

أما الطائفة الأولى فهي ثلاثة وجوه:

الأوّل: استصحاب بقاء المأخوذ بالمعاطاة على ملك الدافع، و عدم مملوكيته للآخذ.

الثاني: الشهرة الفتوائية القدمائية على إفادة المعاطاة للإباحة المجرّدة عن الملك، كما طفحت به كلماتهم المتقدمة في المقام الثاني.

الثالث: الإجماع المدّعى في الخلاف و الغنية على عدم تأثير المعاطاة في الملك، بل تؤثّر في الإباحة.

و المهمّ من هذه الأدلة هو الاستصحاب، إذ لا دليل على اعتبار الشهرة الفتوائية و الإجماع المنقول، فهما يصلحان لتأييد المطلب، و معاضدة الاستصحاب الذي هو دليل معتمد على القول بالإباحة، لو لم يكن هناك دليل حاكم عليه.

و أما الطائفة الثانية فهي ثلاثة وجوه أيضا.

الأوّل: عمومات حلّ البيع و التجارة عن تراض، و إطلاقات بعض العقود كالهبة و الإجارة الشاملة للعقود القولية و الفعلية على حدّ سواء.

الثاني: السيرة العقلائية القطعيّة على ترتيب آثار الملك على المأخوذ بالمعاطاة.

الثالث: الإجماع المدّعى في جامع المقاصد و تعليق الإرشاد على إفادة المعاطاة للملك، بناء على حمل كلمات القائلين بالإباحة على الملك المتزلزل. فإن تمّ هذا التوجيه فهو، و إلّا كان الدليل على الملك أمرين: العمومات و السيرة.

ص: 475

عن أصالة (1) عدم الملك المعتضدة بالشهرة (2) المحقّقة إلى زمان المحقّق الثاني، و بالاتفاق (3).

______________________________

و العمدة من هذه الثلاثة عمومات البيع و العقود، و جعل المصنف قدّس سرّه السيرة و إجماع المحقق الكركي قدّس سرّه مؤيّدين للعمومات.

أمّا السيرة فلإمكان الخدشة فيها بعدم إحراز الإمضاء، و أنّها ناشئة من قلّة المبالاة في الدين.

و أمّا الإجماع فيمكن منعه بوجهين:

أحدهما: منع تحقق هذا الاتفاق، بعد صراحة كلمات القدماء في الإباحة، الآبية عن الحمل على الملك المتزلزل.

و ثانيهما: كونه- يعد تسليمه- محتمل المدركية، لاحتمال استناد المجمعين إلى السيرة و العمومات، فيكون العبرة بالمستند لا بالاتفاق.

و حيث اتّضح أنّ عمدة الدليل على الإباحة هو الاستصحاب، و عمدة الدليل على الملك هو العمومات، تعيّن الأخذ بالثاني، لعدم صلاحية الأصل العملي للمعارضة مع الدليل الاجتهادي حتى تصل النوبة إلى الترجيح أو التساقط، لما تقرّر في الأصول من تقدم الدليل على الأصل العملي بالحكومة كما عليه المصنف، أو بالورود كما عليه المحقق الخراساني.

و نتيجة البحث: أنّ المختار كون المعاطاة مؤثّرة في الملك، لا في الإباحة.

(1) هذا الأصل عمدة وجوه القول بالإباحة.

(2) هذه هي المؤيّدة الاولى لاستصحاب بقاء المأخوذ بالمعاطاة على ملك الدافع.

و تقييد الشهرة بزمان المحقق الثاني للتنبيه على انقطاع شهرة القدماء على الإباحة، و حدوث شهرة اخرى على الملك المتزلزل.

(3) هذا هو المؤيّد الثاني للاستصحاب المزبور. و قد تقدم كلام السيد في الغنية و الشهيد في القواعد عند نقل الأقوال في المقام الثاني، و الفرق بينهما صراحة كلام السيد في الإجماع، و ظهور «عندنا» فيه في قواعد الشهيد.

ص: 476

المدّعى في الغنية و القواعد هنا (1)، و في (2) المسالك في مسألة توقف الهبة على الإيجاب و القبول مشكل (3). و رفع (4) اليد عن عموم أدلة البيع و الهبة و نحوهما (5) المعتضدة (6) بالسيرة (7) القطعية المستمرة (8)،

______________________________

(1) أي: في حكم المعاطاة في خصوص البيع، و غرضه من التقييد ب «هنا» التنبيه على إجماع المسالك في عقد الهبة.

(2) حيث قال فيه: «و ظاهر الأصحاب الاتفاق على افتقار الهبة مطلقا إلى العقد القولي في الجملة، فعلى هذا، ما يقع بين الناس على وجه الهديّة من غير لفظ يدلّ على إيجابها و قبولها لا يفيد الملك، بل مجرّد الإباحة» «1». بناء على اتحاد حكم البيع و الهبة في توقفهما على الصيغة و عدمه.

(3) خبر «فالخروج» و وجه الإشكال: أنّ الاستصحاب حجة شرعية، و إطلاقه يقتضي الحكم ببقاء المأخوذ بالمعاطاة على ملك الدافع. هذا كلّه في دليل القول بالإباحة.

(4) معطوف على «فالخروج» و غرضه بيان وجوه القول بالملك.

(5) كالإجارة. و هذه العمومات هي العمدة في القول بالملك.

(6) نعت ل «أدلة».

(7) هذه هي المعاضدة الاولى للعمومات، حيث إنّ بناء العقلاء على معاملة الملك مع المأخوذ بالمعاطاة.

(8) إلى عصر المعصومين عليهم السّلام، و ليست من السير المستحدثة حتى يشك في إمضائها.

و لا بدّ أن يكون مقصود المصنف قدّس سرّه من السيرة هنا ما يعمّ سيرة العقلاء و المتشرعة حتى تكون حجة في نفسها، إذ لو كانت السيرة عقلائية لا متشرعية كانت مخدوشة بما تقدم عنه من أنّها ناشئة من قلّة المبالاة في الدين.

و أما سيرة المتشرعة فلا سبيل لهذه الخدشة فيها، لأنّ بناء المتشرعة- بما هم متدينون- على أمر يكشف عن تلقّيه من الشارع و رضاه به.

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 5، ص 10.

ص: 477

و بدعوى (1) الاتفاق المتقدم عن المحقق الثاني- بناء (2) على تأويله لكلمات القائلين بالإباحة- أشكل (3) [1].

فالقول الثاني (4) لا يخلو عن قوّة.

[المعاطاة تفيد الملك اللازم أو الجائز]

اشارة

و عليه (5) فهل هي لازمة ابتداء

______________________________

(1) معطوف على «بالسيرة» و هذا هو المؤيّد الثاني للقول بالملك.

(2) قيد ل «بدعوى الاتفاق» يعني: لو تمّ تأويل كلمات القدماء بالملك المتزلزل فهو، و إلّا لم يكن إجماع المحقق الثاني على الملك ثابتا، لفرض تصريح القدماء بالإباحة، فأين الإجماع على الملك؟

(3) خبر «و رفع» و وجه أشدية الإشكال- في رفع اليد عن العمومات- ما تقدّم من أنّها دليل اجتهادي حاكم على الأصل العملي.

فإن قلت: بناء على الحكومة لا إشكال في الخروج عن استصحاب بقاء الملك حتى يكون رفع اليد عن العمومات أشدّ إشكالا، لفرض ارتفاع موضوع الأصل العملي ببركة الدليل الاجتهادي.

قلت: نعم، لكن المصنف قدّس سرّه متحرّز عن مخالفة المشهور، فلذلك لم يكن عدم الاعتناء بالقول بالإباحة هيّنا، و إنّما التزم بالملك لأجل الحجة الشرعية و هي العمومات.

(4) هذه نتيجة المباحث المتقدمة في حكم المعاطاة، و أنّه يتعيّن الأخذ بالعمومات المقتضية لنفوذ المعاطاة و تأثيرها في الملكية بعد صدق البيع و التجارة و العقد عليها عرفا، على ما مرّ مفصّلا.

المعاطاة تفيد الملك اللازم أو الجائز

(5) أي: و على القول الثاني- و هو إفادة الملك- فهل هي لازمة؟ يعني: بعد إحراز تأثير المعاطاة في الملك، و بطلان سائر الأقوال تصل النوبة إلى البحث عن أنّ الملك المترتب عليها

______________________________

[1] الصواب أن يقال: «أشد إشكالا» لأنّه لا يجي ء صيغة التفضيل من الأفعال المزيدة كما لا يخفى.

ص: 478

مطلقا (1) كما حكي عن ظاهر المفيد رحمه اللّه، أو (2) بشرط كون الدال على التراضي لفظا، كما حكي عن بعض معاصري الشهيد الثاني، و قوّاه جماعة من متأخري المحدثين، أو (3) هي غير لازمة مطلقا، فيجوز (4) لكل منهما الرجوع في ماله، كما عليه أكثر القائلين بالملك (5)، بل كلّهم عدا من عرفت (6)؟

______________________________

لازم كما في البيع بالصيغة، أم متزلزل يجوز لكل منهما الرجوع؟ في المسألة أقوال ثلاثة:

أوّلها: إفادة المعاطاة للملك اللازم سواء أ كان الدال على التراضي لفظا أم كتابة أم إشارة أم غيرها. و هذا منسوب الى الشيخ المفيد قدّس سرّه من أنّها كالبيع القولي في اللزوم، و لا جواز إلّا من ناحية الخيار.

ثانيها: إفادتها للملك اللازم، بشرط كون الدال على التراضي لفظا، حكاه الشهيد الثاني عن بعض مشايخه. و وافقه جمع، و قد تقدّمت كلمات بعضهم في المقام الثاني عند بيان الأقوال.

ثالثها: إفادتها للملك الجائز دون اللازم، سواء أ كان الدال على التراضي لفظا أم غير لفظ، و يتوقف اللزوم على طروء أحد الملزمات، و هو منسوب إلى أكثر القائلين بالملك من عصر المحقق الثاني قدّس سرّه.

و اختار المصنف قدّس سرّه القول الأوّل، و استدل عليه بوجوه ثمانية كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

(1) أي: سواء كان الدال على التراضي لفظا أم غير لفظ.

(2) هذا هو القول الثاني الذي أبداه بعض معاصري الشهيد الثاني قدّس سرّهما.

(3) هذا هو القول الثالث الذي نسبه المصنف قدّس سرّه الى أكثر القائلين بالملك.

(4) هذا متفرع على تأثير المعاطاة في الملك الجائز، كسائر العقود الجائزة كالهبة في جواز الرجوع في العين ما دامت باقية.

(5) حيث إنّ لزوم العقد موقوف على إنشائه باللفظ.

(6) من المحقق الأردبيلي و جمع من علماء البحرين الّذين اعتبروا دلالة اللفظ على

ص: 479

[أدلة القول باللزوم]
[الدليل الأول: استصحاب الملك الحادث بالمعاطاة]

وجوه (1) أوفقها بالقواعد هو الأوّل (2) بناء على أصالة اللزوم (3) في الملك [1]

______________________________

التراضي في اللزوم، و إن لم تعتبر صيغة خاصة عندهم.

(1) مبتدأ مؤخّر لخبر محذوف، فكأنّه قيل: «فيه وجوه ثلاثة».

(2) و هو اللزوم من أوّل الأمر و إن لم يكن الدال على التراضي لفظا.

أدلة القول باللزوم الدليل الأول: استصحاب الملك الحادث بالمعاطاة

(3) المراد بهذا الأصل ما يعمّ اللفظي و العملي، لأنّه قدّس سرّه استدلّ على اللزوم بالاستصحاب، ثم بالأدلة اللفظية الاجتهادية، و عليه فقوله بعده: «للشك في زواله» ليس قرينة على إرادة خصوص الأصل العملي، بعد صراحة قوله بعد الفراغ من الاستصحاب:

«و يدل على اللزوم مضافا الى ما ذكر عموم .. إلخ».

______________________________

[1] ثم إنّه ينبغي التعرض لأمور قبل الخوض في أدلة اللزوم.

منها: أن الغرض من البحث عن أصالة اللزوم و إن كان إثبات لزوم الملك بالمعاطاة كالبيع بالصيغة، و عدم تأثير رجوع أحدهما فيما دفعه الى الآخر، إلّا أنّ الأدلة المذكورة في المتن مختلفة المفاد، فبعضها يختص بالبيع كروايات خيار المجلس. و بعضها يثبت لزوم الملك سواء أنشئ بالبيع أم بغيره من العقود المملّكة كالهبة و الصلح، و ذلك كالاستصحاب، و عدّة من الأدلّة الاجتهادية كآية التجارة عن تراض و حديثي الحلّ و السلطنة. و بعضها يفيد لزوم كل عقد شكّ في لزومه و جوازه كآية الوفاء بالعقود، و حديث «المؤمنون عند شروطهم» كما لو أحرز زوجية امرأة، و شكّ في دوامها و انقطاعها، فإنّه ينبغي البناء على الدوام.

و منها: أن مصبّ البحث عن أصالة اللزوم في الملك أو فيه و في غيره هو العقود

ص: 480

______________________________

العهدية، لخروج العقود الإذنية كالوكالة و العارية- على قول- عن حريم النزاع، لتقومها بالإذن المالكي، فيجوز الرجوع فيها قطعا.

و لا فرق في العقود العهدية بين التنجيزية منها كالبيع و الإجارة و الهبة و الصلح، و التعليقية كالسبق و الرماية، لشمول الأدلة الاجتهادية الآتية لكلا القسمين، بل و كذا الاستصحاب بناء على جريانه في الأحكام التعليقية كما يراه المصنف قدّس سرّه.

و لم يظهر وجه لتخصيص مجرى الأصل بالعقود العهدية، إذ لا فرق بين استصحاب حرمة العصير العنبي على تقدير الغليان، و بين استصحاب ملكيّة الرّامي على تقدير إصابة النصل مثلا.

إلّا أن يقال: إنّ الملكية ليست عنده حكما وضعيا مجعولا. بل هي متنزعة من التكليف، و هو كما ترى.

كما أنّه بناء على إنكار الاستصحاب التعليقي- كما ذهب إليه المحقق النائيني قدّس سرّه- لا وجه للقول باستصحاب الملك في مثل عقد السبق.

و منها: أنّ أصالة اللزوم تجري تارة في الشبهة الحكمية كالشك في لزوم المعاطاة، و جريانها فيها منوط بحجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية. و اخرى في الشبهة الموضوعية كما صرّح به المصنف في آخر استدلاله بالاستصحاب، كما إذا تنازع المتعاقدان فادّعى أحدهما أنّ المنشأ هبة حتى يجوز له الرجوع، و الآخر أنّه صلح حتى يكون لازما، فإنّه لا مانع من إثبات لزومه باستصحاب بقاء الملك.

نعم بناء على عدم حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية يعوّل فيها على الأصل اللفظي المستفاد من عمومات الكتاب و السّنة، بل هي المعتمد أيضا في الشبهات الموضوعية، لعدم وصول النوبة إلى الاستصحاب مع وفاء الأدلة الاجتهادية بإثبات لزوم العقد سواء في الشبهات الحكمية و الموضوعية.

ص: 481

للشك (1) في زواله بمجرّد رجوع مالكه الأصلي (2) [1].

______________________________

(1) استدل المصنف قدّس سرّه على أصالة اللزوم بأدلة ثمانية كما يظهر من عدّها هنا، و صرّح به في أوّل التنبيه السادس بقوله: «اعلم أن الأصل على القول بالملك اللزوم، لما عرفت من الوجوه الثمانية المتقدمة» و الدليل الأوّل هو الاستصحاب، و قد أجراه تارة في شخص الملك الحادث بالمعاطاة، و اخرى في الملك الجامع بين الجائز و اللازم، و ثالثة في الملك مع تردده بين الشخصي و الكلّي، فهنا تقاريب ثلاثة ينبغي بيانها تبعا لتعرض الماتن لها.

الأوّل: ما أفاده بقوله: «للشك في زواله ..» و هو استصحاب بقاء شخص الملك- الحادث بالمعاطاة- بعد الرجوع، حيث يشكّ في ارتفاعه بسبب رجوع مالكه الأوّل، و هو الدافع للمال إلى المتعاطي الآخر، فيستصحب بقاء ملك الآخذ، لكونه من موارد الشك في رافعية الموجود، الذي لا ينبغي الارتياب في حجية الاستصحاب فيه، كحجيّته في الشك في وجود الرافع. فهو نظير العلم بدخول زيد في الدار و الشك في موته بفجأة أو صاعقة أو انهدام سقف عليه أو غيرها، فتستصحب حياته و تترتب عليها الأحكام الشرعية المترتبة عليها من حرمة تقسيم أمواله و وجوب الإنفاق و غيرهما.

(2) المراد به كل من المتعاطيين، لأنّ كل واحد منهما ملّك الآخر ماله بالمعاطاة، و يشك في انفساخها برجوع أحدهما، فيستصحب بقاء الملك الحادث بالمعاطاة، و عدم تأثير الرجوع في عود ملكيّتهما كما كان قبل المعاطاة.

______________________________

[1] لا يخفى أنّه لا فرق في جريان الاستصحاب في الملك بين كون الملكية من أوصاف المال و بين كونها حكما شرعيا، و ذلك لأنّ الأحكام الشرعية من الأمور الاعتبارية التي لها في حدّ ذاتها ثبات و دوام ما لم يرفعها رافع، و من المعلوم أنّ الملكية أيضا من الاعتباريات التي تقتضي بالطبع البقاء و الاستمرار، فإذا حدثت يحكم ببقائها إلى أن يرفعها رافع، فما في حاشية السيد الاشكوري رحمه اللّه من «أن الملكية إذا كانت حكما شرعيا لا يجري فيها الاستصحاب، لكون الشك في المقتضي» محل تأمل، بل منع بناء على جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية.

ص: 482

و دعوى (1)

______________________________

(1) هذا إشكال على استصحاب بقاء شخص الملك- لأجل إثبات لزوم المعاطاة- و منشأ الاشكال وجهان:

أحدهما: اختلال بعض أركان الاستصحاب.

و الآخر: وجود أصل حاكم عليه حتى لو فرض اجتماع أركانه.

أمّا الوجه الأوّل، فتوضيحه: أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب تعلّق اليقين و الشك بشي ء واحد ذاتا مع تعدده زمانا، بحيث تكون القضية المتيقنة عين المشكوكة، كالقطع بعدالة زيد يوم الجمعة، و الشك في بقائها يوم السبت، فإنّ متعلّق اليقين و الشك- و هو العدالة- واحد ذاتا و متعدد زمانا.

و ليس المقام كذلك، لأنّ متعلّق اليقين هو القدر المشترك بين الفردين أعني به الملك اللازم و الجائز، و متعلّق الشك هو الفرد المعيّن و هو اللازم، إذ الحادث على تقدير كونه الفرد الآخر- و هو الملك الجائز- قد علم ارتفاعه بالرجوع، فالشك في بقاء المستصحب يستند إلى الشك في حدوث الفرد اللازم، فيصح أن يقال: اليقين و الشك لم يتواردا على مورد واحد حتى يجري فيه الاستصحاب، لتعلّق اليقين بالقدر المشترك، و تعلق الشك بحدوث الفرد المعيّن، و مع اختلاف المتعلّق لا يجري الاستصحاب، لعدم موضوع له حقيقة مع الاختلاف المزبور.

و هذا نظير اختلاف شهادة البينة في تعيين المشهود به و ترديده، كما إذا شهد أحد العدلين بنجاسة أحد الكأسين مردّدا، و الآخر بنجاسة أحدهما المعيّن، فلا يثبت النجاسة حينئذ بشهادتهما، لاختلاف المشهود به، فيبني على طهارتهما، إمّا لقاعدتها، و إمّا لاستصحابها.

و على هذا فجهة الإشكال هي تعدّد متعلقي اليقين و الشك، لتعلق اليقين بالكلي، و تعلق الشك بحدوث الفرد الطويل، فلا يجري استصحاب الشخص.

و أمّا الوجه الثاني، فتقريبه: أنّ استصحاب الملكيّة و إن كان واجدا للشرائط من اجتماع أركانه من اليقين و الشك، إلّا أنّ هنا أصلا حاكما عليه يمنع عن جريان استصحاب الملك،

ص: 483

أنّ الثابت (1) هو الملك المشترك بين المتزلزل و المستقرّ، و المفروض انتفاء الفرد الأوّل بعد الرجوع (2)، و الفرد الثاني كان مشكوك الحدوث من أوّل الأمر (3) فلا ينفع (4) الاستصحاب- بل (5) ربما يزاد استصحاب بقاء علقة المالك- مدفوعة (6)

______________________________

و ذلك لأنّ الشك في بقاء الملك بعد رجوع المالك الأوّل ناش من انقطاع علقته بالمرّة بسبب البيع المعاطاتي، و بقاء شي ء من تلك العلقة التي أثرها جواز الرجوع، فإذا استصحبنا بقاء العلقة لم يبق لاستصحاب ملكية المالك الثاني مجال. هذا توضيح الوجهين و سيأتي الجواب عنهما.

(1) يعني: أنّ المعلوم سابقا هو كلّي الملك المشترك بين المتزلزل و المستقرّ، و ليس المعلوم هو خصوصية اللزوم، فلا يكون المستصحب شخصيّا، بل يكون كلّيّا.

(2) إذ لو كان المعلوم الملك المتخصّص بخصوصية الجواز فقد ارتفع قطعا بالرجوع.

(3) يعني: فيجري فيه استصحاب العدم، فينتفي بذلك القدر المشترك، لأنّه لو كان باقيا فهو لأجل حدوث الفرد الطويل كاللزوم في المقام، و المفروض أنّه محكوم بالعدم بمقتضى الأصل.

(4) بل لا يجري استصحاب الفرد، لعدم العلم بحدوث الخصوصية- أي اللزوم- حتى يشك في بقائها، فيجري فيها الاستصحاب، بل العلم تعلّق بالجامع، و الشك تعلّق بحدوث الفرد الطويل، و مع مغايرة متعلّقي اليقين و الشك لا يجري الاستصحاب.

(5) هذا إشارة إلى ثاني وجهي الإشكال في استصحاب شخص الملكية الحادثة بالمعاطاة، و محصله: عدم جريانه، لوجود الأصل الحاكم.

(6) خبر قوله: «و دعوى» و هذا دفع الاشكال، و ليعلم أنّ المصنف قدّس سرّه اقتصر هنا على دفع الإشكال الأوّل، و لم يتعرض لدفع الإشكال الثاني- و لعلّه اتكالا على وضوح وهنه- و إنّما أجاب عنه في أوّل الخيارات كما تقف عليه في التعليقة [1]، فالأولى الاقتصار هنا على

______________________________

[1] محصل ما أفاده في أوّل الخيارات هو: أنّ المستصحب إمّا علقة الملكية، و إمّا السلطنة على إعادة العين في ملكه، و إمّا العلاقة التي كانت بين المالك و عينه في مجلس البيع.

ص: 484

..........

______________________________

ما أفاده من دفع الإشكال الأوّل، فنقول: قد دفعه بوجهين:

أحدهما: أنه لو سلّم كون المستصحب هو الجامع بين الملك المتزلزل و المستقر أمكن إجراء الاستصحاب فيه بناء على ما تقرّر في الأصول من حجية القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي.

و ثانيهما: أنّ المستصحب في المقام هو شخص الملكية الحادثة بالمعاطاة، و ليس كلّيا أصلا، و قد برهن عليه بما سيأتي توضيحه.

______________________________

و لا مجال لاستصحاب شي ء منها.

أمّا الملكية فللقطع بارتفاعها و انقطاعها بالمعاطاة حسب الفرض من إفادتها الملك، لا الإباحة المحضة. فالعين بجميع شؤونها صارت ملكا للغير، و لم تبق الملكية السابقة على التعاطي. و لو بقيت لزم اجتماع ملكيتين على مملوك واحد، و هو محال عقلي أو عقلائي.

و أمّا السلطنة على استرداد العين فهي لم تكن مجعولة للمالك حتى تستصحب، و إنّما هي سلطنة حادثة بعد زوال الملك، لدلالة دليل كما في الخيار، فإن دلّ دليل على ثبوتها فهو، و إلّا فالأصل عدمها. و ليست هذه السلطنة من شؤون سلطنة المالك على ماله حتى تستصحب، لأنّ موضوع هذه هو المال المنتقل الى الغير، فما لم ينتقل الى الغير لا مجال لجعل سلطنة الاسترداد للمالك الأوّل.

و أمّا العلقة المتحققة في مجلس العقد ففيها أوّلا: اختصاصها بما ثبت فيه الخيار في المجلس.

و ثانيا: أنّه لو شك في ثبوتها كان المرجع عموم وجوب الوفاء بالعقود القاضي بلزوم العقد، و لا مجال للاستصحاب.

و ثالثا: أنّه لا معنى للشك المزبور مع دلالة النص على انتفاء الخيار مع الافتراق.

و عليه يبقى استصحاب الملك الحاصل بالعقد سليما عن الاشكال.

ص: 485

- مضافا (1) إلى إمكان دعوى كفاية تحقق القدر المشترك في الاستصحاب،

______________________________

أمّا الوجه الأوّل فتقريبه: أنّا نلتزم بكون المستصحب هنا كلّيا، لا شخصيا، و لكن لا يسقط الاستصحاب عن الاعتبار، لما تقرّر في علم الأصول من شمول أدلة حجيته- كقوله عليه الصلاة و السلام: «لا تنقض اليقين بالشك»- لما إذا كان المتيقن شخصيا و كلّيا، كما إذا علم بحدث مردّد بين الأكبر و الأصغر، أو بنجاسة مرددة بين البول و الدم، فإنّه بعد الإتيان برافع الحدث الأصغر كالوضوء، و بغسل المحل مرّة يشكّ في بقاء الحدث و النجاسة، فيستصحب كلّي الحدث و النجاسة، و هذا هو ثاني أقسام استصحاب الكلي الذي حقيقته العلم بوجود الكلي في ضمن أحد فردين: أحدهما معلوم الارتفاع، و الآخر محتمل الحدوث.

و المقام من هذا القبيل، فإنّه و إن لم يعلم بحدوث إحدى الخصوصيتين بالمعاطاة- من جواز الملك و لزومه- حتى تستصحب، لكنه لا مانع من استصحاب الجامع بينهما بعد كون الأثر مترتبا عليه، لا على الخصوصية.

و عليه فملخص هذا الجواب هو: كفاية استصحاب كلّي الملك في إثبات المقصود، و هو لزوم المعاطاة، و عدم الحاجة الى استصحاب الفرد- أي اللزوم- حتى يقال: إنّه مشكوك الحدوث، فلا يجري فيه الاستصحاب. لكن أركان الاستصحاب في القدر المشترك مجتمعة، لليقين بحدوث الملكية بالمعاطاة و الشك في ارتفاعها برجوع أحد المتعاطيين، و منشأ الشك في بقاء القدر المشترك هو تردّد الحادث بين مقطوع البقاء و الارتفاع.

هذا توضيح الجواب الأوّل. و أمّا الجواب الثاني فسيأتي إن شاء اللّه تعالى.

(1) الترتيب الطبعي يقتضي تقديم الجواب الثاني على هذا الجواب، لأنّه قدّس سرّه جعل المستصحب شخصيا، و مقصوده من الجواب الذّب عنه، و أجنبية الملك عن القدر المشترك، لكونه حقيقة واحدة، و لو سلّم كونه كلّيا لم تمنع كلّيته عن جريان الاستصحاب فيه، لما ثبت في الأصول من حجيته في القسم الثاني، بل و بعض أقسام القسم الثالث.

ص: 486

فتأمّل (1)-

______________________________

(1) يمكن أنّ يكون إشارة إلى وجوه:

منها: عدم كفاية استصحاب القدر المشترك في إثبات اللزوم، لأنّ الشك في بقائه مسبّب عن الشك في حدوث الفرد الطويل، و الأصل عدمه، فلا تصل النوبة إلى جريان الاستصحاب في القدر المشترك، لكون الشك فيه مسبّبا عن الشك في حدوث الفرد الطويل، و الأصل الجاري في الشك السببي حاكم على الأصل الجاري في الشك المسببي، هذا.

ففي المقام يتسبّب الشك في بقاء الملك و ارتفاعه- بعد الرجوع- عن الشك في حدوث ملك لازم بالمعاطاة، و يستصحب عدم حدوثه، لكون هذا العدم متيقنا قبل التعاطي، و يترتب على إحراز عدم حدوث الملك اللازم ارتفاع الملك بالرجوع، و ينتفي الشكّ تعبدا في بقاء القدر المشترك بين الملك اللازم و الجائز.

لكن المصنف أجاب عنه في رسالة الاستصحاب «بأنّ ارتفاع القدر المشترك من آثار كون الحادث ذلك المقطوع الارتفاع، لا من لوازم عدم حدوث الأمر الآخر. نعم اللازم من عدم حدوثه عدم وجود ما هو في ضمنه من القدر المشترك في الزمان الثاني، لا ارتفاع المشترك بين الأمرين، و بينهما فرق واضح» [1].

______________________________

[1] لكن أورد عليه السيد قدّس سرّه بأن المناط في جريان الأصل ترتب الأثر على المستصحب، و من المعلوم أنّ الحكم بمانعيّة النجاسة مثلا مترتب على وجود القدر المشترك بين قذارة البول و الدم، لا على بقائه الذي هو الوجود بعد الوجود، و لا على حدوثه الذي هو الوجود بعد العدم، و موضوع الأثر الشرعي في المقام هو وجود الملك بعد رجوع أحد المتعاطيين، و من المعلوم أنّ وجوده من لوازم وجود الفرد الطويل، كما أنّ عدمه من لوازم عدمه، و يترتب على استصحاب عدم الفرد الطويل عدم القدر المشترك بين الفردين.

و عليه فأصالة عدم الفرد الطويل حاكمة على أصالة وجود الكلي، لتسبّب الشك فيه عن الشك في وجود ذلك الفرد من أوّل الأمر. قال قدّس سرّه: «فالشك في وجوده بعد حدوث ما يزيل أحد الفردين- على تقديره- ناش عن الشك في وجود الفرد الآخر من الأوّل و عدمه،

ص: 487

..........

______________________________

و منها: أنّ الشك ليس في المقتضي حتى لا يجري فيه الاستصحاب على مبنى المصنف، بل في رافعيّة الموجود و هو الرجوع، حيث إنّ الملكية من الأمور الاعتبارية التي لها في حدّ ذاتها اقتضاء الدوام و الاستمرار، فليست الملكية الجائزة كالنكاح المنقطع الذي لا استمرار فيه، بل يرتفع بنفس مضيّ زمانه و أمده. و هذا بخلاف الملك، فإنّ زواله منوط بطروء زماني كرجوع المالك الأصلي، فلا يكون الشك في الملكية شكّا في المقتضي، بل من الشك في وجود الرافع و رافعيّة الموجود.

فيندفع بهذا البيان ما في حاشية المحقق الخراساني قدّس سرّه من «عدم كفاية استصحاب القدر المشترك، لكونه من الشك في المقتضي الذي لا يكون الاستصحاب حجّة فيه» «1».

و وجه الاندفاع ظاهر مما ذكرنا.

و منها: أنّ المقصود من استصحاب القدر المشترك هو عدم تأثير الرجوع في زوال الملكية، و ليس هو من آثار القدر المشترك بين الملك اللازم و الجائز، بل من آثار خصوص الأوّل، فلا تصح دعوى كفاية تحقق القدر المشترك.

و محصل دفعه منع كون المقصود ذلك، بل المقصود من استصحاب القدر المشترك إثبات صرف الملك، و عدم تأثير الرجوع في زواله لازم عقلي له، و لا ضير فيه بعد كون المستصحب حكما شرعيا، كوجوب الإطاعة عقلا المترتب على الوجوب و الحرمة الثابتين شرعا بالاستصحاب.

______________________________

و إذا كان الأصل عدمه فلا يبقى بعد ذلك شكّ في الوجود، بل ينبغي أن يبنى على العدم» «2».

و ما أفاده- من موضوعية نفس الوجود للأثر الشرعي دون خصوصية الحدوث و البقاء- و إن كان متينا، إلّا أنّ في استصحاب الكلي يكون أصل حدوثه متيقنا، و إنّما يتمحض

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 13.

(2) حاشية المكاسب، ص 73.

ص: 488

______________________________

الشك في ناحية استمرار وجوده المعبّر عنه بالبقاء، و الإهمال في المتيقن و المشكوك غير معقول. و عليه يتجه كلام الشيخ هنا من أنّ بقاء الكلّي- بعد طروء مزيل أحد الفردين- من لوازم كون الحادث الفرد الطويل، و ارتفاعه أثر وجوده بوجود الفرد القصير، و لا أصل يحرز به خصوصية الحادث. فيجري في الكلي بلا مانع.

هذا مضافا الى: ما في تعبيره بعلّية وجود الفرد لوجود الكلي و عدمه لعدمه من المسامحة، لاقتضاء العلّية و السببية للاثنينية و التعدد، مع أنّه لا اثنينية بين الكلي الطبيعي و مصداقه، فزيد هو الإنسان، لا أنّ وجود النوع معلول وجود الفرد، كالإحراق المسبب عن وجود النار.

و إلى: أنّ الشك في بقاء الكلي و ارتفاعه لم يتسبب عن الشك في حدوث الفرد حتى تتجه حكومة أصالة عدم حدوث الفرد الطويل على أصالة بقاء الجامع، بل يتسبب عن الشك في بقاء الفرد الحادث و ارتفاعه. هذا مع الغض عن اعتبار التسبب الشرعي في حكومة الأصل السببي على المسببي.

و منها: ما في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدّس سرّه من منع صغروية المقام لاستصحاب الكلي، و بيانه: أنّه يعتبر في جريان استصحاب الكلي تنوّعه بنوعين أو أكثر مع الغضّ عن تعبد الشارع بالبقاء، كالحدث المردّد بين الأصغر و الأكبر، و الحيوان المردّد بين طويل العمر و قصيره، فيجري استصحاب القدر المشترك عند اليقين بنقض عدمه المحمولي بوجوده كذلك و الشك في بقائه، فيتعبد ببقاء ما يكون له في حد ذاته استعداد البقاء.

و هذا بخلاف المقام، فإنّ تنوّع الملكية بنوعي الجواز و اللزوم يستند إلى حكم الشارع ببقاء العلقة بعد الفسخ و الرجوع تارة، و بزوالها أخرى. و لا حقيقة لهاتين الحصّتين مع الغض عن التعبد الشرعي كما كان الأمر في الحدث و الحيوان و نحوهما من الطبائع ذوات الأنواع.

و بعبارة أخرى: الحكم ببقاء الملكية و ارتفاعها مأخوذ في عقد الحمل، لا الوضع، مع أنّ المعتبر في استصحاب القسم الثاني كون الموضوع بنفسه قدرا مشتركا بين نوعين، سواء

ص: 489

______________________________

حكم عليه بالبقاء و الارتفاع أم لا.

ثم قال مقرّر بحثه الشريف: «و إلى هذه الدقيقة أشار بقوله: فتأمل» «1».

و يظهر من موضع آخر من كلامه: أنّ جهة الإشكال في استصحاب الملكية هنا هي: أنّه يعتبر في استصحاب الكلي موضوعيته بنفسه للأثر غير ما يترتّب على الخصوصية، فلو أريد ترتيب أثرها على استصحاب الجامع لم يجر لأجل الإثبات «2».

أقول: ما أفاده «قدس اللّه نفسه الزكية» من ضابط جريان الاستصحاب في القدر المشترك ممّا لا غبار عليه، فيعتبر وجود الطبيعة المتنوعة- بنفسها- بنوعين أو أكثر، مع قطع النظر عن حكم الشرع و العقلاء، و يعتبر أن يكون لها أثر غير أثر الفرد.

لكن الكلام كله في أنّ اللزوم و الجواز هل هما نوعان من الملك أم حكمان مترتّبان على موضوع بسيط، و هما خارجان عن حريمه حقيقة؟ و كلماته قدّس سرّه هنا لا تخلو من تشويش فقد صرّح تارة «بأنّ اللزوم و الجواز نوعان من الملك متباينان بتمام هويّتهما» و أخرى بأنّ الملك يتنوّع بالحكم، حيث قال: «فإنّ تنوعه بنوعين ليس باختلاف السبب المملّك و لا باختلاف حقيقته و ماهيته من غير جهة أنّ أحدهما يرتفع بالفسخ، و الآخر لا يرتفع».

فبناء على كلامه الأوّل ينهدم أصل الإشكال في استصحاب جامع الملك، و ذلك لكون الملكية كالحيوان و الحدث في أنّ لكلّ منهما نوعين متباينين، و إن كان في الجمع بين النوعين و «التباين بتمام الهوية» مسامحة، إذ ليست الأنواع متباينة بتمام الهوية للمتنوّع، كما لا يخفى.

و بناء على كلامه الآخر يتجه الاشكال لو تمّ في نفسه، إذ لو كان اللزوم و الجواز مأخوذين شرعا في عقد الحمل تعيّن أن يكون الموضوع ذات الملك، و حينئذ يستحيل تنوّعه بلحاظ حكمه، و ذلك لأمرين مسلّمين:

أحدهما: تأخر كل حكم عن موضوعه رتبة تأخر المعلول عن علته.

______________________________

(1): المكاسب و البيع، ج 1، ص 172 و 173.

(2) المصدر، ص 167.

ص: 490

بأنّ (1) انقسام الملك الى المتزلزل و المستقرّ ليس باعتبار اختلاف في حقيقته، و إنما

______________________________

(1) هذا هو الجواب الثاني من وجهي دفع الاشكال، و حاصله: منع انقسام الملك الى قسمين و تنوّعه بنوعين حتى يكون كل من المتزلزل و المستقر فردا لطبيعة الملك كي يجري الاستصحاب في تلك الطبيعة التي هي القدر المشترك بينهما. و على هذا فلا كليّ هنا حتى يجري فيه الاستصحاب، بل يجري في الشخص، و هو الملكية التي هي إضافة خاصة بين المالك و المملوك، فالتزلزل و الاستقرار ينشأان- من حكم الشارع على الملك بزواله برجوع المالك الأصلي في بعض الموارد، و ببقائه و عدم زواله برجوع المالك الأصلي في بعضها الآخر.

فاللّزوم و الجواز حكمان للملك، و ليسا منوّعين له، بل هما من أحكام السبب المملّك لا من خصوصيات المسبّب و هو الملك.

______________________________

و ثانيهما: أنّ منوّع الطبيعة يكون في رتبة المتنوّع، لا متأخرا عنه، كتنوّع الكلمة إلى أنواعها الثلاثة: الاسم و الفعل و الحرف، فإنّ المنوّع و هي هذه الأنواع في رتبة ذات المتنوّع و هي الكلمة.

و عليه فلو كان اللزوم و الجواز حكمين مترتبين على الملك لزم أن يكون تنوّع الملك بهما من باب تنوع الموضوع بحكمه المتأخر عنه.

نعم إن أريد من التنوع ما يكون في رتبة الأثر مسامحة لا حقيقة كان صحيحا، حيث إنّ الموضوع يتنوّع بحكمه، لكن هذا المقدار غير قادح في استصحاب الجامع.

و المتحصل: أنّ حمل الأمر بالتأمل على ما أفاده السيد الطباطبائي و المحقق الخراساني و المحقق النائيني قدّس سرّهم لا يخلو من خفاء. و لعلّ الأولى حمله على الإمعان في المطلب، و سلامته عن إشكالات استصحاب القسم الثاني المذكورة في علم الأصول.

و هذا لا ينافي إصرار المصنف قدّس سرّه على أنّ اللزوم و الجواز حكمان شرعيان، و الملكية حقيقة بسيطة لا تعدد فيها.

وجه عدم المنافاة: أنّ إجراء الاستصحاب في القدر المشترك يكون من باب التنزل و تسليم تعدّد الملك اللازم و الجائز حقيقة بالنوع أو بالفرد أو بالمرتبة كما سيأتي بيانه عن قريب.

ص: 491

هو باعتبار حكم الشارع عليه في بعض المقامات بالزوال برجوع (1) المالك الأصلي.

و منشأ هذا (2) الاختلاف اختلاف حقيقة السبب المملّك، لا اختلاف حقيقة الملك، فجواز الرجوع و عدمه من الأحكام الشرعية للسبب (3)، لا من الخصوصيات المأخوذة في المسبب (4) [1].

______________________________

و الحاصل: أنّه بعد كون الجواز و اللزوم من أحكام الملك- لا من خصوصيات نفس الملك- لا جامع بينهما حتى يجري فيه استصحاب الكلّي، بل الجاري فيه هو استصحاب الشخص.

هذا كله بحسب الدعوى، و قد استدلّ عليه بوجهين سيأتي بيانهما.

(1) متعلق ب «زوال» و ضميرا «حقيقته عليه» راجعان الى الملك.

(2) يعني: اختلاف حكم الشارع بجواز الرجوع و عدمه.

(3) كالبيع و الهبة و غيرهما من الأسباب المملّكة.

(4) و هو الملك، فلا يكون اللزوم و الجواز من الخصوصيات الدخيلة في حقيقة الملك.

______________________________

[1] أورد المحقق الخراساني قدّس سرّه عليه بما لفظه: «لو كان الجواز و اللزوم هاهنا بمعنى جواز فسخ المعاملة و عدمه كما في باب الخيار فلا شبهة في كونهما من أحكام الأسباب. و أمّا لو كانا بمعنى ترادّ العينين و تملك ما انتقل عنه و عدمه بلا توسيط فسخ المعاملة- كما في الهبة- على ما صرّح به في الملزمات، فهما من أحكام المسببات لا محالة، و اختلافها فيهما كاشف عن اختلافها في الخصوصيات المختلفة في اقتضاء الجواز و اللزوم لئلّا يلزم الجزاف في أحكام الحكيم تعالى شأنه، و إن كان اختلافها فيهما ناشئا من اختلاف الأسباب ذاتا أو عرضا» «1».

و محصله: أن إبطال أثر العقد قد يكون بفسخه أو بإقالة أحدهما للآخر فمقتضاه كون اللزوم و الجواز من أحكام السبب، و قد يكون باسترداد العين كما في الهبة أو بتراد العينين كما في المعاطاة، فيكونان من أحكام نفس الملك، كما أفاده المصنف في الملزمات. و حينئذ يكون اختلافهما كاشفا عن وجود خصوصية في كل منهما غير ما في الآخر، و هذا المقدار كاف في

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 13.

ص: 492

______________________________

اختلاف الأحكام، و إن لم يكن اختلافهما بالحقيقة و الماهية. و عليه يشكل استصحاب الشخص، و يتعيّن إجراؤه في القدر المشترك، هذا.

لكن يمكن أن يقال أوّلا: إنّ مقتضى استدلال المصنف قدّس سرّه على أصالة اللزوم في الملك بما سيأتي من آية وجوب الوفاء و أخبار خيار المجلس هو خروج اللزوم و الجواز عن حقيقة الملك و كونهما من أحكام السبب المملّك. فالفسخ و الإقالة يتعلّقان بنفس السبب كتعلق الإمضاء به. و هذا لا ينافي ما سيأتي منه في الملزمات من أنّ المعاطاة- مع قطع النظر عن أصالة اللزوم- تكون جائزة بالإجماع قبل تلف العينين، و لمّا كان دليلا لبيّا وجب الأخذ بالقدر المتيقن منه و هو تعلّق الجواز بالتراد المنوط ببقاء كلتا العينين بحالهما، و من المعلوم أنّ رفع اليد عن أصالة اللزوم في الأسباب المملّكة- بالإجماع على عدم لزوم المعاطاة قبل التلف- لا يدلّ على كون جواز التراد من خصوصيات نفس الملك لا السبب المملّك.

نعم جواز استرداد العين الموهوبة ابتداء قبل فسخ العقد قد يكون شاهدا على اختلاف الملك الحاصل في الهبة الجائزة و اللازمة سنخا أو مرتبة.

و ثانيا: أنّ اللزوم و الجواز سواء استفيدا من نحو قول الشارع: «البيع لازم و غير لازم» أم من مثل قوله: «يجوز ترادّ العينين و لا يجوز» يكونان من أحكام الملك، و ينشأان من اختلاف الأسباب، لما فيها من الخصوصيات المقوّمة للسبب المنوّعة له أنواعا مختلفة الحقيقة، المقتضية للزوم تارة و للجواز اخرى، و لهما معا في وقتين كالبيع الخياري الجائز في مدة الخيار، و اللازم في غيرها، و الهبة للأجنبي المقتضية للجواز قبل التصرف، و للّزوم بعده.

و لو كانا من الخصوصيات الموجبة لتنوّع الملك لزم تغاير الملكية في البيع في زمان الخيار للملكية فيما بعده، نظير تغاير زيد و عمرو، كما أنّ ذلك شأن الأفراد، فإنّها و إن اندرجت تحت حقيقة واحدة لكنها متباينات، لامتناع صدق كل منها على الآخر، فلو بني على مغايرة الملك اللازم للجائز- كمغايرة زيد لعمرو- لزم انعدام الملك الحادث أوّلا، و حدوث ملك آخر، و هو كما ترى، إذ لا إنشاء غير الإنشاء الأوّل الموجب لحدوث الملكية، فإن كانت جائزة

ص: 493

و يدل عليه (1)- مع (2) أنّه يكفي في الاستصحاب الشّك في أنّ اللزوم من

______________________________

(1) أي: و يدلّ على كون الجواز و اللزوم من أحكام الملك لا من الخصوصيات المنوّعة له .. إلخ.

(2) ظاهره- بمقتضى السياق- كونه دليلا على أنّ اللزوم و الجواز من أحكام الملك، لا من الخصوصيات الدخيلة في حقيقته، لكن من البديهي عدم إرادة ذلك، لأنّ غرضه قدّس سرّه عدم الحاجة الى إقامة الدليل على كون اللزوم و الجواز من أحكام السبب لا من الخصوصيات الدخيلة في المسبب و هو الملك.

وجه عدم الحاجة إلى ذلك: عدم توقف صحة الاستصحاب المزبور- و هو استصحاب الملك- على إحراز كون اللزوم و الجواز من أحكام الملك لا من خصوصياته المنوّعة له، لأنّ الاستصحاب المزبور يجري، و يثبت اللزوم، و لو مع الشك في كون اللزوم و الجواز من خصوصيات نفس الملك حتى يكون المستصحب كلّيا، أو من أحكام الملك حتى يكون شخصيّا.

و الوجه في جريان استصحاب الملكية مع هذا الشك هو: أنّه بناء على كون الإشكال في جريان استصحاب الكلي حكومة الأصل السببي يكون الشك هنا في وجود المانع عن استصحاب الملكية، إذ لو كان المستصحب كلّيا فالمانع موجود، و إن كان شخصيّا فلا مانع، فمرجع الشك حينئذ إلى الشك في وجود المانع و هو الأصل الحاكم و عدمه. و عليه لا مانع من جريان استصحاب الملكية.

و بالجملة: بناء على المنع عن جريان استصحاب الكلي- لأجل حكومة الأصل السببي

______________________________

تصير لازمة بانقضاء زمان الخيار مثلا.

و عليه فما أفاده المصنف في المتن «من إرجاع الاختلاف بين الملك اللازم و الجائز إلى الأسباب و وحدة حقيقته في جميع الموارد» سليم عن الاشكال، و سيأتي مزيد بيان له إن شاء اللّه تعالى.

ص: 494

..........

______________________________

عليه- لا مانع من جريان استصحاب الملكية في المقام، لكون الشك في وجود المانع عن جريانه، حيث إنّه لو كان اللزوم و الجواز من خصوصيات الملك لا من أحكامه لم يجر الاستصحاب، لكون المستصحب حينئذ كلّيا، و الأصل الحاكم عليه موجود. و إن كان من أحكامه فالمستصحب شخصي، و الاستصحاب جار فيه، فمرجع الشك حينئذ إلى وجود المانع و هو الأصل الحاكم و عدمه، و ما لم يحرز وجود الحاكم يجري الأصل المحكوم، فلا مانع من جريان استصحاب الملكية، فلا يتوقف جريان استصحاب الملكية على إحراز كون اللزوم و الجواز من أحكام الملك، لا من خصوصياته المنوّعة له [1].

هذا توضيح ما أفاده المصنف قدّس سرّه.

و منه يظهر أن قوله: «مع أنّه يكفي في الاستصحاب» إشارة إلى تقريب ثالث لاستصحاب الملك الحاصل بالمعاطاة، سواء أحرز كون المستصحب شخصيا أم كليا، أم شك في شخصيته و كلّيته، و كان المناسب تأخيره عمّا هو بصدده فعلا من الاستدلال على أنّ الملك الحاصل بالعقد واحد شخصي، و يرجع تزلزله و استقراره إلى السبب المملّك.

______________________________

[1] نعم بناء على كون الإشكال في استصحاب الكلي مغايرة القضية المتيقنة للمشكوكة اتّجه عدم جريان استصحاب الملكية إذا لم يحرز كون اللزوم و الجواز من أحكام الملك أو من خصوصياته المنوّعة له، لأنّه مع هذا الشك لا يحرز العنوان المأخوذ في أدلة الاستصحاب، إذ المستصحب إن كان كلّيا لم ينطبق عليه نقض اليقين بالشك، لمغايرة القضية المشكوكة للمتيقنة، فلا يصدق عليه الإبقاء و لا النقض. و إن كان شخصيا انطبق عليه ذلك.

و مع الشك في انطباقه لا يجوز التمسك بعموم دليل الاستصحاب، فإنّ إحراز موضوع الدليل شرط عقلا لجواز التمسك به.

و إلى هذا ينظر ما أفاده سيدنا الأستاد قدّس سرّه من الاشكال على هذا الاستصحاب بقوله: «إذ مع الشك المذكور لا يحرز اجتماع ركني الاستصحاب اللّذين هما شرط في جريانه، و مع عدم

ص: 495

______________________________

إحراز ذلك لا مجال للتمسك بدليله، لعدم جواز التمسك بالعام ما لم يحرز عنوان موضوعه» «1».

فإنّ قوله قدّس سرّه: «إذ مع الشك» قرينة على إرادة الإشكال الأوّل على استصحاب الكلّي، و هو مغايرة القضية المتيقنة للمشكوكة، لعدم تطرق هذا التعليل في المقام بناء على الإشكال الثاني و هو حكومة الأصل السببي على المسببي كما هو ظاهر.

و يظهر مما ذكرنا غموض ما في تقرير المحقق النائيني قدّس سرّه في جريان الاستصحاب هنا من: أنّ المورد و إن كان من موارد التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، إلّا أنّه لا بأس به في المقام، بداهة أنّ المانع عن جريان الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي هو حكم العقل، حيث إنّه لم يقم دليل لفظي على تخصيص عموم- لا تنقض- و إخراج استصحاب الكلي عن حيّزه، فمع الشك في كون المستصحب كلّيا أو شخصيا يجري الاستصحاب، للزوم الاقتصار في تخصيص العام بالمخصص اللّبي على الأفراد المتيقنة، و التمسك في غيرها بعموم العام، ففي المقام لا مانع من التمسك بالاستصحاب مع الشك في كون الملك كلّيا أو شخصيا «2».

انتهى ملخص كلامه على ما تقرير بعض أجلّة تلامذته قدّس سرّهما.

وجه الغموض: أنّه- بعد البناء على صحة المبنى و هو جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية في المخصص اللّبي- يكون مورد البحث فيه ما إذا أحرز عنوان العام و كان الشك في اندراجه تحت الخاص و عدمه لشبهة خارجية، كتردّد اليد الموضوعة على مال الغير بين العادية و الأمانية، و كالماء المردّد بين كونه معتصما و غير معتصم، و هكذا سائر الموارد التي أحرز كونها من مصاديق العام و شك في دخولها تحت الخاص. و كالشك في أيمان شخص من بني أميّة مثلا، فإنّ عنوان العام و هو كونه من بني أميّة معلوم، و الشك إنما هو في كونه مؤمنا ليحرم لعنه، و عدمه حتى يجوز لعنة.

فحينئذ يقال: إنّ تخصيص عموم «لعن اللّه بني أميّة» بمن علم إيمانه منهم معلوم، و أمّا

______________________________

(1): نهج الفقاهة، ص 44.

(2) المكاسب و البيع، ج 1، ص 173 و 174.

ص: 496

______________________________

من شك في إيمانه منهم فخروجه عنهم غير معلوم، فظهور العام فيه لم تنثلم حجيته، فيتمسك به، فيقال بجواز لعنه.

و أمّا إذا لم يحرز عنوان العام، فلا وجه للتمسك به، كالمقام، فإنّه بناء على أن يكون الملك كلّيا لا يندرج تحت عموم أدلة الاستصحاب، لو كان إشكال استصحاب الكلّي عدم وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة، نعم بناء على كون إشكاله حكومة الأصل السببي لا مانع من جريانه، لأنّه ما لم يحرز الأصل الحاكم يجري الأصل المحكوم.

ثم إنّ السيد قدّس سرّه أفاد: «أنّه لا حاجة الى استصحاب القدر المشترك حتى يستشكل فيه بما ذكر، بل يكفي استصحاب الفرد الواقعي المردّد بين الفردين، و لا يقدح تردّده بحسب علمنا في تيقن وجوده سابقا، و المفروض كون الأثر الثابت للقدر المشترك أثرا لكل من الفردين، فيمكن ترتيبه باستصحاب الشخص الواقعي المعلوم سابقا، كما في القسم الأوّل من أقسام الاستصحاب الكلي، و هو ما إذا علم بوجود الكلي في ضمن فرد معيّن، فشك في بقائه، حيث إنّه حكم فيه بجواز استصحاب كل من الكلي و الفرد» انتهى ملخصا «1».

و فيه: أنّه إن أريد بالشخص العلم بتشخّصه فهو ممنوع، لامتناع العلم بتشخصه مع فرض تردده بين شخصين.

و بالجملة: لا يعقل العلم بالشخص الحقيقي الواقعي الخارجي مع تردده بين فردين.

و إن أريد بالمردد ما هو مردد واقعا، ففيه: أنّه لا يعقل وجوده بوصف كونه مرددا، فإنّ الموجود في أيّ وعاء من أوعية الوجود متشخص بمشخصات وجودية توجب تعينه، و يمتنع حينئذ تردّده.

و إن أريد بالفرد المردّد المردّد عندنا و المعيّن في الواقع ليرجع الى العلم الإجمالي بأحدهما ففيه: أنّه عين الكلي، إذ مع الغض عن الخصوصيات المفرّدة يكون متعلق العلم نفس الكلي.

فالمتحصل: أنّه لا معنى لاستصحاب الفرد المردد، لأنّه على المعنى الصحيح ليس إلّا الكلي. و قد تعرضنا في بحث الاستصحاب لشطر مما يتعلق باستصحاب الفرد المردّد، فراجع «2».

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 73.

(2) منتهى الدراية، ج 7، ص 381 الى 388.

ص: 497

خصوصيات الملك أو من لوازم السبب المملّك. و مع أنّ المحسوس (1) بالوجدان أنّ إنشاء (2) الملك في الهبة اللازمة و غيرها على نهج واحد- أنّ (3) اللزوم و الجواز لو كانا من خصوصيات الملك فإمّا أن يكون تخصيص القدر المشترك

______________________________

(1) قد تقدم في توضيح قوله: «لا من الخصوصيات المأخوذة في المسبب» الإشارة إلى:

أنّه قدّس سرّه استدل بدليلين على مدعاه من أنّ الملكية في جميع الموارد حقيقة واحدة، و أنّ اللّزوم و الجواز غير منوّعين لها، بل هما حكمان شرعيان عارضان عليها، و لا يتنوع الموضوع بحكمه المتأخر عنه.

و ما أفاده بقوله: «مع أن المحسوس» هو الدليل الأوّل على هذه الدعوى، بتقريب: أنّ الملكية المنشئة في الهبة اللازمة- التي يكون الملك فيها لازما- و الملكية المنشئة في غير الهبة اللازمة من العقود الجائزة كالهبة للأجنبي تكونان على نهج واحد، فليس المنشأ في العقود اللّازمة و الجائزة إلّا إضافة الملكية التي هي أمر بسيط شخصي، و إنّما الشارع حكم في هبة ذي الرحم باللزوم، و في هبة الأجنبي بجواز الرجوع.

و عليه فلا يوجب الحكم باللزوم تارة و بالجواز أخرى تنوّعا في حقيقة الملك حتى يصير الملك اللازم حقيقة مباينة للملك الجائز، بل هما حكمان شرعيّان للملك يستندان إلى السبب المملّك.

(2) الأولى أن يقال: الملكية المنشئة في الهبة.

(3) هذا دليل ثان على كون اللزوم و الجواز من أحكام الملك لا من مقوّماته، و محصله:

أنّ اللزوم و الجواز لو كانا من خصوصيات الملك كان تخصيص القدر المشترك باللزوم و الجواز- الموجبين لتشخّصه- إمّا بجعل المالك، و إمّا بجعل الشارع، و لا ثالث لهما، لأنّهما إن كانا حكمين لموضوعهما فلا بد أن يكون التخصيص وظيفة الشارع، و إن كانا دخيلين في الموضوع فلا بد أن يكونا من فعل المالك، فلا ثالث في البين.

فإن كان الأوّل فلازمه التفصيل في الحكم باللزوم أو الجواز بين صور ثلاث:

إحداها: أن يقصد المالك اللزوم، و يجعله، فيحكم به لا غير.

ص: 498

بإحدى (1) الخصوصيتين بجعل المالك أو بحكم الشارع.

فان كان الأوّل (2) كان اللازم التفصيل بين أقسام التمليك المختلفة بحسب (3) قصد الرجوع (4) و قصد عدمه،

______________________________

ثانيتها: أن يقصد الجواز، و يجعله، فيحكم به دون غيره.

ثالثتها: أن لا يحكم بشي ء من اللزوم و الجواز فيما إذا لم يجعل المالك شيئا منهما و لم يقصده، بأن أنشأ الملكية المهملة عن خصوصيتي اللزوم و الجواز.

و بالجملة: يدور اللزوم و الجواز مدار قصد المالك لهما، فإذا قصد أحدهما حكم به، و إلّا فلا يحكم بشي ء منهما. و ذلك- أي دوران اللزوم و الجواز مدار قصد المالك- بديهيّ البطلان، ضرورة أنّه لا يؤثّر قصد المالك في ذلك أصلا، و لذا لو وهب لأجنبيّ عينا و لذي رحم اخرى مع الغفلة عن الجواز و اللزوم كانت الهبة الأولى جائزة و الثانية لازمة، و قصد اللزوم في الأولى يوجب البطلان، لأنّه على خلاف تشريع الهبة للأجنبي، و على فرض الصحة تكون جائزة.

و كذا الحال إذا قصد الجواز في الثانية، فإنّها لا تصح جائزة، بل إمّا تبطل و إمّا تصحّ لازمة.

فالنتيجة: أنّه ثبت بالدليلين المتقدمين كون اللزوم و الجواز من أحكام الملك.

(1) هذا و قوله: «بجعل» و «بحكم» متعلق ب «تخصيص» يعني: أنّ تعيين كلّي الملك تارة في الجائز و اخرى في اللازم إمّا يتسبّب عن قصد المالك و جعله، و إمّا يتسبب عن إرادة الشارع و حكمه، و لا ثالث لهما.

(2) أي: كان تخصيص القدر المشترك بإحدى الخصوصيتين بجعل المالك، و عليه فاسم «كان» ضمير راجع الى التخصيص.

(3) متعلق ب «المختلفة» أي: كان اختلاف حصول الملك الجائز تارة و اللازم اخرى دائرا مدار قصد المملّك الرجوع حتى يكون جائزا، و قصده عدم الرجوع حتى يكون الملك لازما.

(4) الأولى تبديله بقصد الجواز و اللزوم، و كذا قوله: «إذ لا تأثير لقصد المالك في الرجوع».

ص: 499

أو عدم قصده (1). و هو (2) بديهي البطلان، إذ (3) لا تأثير لقصد المالك في الرجوع و عدمه.

و إن كان (4) الثاني لزم إمضاء الشارع العقد على غير ما قصده (5) المنشئ، و هو (6) باطل في العقود،

______________________________

(1) أي: عدم قصد الرجوع، بأن قصد المالك التمليك المهمل العاري عن خصوصيتي اللزوم و الجواز، فيلزم أن يقع الملك المشترك بينهما، لا خصوص اللازم و الجائز. مع أنّه بديهي البطلان، إذ الملكية الاعتبارية لا تخلو من أن تقع لازمة أو جائزة، فعدم قصد الخصوصية لا يوجب وقوع الملك الجامع بين الخصوصيتين، و هذا دليل قطعي على بطلان الاحتمال الأوّل و هو دوران الجواز و اللزوم مدار قصد المالك.

(2) أي: التفصيل بين أقسام الملك- بحسب قصد الملك- باطل بالبداهة، فإنّ الهبة لغير ذي رحم تفيد ملكا متزلزلا سواء قصد الواهب الرجوع في هبته أم لم يقصده، أو قصد عدم الرجوع.

(3) تعليل لبداهة البطلان، و قد عرفته.

(4) معطوف على «فان كان الأوّل» و هذا هو الشق الثاني من المنفصلة، يعني: إذا كان تخصيص القدر المشترك بإحدى الخصوصيتين مسبّبا عن حكم الشارع باللزوم تارة و بالجواز أخرى لزم تخلف قاعدة تبعية العقود للقصود، فإذا قصد المالك في الهبة لذي رحم الجواز- لقصده الرجوع، و حكم الشارع بصحة هبته و لزومها- لزم تخلف العقد عن قصد الرجوع، مع وضوح تبعية العقود الصحيحة للقصود.

(5) لأنّ الشارع جعل الملكية اللازمة مع قصد المالك الملكية الجائزة، و بالعكس.

(6) يعني: و إمضاء الشارع العقد على غير ما قصده المنشئ باطل، لما تقدم من أنّ العقود المصحّحة شرعا تابعة للقصود، يعني: أنّ العقد الصحيح عبارة عن إمضاء الشارع العقد على النحو المقصود للمنشئ، فلا يمكن أن يكون ممضى شرعا مع مخالفته لمقصود المنشئ، فلو قصد اللّزوم مثلا لم يصحّ إمضاء الشارع لذلك العقد على وجه الجواز.

ص: 500

..........

______________________________

و عليه فلا ربط لحكم الشارع- باللزوم و الجواز- بقصد المتعاقدين أصلا، إذ لا عبرة بقصدهما في لزوم العقد و جوازه.

فإن قلت: هذا الشق الثاني من المنفصلة ممنوع، لمنع الملازمة بين قوله: «و ان كان الثاني لزم إمضاء .. إلخ» و حينئذ لا سبيل لإحراز كون الملك المنشأ في العقود أمرا بسيطا حتى يرجع الاختلاف باللزوم و الجواز إلى التعبد الشرعي، بل يحتمل كون الملك الجائز مغايرا للملك اللازم حقيقة، فلا يتم استصحاب الشخص حينئذ، و لا بد من استصحاب القدر المشترك.

وجه منع الملازمة: أنّ المصنف قدّس سرّه صرّح في مناقشة أول استبعادات كاشف الغطاء قدّس سرّه بأنّ مورد قاعدة تبعية العقود للقصود هو العقد الصحيح الذي أمضى الشارع ما قصده المتعاقدان، فإن أحرز الإمضاء تعيّن ترتب الأثر المقصود على العقد، و إن لم يحرز فلا.

و على هذا فلمّا كانت المعاطاة معاملة فعلية لم يحرز إمضاؤها شرعا لم يكن بأس بتخلّفها عن التمليك اللازم الذي قصده المتعاطيان. فلا مانع من كون الملك طبيعيا جامعا بين اللازم و الجائز، و يتوقف حصول كل واحد من النوعين أو الفردين على تعيين الشارع.

و لم يلزم منه مخالفة قاعدة التبعية أصلا، لأنّ هذه القاعدة مخصوصة بالعقود الصحيحة.

و نتيجة ذلك عدم إثبات شخصية الملك حتى يرجع اللزوم و الجواز إلى محض التعبد الشرعي.

قلت: بل الملازمة ثابتة، فإنّها مبتنية على مقدمتين مسلّمتين:

الأولى: أنّ أصالة اللزوم لا تختص بالمعاملة الفعلية المملّكة، بل تجري في العقد اللفظي المملّك، مثلا لو شكّ في أنّ الملكية المنشئة بعقد السبق و الرماية جائزة يجوز الرجوع فيها قبل إصابة النصل، أو لازمة لا يجوز الرجوع فيها؟ جرى استصحاب شخص الملك الحادث بالعقد، و يحكم بلزومه. و لا ريب في أنّ الملكية المنشئة بالعقد اللفظي حقيقة واحدة لا تعدد فيها بالنوع و المرتبة و الفرد، و يرجع اللزوم و الجواز إلى تأثير السبب المملّك، لا إلى نفس الملك.

الثانية: أنّه ثبت عدم القول بالفصل بين موارد حصول الملك، فسواء كان اللزوم و الجواز من خصوصيات السبب القولي أم من خصوصيات المسبّب- في المعاملة الفعلية-

ص: 501

لما (1) تقدّم (2) أنّ العقود المصحّحة عند الشارع تتبع القصود. و إن أمكن (3) القول بالتخلّف هنا في مسألة المعاطاة بناء على ما ذكرنا سابقا (4) انتصارا للقائل

______________________________

تجري أصالة اللزوم في الملك، لبنائهم على حجية هذا الأصل في العقود القولية و المعاملات الفعلية، و لمّا كان المستصحب في العقد اللفظي شخص الملك الحادث بالعقد كان كذلك في السبب الفعلي أيضا.

و نتيجة هاتين المقدمتين: أنّ قاعدة التبعية و إن لم تجر في المعاملة الفعلية كالمعاطاة، إلّا أنّ قاعدة اللزوم لا تختص بالمعاطاة، بل تشمل العقود اللفظية المفيدة للملك أيضا، فحينئذ نجري فيها الدليل المزبور، و هو «أنّ اللزوم و الجواز إن كانا من خصوصيات الملك بحكم الشارع لزم إمضاء الشارع العقد على غير الوجه الذي أنشأه العاقد، فيلزم تخلف العقد عنه، و هو باطل بالضرورة».

و عليه فإذا ثبت عدم كون اللزوم و الجواز في العقود اللفظية من خصوصيات الملك- بحكم الشارع- ثبت عدم كونهما من خصوصيات الملك في العقود الفعلية بحكم الشارع أيضا، لعدم القول بالفصل في حقيقة الملك بين سببها القولي و الفعلي، فاللزوم و الجواز خارجان عن حقيقة الملك مطلقا من دون فرق بين موارده من العقود اللفظية و الفعلية.

(1) تعليل لبطلان الشق الثاني من المنفصلة، و قد تقدم توضيحه بقولنا: «يعني: إذا كان تخصيص القدر المشترك بإحدى الخصوصيتين .. إلخ».

(2) حيث قال في مناقشة استبعادات كاشف الغطاء قدّس سرّه: فإنّ تبعية العقد للقصد و عدم انفكاكه عنه إنما هي لأجل دليل صحة ذلك العقد .. إلخ.

(3) غرضه رفع محذور منافاة إمضاء الشارع لقاعدة تبعية العقود للقصود، و محصل ما أفاده في رفع المنافاة هو: أنّ مورد قاعدة تبعية العقود للقصود هو العقود القولية لا الفعلية، و قد تقدّم توضيحه بقولنا: «فان قلت: هذا الشق الثاني من المنفصلة ممنوع .. إلخ».

(4) عند التعرض لأجوبة استبعادات بعض الأساطين، حيث قال: «أما حكاية تبعية العقود و ما قام مقامها .. الى أن قال: أمّا المعاملات الفعلية التي لم يدلّ على صحتها دليل فلا يحكم

ص: 502

بعدم الملك من (1) منع وجوب إمضاء المعاملات الفعلية على طبق قصود المتعاطيين.

لكن (2) الكلام في قاعدة اللزوم في الملك يشمل العقود أيضا (3).

______________________________

بترتب الأثر المقصود عليها».

(1) بيان لقوله: «ما ذكرنا».

(2) هذا جواب قوله: «و إن أمكن القول بالتخلف» و غرضه تصحيح الشق الثاني من المنفصلة المتقدمة، و قد أوضحناه بقولنا: «قلت، بل الملازمة ثابتة .. إلخ».

(3) يعني: كما تشمل المعاملات الفعلية، فقاعدة تبعية العقد للقصد و إن اختصت بالعقود اللفظية، لكن أصالة اللزوم لا تختص بالمعاطاة، بل تعمّ العقود اللفظية أيضا [1].

______________________________

[1] فتحصّل: أن المستصحب شخص الملك الحادث بالمعاطاة، و اللزوم و الجواز حكمان على هذا الموضوع، و لا اختلاف في حقيقته، إذ لو كان فإمّا أن يستند الى قصد المالك أو إلى الشارع، و كلاهما ممنوع، لما تقدّم في التوضيح.

لكن قد يشكل بأنّ اختلاف الملك الجائز و اللازم و إن كان مستندا الى السبب المملّك، إلّا أنّه لا ريب في اقتضاء الأسباب المختلفة مسببات كذلك، فعقد الهبة يقتضي ملكا جائزا، و عقد الصلح يقتضي ملكا لازما، و لو لا تفاوت اقتضاء هذين العقدين لم يعقل ترتب أمرين متفاوتين عليهما، لاستحالة تأثير المتباينين أثرا واحدا، و عليه يستكشف اختلاف المسبّب من اختلاف السبب، لامتناع تأثير أسباب مختلفة في مسبّب واحد. و بهذا يشكل استصحاب شخص الملك، إذ لا علم بالخصوصية اللاحقة.

و أجاب المحقق الأصفهاني قدّس سرّه عنه بما توضيحه: أن الأسباب و إن كانت مختلفة، إلّا أنّه لا يلزم تعدد حقيقة المسبب المترتب عليها، و ذلك لأنّ السببين المملّكين بينهما جهة اشتراك، و جهة امتياز، فبالنظر إلى الجهة الأولى يؤثّران في الملك، و إلى الثانية يؤثّران في الحكم باللزوم و الجواز. فالبيع العقدي و المعاطاة يؤثّران بجامعهما في تمليك عين بعوض، و خصوصية البيع العقدي- و هي الصيغة الجامعة لشرائط التأثير- تؤثر في جعل اللزوم،

ص: 503

______________________________

كما تقتضي خصوصية البيع الفعلي جعل الجواز. و بهذا يتجه استصحاب شخص الملك الذي اقتضته الحيثية الجامعة بين السببين «1»، هذا.

لكن يمكن أن يقال: لا يبعد أن يكون مراده قدّس سرّه إمكان تأثير الجامع بين السببين في الملك، و من المعلوم أنّ مجرد إمكان ذلك لا يجدي في استصحاب شخص الملك الحادث المترتب على السببين المختلفين، بل لا بد من إحراز وحدته. فلو شكّ في كونهما مؤثّرين بجامعهما في أصل الملك أو بخصوصيتهما حتى يكون الملك الجائز مغايرا للازم لم يتجه التمسك بدليل الاستصحاب لإحراز الشخص، بل هو مندرج في الشك في كون المستصحب الفرد أو الكلّي، و هو التقريب الثالث المتقدّم في المتن.

مضافا الى: اختصاص هذا التوجيه بالشبهة الحكمية أعني بها المعاطاة التي يحتمل فيها بقاء الملك بعد الرجوع و عدمه. و يشكل تطبيقه على الشبهة الموضوعية، كما لو تردّد العقد الخارجي بين الهبة و الصلح، إذ لا جامع أصيل بين إنشاء التسالم و التمليك المجّاني، و سببية العقود أمر واقعي و إن كان اعتباريا، و لا يكفي فيه الجامع الانتزاعي كعنوان المعاملة. مع أنّه سيأتي من المصنف قدّس سرّه التصريح بحجية أصالة اللزوم في الشبهة الموضوعية كالحكمية.

و لعلّ الأولى في حسم مادة الاشكال أن يقال: إن المستصحب شخصي لا كلّي، لأنّ كلية الملكيّة إمّا أن تكون بالنوع أو بالمرتبة أو بالفرد، و الكل ممنوع. فإنّ الملكية العقلائية و الشرعية إمّا اعتبار مقولة الجدة، و إمّا اعتبار مقولة الإضافة، و إمّا اعتبار أمر آخر، و على كل منها لا مجال للتنوع فيها، لبساطتها.

و أمّا الاختلاف بالشدة و الضعف فكذلك، لفقدان مناط التشكيك فيها، إذ مناطه أن يكون لحقيقة الشي ء عرض عريض كالنور و السواد و البياض و نحوها ممّا يكون بعض مراتبه أشدّ من بعض. و أمّا إذا كان هناك شيئان تصدق الطبيعة عليهما على السواء- و إن كان أحدهما باقيا لبقاء علته و الآخر زائلا بزوال علّته- كان أجنبيا عن الكلي المشكّك، فلا يصح أن

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 33.

ص: 504

______________________________

يقال: ان زيدا مالك للشي ء الكذائي و أملك للآخر، و لا أنّ الشي ء الفلاني مملوك و الآخر أشدّ مملوكا منه.

مع أنه تقرّر عند أهله اختصاص الشدة و الضعف بالحركة، و الأمور الاعتبارية أجنبية عن الاشتداد و الضعف المخصوصين بالمقولة الواقعية كالكيف. و عليه فليست الملكية اللازمة مرتبة قوية و الجائزة ضعيفة.

و أمّا الاختلاف الفردي بأن يكون الملك اللازم و الجائز فردين لطبيعة نوعية واحدة كزيد و عمرو، فممنوع أيضا، ضرورة أنّ الملكية المنشئة بالعقد الخياري أو بالهبة الجائزة تصير بنفسها لازمة بانقضاء الخيار أو بتصرف المتهب، لا أنّ الملكية الجائزة تنعدم و يحدث فرد آخر، أو تنقلب إليه. لاستحالة كليهما.

أمّا انعدام فرد و حدوث آخر فلتوقف الحدوث على الإنشاء سواء قلنا بالتسبيب أم بالموضوع و الحكم، و المفروض عدم حدوث إنشاء آخر غير العقد الخياري أو العقد الجائز.

و أما الانقلاب فلما قيل من استحالة انقلاب الموجود عمّا هو عليه.

و بالجملة: فالبرهان يقتضي الالتزام بكون الملكية المنشئة حقيقة واحدة في السبب المفيد للجواز و اللزوم، فيحكم عليها في برهة بالجواز، و في أخرى باللزوم.

بل هذا هو مقتضى مقام الإثبات أيضا، فإنّ قوله عليه الصلاة و السلام: «فإذا افترقا وجب البيع» ظاهر في صيرورة نفس البيع الجائز لازما بالتفرق عن مجلس المعاملة، لا حدوث فرد آخر أو مرتبة اخرى.

هذا كله في امتناع تعدد الملكية الاعتبارية في نفسها.

و أمّا احتمال كون اللزوم و الجواز موجبين للتعدد النوعي أو الصنفي أو الفردي، فيدفعه: أنّ هذا الاختلاف ليس بذاته مع الغضّ عن الأسباب المملّكة، بل بملاحظتها، بداهة اختلاف الأسباب في اقتضاء اللزوم و الجواز عند العقلاء، فإنّ العقد عندهم على قسمين لازم و جائز، فالملك يتبع سببه أيضا كذلك.

ص: 505

______________________________

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ العقد اللازم إمّا سبب قهريّ للملك اللازم و واسطة ثبوتية له، بأن ينسب اللزوم إلى الملك حقيقة، و إمّا واسطة عروضية له بحيث ينسب اللزوم الى العقد أوّلا و بالذات و إلى الملك ثانيا و بالعرض. لا سبيل إلى الأوّل كما ثبت في محله من امتناع السببية الحقيقية للأسباب العقلائية و التشريعية، فيتعين الثاني و هو الوساطة العروضية، و كون اتصاف الملك باللزوم و الجواز بالعرض و المجاز، و من المعلوم أنّه لا يوجب الاختلاف نوعا أو صنفا أو شخصا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا: أنّ استصحاب الملك شخصي، و لا إشكال فيه، و ليس كلّيا.

و قد ظهر مما بيّنا ضعف الاستدلال لاختلاف المسبّبات بسبب اختلاف الأسباب.

و كذا ضعف الاستدلال «بأنّ اختلاف الأسباب لو لم يكن موجبا لاختلاف المسببات لا يقتضي اختلاف الأحكام» و ذلك لأنّه إن أريد باختلاف الأحكام اختلاف أحكام الأسباب، فهو لا يقتضي إلّا اختلاف الأسباب، لا اختلاف المسبّبات.

و إن أريد به اختلاف أحكام المسبّبات- مع كون المقصود بالأحكام اللزوم و الجواز- ففيه: أنّه مصادرة.

و إن أريد به كشف الأسباب المختلفة عن المسببات المختلفة، ففيه: أنّه غير صحيح، لما عرفت من عدم السببية الحقيقية في الأسباب العقلائية و التشريعية. هذا.

ثم إنّه بناء على كون الملك كلّيا، و أنّ اللزوم الجواز من الخصوصيات المنوّعة له يشكل جريان الاستصحاب فيه، لا لأجل الإشكالات التي أوردوها على استصحاب الكلي في الأصول، لأنّها واضحة الدفع، بل لأجل عدم وجود للجامع بين الأفراد الذي هو موضوع الأثر، إذ الموجود في كل فرد حصة من الكلي متخصصة بخصوصية مباينة لخصوصية اخرى مخصصة لحصة أخرى من الطبيعة، فلا يصدق شي ء من الحصص الموجودة على الأخرى، لمباينتها لها، و مع عدم وجود الجامع كيف يصح استصحابه؟ فحينئذ يصعب جريان استصحاب الكلي و ينحصر في الشخصي، فتدبّر.

و يمكن دفعه بأن يقال: إنّ موضوع الحكم إن كان وجود الكلي بحده الجنسي

ص: 506

و بالجملة (1): فلا إشكال في أصالة اللزوم في كل عقد (2) شكّ في لزومه شرعا.

و كذا (3) لو شكّ في أنّ الواقع في الخارج هو العقد اللازم أو الجائز كالصلح من

______________________________

(1) هذه خلاصة ما حقّقه المصنف قدّس سرّه في جريان استصحاب الملك في الشبهة الحكمية- عند الشك في لزومه و جوازه- بتقاريب ثلاثة تقدمت مفصّلا.

(2) مملّك، لا كلّ عقد و لو غير مملّك أيضا، و لذا لا تجري قاعدة اللزوم في العقد المردّد بين كونه قرضا و بين كونه وديعة، لعدم إحراز أصل الملك حتى تجري أصالة اللزوم في الشك في اللزوم و الجواز كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في جريان أصالة اللزوم في الشبهة الحكمية التي هي المقصد الأصلي من عقد البحث، إذ الغرض المهم في المقام هو إثبات ترتب الملك اللازم على المعاطاة بعد الفراغ عن ترتب أصل الملك عليها. و سيأتي لهذا الأصل تتمة في جريانه في الشبهة الموضوعية إن شاء اللّه تعالى.

(3) هذا إشارة إلى حجية أصالة اللزوم في الشبهة الموضوعية كالحكمية. و كلامه قدّس سرّه يتضمن جهتين من البحث:

إحداهما: بيان الحكم الكلّي، أي ما يفتي به الفقيه في كل مورد تردّد العقد الخارجي

______________________________

لا الفصلي فالمعلوم هو نفس الجنس، و لا مانع من استصحابه و إن كان الجنس لا يوجد إلّا بالفصل، لكن لمّا لم يكن الفصل ملحوظا في مقام موضوعية الجنس فيصح أن يقال: إنّ الكلي علم بوجوده و شك في بقائه، فيستصحب.

و هذا نظير الحدث الذي هو موضوع لحرمة مسّ الكتاب العزيز فإذا علم بحدث مردّد بين الأصغر و الأكبر جاز استصحابه، فالمراد باستصحاب الكلي هو استصحاب الجنس المعلوم وجوده في ضمن فصل. إلّا أن الفصل لعدم دخله في موضوع الحكم غير ملحوظ حال الشك في بقاء الكلي، فإذا كانت الخصوصية الفصلية أو الفردية دخيلة في موضوع الحكم و تردّدت بين الخصوصيتين لا يجري استصحاب الجامع، لكونه مثبتا، بداهة مثبتية الأصل الجاري في الكلي لإثبات أحد الفردين أو كليهما، بل يعامل معه معاملة العلم الإجمالي بوجود موضوع ذي حكم مردّد بين موضوعين، فيحتاط بالجمع بين كلتا الوظيفتين.

ص: 507

دون عوض، و الهبة (1).

نعم (2) لو تداعيا احتمل

______________________________

المملّك بين كونه مفيدا للزوم و الجواز، كما لو شك في أنّ المنشأ صلح على هذه العين بلا عوض حتى يكون العقد لازما، أم هبة حتى يكون العقد جائزا يصح فيه الرجوع؟ فيبني على لزوم العقد باستصحاب الملك، و إن لم يترتب عليه أحكام عقد الصلح، لقصور الأصل الجاري في الجامع بين الخصوصيتين عن إثبات خصوصية الحادث. و الظاهر أنّ المستصحب هنا هو الكلّي لا شخص الملك.

ثانيتهما: بيان حكم ترافع المتعاقدين، و ادّعاء أحدهما وقوع عقد لازم، و الآخر وقوع عقد جائز حتى يصح معه الرجوع. و الحكم هنا يبتني على ما هو مذكور في كتاب القضاء من أنّ العبرة بالغرض من الترافع أم بمصبّ النزاع؟ و سيأتي بيان حكم هذه الصورة.

(1) أي: هبة غير ذي رحم، و إلّا كان العقد الواقع لازما على كل حال، لكون الصلح لازما.

فتحصل: أنّ أصالة اللزوم تجري في الملك مطلقا من غير فرق بين كونه ناشئا من العقود اللفظية و الفعلية، فإنّ للملك حقيقة واحدة في جميع العقود.

(2) استدراك على قوله: «و كذا لو شك .. إلخ» و هذا إشارة إلى الجهة الثانية مما تعرض له في الشبهة الموضوعية، يعني: أنّ مقتضى أصالة اللزوم- مع شك كلّ من المتعاقدين في كون الواقع عقدا لازما أو جائزا- هو البناء على اللزوم، و عدم تأثير رجوع المالك الأصلي في الفسخ لكنه في صورة الاختلاف و الترافع هو التحالف، كما لو ادّعى أحدهما العلم باللزوم لكون العقد الواقع صلحا، و ادعى الآخر العلم بالجواز و أنّه هبة.

توضيحه: أنّه تارة يكون الغرض من الدعوى تعيين خصوصية السبب الواقع، و أنّه صلح أو هبة، و أخرى يكون الغرض بقاء الملك بالرجوع و عدمه.

ففي الصورة الأولى يرجع الى التحالف، لعدم أصل يقتضي تعيين العقد الواقع، و قول كلّ منهما مخالف للأصل، فكلّ منهما مدّع لشي ء ينكره الآخر، فينطبق على هذه الصورة ضابطة التحالف التي هي ادّعاء كلّ من المتداعيين على الآخر ما ينفيه الآخر، بدون الاتفاق على أمر واحد، كما في الحدائق التصريح به «1».

______________________________

(1): الحدائق الناظرة، ج 19، ص 197.

ص: 508

التحالف (1) في الجملة (2).

[الدليل الثاني: حديث السلطنة]

و يدل (3) على اللزوم- مضافا إلى ما ذكر (4)- عموم قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [قولهم]:

«الناس مسلّطون على أموالهم (5)» «1»

______________________________

و إن شئت فقل: إنّ قول كلّ منهما موافق للأصل من جهة و مخالف له من جهة أخرى.

و في الصورة الثانية يقدّم قول من يدّعي انتفاء الملكيّة بالرجوع، لمخالفة قوله لقاعدة اللزوم.

(1) و يقابل هذا الاحتمال ما عن المشهور من احتمال كون اليمين على مدّعي الجواز، و إن كانت صورة الدعوى تعيين العقد. و هذا وجيه، لأنّ المدار في المرافعات على أغراض المترافعين و نتيجة دعواهم، و من المعلوم أنّه لا أثر لتعيين العقد إلّا ما يترتب عليه من الأثر و هو اللزوم أو الجواز.

و ما عن الجواهر من «احتمال التحالف مطلقا سواء أ كانت صورة الدعوى تعيين العقد أم الجواز و اللزوم» لا يخلو من غموض. و التفصيل في محله.

(2) و هو الصورة الأولى، و هي كون الغرض تعيين العقد الواقع.

الدليل الثاني: حديث السلطنة

(3) هذا هو الدليل الثاني على أصالة اللزوم، و هذا و ما بعده من عمومات الكتاب و السنة تدل على أصالة اللزوم في الملك بما أنّها أصل لفظي لا عملي، و لذا كان الأنسب تقديم هذه الأدلة السبعة على ما ذكره من الاستصحاب كما لا يخفى وجهه.

(4) و هو أصالة اللزوم في الملك.

(5) هذا تقريب الاستدلال بالحديث الشريف النبوي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أصالة اللزوم في الملك بالإطلاق.

و محصّل تقريب الاستدلال- على نحو لا يرد عليه إشكال الشبهة المصداقية- هو: أنّه قد تقدم في أدلة مملكية المعاطاة أنّ هذا الحديث و ان كان قاصرا عن إثبات مشروعية

______________________________

(1): بحار الأنوار، ج 2، ص 272، عوالي اللئالي، ج 1، ص 222.

ص: 509

..........

______________________________

الأسباب، إلّا أنّه يدل على سلطنة المالك على أنحاء التصرفات في ماله، سواء أ كان تصرفا خارجيا أم اعتباريا.

و على هذا نقول: إنّ مقتضى تشريع سلطنة مطلقة للمالكين على أموالهم هو جواز كل تصرف للمالك بمجرّد تحقق التعاطي المفيد للملك حسب الفرض، و منع الغير عن التصرفات المزاحمة، و من المعلوم أنّ فسخ المالك الأوّل و تملّكه لما انتقل عنه بالمعاطاة ينافي تلك السلطنة المطلقة، فيدفع بإطلاق السلطنة، و يثبت به عدم نفوذ فسخه، و لا نعني بلزوم الملك إلّا عدم تأثير فسخ المالك الأوّل فيه.

فإن قلت: إنّ التمسك بهذا الحديث للزوم الملك تشبّث به في الشبهة المصداقية، لأنّ موضوع السلطنة هو المال المضاف إلى المالك، و أنّ السلطنة مترتبة على هذه الإضافة ترتّب الحكم على موضوعه، و من المعلوم أنّ إطلاق السلطنة- كسائر الأحكام- لا يقتضي حفظ الموضوع، إذ ليس شأن الحكم ذلك، بل الحكم يثبت على تقدير وجود الموضوع من باب الاتفاق، فانحفاظ ملكيّة المال للمالك خارج عن مدلول السلطنة التي هي متفرعة على هذه الإضافة، و لعلّ رجوع المالك الأوّل يرفع موضوع السلطنة و هو ملكيّة المال للمالك الآخذ، لاحتمال خروجه عن ملكه برجوع مالكه الأصلي، و حينئذ لا يمكن تطبيق القاعدة، لعدم إحراز موضوعها.

و لو قيل بأنّ الاستصحاب يقتضي بقاء المال على ملك من انتقل إليه بالمملّك الشرعي، قلنا: انه رجوع عن الاستدلال بقاعدة السلطنة على اللزوم إلى الاستصحاب، هذا.

قلت: لا يرد هذا الاشكال، و ذلك لأنّ مقتضى إطلاق السلطنة الفعليّة للمالك على ماله هو المنع عن المزاحمات التي منها تملّك الغير له بالفسخ، فإنّ تملّك الغير ينافي سلطنة المالك بداهة، فالقاعدة تقتضي عدم تأثير الفسخ في رجوع المال إلى ملك مالكه الأوّل، و لا نعني باللزوم إلّا عدم نفوذ تملك المالك الأصلي له بالفسخ.

و بالجملة: فاحتمال خروج المال عن ملك المالك بلا إذنه منفي بقاعدة السلطنة، فليست الشبهة مصداقيّة حتى لا يجوز التمسك بالقاعدة.

ص: 510

فإنّ (1) مقتضى السلطنة أن لا يخرج (2) عن ملكيته (3) [ملكه] بغير اختياره، فجواز تملّكه (4) عنه بالرجوع فيه من دون رضاه مناف للسلطنة المطلقة.

فاندفع (5) ما ربما يتوهم من (6): أن غاية مدلول الرواية سلطنة الشخص على ملكه، و لا نسلّم ملكيّته له بعد رجوع المالك الأصلي (7) [1].

______________________________

(1) هذا تقريب الاستدلال بالحديث، و محصله: ظهوره في أنّ المجعول هو السلطنة المطلقة غير المحدودة بشي ء، فإذا تحققت إضافة الملكية بالمعاطاة مثلا وقعت جميع شؤون المملوك تحت اختيار المالك الفعلي و سلطنته، و لم يجز لغيره- سواء كان هذا الغير المالك الأوّل أم شخصا أجنبيا- أن ينتزع المال من مالكه بدون رضاه، و من المعلوم أنّ المال لو لم يكن ملكا لازما للمتعاطي لجاز للمالك الأوّل أن يستردّه منه، و لم تكن سلطنة المتعاطي مطلقة، بل كانت مقيّدة بعدم رجوع الطرف، مع أنّ مدلول الحديث سلطنة المالك مطلقة و غير مقيّدة برجوع الآخر و عدم رجوعه، و هذا هو اللزوم.

(2) الضمير المستتر و ضميرا «تملّكه، فيه» راجعة إلى المال.

(3) هذا الضمير و ضمائر «اختياره، عنه، رضاه» راجعة إلى المالك، المستفاد من العبارة.

(4) يعني: إذا جاز للمالك الأوّل أن يتملّك المال بالرجوع كان منافيا للسلطنة المطلقة للمالك الفعلي.

________________________________________

جزائرى، سيد محمد جعفر مروج، هدى الطالب في شرح المكاسب، 7 جلد، مؤسسة دار الكتاب، قم - ايران، اول، 1416 ه ق

هدى الطالب في شرح المكاسب؛ ج 1، ص: 511

(5) هذه نتيجة تقريب الاستدلال، و مقتضاه عدم المجال لاحتمال كون المقام من التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية، الذي تقرّر عدم جوازه في الأصول.

(6) قد تقدّم توضيح هذا التوهم بقولنا: «فان قلت: ان التمسك بهذا الحديث .. إلخ» كما تقدّم جوابه بقولنا: «قلت: لا يرد هذا الإشكال».

(7) إذ لعلّه عاد بالرجوع الى ملك المالك الأوّل، و يرتفع موضوع سلطنة المالك الفعلي حينئذ. هذا تمام التوهم. و لم يذكر المصنف قدّس سرّه جوابه اتكالا على ما أفاده في تقريب الاستدلال بالحديث، و قد تقدم توضيحه.

______________________________

[1] قد استشكل في هذا النبوي تارة بضعف السند.

و أخرى بأنه غير مسوق لبيان أنحاء السلطنة ليكون دليلا على لزوم العقد بمعنى عدم

ص: 511

______________________________

جواز الرد، لمنافاته لإطلاقها، بل مفاده عدم الحجر و استقلال المالك فيما ثبت مشروعيته.

و ثالثة- بعد تسليم دلالته على جعل السلطنة- بأنه لا إطلاق له، بل الثابت السلطنة في الجملة، و هو غير مجد في المقام.

و رابعة بأنّ التمسك بالحديث لعدم نفوذ رجوع المالك الأصلي في عود المال إليه منوط بجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لأنّه يشك في كون رجوعه فسخا للمعاملة و موجبا لعود المال إلى مالكه، و مع الشك لا مجال للتشبث بدليل السلطنة كما هو واضح، هذا.

أقول: قد اتضح مما ذكرناه حول الحديث- في أدلة مملكية المعاطاة- حال الإشكالات الثلاثة الأول، و لا حاجة الى الإعادة.

إنما الكلام في الاشكال المختص بالمقام و هو شبهة اندراجه في التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية، فنقول: لا ريب في كون دليل السلطنة معلّقا على عدم مزاحمة سلطنة العبد لسلطنة مولاه. لكنه منوط باحرازها بالعلم بها أو بقيام الحجة عليها. و أمّا مع الشك في تحقق سلطنة المولى يبنى على عدمها كالشك في ورود المخصص اللفظي أو الوارد أو الحاكم، فإنّه لا أثر لمجرّد احتمالها- بعد الفحص عنه و عدم الظفر به- في قبال إطلاق الدليل اللفظي، و لا وجه لرفع اليد عنه بمجرد الاحتمال المزبور.

فهو نظير ما إذا ورد «أكرم العلماء» و احتمل خروج شعرائهم عن حيّز وجوب الإكرام، أو ورد «كل مشكوك الحكم حلال» و احتمل قيام أمارة على حرمة شرب التتن، و من المعلوم أنّ هذه الأمارة على فرض وجودها واردة أو حاكمة على دليل حلية مشكوك الحكم، و لكن لا نرفع اليد عن هذا الدليل بصرف احتمال قيام أمارة على الحرمة، كما لا نرفع اليد عن عموم دليل وجوب «إكرام العلماء» بمجرد احتمال ورود دليل على حرمة إكرام شعرائهم.

و كذا الحال في دليل السلطنة، فلا نرفع اليد عن إطلاقه بمجرّد احتمال وجود الرافع.

نعم لا بد في التمسك بالإطلاق من الفحص عن المقيّد كما ثبت في محلّه.

ص: 512

______________________________

ثم إنّ هنا إشكالا آخر على الاستدلال أفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه بقوله: «ان المنفي بالالتزام هي السلطنة المنافية لسلطنة المالك على جميع التصرفات الواردة على المال، دون غيرها من أنحاء السلطنة .. و ليس سلطنة الغير على الرجوع سلطنة على تملك المال على حدّ سلطنة الشفيع على تملك مال المشتري ببذل مثل الثمن لتكون مزاحمة لسلطان المالك، بل سلطنة على الردّ و الاسترداد، فهو في الحقيقة سلطنة على إزالة الملكية، و المالك له السلطان على الملك لا على الملكية ..» «1».

و محصّله: أنّ الفسخ و الرجوع يؤثّر في إبطال موضوع السلطنة، و بيانه: أنّ مقتضى ترتب السلطنة على «أموالهم» تأخّرها رتبة عن إضافة الملكية تأخّر كل حكم عن موضوعه، و الإضافة متأخرة عن العقد المملّك كالمعاطاة، و حيث إنّ نسبة الفسخ الى العقد نسبة الرافع إلى المرفوع فلو فسخ المالك الأصلي كان مقتضاه إعدام العقد الموضوع لإضافة الملكية الموضوعة للسلطنة، و مع تأخر سلطنة المتعاطي عن العقد- الذي ينحلّ بالفسخ و الرجوع- برتبتين لم تكن سلطنته بقول مطلق منافية لتأثير الفسخ في إعدام العقد، لاستحالة تكفل الحكم إبقاء موضوع نفسه، و لا تأثيره في أمر متقدم بالرتبة على موضوع نفسه.

و بعبارة أخرى: الفسخ يزيل العقد، و سلطنة المتعاطي لا تمنع من تأثير الفسخ، لقيامها بموضوعها و هو الملكية الناشئة من العقد.

و عليه فلا يصلح الحديث لإثبات أصالة اللزوم، فإنّ دلالته إنّما هي بمدلوله الالتزامي و هو اقتضاء سلطنة المالك- على جميع التصرفات سلطنة مطلقة- عدم سلطنة الغير على ما يزاحم هذه السلطنة المطلقة، و إلّا لم تكن مطلقة. و أنت خبير بأن موضوع هذه السلطنة المطلقة المال المضاف- بإضافة الملكية- إلى المالك. و مع تعلق الفسخ بالعقد الموجب للملكية لا مجال لنفيه بإطلاق سلطنة المالك لكل تصرف في ملكه، هذا.

و هذا البيان و إن لم يخل عن قوّة و دقّة، إلّا أنّه يمكن أن يقال: انّ الفسخ و إن تعلق

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، 34.

ص: 513

و لما (1) ذكرنا تمسّك المحقّق قدّس سرّه في الشرائع على لزوم القرض بعد القبض بأنّ (2)

______________________________

(1) أي: و لأجل كون مقتضى السلطنة المطلقة على الملك عدم خروجه عن ملكه بغير اختياره تمسّك المحقق في الشرائع على لزوم القرض- الذي هو من موجبات الملك- بأنّ فائدة الملك السلطنة. و غرض المصنف إقامة الشاهد على ما استظهره من الحديث النبوي من دلالته على جعل السلطنة المطلقة للملّاك على أموالهم، و أنّ تحديدها بشي ء يتوقف على دليل.

قال المحقق: «القرض يملك بالقبض، لا بالتصرف، لأنّه فرع الملك، فلا يكون مشروطا به. و هل للمقرض ارتجاعه؟ قيل: نعم و لو كره [اكره] المقترض. و قيل: لا، و هو الأشبه، لأنّ فائدة الملك التسلّط» «1».

(2) يعني: أنّ فائدة ملك المقترض هي السلطنة على العين المقترضة، و هذه السلطنة مانعة عن رجوع المقرض، فليس له الرجوع بدون إذن المديون، لأنّ تملّكه برجوعه مناف لسلطنة المقترض على ماله، فلا ينفذ. فدليل السلطنة يدلّ بالدلالة الالتزامية على عدم جواز الرجوع، و عدم نفوذه، لأنّ لازم نفوذه عدم سلطنة المالك على ماله.

______________________________

بالعقد ابتداء لا بالمال، لكن الظاهر عدم موضوعية حلّ العقد بما هو، و إنّما الغرض التوسل بالفسخ الى استرداد المال، و إخراجه عن ملك مالكه الفعلي، كما أنّ نفس العقد طريق لتملّك مال الغير، و حينئذ فلو كان لغير المالك حق الفسخ و الرجوع كان معناه سلطنته على إخراج المال عن ملك مالكه الفعلي رغما لأنفه و بلا طيب نفسه، و هذا ينافي جدّا- بحسب النظر العرفي- لجعل سلطنة مطلقة للمالك، لفرض عدم مانعيّتها عن تصرّف غير المالك بفسخ العقد.

و حديث تعدد الرتبة و إن كان صحيحا، لكنّه أجنبي عن باب الاستظهار العرفي المعوّل عليه في الخطابات الشرعية. و عليه فهذا الاشكال يمكن منعه.

و المتحصّل: أنّ المهم في الاستدلال بحديث السلطنة هو إحراز مشرّعيته و عدم كونه في مقام بيان أمر عدمي، و هو استقلال المالك و عدم حجره عن التصرفات المشروعة في نفسها. و المسألة لا تخلو بعد من تأمّل.

______________________________

(1): شرائع الإسلام، ج 2، ص 68.

ص: 514

فائدة الملك السلطنة. و نحوه العلّامة قدّس سرّه في موضع آخر (1).

[الدليل الثالث: حديث توقف حلية مال الغير على طيب نفسه]

و منه (2) يظهر جواز التمسك بقوله عليه السلام: «لا يحلّ مال امرء إلّا عن طيب نفسه»

______________________________

فالمتحصل: أنّه لا ينبغي الإشكال في كون تملّك مال الغير بلا إذنه- و بدون طيب نفسه- منافيا لسلطنة المالك، فيدفع بإطلاق دليل السلطنة.

(1) يعني: غير كتاب القرض، و لعلّ مقصود المصنف ما أفاده العلامة في بيع التذكرة بقوله: «يجوز بيع كل ما فيه منفعة، لأنّ الملك سبب لإطلاق التصرّف» «1».

و في قرض المختلف ما يستفاد منه المطلب أيضا، حيث قال- في مسألة عدم جواز استرجاع المقرض العين المستقرضة- ما لفظه: «و قال ابن إدريس: ليس له ذلك إلّا برضى المقترض. و هو الأجود. لنا: أنّه ملكه بالقرض و القبض، فلا يتسلّط المالك على أخذه منه، لانتقال حقه الى المثل أو القيمة» «2» لدلالته على اقتضاء الملك السلطنة على التصرف في ماله، و إنّما لا يجوز للمقرض الرجوع في العين من جهة انقطاع إضافته عن العين بمالها من المشخّصات، و انتقال حقه الى البدل.

الدليل الثالث: حديث توقف حلية مال الغير على طيب نفسه

(2) يعني: و من تقريب الاستدلال- على أصالة اللزوم في الملك- بحديث السلطنة يظهر جواز التمسك بقوله عليه السّلام: «لا يحل ..» و هذا هو الدليل الثالث على أصالة اللزوم، و ينبغي البحث أوّلا في متن الحديث و سنده، ثم دلالته على المدّعى، فنقول: لم أظفر في كتب الأخبار بالنصّ المذكور في المتن، إذ فيها روايات خمس تختلف عمّا أثبته المصنف قدّس سرّه.

الاولى: معتبرة سماعة و زيد الشحام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث: «ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنّه لا يحلّ دم

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 464.

(2) مختلف الشيعة، ج 5، ص 392.

ص: 515

..........

______________________________

امرء مسلم و لا ماله إلّا بطيبة نفس منه [نفسه]» «1».

الثانية: ما في تحف العقول عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنه قال في خطبة حجة الوداع: أيّها الناس إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، و لا يحلّ لمؤمن مال أخيه إلّا عن طيب نفس منه» «2».

الثالثة: ما في عوالي اللئالي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يحلّ ماله إلّا عن طيب نفس منه» «3».

الرابعة: رواية محمد بن زيد الطبري، قال: «كتب رجل من تجّار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه السّلام: يسأله الإذن في الخمس، فكتب إليه: بسم اللّه الرحمن الرحيم .. لا يحلّ مال إلّا من وجه أحلّه اللّه» «4».

الخامسة: ما في التوقيع المبارك إلى محمد بن جعفر الأسدي- في جواب مسائله عنه عليه الصلاة و السلام: «و أمّا ما سألت عنه من أمر الضياع التي لناحيتنا، هل يجوز القيام بعمارتها و أداء الخراج منها، و صرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية، احتسابا للأجر، و تقرّبا إليكم، فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه، فكيف يحلّ ذلك في ما لنا، من فعل شيئا من ذلك بغير أمرنا فقد استحلّ منّا ما حرّم عليه، و من أكل من أموالنا شيئا فإنّما يأكل في بطنه نارا، و سيصلى سعيرا» «5».

و هذا التوقيع الشريف و إن كان مرسلا في الاحتجاج، لكنه مسند بنقل الصدوق في

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 3، ص 424، الباب 3 من أبواب مكان المصلي، الحديث: 1، و رواه أيضا في ج 19، ص 3، الباب 1 من أبواب قصاص النفس، الحديث: 3.

(2) وسائل الشيعة، ج 3، ص 425، الحديث: 3.

(3) عوالي اللئالي، ج 3، ص 473، الحديث: 1، و بمضمونه الحديث 3 من نفس الصفحة، و في ج 1، ص 222، الحديث: 898 و ج 2، ص 113 و 240.

(4) وسائل الشيعة، ج 6، ص 375، الباب 3 من أبواب الأنفال و ما يختص بالإمام، الحديث: 2.

(5) بحار الأنوار، ج 53، ص 183، كمال الدين و تمام النعمة ص 485، طبع النجف الأشرف، و فيه «و لا يحل» بدل «فلا يحل». وسائل الشيعة، ج 6، ص 377، الباب 3 من أبواب الأنفال، الحديث: 6.

ص: 516

..........

______________________________

كمال الدين، فلا وجه لرميه بالإرسال بقول مطلق، فلاحظ.

و عدم انطباق ما في المتن على إحداها واضح، فيحتمل أنّ المصنف قدّس سرّه نقل المضمون و المعنى لا اللفظ، و يحتمل سهو الناسخ.

و كيف كان فتقريب الاستدلال بما في المتن: أنّ الحديث يدلّ على كون سبب حلية التصرف في أموال الناس منحصرا في رضا الملّاك، و أنّه لا يجوز لغير المالك شي ء من التصرفات، و حيث إنّ المال انتقل الى ملك المتعاطي بنفس المعاطاة لم يجز للغير- سواء أ كان هو المالك السابق أم أجنبيا عن المعاملة- أن يتملّك ذلك المال بدون رضا مالكه الفعلي، حيث إن تملّكه كذلك مناف لانحصار سبب الحلّ في الرضا و طيب النفس، كمنافاة تملكه بدون رضاه لسلطنة المالك المطلقة.

و عليه فانحصار سبب الحلّ في رضا المالك يكشف عن عدم نفوذ فسخ المالك الأصلي، لأنّ الفسخ و الرجوع تصرّف في مال من انتقل إليه المال بالمعاطاة، و كل تصرّف غير مقرون برضا المالك ممنوع شرعا، فلا عبرة برجوع المالك الأصلي، و هذا معنى لزوم الملك بالمعاطاة.

فإن قلت: إنّ موضوع حرمة التصرف و التملك هو المال المضاف إلى الغير، فما دام هذا الموضوع محقّقا ثبتت الحرمة، و إلّا فلا، إذ لا يتكفل الحكم لموضوعه نفيا و إثباتا.

و عليه فالتمسك بأحاديث الحل على لزوم المعاطاة لا يخلو من شبهة التشبث بالدليل في الشبهة الموضوعية، إذ لو اشترى زيد كتابا من عمرو بدينار- بالمعاطاة- حرم على عمرو التصرف في الكتاب ما لم يرجع عن بيعه، لأنّه تصرف في مال الغير. و أمّا إذا رجع و فسخ المعاطاة احتمل خروج الكتاب عن ملك زيد و انتقاله إلى ملك نفسه، لاحتمال إفادة المعاطاة ملكا جائزا، فلم يحرز حينئذ كون الكتاب مال زيد كي يترتب عليه حكمه- أعني به حرمة تصرّف عمرو فيه- حتى يستكشف منها لزوم المعاملة.

قلت: لا مجال لهذه الشبهة، لما تقدم في حديث السلطنة، من أنّه ليس المجعول سلطنة

ص: 517

حيث (1) دلّ على انحصار سبب حلّ مال الغير (2) أو جزء (3) سببه في (4) رضا المالك، فلا يحل (5) بغير رضاه.

______________________________

مهملة حتى يتطرّق إليه الشك في تأثير الرجوع، بل السلطنة مطلقة، و نقول هنا: إنّ المقرّر في الأصول: إفادة حذف المتعلّق للعموم، و في المقام يكون الفعل المحذوف المتعلق بالمال في قوله عليه السّلام: «لا يحل مال امرء» كل فعل يتعلّق بمال الغير سواء أ كان تصرفا خارجيا كالأكل و الشرب و اللبس و مطالعة الكتاب و سكنى الدار و نحوها، أم تصرفا اعتباريا كتملكه و بيعه و وقفه، و عليه فكلّ تصرف في مال الغير منهي عنه إلّا إذا كان بطيب نفس المالك، فلا ينفذ تملكه إلّا بإذنه، فلا أثر لرجوع المالك الأوّل.

و بهذا ظهر أجنبية المقام عن التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية، لدلالة الحديث على أنّ نفس رجوع المالك الأوّل- الذي يوجب الشك في انقطاع إضافة المال الى الغير و هو المتعاطي- مما لا عبرة به، لانّ الرجوع الموجب لخروج المال عن ملك المتعاطي منهيّ عنه و غير نافذ شرعا.

(1) هذا تقريب الاستدلال، و قد تقدم توضيحه آنفا بقولنا: «و كيف كان فتقريب الاستدلال بما في المتن .. إلخ».

(2) كما في موارد إباحة المالك ماله للغير كالإذن له في شربه و أكله، فإنّ الرضا هنا سبب منحصر لحلية تصرف غير المالك.

(3) معطوف على «سبب» أي: دلّ على انحصار جزء سبب الحلّ في رضا المالك، و ذلك كما في موارد التمليك بالعوض كالبيع أو بلا عوض كالهبة، فإنّ الرضا جزء السبب، و جزؤه الآخر هو العقد سواء أ كان قوليّا أم فعليّا.

(4) متعلق ب «انحصار».

(5) أي: فلا يحلّ مال الغير من دون رضا مالكه.

ص: 518

و توهّم (1) تعلّق الحلّ بمال الغير (2)، و كونه (3) مال الغير- بعد الرجوع- أوّل الكلام- مدفوع (4) بما تقدّم (5) من أن تعلّق الحلّ بالمال يفيد العموم، بحيث يشمل التملّك أيضا (6)، فلا يحلّ (7) التصرف فيه، و لا تملّكه إلّا بطيب نفس المالك [1].

______________________________

(1) غرض المتوهّم درج المقام في التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية، و هو ممنوع عندهم.

(2) يعني: أنّ قوله عليه السّلام: «لا يحل» متعلق ب «مال امرء» و من المعلوم أن الحكم بالحرمة منوط بإحراز كون المال «مال امرء» حتى لا يجوز التصرف فيه، و المفروض الشكّ في بقاء إضافة الملكية بعد الرجوع و الفسخ.

(3) أي: لم يحرز كون المال مال الغير بعد رجوع المالك الأصلي حتى يحرم عليه التصرف فيه.

(4) خبر «و توهّم» و تقدم توضيحه بقولنا: «قلت: لا مجال لهذه الشبهة، لما تقدّم ..».

(5) يعني: في حديث السلطنة، فكما أنّ حذف متعلق السلطان يفيد إطلاق السلطنة المجعولة، كذلك يفيد حذف متعلق «لا يحلّ» عموم التصرف، الشامل للخارجي و الاعتباري، و من المعلوم أنّ المالك الأصلي لو فسخ المعاملة و تملّك- ما باعه بالمعاطاة- كان فسخه تصرّفا في مال غيره، فهذا الفسخ غير نافذ.

(6) كما يشمل التصرّف الخارجيّ كالأكل و الشرب و ركوب الدابة و نحوها.

(7) هذا متفرّع على عموم حرمة التصرّف في مال الغير، المستفاد من حذف المتعلق، و مقصوده من قوله: «فلا يحلّ له» هو التصرّف الخارجي، بقرينة قوله: «و لا تملّكه» الناظر إلى التصرّف الاعتباري.

______________________________

[1] لا يخفى أنّ مقتضى عموم المحذوف الذي يتعلّق به الحلّ هو إرادة الجامع بين الحلّ التكليفي و الوضعي، لامتناع أعمية الموضوع من المحمول، و لذا لا يصحّ أن يقال:

«الحيوان إنسان». و في المقام لمّا كان المحذوف عامّا للتصرف الخارجي كالأكل و الشرب و نحوهما، و الاعتباري كالبيع و الصلح و الهبة و نحوها لزم أن يكون المحمول- و هو الحلّ-

ص: 519

______________________________

أيضا عاما، فيصير المعنى حينئذ: أنّ كل تصرف خارجي و اعتباري في مال الغير ممنوع إلّا بطيب نفس المالك، فالمراد بالحلّ عدم المنع، و استفادة خصوص التكليف أو الوضع إنّما هي باختلاف المتعلق، فإذا قيل: «أكل مال الغير مثلا أو شرب الفقّاع أو أكل لحم الخنزير عند الاضطرار حلال» فالمراد الحلّ التكليفي. و إذا قيل: «غسل الرجلين في الوضوء حال التقية أو لبس الميتة أو الحرير أو الذهب أو ما لا يؤكل في الصلاة كذلك حلال» فالمراد به الحل الوضعي.

و الحاصل: أنّ الحلّ و الحرمة يستعملان في الجامع، و يراد الخصوصية باختلاف المتعلق، فلا يتوقف الاستدلال على إرادة خصوص الحل الوضعي من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«لا يحل».

نعم قد يشكل الاستدلال بما أفاده سيدنا الأستاد قدّس سرّه: من توقف الاستدلال به على أن يكون المراد من الحلية الحلية الوضعية، ليكون موضوعها التصرفات الاعتبارية التي منها التملّك. أمّا لو كان المراد منها الحلية التكليفية كما هو الظاهر منها، و لا سيّما بقرينة السياق و المورد، إذ لم نعثر على المتن المذكور إلّا على ما رواه سماعة .. الى أن قال: اختصت بالتصرفات الحقيقيّة مثل أكله و لبسه و نحوهما، فلا تشمل التملّك» «1».

و قريب منه ما في تقرير السيد المحقق الخويي قدّس سرّه و محصله: أن الحلّ و إن كان أعمّ من التكليف و الوضع، لكونه لغة بمعنى الإطلاق و الإرسال، في قبال التحريم الذي هو بمعنى المنع و الحجر، فيناسب كليهما، و يصح استعماله فيهما، و تستفاد خصوصية إحداهما من اختلاف القرائن و الموارد، فإذا أسند الحلّ إلى أمر اعتباري كالبيع أريد منه الحلّ التكليفي و الوضعي معا، و إذا أسند إلى الأعيان الخارجية أريد منه التكليف خاصة كقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ و هكذا لفظ التحريم. و لفظ الحلّ في الحديث الشريف نسب الى المال، و هو إمّا عين خارجية، و إمّا منفعتها.

______________________________

(1): نهج الفقاهة، ص 46

ص: 520

______________________________

و على كلا التقديرين لا معنى لحلّيته إلّا باعتبار ما يناسبه كالتصرف، فيراد من حلية المال حلية التصرف فيه، كما أنّ المراد من حلية المأكولات حلّية استعمالها الأكلي، فمعنى الرواية: أنّ الشارع المقدس لم يرخّص في التصرف في مال امرء إلّا بطيب نفسه، فتكون أجنبية عما نحن فيه «1».

لكن يمكن أن يقال: إنّ الاستدلال لا يتوقف على إرادة الحلّية الوضعية، لتماميته مع إرادة الجامع أيضا. بل يتم حتى مع ظهورها في التكليف خاصة، لدلالة حرمة التصرف الخارجي- في مال الغير بعد الفسخ- التزاما على عدم تملكه بالفسخ، إذ مع نفوذ تملكه لا وجه لحرمة التصرف فيه تكليفا. و عليه فلو سلّمنا اختصاص التصرف بالخارجي دون الاعتباري، و الحلّ بالتكليفي تمّ الاستدلال بالحديث أيضا على المدعى.

و أمّا استفادة خصوص الحلية التكليفية عند الإضافة إلى الأعيان فلا تخلو من غموض.

فإنّ الحلية المسندة إلى الأعيان يراد بها كلّ من التكليف و الوضع، كقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ، وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ، وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، وَ الْمُحْصَنٰاتُ مِنَ الْمُؤْمِنٰاتِ وَ الْمُحْصَنٰاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ «2» فإنّ الحلّ المضاف الى الطيبات و الطعام تكليفي، و المضاف الى المحصنات وضعي، لأنّ المراد به العقد عليهن. و كذا في قوله تعالى في المطلقة ثلاثا فَلٰا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّٰى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ «3».

و بالجملة: فإطلاق «الحلّ» المضاف إلى الأعيان على كلّ من الحلّ التكليفي و الوضعي ممّا لا ينبغي التأمل فيه.

بل يمكن أن يقال: بعدم الحاجة الى التقدير حتى يقال: إنّ المقدّر هو التصرف الخارجي، بتقريب: أنّ إطلاق إضافة الحلّ الى ذات المال مبنيّ على الادّعاء، ضرورة أنه لا معنى

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 2، ص 139.

(2) المائدة، الآية: 5.

(3) البقرة، الآية: 230.

ص: 521

______________________________

لكون الذات حلالا أو حراما، و بديهي أنّ صحّة هذا الادعاء منوطة بكون المال بجميع شؤونه غير حلال، فلا تصح هذه الدعوى إذا كان المال ببعض شؤونه حلالا. و لا ريب في كون التصرفات المعاملية من أوضح شؤون المال و تحولاته، فلو حلّ لغير المالك تلك التحولات المعامليّة كان ادّعاء عدم حلية الذات له مستهجنا.

و دعوى «عدم كون التحولات المعامليّة من التصرفات» مدفوعة، بما عرفت من أنّ التصرفات المعاملية من التحولات الشائعة في المال، كما يشهد به مراجعة العقلاء، فإنّ المعاملات تعدّ عندهم من أوضح التصرفات. و لو تنزّلنا عن صدق التصرف على المعاملة كفى كونها من الشؤون البارزة للمال بحيث لا تصحّ دعوى نفى حلّ ذات المال بدونها.

فلا يمكن المساعدة على ما في تقرير سيدنا الخويي: من كون المقدّر خصوص التصرف، فيراد من نفي الحل نفي الترخيص، و هو أجنبي عما نحن فيه من نفي تملك الغير الذي هو حكم وضعي.

فالمتحصّل: أنّ كون المعاملات من التصرف مما لا ينبغي الارتياب فيه. و يشهد له التبادر، فإنّه بالنسبة إلى التصرفات الخارجية و المعاملية سواء.

و قد ظهر مما ذكرنا- من كون التحولات المعاملية تصرفا حقيقة بمقتضى التبادر لا مجازا- صحة التمسك على أصالة اللزوم في الملك بموثقة سماعة المتقدمة من دون ورود شي ء من الإشكالات عليه، من كون التمسك بها بعد رجوع المالك الأصلي تشبّثا بها في الشبهة المصداقية، و من كون متعلق الحلّ المضاف الى المال خصوص التصرفات الخارجية، و من كون ظاهر «لا يحلّ» بقرينة السياق و المورد الحلية التكليفية المتعلقة بالتصرفات الخارجية، و من كون الجمع بين إرادة الحكم التكليفي و الوضعي استعمالا للفظ في أكثر من معنى. فإنّه بعد النظر الى مقدمات ثلاث، قبل الاستدلال بالموثّقة يظهر عدم ورود شي ء من هذه الإشكالات.

المقدّمة الأولى: كون الحلّ بمعنى المضيّ و عدم المنع عنه في الشريعة، و هذا المعنى أعمّ من التكليف و الوضع مع وحدة المعنى.

ص: 522

[الدليل الرابع: حرمة أكل المال إلّا بالتجارة عن تراض]

و يمكن الاستدلال أيضا (1) بقوله تعالى لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ «1».

______________________________

الدليل الرابع: حرمة أكل المال إلّا بالتجارة عن تراض

(1) يعني: كما أمكن الاستدلال بما مضى من حديثي السلطنة و الحلّ. و كان الأنسب تقديم الاستدلال بهذه الآية المباركة- و آية وجوب الوفاء بالعقود- على الاستدلال بالحديثين الشريفين.

______________________________

المقدمة الثانية: أنّ التصرف أعمّ من الخارجي و الاعتباري بحكم التبادر.

المقدمة الثالثة: كون الحذف أمارة على كون المقدّر عامّا، بل قد عرفت عدم الحاجة إلى التقدير و كفاية الادّعاء في صحة الاستدلال، و إرادة جميع التحولات في الذات و إن لم تسمّى تصرفا، إذ لا يصح إطلاق عدم حلية الذات إلّا بملاحظة كون المنفي جميع الشؤون و التحولات.

و ربما يشهد به مورد الرواية و هو حبس الأمانة و عدم ردّها، إذ ليس الحبس تصرّفا محسوسا كالأكل و الشرب، فلو كان المراد خصوص التصرفات الحسّيّة لم تنطبق الكبرى الكلية على المورد، و هو حبس الأمانة، و استهجانه غير خفي.

و أمّا عطف حرمة المال فيها على حرمة دم المسلم فليس قرينة على تعيّن إرادة الحرمة التكليفيّة فيه من جهة عدم تصوّر حرمة الدم وضعا. و وجه عدم القرينية ما ذكرناه من أعمية الحلية من التكليف و الوضع.

و لو سلّمت قرينيّتها عليها لم يقدح في الاستدلال، لما تقدم أيضا من اقتضاء حرمة مطلق التصرف في مال الغير- بدلالتها الالتزامية- على عدم تملّكه بالفسخ.

فالمتحصل: أنّ الاستدلال بالموثقة و ما بمضمونها- على فرض اعتباره- على أصالة اللزوم في الملك وجيه كما اختاره المصنف قدّس سرّه.

______________________________

(1): النساء، الآية: 29.

ص: 523

و لا ريب (1) أنّ الرجوع ليست تجارة (2) و لا عن تراض (3)،

______________________________

و كيف كان فهذه الآية دليل على أصالة اللزوم في الملك، و للمصنف تقريبان للاستدلال بها.

أحدهما: بالنظر الى مجموع المستثنى و المستثنى منه: و هو رابع الأدلة على اللزوم.

و الآخر: مقصور على استفادة الحكم من عقد المستثنى منه بلا ضمّ الاستثناء، و هو خامس الأدلة و سيأتي توضيح كلا الوجهين إن شاء اللّه تعالى.

(1) هذا شروع في تقريب الوجه الأوّل- أعني به دلالة المستثنى منه و المستثنى معا على لزوم الملك- و حاصله: أنّ الأكل كناية عن التصرف كما هو الشائع، يعني: أنّ مجوّز التصرف في مال الغير منحصر- بمقتضى الحصر- في التجارة عن تراض، فالآية في مقام سلب سببيّة الباطل للنقل و التمليك، و من المعلوم أنّ الرجوع ليس تجارة عرفا، بل حلّا و فسخا لها، و لا عن تراض، لعدم رضا المالك الفعلي برجوع المالك الأصلي.

و عليه فمقتضى انحصار السبب الناقل و المملّك للأموال في التجارة عن تراض هو عدم كون الرجوع مملّكا و ناقلا، لكونه باطلا عند العقلاء عرفا و شرعا. فالآية الشريفة تدلّ على بطلان الفسخ و عدم تأثير رجوع المتعاطي فيما أعطاه للآخر، و ذلك لأنّ المدار في جواز أكل مال الغير هو صدق التجارة عن تراض على السبب المحلّل له، و حيث إنّه لا يصدق أصل التجارة- و لا بقيد التراضي- على الرجوع استكشف منه حرمة التصرف في المال بعد الرجوع، و هو دليل لزوم المعاطاة، و كون الرجوع لغوا.

(2) وجه عدم صدق عنوان التجارة على رجوع المتعاطي هو كون التجارة لغة:

الإعطاء و الأخذ بقصد الاسترباح، و هذا المفهوم منحصر في المعاملات الموجبة لنموّ رأس المال و زيادته. و من المعلوم أنّ المتعاطي عند رجوعه لا يحصّل ربحا، و إنّما يستردّ عين ماله التي تعاطى بها.

(3) وجه عدم كون الرجوع تجارة عن تراض- لو سلّم صدق التجارة عليه- واضح،

ص: 524

فلا يجوز (1) أكل المال.

و التوهم المتقدم في السابق (2) غير جار هنا، لأنّ (3) [1] حصر مجوّز أكل المال

______________________________

لفرض عدم رضا المتعاطي الآخر به، و إلّا كان إقالة من الطرفين.

(1) يعني: فلا يجوز لأحد المتعاطيين أن يتصرف فيما أعطاه للآخر، لأنّ تصرّفه فيه أكل لمال غيره بالباطل.

(2) يعني: في تقريب الاستدلال بحديثي السلطنة و عدم حلّ مال غيره إلّا بطيب نفسه.

و التوهّم المزبور هناك هو: أنّ التمسك بهما من التمسّك بالدليل في الشبهة المصداقيّة، ضرورة أنّه بعد رجوع المالك الأصليّ يشكّ في كون المال ملكا للغير، لاحتمال رجوع المال إليه، فلا يكون أكله حينئذ أكلا لمال غيره، بل لمال نفسه. و مع هذا الشك لا تحرز الإضافة التي هي موضوع السلطنة و حرمة التصرّف، فيكون التمسّك بالدليل تشبّثا به في الشبهة الموضوعية.

(3) تعليل لعدم جريان التوهّم المزبور، و حاصل وجه عدم جريانه هنا هو: أنّ المستفاد من الآية حصر سبب تملّك أموال الناس في التجارة عن تراض، بحيث يكون تصرف الآكل فيه تصرفا في ماله لا في مال غيره، و من المعلوم أنّ هذا الحصر ينفي سببيّة رجوع المالك الأصلي بتملّكه، لعدم كون رجوعه تجارة عن تراض، بل من الأسباب الباطلة، فهذه الآية الشريفة نصّ في عدم كون رجوع المالك مملّكا، لعدم اندراج الرجوع في «التجارة عن تراض» و كلّ ما لم يكن كذلك يعدّ من الأسباب الباطلة.

و بالجملة: فمفاد الآية الشريفة هو: أنّه لا يجوز للإنسان أن يأكل مالا على أنّه ماله، و هو مال لغيره واقعا، إلّا إذا كان بسبب التجارة عن تراض. و ليس مفادها عدم جواز تصرفه في مال الغير حتى يقال: إنّه بعد رجوع المالك يشكّ في أنّه مال الغير، فلا يصح التمسك بالآية، لكونه من التشبث بالدليل في الشبهة المصداقية.

______________________________

[1] هذا التقريب- كما عرفت- ناظر إلى سلب سببية الباطل للتملك.

و يمكن أن يقرّب على وجه آخر، و هو: أنّ النهي عن الأكل ناظر إلى حرمة الأكل ابتداء،

ص: 525

في التجارة إنّما يراد به أكله على أن يكون ملكا للآكل (1) لا لغيره.

[الدليل الخامس: حرمة الأكل بالباطل]

و يمكن التمسّك أيضا بالجملة المستثنى منها (2)، حيث إنّ أكل المال و نقله

______________________________

(1) يستفاد هذا القيد في المستثنى منه بقرينة المقابلة للمستثنى، بداهة أنّ المترتب على المستثنى هو الأكل بعنوان كون المال ملكا للآكل، لأنّ أثر التجارة عن تراض التي هي سبب شرعي للنقل و التمليك هو كون المتصرّف- بعد وقوع هذه التجارة- مالكا للمال، و قرينة المقابلة تقتضي كون المأكول في المستثنى منه أيضا- بعنوان كونه ملكا لذي اليد، و عدم جواز أخذه منه.

و على هذا فلا يرد عليه التخصيص بمثل الضيافة و غيرها مما يجوز الأكل فيه بدون تجارة عن تراض، لأنّ خروجها بناء على هذا المعنى موضوعي، إذ المفروض أنّ المالك أجاز للآكل أن يتصرف فيه.

نعم يرد عليه التخصيص بالإرث و نحوه، كانتقال مال المرتد الفطري إلى وارثه بالارتداد، فإنّ الوارث يتصرف في المال على أنّه مال الآكل مع عدم كون السبب المحلّل تجارة عن تراض.

الدليل الخامس: حرمة الأكل بالباطل

(2) يعني: مع الغضّ عن الاستثناء، بخلاف التقريب الأوّل الذي كان تمسّكا بمجموع جملتي المستثنى منه و الاستثناء.

و محصّل تقريب الاستدلال بالوجه الثاني: أعني به جملة المستثنى منها- مع قطع النظر

______________________________

و إلى بطلان السبب ثانيا، فدلالته على حرمة الأكل مطابقية، و على بطلان السبب الذي ينشأ منه الأكل التزاميّة، حيث إنّ النهي يدلّ مطابقة على حرمة الأكل، و التزاما على بطلان سببها، إذ لا منشأ لحرمة الأكل إلّا بطلان منشأها و سببها، فيعلم من حرمة الأكل عدم صحة سببه و كونه من الباطل، فحرمة الأكل تكشف عن كون الفسخ و التّرادّ سببا باطلا عرفا و غير نافذ شرعا.

و الفرق بين التقريبين واضح، لأنّ الأوّل مدلول مطابقي، و الثاني التزامي.

ص: 526

عن مالكه (1) بغير رضى المالك أكل و تصرف بالباطل عرفا (2). نعم (3) بعد إذن المالك الحقيقي و هو الشارع- و حكمه التسلّط على فسخ المعاملة من دون رضا المالك- يخرج (4) عن البطلان [1]

______________________________

عن الاستثناء- هو: أنّ تملّك أموال الناس قهرا و بغير رضى منهم تملّك بالباطل، و هو حرام بمقتضى النهي عنه، فيكون تملّك المال بالفسخ بدون رضى مالكه أكلا له بالباطل، إلّا إذا أذن له الشارع في الفسخ، فحينئذ يخرج التملك بالفسخ عن الباطل و يكون جائزا، كما ثبت ذلك شرعا في موارد:

منها: أكل المارّة من ثمرة الشجرة الممرور بها، فإنّه بعد إذن الشارع يخرج عن أكل المال بالباطل.

و منها: الأخذ بالشفعة و الفسخ بالخيار.

و منها: تملك أموال المرتد الفطري بالارتداد. و غير ذلك من الأسباب القهريّة لتملّك أموال الناس، فإنّ إذن الشارع يخرجها عن الباطل.

هذا بحسب الكبرى. و تطبيقها على المقام هو: أنّ الشارع لمّا لم يأذن في فسخ المعاطاة- لفرض عدم ثبوت جواز الرجوع بعد- كان التصرف في مال الغير بإخراجه عن ملكه أكلا له بالباطل، و هو حرام تكليفا و وضعا.

(1) و هو الذي اشترى المال بالمعاطاة و صار مالكا له.

(2) هذه الكلمة صريحة في أنّ موضوع حرمة الأكل هو الباطل العرفي الصادق على فسخ أحد المتعاطيين و رجوعه فيما انتقل عنه، و ليس المراد به الباطل الشرعيّ حتى تتجه شبهة التمسّك بالدليل في الشبهة المصداقية.

(3) استدراك على موضوعية الباطل العرفي لحرمة الأكل، يعني: أنّ ترخيص الشارع لأكل مال الغير كاشف عن كونه سببا حقّا لا باطلا.

(4) ظاهر الخروج عن البطلان هو الخروج الموضوعي لا الحكمي بالتخصيص،

______________________________

[1] لكن مقتضى خروجه عن البطلان موضوعا عدم جواز التمسك بالآية فيما إذا كان

ص: 527

و لذا (1) كان أكل المارّة من الثمرة الممرور بها أكلا بالباطل لو لا إذن المالك الحقيقي (2)، و كذا الأخذ بالشفعة (3)، و الفسخ بالخيار (4)، و غير ذلك من الأسباب القهرية (5) [1].

______________________________

فمقصوده ظاهرا تخطئة الشارع نظر العرف فيما يرونه باطلا كأكل المارّة من ثمرة الشجرة الممرور بها، فهذا سبب حق عرفي بعد التفاته إلى إباحة الأكل شرعا.

و الوجه في الخروج الموضوعيّ لا الحكمي هو: أن عنوان «الباطل» كالعلّة التامة لحرمة الأكل غير قابل للتخصيص، و عليه فموارد ترخيص الشارع في الأكل خارجة عن الباطل تخصصا.

(1) يعني: و لأجل خروج موارد ترخيص الشارع في الأكل عن «الباطل» موضوعا كان أكل المارّة باطلا بنظر العرف لو لا إذن الشارع، و أمّا بعد إذنه فليس أكله باطلا.

(2) يعني: و بعد إذن المالك الحقيقي يخرج الأكل عن كونه أكلا بالباطل إلى كونه أكلا بالحق.

(3) حيث إنّ الشريك مسلّط على فسخ عقد المشتري ببذل مثل الثمن إليه، فيضمّ حصة المشتري الى حصة نفسه قهرا و إن لم يرض المشتري به، و هذا أكل للمال بالباطل بنظر العرف لو لا اطّلاعه على ترخيص المالك الحقيقي.

(4) الظاهر إرادة الخيار التعبّدي كخياري المجلس و الحيوان، فإنّ الفسخ بهما باطل عرفا، ما لم يطلع على تخيير الشارع للمتعاقدين أو لصاحب الحيوان. و أمّا الأخذ بالخيارات المستندة إلى شرط ارتكازي أو إلى جعل نفس المتعاقدين فليس أكلا للمال بالباطل عرفا من أوّل الأمر، بل هو سبب حقّ بنظرهم.

(5) كالإرث و الارتداد و الإتلاف في حال الغفلة كالنوم، فإنّ هذه أسباب باطلة للتملك ما لم يطّلع العرف على جعل الشارع، و أما مع الاطلاع فيحكم العرف أيضا بحقية هذه الأسباب للأكل.

______________________________

باطلا عرفا مع احتمال إذن الشارع فيه، للشك في الموضوع، إذ مع الإذن الشرعي يخرج عن الباطل حقيقة، فالشك حينئذ يكون في عنوان الباطل كما حرّرناه في التعليقة الآتية فلاحظ.

[1] قد يمنع دلالة الآية الشريفة على لزوم الملك بما في تقرير السيد الخويي قدّس سرّه من:

أنّ الاستدلال بها مبني على أن يكون المراد بالباطل هو الباطل العرفي ليكون متميزا عند العرف

ص: 528

______________________________

عن السبب الصحيح. أمّا لو أريد الباطل الواقعي كما هو قضية وضع الألفاظ للمفاهيم الواقعية أو احتملت إرادة ذلك من كلمة الباطل في الآية فلا يمكن الاستدلال بها على المقصود، لاحتمال أن يكون الفسخ من الأسباب الصحيحة الواقعية لا الباطلة كذلك. فحينئذ يكون التمسك بالآية لكون الفسخ سببا باطلا من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. «1» انتهى ملخّصا.

و فيه: أنّ المراد بالباطل هو الباطل العرفي، لكون المخاطب بهذا الخطاب هو العرف كسائر الخطابات، ما لم يثبت كون موضوع الخطاب مخترعا شرعيا، لأنّه لا بد حينئذ من الرجوع الى الشارع، إذ لا سبيل للعرف الى معرفته، و الالتزام بكون الباطل هو الواقعي الذي لا سبيل للعرف إليه يستلزم سقوط الخطاب عن الاعتبار، لصيرورته حينئذ مجملا.

بل تطبيق الآية على القمار الذي هو مورد نزول هذه الآية المباركة- كما في صحيحة زياد بن عيسى: «قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله عزّ و جلّ وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ فقال: كانت قريش يقامر الرجل بأهله و ماله، فنهاهم اللّه عزّ و جلّ عن ذلك» «2» و قريب منه ما عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى و نحوهما غيرهما» «3»- يدلّ على كون المراد بالباطل هو العرفي حيث إنّ القمار عند العرف و العقلاء من مصاديق الباطل، فليتأمّل.

ثم إنّه على تقدير كون الباطل هو الواقعيّ يمكن التمسك أيضا بالآية المباركة لأجل الإطلاق المقامي، فإنّه لو لم يكن نظر العرف حينئذ معتبرا في مقام التمييز كان الخطاب ساقطا، للإجمال كما مرّت الإشارة إليه.

و بالجملة: فالباطل العرفي هو موضوع حرمة الأكل في الآية المباركة، و إذا شككنا في تخصيصه فمقتضى أصالة العموم هو عدم التخصيص، فمن هذه الناحية لا يرد إشكال على

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 2، ص 141.

(2) وسائل الشيعة، ج 12، ص 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(3) المصدر، ص 121، الحديث: 14.

ص: 529

______________________________

التمسك بالآية الشريفة.

نعم يرد عليه: أنّ عنوان «الباطل» معلق على عدم ورود دليل من الشارع، إذ مع وروده يخرج موضوعا عن الباطل، و يكون خروجه بالتخصص لا التخصيص، لإباء الآية المباركة عن التخصيص الحكمي كما لا يخفى. فالتعليق على عدم الورود من الشارع بشي ء من قيود موضوع الحكم، فكأنه قيل: الباطل العرفي هو المعلّق على عدم ورود شي ء من الشرع على خلافه كأكل المارّة و الأخذ بالشفعة و الفسخ بالخيار، فإنّها باطلة عرفا، لكن مع ورودها من الشرع تخرج حقيقة عن الباطل، فالتمسك بالآية الشريفة- مع احتمال ورود دليل من الشارع على خلافه- يكون تشبثا بالدليل في الشبهة المصداقية.

ففرق بين هذه الآية و بين حديث السلطنة، حيث إنّ احتمال إعماله تعالى سلطنته من قبيل المخصّص الذي يكون الموضوع محفوظا معه. بخلاف الباطل، فإنّه معلّق موضوعا على عدم حكم الشارع، إذ مع حكمه لا يكون باطلا حقيقة، فالتمسك بالآية حينئذ تشبث بالدليل في الشبهة المصداقية، هذا.

إلّا أن يقال: إنّ مرجع ذلك الى كون المراد بالباطل هو الشرعي، إذ لا أثر للباطل العرفي بدون كونه باطلا شرعيا. و البناء عليه يوجب كون الباطل في الآية المباركة عنوانا مشيرا إلى ما جعله الشارع باطلا كالقمار و بيع الحصاة و البيع الربوي، و نحوها، و هذا خلاف ظاهر العناوين المأخوذة في الخطابات، و يكون النهي عن أكل المال مؤكّدا لسلب سببية الباطل الشرعي للتمليك، و لا يكون حكما تأسيسيا، و من المعلوم أنّ حمل الباطل و النهي عن الأكل على المشيرية و التأكيد خلاف الأصل، فلا محيص عن الالتزام بكون المراد بالباطل هو العرفي، غاية الأمر أنه يخرج عن حكمه في بعض الموارد، كالشفعة و الخيار و أكل المارّة من ثمرة الشجرة، مع صدق الموضوع و هو الباطل العرفي عليه. نظير سلب الماليّة عن بعض الأموال العرفية كالخمر و الخنزير و نحوهما مما يعدّ مالا عرفا، و الشارع الأقدس ألغى ماليّتها، فيكون خروج بعض الموارد عن الباطل العرفي بالتخصيص، لا التخصّص حتى لا يجوز التمسك بالآية الشريفة في صورة الشك في كون الرجوع سببا باطلا أو صحيحا، لكون الشبهة مصداقية.

ص: 530

______________________________

فالظاهر أنّ الآية الشريفة وزانها وزان حديث السلطنة، فكما لا مانع من التمسّك به لعدم نفوذ رجوع المالك الأصلي، فكذلك لا مانع من التمسك بهذه الآية لذلك. فالفرق بينهما «بالتخصّص في الآية، فلا يجوز التمسك بها، و التخصيص في حديث السلطنة فيجوز ذلك فيه» لا يخلو من غموض.

مع أنّه بعد تسليم كون المراد بالباطل هو الشرعي يمكن التمسك بالآية أيضا بمقتضى الإطلاق المقامي، بأن يقال: إنّ المقصود بالباطل و إن كان شرعيا، لكن تمييزه منوط بنظر العرف، فكلّما كان باطلا عرفا فهو باطل شرعا إلّا ما ثبت خروجه.

ثم إن المحقق الايرواني قدّس سرّه ناقش في الاستدلال بالآية المباركة بأنّ الاستدلال بها إنّما يصح إذا قلنا إن الفسخ و الرجوع من الأسباب المفيدة للملك. أمّا إذا قلنا بأنّ شأنهما رفع أثر السبب المملّك، ثم الملك يكون حاصلا بما كان من السبب أوّلا، لم يكن الأكل بسبب الفسخ أكلا بالباطل «1».

لكن لا يخفى ما فيه، لأنّ هذه المناقشة إنّما تتجه بناء على دلالة الآية على حرمة الأكل إن حصل المال بسبب باطل مستقل. لكنه ليس كذلك، لظهورها في إبقاء تأثير الباطل مطلقا و إن كان جزء العلة، فإنّ تأثير الفسخ في دفع المانع عن تأثير السبب الأوّل أكل للمال بالباطل و لو بنحو جزء العلة.

و الحاصل: إنّ التسبب بالباطل لأكل مال الناس- و لو بنحو دفع المانع- حرام و لو بمناسبة الحكم و الموضوع، إذ المناسب للباطل هو عدم دخله في سببيّته للنقل و التمليك حتى بنحو جزء السبب أو الشرط أو عدم المانع.

فتحصّل مما ذكرناه: أنه يمكن التمسك تارة بالمستثنى منه مع الغض عن الاستثناء بما تقدّم من التقريبين، أحدهما: سلب سببية الباطل للنقل و التمليك.

و الآخر: النهي عن أكل المال الحاصل بسبب باطل.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 81.

ص: 531

______________________________

و أخرى بالمستثنى، بأن يقال: إنّ إطلاق تجويز أكل المال الحاصل بالتجارة يقتضي جوازه بعد الرجوع و الفسخ أيضا، و هذا الإطلاق الأحوالي يكشف عن عدم نفوذ الفسخ، و إلّا لم يكن وجه لجواز الأكل حينئذ.

و ثالثة: بالحصر المستفاد من مجموع الجملتين.

لكن ابتنى السيد قدّس سرّه في حاشيته الاستدلال بالحصر على كون الاستثناء متّصلا بأن يقال في تقريب الاتصال: كأنّه قيل: لا تأكلوا أموال الناس إلّا أن تكون تجارة، فإنّ كل أكل باطل نظير قولك: «لا تعبد غير اللّه شركا» أي فإنّه شرك، فيكون المستثنى منه الأموال، و قوله تعالى:

«بِالْبٰاطِلِ» قيدا توضيحيا، و ذكره لبيان علة الحكم، لا احترازيا. أو يقال: انّ المستثنى منه محذوف أي: لا تأكلوا أموال الناس بوجه من الوجوه إلّا بوجه التجارة فإنّ الأكل لا بهذا الوجه باطل «1».

و أنت خبير بما فيه، إذ الكلام في ظهور الآية في كون الاستثناء متّصلا، لا في إمكانه حتى يتكلّف في وجه تصوره بما ذكره. و ما أفاده في وجه الاتصال خلاف الظاهر و تأويل مخالف لفهم العقلاء و لكلمات المفسرين و للروايات الواردة في نزول الآية المباركة، و قد تقدم بعضها كصحيحة زياد بن عيسى، فإنّ ظاهر تلك الروايات كظاهر نفس الآية هو النهي عن الأكل بالسبب الباطل، فالقيد احترازي لا توضيحي، فالاستثناء حينئذ منقطع كقوله تعالى:

لٰا يَسْمَعُونَ فِيهٰا لَغْواً وَ لٰا تَأْثِيماً إِلّٰا قِيلًا سَلٰاماً سَلٰاماً «2».

و الحاصل: أنّ الاستثناء ليس متصلا أوّلا. و على فرض الاتصال يمكن منع دلالة الآية على الحصر في التجارة ثانيا، لأنّ قوله تعالى «بِالْبٰاطِلِ» تعليل لحرمة الأكل، إذ المتفاهم العرفي منه كون البطلان موجبا لذلك، كما أنّ الظاهر المتفاهم عرفا أنّ استثناء التجارة في مقابل الباطل لكونها حقّا.

و على هذا فالمستفاد حلية الأكل بكل حقّ، و حرمته بكل باطل، فلا يختص الحق

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 74.

(2) الواقعة، الآية: 25.

ص: 532

[الدليل السادس: أخبار خيار المجلس]

هذا كلّه (1) مضافا إلى ما دلّ على لزوم خصوص البيع (2)، مثل قوله عليه السّلام:

«البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» «1».

______________________________

(1) يعني: أنّ الأدلة المتقدمة على أصالة لزوم الملك- من الاستصحاب و حديثي السلطنة و الحلّ، و آية النهي عن أكل أموال الناس بالباطل- كانت أدلة عامة على لزوم الملك سواء أ كان السبب المملّك فعلا اختياريّا من العناوين المعاملية و الحيازة و نحوها، أم قهريّا كالإرث و الارتداد. و هذا بخلاف الدليل الآتي فإنّ مفاده لزوم الملك الحاصل بالبيع خاصّة.

الدليل السادس: أخبار خيار المجلس

(2) هذا دليل سادس على لزوم الملك، و هي طائفة من الأخبار الواردة في خيار المجلس، و تقريب الاستدلال بها يتم بوجوه ثلاثة:

الأوّل: جعل الخيار في البيع، حيث إنّ جعله مختص بالبيع اللازم، و مقتضى إطلاق الجعل ثبوت الخيار في البيع المعاطاتي، فثبوت الخيار فيه يكشف عن اللزوم، فتكون المعاطاة بيعا لازما لأجل ثبوت الخيار فيها، الذي هو من خصائص البيع اللازم.

الثاني: دلالة مفهوم الغاية، ببيان: أنّ ماهيّة الخيار مغيّاة بعدم الافتراق، لقوله عليه السّلام:

______________________________

بالتجارة، بل يندرج فيه كل حق ليس بتجارة كالإباحات و القرض، و التملّك في مجهول المالك، و غيره من الحقوق الواجبة و المستحبة، و لا ينتقض الحصر بها حتى نحتاج الى بعض التكلّفات كما صدر عن بعضهم.

كما أنّه على فرض كون الاستثناء منقطعا تدل الآية على التنويع بين الباطل و الحق بمناسبة الحكم و الموضوع، فلا فرق في دلالة الآية عرفا على سقوط الباطل لبطلانه عن السببية- أو صيرورته موجبا لحرمة الأكل من المال الحاصل بالباطل، و ثبوت سببية الحق لحقّيّته- بين كون الاستثناء متصلا و منقطعا، فلا يتوقف الاستدلال بالآية الشريفة على أن يكون الاستثناء متّصلا.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 346، الباب الأوّل من أبواب الخيار، الحديث: 3 و غيره.

ص: 533

..........

______________________________

«فإذا افترقا وجب البيع» إذ مفهومه بقاء الخيار قبل الافتراق، و معه يسقط الخيار، و سقوطه ملازم للزوم، و من المعلوم أنّ مقتضى إطلاق البيع على المعاطاة هو صدق البائع على من باع معاطاة، فتكون لازمة.

الثالث: قوله عليه السّلام: «فإذا افترقا وجب البيع» بتقريب: أنّ الإطلاق يقتضي أن يكون البيع واجبا فعليا من جميع الجهات، لكن يقيّد بأدلة سائر الخيارات أمّا لو أريد جعل اللزوم من حيث خيار المجلس لا مطلقا فلا يدل سقوط الخيار- من حيث المجلس- على اللزوم من سائر الحيثيّات، و حينئذ يشترك المعاطاة مع البيع بالصيغة في أنّ المدلول عليه برواية خيار المجلس هو اللزوم الحيثي أي من حيث خيار المجلس، و أمّا من سائر الجهات فلا دلالة فيها على اللزوم.

و على كلّ فهذا المقدار من اللزوم الثابت للمعاطاة كاف لإثبات المدّعى و هو اقتضاء طبع البيع مطلقا للّزوم [1].

______________________________

[1] لا يخفى أنّه بناء على جواز جعل الخيار في البيع الجائز ذاتا لا يدلّ جعله على لزومه، لأنّ الخيار حينئذ لازم أعم، و من المعلوم أنّه لا يدل على الملزوم الخاصّ و هو البيع اللازم، فالإستدلال حينئذ على التقريب الأوّل ساقط، لما عرفت من عدم دلالة اللازم الأعمّ على الملزوم الخاص.

و بناء على عدم صحة جعل الخيار للجائز ذاتا بحسب حكم العقل أو العقلاء، فان كان هذا الحكم كالقيد الحافّ بالكلام كان إطلاق قوله عليه السّلام: «البيّعان بالخيار» مقيّدا بالبيع اللازم، فمع الشك في لزوم بيع كالمعاطاة لا يصح التمسك بإطلاقه، لكون الشبهة مصداقية.

و إن كان الحكم المذكور كالمخصّص المنفصل الذي لا يوجب تقيّد الموضوع عند صدور الخطاب المطلق، بل يقيّده لبّا، لكون القيد لبيّا منفصلا، فعلى القول بجواز التمسك

ص: 534

______________________________

بالعام في الشبهة المصداقية في مثله- كما قيل- فيصح التمسك بإطلاق «البيعان بالخيار» لإثبات الخيار في المعاطاة و كشف لزومها. نظير التمسك بقوله عليه السّلام: «لعن اللّه بني أميّة قاطبة» في مورد الشك في أيمان واحد منهم لجواز لعنه، و كشف عدم إيمانه.

و بالجملة: فبناء على جواز التمسك بالعام في المخصص اللّبيّ المنفصل يجوز التمسك بمثل «البيّعان بالخيار» لإثبات الخيار في المعاطاة و كشف لزومها.

و على القول بعدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقيّة مطلقا من غير فرق بين المخصصات اللفظية و اللبية المتصلة و المنفصلة كما هو المنصور فلا يصح التمسك بالإطلاق لكشف حال الموضوع، هذا.

فان قلت: إنّ الشبهة المصداقية للمخصّص اللّبيّ الذي لا يجوز فيها التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة هو ما إذا خرج عن العام عنوان بحسب حكم العقل كالمؤمن الذي خرج عن حيّز عموم «لعن اللّه بني أمية» و شك في مورد أنّه مصداق الخارج أو لا. و أمّا إذا شك في أصل الخروج و لو من جهة عدم إحراز مصداق للعنوان العقلي- كما فيما نحن بصدده، إذ لم يحرز أنّ للبيع مصداقا جائزا- فليس الشك فيه من قبيل الشبهة المصداقية للمخصّص المحرزة مخصّصيته.

قلت: لا فرق في عدم جواز التمسك إذا كان المخصص عقليا بين ما ثبت تحقق أفراد من العنوان الخارج عن العام و شكّ في فرد آخر، و بين ما لم يثبت ذلك لأنّ تحقق الفرد و عدمه لا دخل له في الحكم العقلي بالتخصيص.

مثلا حكم العقل بعدم جواز لعن المؤمن ثابت، و موجب لعدم دخوله في قوله: «لعن اللّه بني أميّة قاطبة» من غير نظر إلى خصوصيات المصاديق و خروجها و دخولها، فلو شك في فرد أنّه مؤمن أو لا مع العلم بعدم إيمان غيره منهم يكون من الشبهة المصداقية للمخصّص، لا من الشبهة في أصل التخصيص، لأنّ التخصيص بحكم العقل ثابت على النحو الكلي لا الجزئي، إذ لا شكّ في خروج المؤمن عن هذا العام، فالشك في أيمان واحد منهم يندرج في

ص: 535

______________________________

الشك في مصداق المخصص، لا في أصل التخصيص.

و ما نحن فيه من هذا القبيل بناء على كون عدم الدخول أو التخصيص بحكم العقل، فإنّ البيع الواقع بين البيّعين مخصّص بعدم كونه جائزا بالذات، فإذا شكّ في أنّ المعاطاة جائزة بالذات أو لا، لا يجوز التمسك بمثل: البيّعان بالخيار، هذا.

لكنه لا يخلو من غموض، لأنّ الشبهة المصداقية هي الشبهة الموضوعية التي يرجع في رفع الشك عنها الى غير الشارع. و ليس المقام كذلك، لأنّ المرجع في لزوم المعاطاة و جوازها هو الشارع لا غيره، و إن كانت بالنظر الى المخصص العقلي شبهة مصداقية، للشك في مصداقيتها له كما هو واضح، لكن في كون هذا النحو من الشبهة المصداقية مانعا عن التمسك بإطلاق دليل التشريع منع.

فالحقّ: أنّ مثل هذه الشبهة تلحق بالشبهة الحكمية التي مرجعها الى الشك في التخصيص، لا مصداق المخصص المعلوم، فلا مانع من هذه الحيثية من التمسك بإطلاق مثل «البيّعان بالخيار» لإثبات لزوم المعاطاة، هذا.

و أمّا الاستدلال بمفهوم الغاية ففيه: أنّ نفي ماهية الخيار لا يكون ملازما للزوم، و نفي الجواز، ضرورة مغايرة ماهية الخيار للجواز الحكمي، لما ثبت في محله من أنّ الخيار حق مجعول لذي الخيار قابل للنقل و الاسقاط و الإرث، بخلاف الجواز الحكمي، حيث إنّه حكم للمعاملة كالهبة و الوكالة، و ليس حقّا مجعولا لأحد حتى يقبل ما ذكر في الخيار، فنفي ماهية الخيار لا ينافي بقاء الجواز الحكمي.

و أمّا الاستدلال بذيل الرواية و هو قوله عليه السّلام: «فإذا افترقا وجب البيع» ففيه: أنّه يقع التعارض بين إطلاق الصدر و إطلاق الذيل بعد وضوح كون الموضوع فيهما واحدا من حيث الإطلاق و التقييد، يعني أنّه لو أريد من الصدر مطلق البيع أو مقيّدة كان في الذيل كذلك.

توضيحه: أنّ أصالة الإطلاق في الصدر تقتضي كون البيع بلا قيد موضوع الحكم، فإطلاقه يشمل البيع القولي و المعاطاتي سواء أ كانت المعاطاة لازمة واقعا أم جائزة. و أصالة

ص: 536

______________________________

الإطلاق في الذيل تقتضي الوجوب مطلقا بعد الافتراق في الموضوع المأخوذ في الصدر، فيقع التعارض بينهما، لأنّ الوجوب المطلق يضادّ البيع الجائز. فلا بدّ من رفع اليد عن إطلاق الذّيل أو الصدر. و على التقديرين لا يصح التمسك بالذيل لإثبات اللزوم في مورد الشك فيه.

أمّا على الأوّل فلأنّ الوجوب الحيثي لا ينافي الجواز، فوجوب البيع من حيث خيار المجلس لا ينافي جوازه من حيث الذات و سائر الحيثيات، فهذا الوجوب لا يثبت اللزوم في مورد الشك كالمعاطاة. و على القول بالوجوب الفعلي و ارتكاب التقييد بالنسبة إلى الجائز- على فرض وجوده- كان التمسك به تشبثا بالدليل في الشبهة المصداقية للمخصص لاحتمال كون المعاطاة مصداقا للمخصص، فلا تكون لازمة.

و أمّا على الثاني فلأنّ البيع في الصّدر إذا اختصّ بالبيع اللازم كان في الذيل كذلك، فتصير الشبهة مصداقية، لأنّه يشك في أنّ المعاطاة مثلا من النوع الجائز بالذات أو اللازم، فيشك في موضوعيّته للدليل، فلا يصح التمسك به مع هذا الشك، من دون فرق بين كون التخصيص متصلا و منفصلا، لفظيا و لبيّا.

و بالجملة: فلا يصح التمسك بالعام لإثبات لزوم ما يشك في لزومه كالمعاطاة مطلقا، سواء أقلنا بتقييد إطلاق الصدر أم الذيل، لما عرفت من أنّ تقييد الذيل بالوجوب الحيثي لا يثبت اللزوم، لعدم منافاة بين الجواز و بين الوجوب الحيثي. و من أن تقييد الصّدر بالبيع اللازم يوجب كون الشبهة في مشكوك اللزوم مصداقية.

هذا كله مع الغض عن الروايات.

و أمّا مع النظر إليها فهي على طوائف ثلاث:

الأولى- و هي أكثر ما في الباب- ما لم يصرح فيها بالمفهوم كقوله عليه السّلام في صحيحة محمد بن مسلم: «البيّعان بالخيار حتى يفترقا، و صاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام» «1». و نحوها

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 345، الباب 1 من أبواب الخيار، الحديث: 1، رواه الكليني عن أبي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان عن العلاء عن محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه: البيّعان ..» الحديث و الرواية صحيحة، لكون الرواة بأجمعهم ثقات، فلاحظ تراجمهم.

ص: 537

______________________________

في عدم التصريح بالمفهوم صحيحة زرارة «1» و رواية علي بن أسباط «2» و الحسين بن عمر بن يزيد «3» و غيرها.

الثانية: ما صرّح فيه بالمفهوم، كصحيحة فضيل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له: ما الشرط في الحيوان؟ فقال لي: ثلاثة أيّام للمشتري. قلت: و ما الشرط في غير الحيوان؟ قال:

البيّعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما» «4».

و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «أيّما رجل اشترى من رجل بيعا فهما بالخيار حتّى يفترقا، فإذا افترقا وجب البيع» «5».

الثالثة: ما يتضمن حكاية فعل المعصوم عليه السّلام لما يوجب البيع، كصحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه «عليه الصلاة و السّلام» أنّه قال: «إنّ أبي اشترى أرضا يقال لها العريض، فلما استوجبها قام فمضى، فقلت له: يا أبة عجلت القيام؟ فقال: يا بنيّ أردت أن يجب البيع» «6» و نحوها غيرها.

أمّا الطائفة الأولى فلا ريب في عدم دلالتها على المقصود، إذ فيها- مضافا إلى ما مرّ من:

أنّ نفي طبيعة الخيار لا ينافي الجواز الحكمي، لأنّ الخيار حق و الجواز حكم، و نفي الأوّل لا ينفي الثاني، فلا يثبت نفي الخيار اللزوم في مشكوك اللزوم- أنّ دلالتها على المدعى منوطة بكون المراد بالخيار المجعول ماهيّته المطلقة حتى تدلّ الغاية النافية للخيار على سلب ماهيّته، كي يدّعى أنّ هذا السلب ملازم للزوم. و من المعلوم عدم إرادة ماهية الخيار، إذ لا معنى

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 345، الباب 1 من أبواب الخيار، الحديث: 2.

(2) المصدر، ص 346، الحديث: 5.

(3) المصدر، ص 346، الحديث: 6.

(4) المصدر، ص 346، الحديث: 3، رواه الكليني عن محمد بن يحيى العطار عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن جميل عن فضيل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و الكل ثقات، فالرواية صحيحة.

(5) المصدر، الحديث: 4.

(6) المصدر، ص 347، الباب 2 من أبواب الخيار، الحديث: 1 و 2 و غيرهما من أخبار الباب.

ص: 538

______________________________

لجعل الافتراق غاية لمطلق الخيار مع كونه غاية لخيار واحد فقط، بداهة أنّ سائر الخيارات على كثرتها غير مغيّاة بالافتراق، فجعل الافتراق غاية لماهية الخيار- مع كونه غاية لخيار واحد و مسقطا له فقط مع ثبوت سائر الخيارات- مستهجن عند أبناء المحاورة، فلا بد من إرادة خيار خاصّ و هو خيار المجلس، و من المعلوم أنّ سلبه من السلب الخاص غير الملازم للزوم.

و أمّا الطائفة الثانية فيظهر الجواب عنها مما تقدم في الجواب عن الطائفة الأولى، فإنّ قوله عليه السّلام: «فلا خيار» محمول على الخيار المذكور في الصدر، لتبعية الذيل له.

مضافا إلى: ما عرفت من أنّ سلب ماهيّة الخيار مع ثبوت جميع الخيارات- إلّا واحدا- مستهجن عرفا، فمع كون جميع الروايات بصدد بيان ثبوت خيار خاص لا طبيعة الخيار- و أنّ المسلوب بعد الغاية و هي الافتراق هو الخيار الخاص، لا لأجل أنّه المفهوم، بداهة كون المفهوم الاصطلاحي هو ما إذا علّق على الغاية سنخ الحكم لا شخصه- لا يبقى ظهور لصحيحة الحلبي في الإطلاق، و لا في حكم آخر غير ما في سائر الروايات، فلا محيص عن حمله على الوجوب الحيثي.

و بالجملة: فلو دار الأمر بين الحمل على الوجوب الفعلي المطلق، و الالتزام بخروج جميع الخيارات على كثرتها تقييدا، و بين الحمل على الوجوب الحيثي، فالترجيح للثاني.

فعلى هذا لا يصحّ التمسك بالروايات التي صرّح فيها بالمفهوم، لأنّه ليس من المفهوم المصطلح، بل من السلب الخاصّ الذي لا يترتّب عليه إلّا الوجوب الحيثيّ، لا الوجوب الفعلي المطلق المترتّب على المفهوم المصطلح كما لا يخفى.

و أمّا الطائفة الثالثة ففيها- مضافا إلى ظهورها باعتبار قوله عليه السّلام: «استوجبها» في البيع بالصيغة، و إلى: تعارف البيع بالصيغة في الأراضي و القرى، و بعد اشترائها معاطاة- أنّها قضية شخصية لا يعلم الحال فيها، فليس لها إطلاق يشمل المعاطاة.

فتلخص: أنّ روايات خيار المجلس بطوائفها الثلاث لا تدل على لزوم المعاطاة،

ص: 539

[الدليل السابع: الأمر بالوفاء بالعقود]

و قد يستدلّ أيضا بعموم قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) «1»

______________________________

الدليل السابع: الأمر بالوفاء بالعقود

(1) هذه الآية الشريفة دليل سابع على أصالة اللزوم، و نسب الفاضل النراقي قدّس سرّه «2» الى المشهور استدلالهم بها على لزوم كل عقد عرفي. و لم يتعرّض المصنف قدّس سرّه هنا لتقريب دلالتها على المدّعى، و إنّما أفاده في أدلة اللزوم في أوّل الخيارات، فينبغي توضيح كلامه هنا و عدم الإحالة على بحث الخيارات مع ما بين المبحثين من الفصل الكثير، فنقول و به نستعين و بوليّه

______________________________

و عمدة الوجه في عدم دلالتها على ذلك هو كون الوجوب حيثيّا، بعد وضوح جعل الافتراق غاية لخصوص خيار المجلس، فسلب الخيار حينئذ سلب الخاص، فكيف يترتب عليه سلب العام و هو طبيعة الخيار؟ فلا إطلاق لوجوب البيع يقتضي لزومه على وجه الإطلاق بعد الافتراق.

فما في تقرير سيدنا الخويي قدّس سرّه من «أنّ إطلاقها يقتضي اللزوم على وجه الإطلاق بعد التفرّق، فلا موجب لصرفها إلى اللزوم من ناحية خيار المجلس» «3» في غاية الغموض، فلاحظ و تأمّل.

اللهم إلّا أن يقال: إنّ مقتضى إطلاق البيع الموضوع للخيار هو لزوم البيع بالافتراق، سواء أ كان بيعا فعليا أم قوليا، فنفس هذا الإطلاق ينفي الفرد الجوازيّ للبيع.

و بعبارة أخرى: كأنّه قيل: كلّ فرد من أفراد البيع فيه الخيار، ما لم يفترق المتبايعان، فمع افتراقهما يجب البيع وجوبا مطلقا. غاية الأمر أنّ هذا الإطلاق يقيد بأدلة سائر الخيارات، فإنّ سائر الخيارات ثابتة بأسبابها الخاصة. بخلاف خيار المجلس، فإنّه ثابت للبيع أوّلا و بالذات، و لذا أطلق الخيار فيه بقوله: «البيعان بالخيار» و أريد به أنّ الخيار الثابت لطبع البيع مع الغض عن خصوصية المبيع هو خيار المجلس فقط، فلا ينافي ثبوت خيار الحيوان و غيره من الخيارات.

فدعوى دلالة أخبار خيار المجلس على لزوم البيع بسقوطه قريبة جدّا، و اللّه العالم.

______________________________

(1): المائدة، الآية: 1.

(2) عوائد الأيّام، ص 1.

(3) مصباح الفقاهة، ج 2، ص 143.

ص: 540

..........

______________________________

صلوات اللّه و سلامه عليه نتوسّل و نستجير:

إنّ الاستدلال بالآية المباركة يكون تارة بجعل الأمر بالوفاء مولويا، و أخرى إرشادا إلى صحة المعاملة بالمعنى الأعم، و لمّا كان مختار المصنف هو الأوّل كان اللازم الاقتصار على المقدمات الدخيلة في إثبات مقصوده قدّس سرّه.

الأولى: أنّ الأصل الأوّلي في مدلول هيئة «افعل» هو الوجوب التكليفي و بعث المكلّف نحو المادّة، و هذا أصل متّبع لا يرفع اليد عنه إلّا بقرينة، كما التزموا به في صرف الأمر بأجزاء المركبات إلى الإرشاد إلى الجزئية. و أمّا في المقام فلا قرينة تقتضي الحمل على الإرشاد إلى صحة المعاملة و لزوم العقد، فيبقى الأمر بالوفاء على ظاهره من الوجوب المولوي.

الثانية: أنّ معنى الوفاء الذي وقع في حيّز الأمر هو القيام بمقتضى العقد، كما عن البيضاوي، فإذا دلّ عقد البيع على تمليك العاقد ماله لغيره وجب عليه العمل بمقتضاه من تسليمه الى المشتري، و ترتيب آثار مملوكيته له، فلا يجوز أخذه منه بغير رضاه، فإذا تصرّف البائع فيه بغير رضى المشتري كان ذلك نقضا للعقد لا وفاء به.

ثم إنّ في هذا الوفاء المأمور به مدلولا آخر، و هو إطلاقه الأزماني و الأحوالي، و ربما يعبّر عن الأوّل بعمومه بحسب الأزمان، كما في دوران الأمر بين الرجوع الى حكم العام و استصحاب حكم المخصّص.

الثالثة: أنّ «العقود» التي يجب الوفاء بها تكليفا و العمل بمقتضاها قد اختلفت كلماتهم في المراد بها في خصوص الآية المباركة، كما اختلفت كلمات أعلام اللغة في أصل معنى العقد، فينبغي الإشارة إلى كلا الاختلافين.

أمّا في معناه اللغوي ففي اللسان: «العقد نقيض الحل» «1» و في المفردات: «الجمع بين أطراف الشي ء، و يستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل و عقد البناء، ثم يستعار ذلك

______________________________

(1): لسان العرب، ج 3، ص 296.

ص: 541

..........

______________________________

للمعاني نحو عقد البيع» «1» و في القاموس: «عقد الحبل و البيع و العهد يعقده: شدّه» «2» و في الصحاح: «عقدت البيع و الحبل و العهد فانعقد» «3» و عن البيضاوي: «العقد: العهد المشدّد».

و في مجمع البيان: «العقود جمع عقد بمعنى معقود، و هو أوكد العهود. و الفرق بين العقد و العهد: أنّ العقد فيه معنى الاستيثاق و الشّد، و لا يكون إلّا بين متعاقدين، و العهد قد ينفرد به الواحد، فكل عهد عقد، و لا يكون كل عقد عهدا. و أصله: عقد الشي ء بغيره، و هو وصله به، كما يعقد الحبل» «4».

هذه بعض كلماتهم، و لعلّها تتلخّص في معنيين:

أحدهما: مطلق العهد و الالتزام النفساني سواء أ كان بين شخصين كالعقود، أم شخص واحد كالحلف و اليمين، و سواء أ كان مشدّدا لا يجوز فسخه و العدول عنه أم غير مشدّد.

ثانيهما: خصوص العهد المؤكّد الذي يقتضي بحسب طبعه العمل بمقتضاه، و عدم الرجوع عنه. هذا بحسب اللغة.

و أما اختلاف المفسّرين في خصوص ما يراد من العقود في هذه الآية المباركة، فقد نقل أمين الإسلام أقوالا أربعة بعد تفسير العقود بالعهود.

أحدها: العهود التي كان أهل الجاهلية يعاهد بعضهم بعضا على النّصرة و المؤازرة و المظاهرة على من حاول ظلمهم.

ثانيها: العهود التي أخذها الباري جلّ و علا على عباده بالايمان به و طاعته فيما أحلّ لهم أو حرّم عليهم.

______________________________

(1): مفردات ألفاظ القرآن الكريم، ص 341.

(2) القاموس المحيط، ج 1، ص 315.

(3) صحاح اللغة، ج 2، ص 510.

(4) مجمع البيان، ج 3، ص 151.

ص: 542

..........

______________________________

ثالثها: العقود التي يتعاهدها الناس كعقد الأيمان و عقد النكاح و العهد و البيع، أي العقود الفقهية و المعاملات بالمعنى الأعم.

رابعها: العهود المأخوذة من أهل الكتاب على العمل بما فيها من تصديق نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثم رجّح أمين الإسلام قدّس سرّه القول بعموم العهود لكلّ ما أوجبه اللّه تعالى على العباد و الفرائض و الحدود و العقود الفقهية المتداولة بين العقلاء «1».

و هذه المعاني الأربعة أنهاها الفاضل النراقي إلى ستة أو ثمانية، فراجع كلامه «2».

و كيف كان فتقريب الاستدلال بالآية الشريفة على لزوم المعاطاة هو: أنّ العقد- سواء أ كان مطلق العهد أم خصوص المؤكّد- يصدق على المعاطاة، إذ لا شبهة في أنّ عنوان العقد لا يتقوّم باللفظ، لحصول المعاقدة- و الربط بين التزامين- بكلّ من اللفظ و الفعل، فيجب الوفاء بما يقتضيه العقد من تمليك أو تزويج أو غيرهما، و يحرم نقضه.

و من المعلوم أنّ الوفاء بالعقد ليس مجرّد ترتيب الأثر عليه حدوثا، بل يدور صدق الوفاء مدار القيام بمقتضى العقد بقاء أيضا، فلو لم يستمرّ العاقد في العمل بمقتضى العقد لم يصدق الوفاء به، بل صدق مقابله و هو النقض الذي هو رفع اليد عن بقاء مقتضى العقد.

فإذا باع زيد كتابا من عمرو بالمعاطاة و سلّمه إيّاه، و لكنّه بعد ساعة رجع و استردّ الكتاب منه لم يصدق أنّه وفى بالعقد بقول مطلق، بل صدق عليه عنوان النقض، لأنّ وفاءه كان في الساعة الأولى خاصة، مع أنّ مدلول الآية الشريفة وجوب ترتيب أثر العقد في جميع الآنات المتأخرة عن العقد، و هذا هو اللزوم، إذ لا يجوز للبائع أن يفسخ العقد و يتملّك الكتاب مرّة أخرى.

و بهذا التقريب ظهر عدم جريان توهم التمسك بالعام في الشبهة المصداقية «لاحتمال تأثير الفسخ و الرجوع في رفع أثر العقد، و عود المال إلى البائع» وجه عدم الجريان: أنّ الآية

______________________________

(1): مجمع البيان، ج 3، ص 151 و 152.

(2) عوائد الأيام، العائدة الاولى، ص 2 إلى 5.

ص: 543

بناء (1) على أنّ العقد هو مطلق العهد كما في صحيحة عبد اللّه بن سنان «1»، أو العهد المشدّد كما عن بعض أهل اللغة (2)، و كيف كان (3) فلا يختص (4)

______________________________

المباركة- بمقتضى الإطلاق- تدل على وجوب الوفاء بالعقد في كل حال و في كل زمان، فالتصرفات الواقعة بعد الفسخ محرّمة أيضا، لكونها نقضا للعقد، و ينتزع من حرمة هذه التصرفات تكليفا فساد الفسخ وضعا، و عدم ارتفاع العقد به بناء على ما حرّر في الأصول من انتزاع الوضع من التكليف و عدم تأصّله في الجعل، هذا.

(1) قد عرفت وجه هذا التقييد، و أنّ الاستدلال بالآية يتوقف على أحد القولين في المراد بالعقد.

أحدهما: مطلق العهد، كما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره- بسند صحيح- عن الصادق عليه السّلام.

ثانيهما: خصوص العهد المشدّد، كما ورد في كلام جمع من اللغويين.

و أمّا لو كان المراد بالعقود في هذه الآية المباركة أمورا أخر- كما تقدمت في كلام مجمع البيان- كانت أجنبية عمّا نحن فيه.

(2) كالفيروزآبادي و الجوهري و البيضاوي، و نحوهم صاحب معيار اللغة.

(3) أي: سواء أ كان العقد مطلق العهد أم خصوص المشدّد يتجه الاستدلال، لعدم اختصاص مطلق العهد- و لا خصوص المشدّد منه- باللفظ، لصدقه على إنشائه بالفعل أيضا.

و بالجملة: فالمراد بالوفاء بالعقد هو العمل به مستمرّا، و يقابله الحلّ و النقض.

و المقصود بالأمر هو وجوب الوفاء تكليفا في جميع الأزمنة التي منها زمان فسخ أحدهما، فلا ينفذ الفسخ في انحلال العقد.

(4) أي: لا يختص العقد باللفظ كما قيل، إذ المعاقدة كما تحصل بالقول كذلك تحصل بالفعل، فتكون المعاطاة عقدا، حيث إنّ المراد بالشّد مطلق الربط و إن لم يكن لازما، و لذا يمكن الجمع بين التفسير بالعهد الموثق و بين حسن الوفاء به، و هو كالمفسّر لسائر كلمات أهل اللّغة ممّن عبّر بالشّد كالقاموس و المعيار و المنجد و أقرب الموارد، فالمراد بالأحكام

______________________________

(1): تفسير القمي، ج 1، ص 160.

ص: 544

باللفظ [1] فيشمل المعاطاة.

______________________________

و الشّد هو إيقاع الربط كما يستفاد من المحكيّ عن أقرب الموارد «عقد الحبل و البيع و العهد و اليمين و نحوها عقدا: أحكمه و شدّه، و هو نقيض حلّه» و عنه «حل العقدة حلّا: نقضها و فتحها».

______________________________

[1] خلافا للمحقق النائيني قدّس سرّه حيث ذهب إلى اختصاص العقد باللفظ، فإنّه بعد تقسيم اللزوم إلى حكمي و حقي- و تمثيله للأوّل بالنكاح و الضمان و الهبة لذي الرحم و نحو ذلك من القربات التي لا رجعة فيها، و لذا لا تصحّ فيها الإقالة، و لا يصح جعل الخيار لأحد الزوجين في النكاح و للثاني بالعقود المعاوضية اللفظية من التنجيزيّة كالصلح و البيع و الإجارة، و التعليقيّة كالسبق و الرماية- قال ما لفظه:

«فإنّ بقوله: بعت ينشأ أمران: أحدهما مدلول مطابقي للّفظ، و هو تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله الذي ينشأ بالفعل أيضا، لأنّه أيضا مصداق لعنوان البيع بالحمل الشائع الصناعي.

و ثانيهما: مدلول التزامي له، و هو التزامهما بما أنشئاه، و هو يختص بما إذا أنشأ التبديل باللفظ دون الفعل، فإنّ الدلالة الالتزامية بحيث يرى في العرف و العادة ملازمة بين تبديل طرف إضافة بمثله و التزام البائع بكون المبيع بدلا عن الثمن و التزام المشتري بكون الثمن عوضا عن المثمن تجري في اللفظ.

و أمّا الفعل فقاصر عن إفادة هذا المعنى، فإنّ غاية ما يفيده هو تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله إذا قصد منه. و أمّا التزام البائع ببقاء بدلية المبيع للثمن فليس الفعل دالّا عليه ..

الى أن قال: فعلى هذا لا يمكن ثبوتا أن يفيد الفعل الالتزام العقدي، بل هو خارج بالتخصص عن عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، فإنّ العقد إنّما يسمى عقدا لكونه مفيدا للعهد المؤكّد و الميثاق و التعهد، و الفعل قاصر عن إفادة هذا المعنى.

نعم يمكن إيجاد هذا المعنى بالفعل أيضا، إلّا أنّه لا بالتعاطي، بل بالمصافقة و نحوها.

و أمّا باب الألفاظ فحيث إنّ الملازمات العرفية من أنحاء المدلولات، و العرف يرى من أوجد البيع بلفظ- بعت- أنّه التزم ببقائه على ما أنشأه، فيمكن أن ينشأ بلفظ- بعت-

ص: 545

______________________________

معنيان: أحدهما نفس التبديل، و ثانيهما التزامهما بما التزما به من التبديل» «1».

و أنت خبير بأن ما أفاده قدّس سرّه مما لم يقم عليه دليل، إذ قوله: «بعت» مثلا لا يدلّ بمادته و لا بهيئته على الالتزام ببقاء بدليّة المبيع عن الثمن، و ذلك لأنّ معنى مادّة- بعت- هو التبديل أو التمليك، فمدلول المادة ليس غير تبديل طرف الإضافة. و الهيئة تدلّ على نسبة البيع الى المتكلم نسبة صدورية. و أمّا الالتزام باستمرار البدليّة بين المالين فهو معنى اسميّ أجنبيّ عن مدلول كل من المادة و الهيئة.

فالحق أن يقال: إن كان الالتزام المزبور من لوازم التبديل المذكور عرفا، فهذا اللازم ثابت له بمجرد تحققه، لأنّه من لوازم ذات التبديل، لا بما أنّه مفاد اللفظ، فإذا ثبت المعنى و هو التبديل بلفظ أو فعل ثبت لازمه المزبور. و عليه فيمتنع التفكيك بين التبديل المتحقق باللّفظ أو الفعل و بين الالتزام ببقائه.

و إن لم يكن الالتزام المزبور من لوازم التبديل لم يدلّ التبديل عليه، سواء أنشئ التبديل باللفظ أم بالفعل، و من المعلوم أنّ بناء العرف في تبديل الأموال بالبيع على استمرار البدلية بين الثمن و المبيع، فنفس التبديل من غير فرق بين إنشائه باللفظ أو الفعل يدلّ على الالتزام المزبور. فدعوى «عدم صدق العقد على المعاطاة لخلوّها عن اللفظ، فلا تدل على الالتزام بالبقاء» خالية عن البرهان.

فلا فرق بين اللفظ و الفعل في الدلالة على الالتزام المذكور، فصدق العقد على المعاطاة مما لا ينبغي الارتياب فيه، فيشملها عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و يدل على نفوذ التبديل الحاصل من المعاطاة، و الالتزام ببقائه و عدم نقضه هذا.

و قد أورد على الاستدلال بالآية المباركة بوجوه:

الأوّل: ما في حاشية المحقق الايرواني قدّس سرّه و غيرها من: أنّ التمسك بالآية بعد الفسخ غير جائز، لكونه من التشبث بالدليل في الشبهة المصداقية، إذ من المحتمل كون الفسخ موجبا لانحلال العقد و ارتفاعه، فلا يحرز معه وجود العقد و بقاؤه حتى يشمله عموم «أَوْفُوا»، هذا «2».

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 64.

(2) حاشية المكاسب، ص 81.

ص: 546

______________________________

و فيه: أنّه إن أريد بالعقد الإنشائي أو النفساني المقيّد بالإنشاء فلا إشكال في زواله بنفسه لا بالفسخ. و إن أريد به العهد النفساني فزواله بالفسخ منوط بجعل الفسخ رافعا له، و مقتضى الإطلاق الأحوالي هو بقاء العقد، و يترتب عليه وجوب إبقائه و عدم نقضه.

و كذا لو كان المشكوك فيه موضوع العقد كالمبادلة التي وقع العقد عليها.

تقرير الشبهة: أنّه يحتمل ارتفاع المبادلة بالفسخ، فلا معنى حينئذ لوجوب الوفاء بالعقد عليها، للشك في موضوع العقد، الموجب للشك في اندراجه في موضوع وجوب الوفاء.

و الجواب عن ذلك: أنّ الإطلاق الأحوالي يقتضي لزوم الوفاء في جميع الحالات التي منها حال الفسخ و مقتضى هذا الإطلاق وجود العقد بعد الفسخ، فالمبادلة مثلا باقية بعد، فيجب الوفاء بالعقد عليها.

و بالجملة: الإطلاق الأحوالي يحرز بقاء موضوع العقد بعد الفسخ.

الثاني: أنّ خطاب «أَوْفُوا» يمنع تكليفا عن الفسخ و استرجاع العين، لا وضعا، و المدّعى هو عدم تأثير الفسخ في حلّ العقد لا حرمة التصرف تكليفا، هذا.

و فيه أوّلا: أنّ وجوب الوفاء ليس تكليفيّا، بل هو إرشاد إلى صحة المعاملة في جميع الأزمنة و الحالات التي منها حال الفسخ، إذ لا معنى لحرمة التلفظ بكلمة «فسخت أو رجعت» بل المراد هو الإرشاد إلى صحة العقود و نفوذها حدوثا و بقاء، بحيث لا يؤثّر الفسخ في انحلال العقد و نقضه.

و ثانيا: أنّ حرمة التصرف في العين بعد الفسخ تكشف عن عدم نفوذ الفسخ في رجوع الفاسخ، إذ لا وجه لحرمته فيها بعد الفسخ إلّا بقاء العين على ملك مالكه الفعلي و عدم رجوعه الى ملك الفاسخ، فحرمة التصرف لازم بقاء العقد و عدم انفساحه، و هذه الدلالة الالتزامية كافية في إثبات بقاء العقد و عدم تأثير الفسخ فيه، و لا نعني باللزوم الّا بقاء العقد بعد الفسخ، هذا.

الثالث: أنّ الآية لا تجدي في إثبات اللزوم عموما، و إنّما تجدي لإثباته في خصوص ما إذا كان العقد متعلّقا بالفعل حتى يخاطب بخطاب «أَوْفُوا» فلا تشمل الآية العقد الواقع على

ص: 547

______________________________

النتيجة كالمقام، إذ العقد المعاطاتيّ واقع على النتيجة. هذا محصل ما يظهر من حاشية المحقق الايرواني قدّس سرّه «1».

و فيه: أنّ البيع المعاطاتي كالقولي يتعلق بالتمليك أو التبديل، من دون فرق بين العقد القولي و الفعلي، فكلّ منهما يتعلق بالتبديل مثلا الذي هو فعل يتعلق به خطاب أَوْفُوا، هذا.

مع أنّ العقد الواقع على النتيجة يتعلق ب «أَوْفُوا» باعتبار مقتضياته، فإنّ الملكية يترتب عليها آثار من حرمة تصرف غير المالك أو حرمة مزاحمته، فالوفاء بالملكية عبارة عن التصرفات المترتبة عليها، كما لا يخفى.

الرابع: احتمال إرادة غير ما تعارف بين الناس من المعاطاة و نحوها مما لا يكون مفاده غير التمليك و التملك، بأن يكون مرادهم بالعقد- زائدا على الصيغة و نحوها- التشديد و الإحكام بقول أو عمل، فلا تشمل الآية المعاطاة المبحوث عنها في المقام، فحينئذ لا يصح الاستدلال بالآية للزوم المعاطاة، هذا.

و فيه: أنّه لا منشأ لهذا الاحتمال إلّا ما ورد في كلام بعض اللغويين من تفسير العقد بالعهد المشدّد. لكنّه غير وجيه، لما فيه أوّلا من عدم ثبوته، و الظاهر أنّه بمعنى العقدة، و هي أعم من المشدّدة، فهي بالفارسية بمعنى «گره» سواء أ كانت محكمة مبرمة أم لا، ففي المنجد:

«و عقد الخيط جعل فيه عقدة» «2».

و التبادر يقضي بأنّه مطلق ما جعل في الحبل و الخيط.

و يشهد لعدم اعتبار الاستيثاق و التوكيد في معناه قول من فسّره بمطلق العهود

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 81.

(2) المنجد في اللغة، ص 518، الطبعة العشرون.

ص: 548

______________________________

كابن عبّاس و جماعة من المفسرين على ما في مجمع البيان «1». و على هذا فاستعير عقد الحبل لمطلق الربط في الأمور الاعتبارية سواء أ كان فيها شدّ أم لا.

و ثانيا: من معارضة من قال من اللغويين باعتبار الشدّ فيه لقول من لا يقول باعتباره منهم، فلا دليل حينئذ على اعتبار الشدّ فيه، فلا مانع من التمسك بالآية الشريفة للزوم المعاطاة.

الخامس: لزوم تخصيص الأكثر، لخروج المعاملات الجائزة، و هي أكثر من العقود اللازمة، بل و خروج العقود الخيارية، فيخرج بسبب خيار المجلس مثلا مطلق البيوع، هذا.

و فيه أوّلا: أنّه لا يلزم ذلك، لكثرة العقود اللازمة، و قلة العقود الجائزة.

و ثانيا: أنّ كل تخصيص أكثري ليس مستهجنا، و أنّ المستهجن منه هو ما إذا كان الباقي تحت العام بعد التخصيص في غاية القلّة، بحيث يكون التعبير عن القليل ببيان العام مستهجنا عند أبناء المحاورة، و خارجا عن طريقة البيان عندهم، هذا و أمّا الخيارات فهي من باب التقييد لا التخصيص، و الخيار يكون حينئذ من قبيل اعتبار التقابض في صحة بيع الصرف، فالبيع المشدّد المعبّر عنه باللازم مقيّد بعدم الخيار فيه، فالتقييد تارة يكون في ناحية الصحة، و أخرى في ناحية اللزوم.

ثمّ إنّ هذا الإشكال- أي: لزوم تخصيص الأكثر- مبني على كون الآية المباركة بصدد بيان الوجوب التكليفي أو اللزوم الوضعي. و أمّا إذا كانت بصدد الإرشاد إلى الصحة فلا إشكال، إذ ليس مفادها حينئذ إلّا الصحة المشتركة بين العقود- بأسرها- اللازمة و الجائزة، فلا يلزم تخصيص أصلا كما لا يخفى. لكن لازمه أجنبية الآية عن أدلة اللزوم بناء على ما يستفاد من المصنّف قدّس سرّه من عدم كونها من أدلة صحة البيع، حيث إنه لم يستدل بها عليها.

السادس: أنّ المراد بالعقود هي العقود المتعارفة في زمان نزول الآية الشريفة، فلا عموم فيها يشمل المعاطاة.

و فيه: أنّ الجمع المحلّى باللام ظاهر في العموم الشامل للعقود المتعارفة في

______________________________

(1): مجمع البيان، ج 3، ص 151.

ص: 549

______________________________

ذلك الزمان و غيره، و من المعلوم أنّ حمل اللام على العهد إلى عقود خاصة خلاف الأصل.

و نظير هذا الاشكال ما يقال أيضا من: أجنبية الآية عن العقود الفقهية و العهود المتعارفة، إذ المراد بها العقود التي أخذها الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من المسلمين من الإقرار بولاية أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين، كما يظهر ممّا رواه القمّي عن أبي جعفر الثاني عليه السّلام، قال عليه السّلام: «ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عقد عليهم لعليّ عليه السّلام بالخلافة في عشرة مواطن، ثم أنزل يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين عليه السّلام» «1».

و عليه فلا موضوع للاستدلال بهذه الآية على اللزوم من كون الأمر بالوفاء مولويا أو إرشاديا، و من كون العقود مطلق العهود أو خصوص الموثّق منها.

لكن يمكن أن يقال: بأنّ ورود الآية المباركة في الأمر بالوفاء بالميثاق المأخوذ من المسلمين- بل من كافّة أهل السماوات و الأرضين- و تطبيقها عليه لا يمنع من عموميّتها المستفادة من الجمع المحلّى باللام، و من تفسيره بمطلق العهود كما في صحيحة عبد اللّه بن سنان المتقدمة، فالمأمور به هو الوفاء بكل عقد و عهد التزم به المؤمن و أقرّ به، سواء أ كان التزاما معامليا أم نذرا أم عقد القلب على الانقياد للإمام المفترض الطاعة، و القيام بما يقتضيه.

و عليه فلا مانع من هذه الجهة عن الأخذ بالعموم، و اللّه العالم.

السابع: ما عن الفاضل النراقي قدّس سرّه من أنّه يحتمل أن يكون المراد بالعقود في الآية سائر معاني العهد كالوصية و الأمر و الضمان، قال: «و لو سلّمنا أنّ للعهد معنى يلائم العقود الفقهية، فإرادة ذلك من الآية غير معلومة». «2»

و فيه: أوّلا: أنّه لم يظهر مرادفة العقد للعهد، بل الظاهر خلافه.

و ثانيا: أنّ المتسالم عليه بين اللّغويّين و الفقهاء و غيرهم شمول «العقد» للعقود الفقهية.

______________________________

(1): تفسير البرهان، ج 1، ص 431.

(2) عوائد الأيام، ص 8.

ص: 550

[الدليل الثامن: الأمر بالعمل بالشرط]

و كذلك (1) قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «المؤمنون عند شروطهم» «1»

______________________________

الدليل الثامن: الأمر بالعمل بالشرط

(1) كما دلت آية وجوب الوفاء بالعقود على اللزوم، كذلك يدلّ عليه ما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قوله: «المؤمنون عند شروطهم» و هذا هو الدليل الثامن، و ذلك آخر الأدلة التي استدل بها المصنف قدّس سرّه على أصالة اللزوم في الملك.

و ينبغي التعرض لأمرين قبل تقريب الاستدلال:

الأوّل: أنّ هذا الحديث الشريف روي مرسلا عن النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ربما يرمى بالضّعف للإرسال، لكنّه روي مسندا في نصوص معتبرة أسنده الإمام عليه السّلام في بعضها إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لم يسندها إليه في بعضها الآخر، و إن كان كلام أوّلهم و آخرهم صلى اللّه عليهم أجمعين نورا واحدا نابعا من الوحي الإلهي و ترجمانا له.

______________________________

الثامن: ما عنه قدّس سرّه أيضا من: أنّ العهد الموثق إمّا العقد اللازم شرعا، فلا بدّ من إحرازه.

و معه لا حاجة الى التمسك بالآية. أو الموثّق العرفي، فلا بدّ من إثباته. و ليس مجرّد بنائهم على الإبقاء على مقتضى العقد توثيقا له، لأنّ ما لا يقصد فيه الإتيان البتّة ليس عهدا، فحصول التوثيق يحتاج إلى أمر آخر، و على المستدل إثبات التوثيق عرفا «2».

و فيه: ما عرفته من أنّ المراد بالتوثيق هو العرفي، و لا موجب لإرادة اللزوم الشرعي من العقود اللازمة، بعد ما مرّ من عدم كون الوثاقة أمرا زائدا على نفس الربط أو خصوص اللازم منه على الاحتمالين المتقدّمين، فيصحّ التمسّك بالآية لصحّة كلّ معاملة على الثاني، و لصحّة المعاملات المبنيّة على اللزوم عند العرف على الأوّل.

نعم مع الشك في الموضوع- أعني به العقدية- لا مجال للرجوع الى الآية المباركة كما هو واضح.

فتحصل: أنّه يصح التمسك بالآية على صحة المعاطاة بناء على كون أَوْفُوا بِالْعُقُودِ بصدد بيان صحة العقود، و على لزومها بناء على كونها بصدد اللزوم الوضعي، هذا.

______________________________

(1): عوالي اللئالي، ج 1، ص 218، الحديث: 84، و ص 293، الحديث: 173.

(2) عوائد الأيام، ص 8.

ص: 551

..........

______________________________

ففي معتبرة منصور بن بزرج- الآتية في التعليقة- استدلّ الامام الكاظم عليه السّلام بهذه الجملة على وجوب الوفاء بالشرط فقال: «فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: المؤمنون عند شروطهم». «1»

و في موثقة إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام: «أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كان يقول: من شرط لامرأته شرطا فليف لها به، فإنّ المسلمين عند شروطهم إلّا شرطا حرّم حلالا أو أحلّ حراما». «2»

و كذا في معتبرتي عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السّلام «3».

و في معتبرة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث: «و المسلمون عند شروطهم ..». «4»

و عليه فهذا المضمون قد قامت الحجة على صدوره من أهل بيت الوحي عليهم الصلاة و السّلام، و مجرّد روايتها مرسلة في عوالي اللئالي غير قادح في الاعتبار.

مضافا الى: أنّها من الروايات المعتمد عليها في الكتب الفقهية من عصر شيخ الطائفة كما لا يخفى على المتتبع.

الثاني: أنّ المحقق الأردبيلي قدّس سرّه استدل بهذا الحديث الشريف على اللزوم، حيث قال:

«لعلّه يظهر عدم الخلاف في أنّ مقتضى البيع هو اللزوم، مستندا إلى الكتاب و السنة، مثل قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، و مثل قول أبي عبد اللّه عليه السّلام: المسلمون عند شروطهم، إلّا كل شرط خالف كتاب اللّه، فإنّه لا يجوز، في صحيحة عبد اللّه بن سنان، و غير ذلك كما سيجي ء، فهو مؤيّد لما قلناه من اللزوم في بيع المعاطاة، فتذكّر» «5».

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 15، ص 30، الباب 20 من أبواب المهور، الحديث: 4.

(2) وسائل الشيعة، ج 12، ص 353، الباب 6 من أبواب الخيار، الحديث: 5.

(3) المصدر، الحديث: 1 و 2.

(4) وسائل الشيعة، ج 17، ص 408، الباب 21 من أبواب موانع الإرث، الحديث: 1.

(5) مجمع الفائدة و البرهان، ج 8، ص 383.

ص: 552

..........

______________________________

و قد حكاه المصنف عنه في أوّل الخيارات عند ذكر هذا النبوي في عداد أدلة اللزوم، لكنه ناقش في دلالته بمنع صدق الشرط على الالتزامات الابتدائيّة، فراجع.

و أمّا تقريب الاستدلال بهذا النبوي على لزوم كل عقد سواء أ كان مقتضاه الملكية أم غيرها فهو: أنّ الشرط أطلق على الالتزام الابتدائي- لا خصوص الالتزام المأخوذ في ضمن عقد و معاملة- في موارد:

منها: قوله عليه السّلام في ردّ من اشترط على نفسه عدم التزويج بامرأة اخرى: «انّ شرط اللّه قبل شرطكم» حيث أطلق الشرط الأوّل على حكم اللّه الأوّلي من تشريع التزويج بأربع.

و منها: قوله عليه السّلام في خيار الحيوان: «الشرط في الحيوان ثلاثة أيّام» إذ المقصود بالشرط ليس الالتزام المجعول في عقد البيع، بل نفس كون المشتري بالخيار إلى ثلاثة أيام.

و منها: ما ورد في دعاء الندبة: «بعد أن شرطت عليهم الزهد في هذه الدنيا» فإنّ المقصود بالشرط هو الميثاق المأخوذ من الأنبياء عليهم الصلاة و السّلام من الإعراض عن زخارف الدنيا و الزهد فيها.

و منها: غير ذلك مما سيأتي في التعليقة.

فإطلاق الشرط في النصوص على التعهّد الابتدائي مسلّم.

و كذا ورد في كلام بعض اللغويين، قال في المنجد: «الشرط: إلزام الشي ء و التزامه» «1» و ظاهره أعمية الشرط من الالتزام الابتدائي و الضمني، فكما يصدق الشرط على الالتزام بخياطة ثوب في ضمن بيع كتاب بدينار، كذلك يصدق على نفس بيع الكتاب بدينار، لما فيه من الالتزام بالمعاملة و المبادلة بين المالين.

و عليه فيشمل الشرط الالتزامات المعاملية، من غير فرق بين كونها مبرزة بمظهر قولي كالبيع بالصيغة، و فعلي كالبيع المعاطاتي، فكأنّه قيل: إنّ المؤمن ملزم بشرطه، و أنّه لا يزول شرطه بالفسخ، فالبيع المعاطاتي من الالتزامات التي لا تزول بالفسخ، و ليس هذا إلّا اللزوم،

______________________________

(1): المنجد في اللغة، ص 382، الطبعة العشرون.

ص: 553

فإنّ الشرط لغة (1) مطلق الالتزام (2) فيشمل ما كان بغير اللفظ (3).

______________________________

فيدل الحديث المزبور على لزوم المعاطاة [1].

(1) لا بد أن يكون مقصود المصنف من اللغة: بعض اللغويين، و إلّا لما صحّ نسبته إلى اللغة بقول مطلق، إذ فيما بأيدينا من كتبهم تخصيص الشرط بالالتزام الضمني، ففي اللسان:

«إلزام الشي ء و التزامه في البيع و نحوه» «1» و نحوه في القاموس و أقرب الموارد. بل في المنجد أيضا قبل عبارته المتقدمة، حيث قال: «شرط عليه في بيع و نحوه: ألزمه شيئا فيه».

و عليه فكون الشرط في اللغة بمعنى مطلق الالتزام غير ثابت. و تمام الكلام في التعليقة الآتية.

(2) يعني: سواء أ كان ابتدائيا أم ضمنيا، و سواء أ كان قوليا أم فعليا، و عليه فالإطلاق هنا من ناحيتين.

(3) كالمعاطاة، فإنّ الالتزام القلبي فيها يكون كالالتزام في البيع القولي، فيشمله الحديث الدال على وجوب الوفاء به بقول مطلق، و من المعلوم أنّ رجوع أحد المتعاطيين فيما انتقل عنه بالمعاطاة نقض للشرط، و هو منهي عنه تكليفا، و ليس بنافذ وضعا، و هذا هو المقصود من لزوم المعاطاة.

______________________________

[1] فيه: أنّ الاستدلال المزبور مبني على كون الشرط مطلق الالتزام، لا خصوص الالتزام الضمني، و ذلك غير ثابت، لما عرفت من اختلاف اللغويين في معنى الشرط، و ذهاب أكثرهم إلى كونه التزاما في ضمن بيع و نحوه. و مقتضى القاعدة التساقط، و المتيقّن- بل المتبادر- خصوص الالتزام الضمني، فلا يطلق على الابتدائي حقيقة حتى يصح الاستدلال به على المعاطاة، و لا أقلّ من الشك في الشمول.

لا يقال: إنّ استعماله في الشروط الابتدائية في الروايات كاف في ردّ قول بعض أهل اللغة ممّن خصّ الشرط بالضمني، و إثبات كونه أعمّ منه و من الابتدائي، فيطلق «الشرط» على

______________________________

(1): لسان العرب، ج 7، ص 329.

ص: 554

______________________________

نفس البيع كما يطلق على الالتزام الواقع في ضمنه.

فمن تلك الروايات: قول أبي جعفر عليه السّلام- في ردّ من اشتراط عدم التزويج بامرأة أخرى-: «ان شرط اللّه قبل شرطكم» «1» إذ المراد بشرط اللّه جلّ و علا هو نفس تشريع التزويج بالثانية، فأطلق الشرط على الحكم الأوّلي على حدّ إطلاقه على الالتزام الضمني، المدلول عليه بقوله عليه السّلام: «شرطكم».

و منها: قول عائشة لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- في قضية شراء بريرة- «إنّ أهل بريرة اشترطوا ولاءها» «2» فتأمل.

و منها: قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «.. و شرط اللّه آكد». «3»

و منها: قوله عليه السّلام: «الشرط في الحيوان ثلاثة أيّام» «4».

و منها: قول الامام السجّاد عليه السّلام في دعاء التوبة: «و أوجب لي محبّتك كما شرطت.

و لك يا ربّ شرطي أن لا أعود في مكروهك». «5»

و منها: ما ورد في دعاء الندبة من قوله عليه السّلام: «بعد أن شرطت عليهم الزّهد .. إلخ». هذا.

فإنّه يقال: بعد تسليم كونه مستعملا في الموارد المذكورة في الشرط الابتدائي- أنّ الاستعمال أعم من الحقيقة. مع إمكان التفصّي عن ذلك: أمّا في قوله عليه السّلام: «شرط اللّه قبل شرطكم» و «شرط اللّه آكد» فبكونهما مجازا بقرينة المشابهة، حيث إنّ شرط الرجل في ضمن عقد النكاح عدم التزويج على امرأته مشابه لشرطه تعالى جواز تعدد التزويج في النكاح.

و أمّا مثل قوله عليه السّلام: «الشرط في الحيوان .. إلخ» فبأنّ المراد به ظاهرا غير الإلزام

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 15، ص 46، الباب 38 من أبواب المهور، الحديث: 1.

(2) وسائل الشيعة، ج 16، ص 40، الباب 37 من كتاب العتق، الحديث: 1.

(3) مستدرك الوسائل، ج 13، ص 300، الباب 5 من أبواب الخيار، الحديث: 2.

(4) وسائل الشيعة، ج 12، ص 351، الباب 4 من أبواب الخيار، الحديث: 1.

(5) الصحيفة السجادية، الدعاء الحادي و الثلاثون: دعاء التوبة.

ص: 555

______________________________

و الالتزام. و إطلاق الشرط عليه باعتبار الشرط الأصولي و هو كون اللزوم معلّقا على انقضاء الثلاثة، فلزومه معلّق على انقضائها، و جوازه معلّق على بقاء الثلاثة.

و الحاصل: أنّ شرط جواز البيع هو عدم مضي الثلاثة، فإطلاق الشرط على خيار الحيوان بهذه العناية.

و أمّا قوله عليه السّلام: «و أوجب لي محبّتك كما شرطت» فبإرادة التعليق منه أيضا، حيث إنّ الحبّ معلّق على التوبة، فليس المراد به الإلزام أو الالتزام كما هو مورد البحث.

و أمّا قوله عليه السّلام: «و لك يا ربّ شرطي» فالمراد به هو الضمني، لأنّ شرط عدم العود وقع في ضمن التوبة.

و أمّا شرط الولاء للبائع في قصّة شراء بريرة فظهوره في الالتزام الضمني لا الابتدائي مما لا يخفى، فراجع الرواية الثانية من نفس الباب، فإنّها كالصريحة في أنّ موالي بريرة شرطوا الولاء في ضمن البيع، فقضى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن الولاء للمعتق لا للبائع.

و أمّا إطلاقه على البيع في روايات باب من باع سلعة بثمن حالّا و بأزيد منه مؤجّلا- كقوله عليه السّلام في رواية عمار في حديث «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث رجلا إلى أهل مكة، و أمره أن ينهاهم عن شرطين في بيع» «1» و في رواية سليمان بن صالح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن سلف و بيع، و عن بيعين في بيع» «2» و رواية الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام في مناهي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قال: و نهى عن بيعين في بيع» «3»- فالظاهر أنّه من الإطلاق على الشرط بمعنى التعليق، لا بمعنى الالتزام الابتدائي حتى يتم مدّعى المستدل.

توضيحه: أنّ المراد هو بيع سلعة بثمنين مختلفين- زيادة و نقيصة- باختلاف كونه

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ص 367 و 368، الباب 2 من أبواب أحكام العقود، الحديث: 3.

(2) وسائل الشيعة، ص 367 و 368، الباب 2 من أبواب أحكام العقود، الحديث: 4.

(3) وسائل الشيعة، ص 367 و 368، الباب 2 من أبواب أحكام العقود، الحديث: 5.

ص: 556

______________________________

مؤجلا و حالّا، فكأنه قال: إن كان حالّا فبكذا، و إن كان مؤجّلا فبكذا، فإطلاق الشرط على البيع حينئذ باعتبار هذا التعليق الذي هو شرط، لا بمعنى الإلزام و الالتزام حتى يكون التزاما ابتدائيا، و يثبت به إطلاق الشرط على الالتزام مطلقا و إن كان ابتدائيا، و باعتبار التبادل يصدق «بيعان في بيع».

و أمّا الروايتان الواردتان في أبواب المهور فهما:

الأولى: ما رواه منصور بن بزرج عن عبد صالح عليه السّلام قال: «قلت له: إنّ رجلا من مواليك تزوّج امرأة، ثم طلّقها، فبانت منه، فأراد أن يراجعها، فأبت عليه إلّا أن يجعل للّه عليه أن لا يطلقها و لا يتزوّج عليها، فأعطاها ذلك، ثم بدا له في التزويج بعد ذلك، فكيف يصنع؟ فقال: بئس ما صنع، و ما كان يدريه ما يقع في قلبه بالليل و النهار؟ قل له: فليف للمرأة بشرطها، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: المؤمنون عند شروطهم». «1»

الثانية: ما رواه ابن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في رجل قال لامرأته: إن نكحت عليك أو تسرّيت فهي طالق، قال: ليس ذلك بشي ء إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من اشترط شرطا سوى كتاب اللّه فلا يجوز ذلك له و لا عليه». «2»

و نقول فيهما: أمّا الرواية الأولى التي استدلّ بها على إلحاق الشروط الابتدائية بالضمنيّة حكما- و إن لم يصدق عليها الشرط موضوعا- فالجواب عنها- بعد الغض عن ظهورها في الشرط الضمني الواقع في ضمن العقد أو وقوع العقد مبنيّا عليه- هو: أنّ الإلحاق الحكمي إنّما يصح بعد اعتبار الرواية. و ليس كذلك، لأنّها معارضة بما دلّ على بطلان هذا النحو من

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 15، ص 30، الباب 20 من أبواب المهور، الحديث: 4.

و كلمة: «بزرج» بضم الباء الموحدة- و قد تفتح- و ضمّ الزاء المعجمة، و سكون الراء المهملة ثم الجيم، معرّب: بزرگ أي الكبير، نصّ عليه في القاموس، كما نقله العلامة المامقاني قدّس سرّه في تنقيح المقال.

(2) وسائل الشيعة، ج 15، ص 47، الباب 38 من أبواب المهور، الحديث: 2.

ص: 557

______________________________

الشروط، و لذا حملت على التقية أو الاستحباب، هذا.

و أمّا الرواية الثانية الظاهرة في كون شرطيته مفروغا عنها، و أنّ عدم الجواز إنّما هو لأجل مخالفته لكتاب اللّه، و لا أقلّ من إثبات الإلحاق حكما، ففيها:- مضافا إلى عدم ثبوت كونه ابتدائيا، لقوة احتمال أن يكون الشرط في ضمن العقد و لو بوقوع عقد النكاح مبنيّا عليه- أن الاستدلال المزبور مبني على التقيّة، حيث إنّ الطلاق لا يقع بهذا النحو مطلقا و إن كان الشرط سائغا، و لعلّ بناء الناس على إدراج هذا النحو من الالتزام في قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «المؤمنون عند شروطهم» إنّما كان لأجل قرائن، لا لكونه مقتضى العرف و اللغة.

و الحاصل: أنّ دلالة هذين الخبرين على أعمية الشرط للابتدائي- و إلحاق الابتدائي بالضمني حكما- في غاية المنع.

و أمّا ما ورد في باب اشتراء الطعام و تغيّر السعر قبل قبضه من الروايات «1»- التي يظنّ منها إطلاق الشرط على البيع، أو مطلق القرار، و كذا في باب السلف و غيره- ففيه: أنّ المراد به ظاهرا هو الشرط بمعنى التعليق، أو الشرط الضمني، فلا تجدي في المقام، و لا تثبت إطلاق الشرط على الالتزام الابتدائي حتى يقال: إنّ المعاطاة أيضا التزام ابتدائي، فيشمله حديث:

المؤمنون عند شروطهم.

فتلخص من جميع ما ذكرنا: أنّه لم يثبت إطلاق الشرط لغة و عرفا على الالتزام الابتدائي الذي جعل المصنّف قدّس سرّه الاستدلال مبنيّا عليه، هذا.

و لا يخفى أنّه يمكن منع صحة الاستدلال بالحديث المزبور و لو بعد تسليم أعمية الشرط للشرط الابتدائي موضوعا أو حكما، و ذلك لأنّ البيع مبادلة خاصة أو تمليك عين متمولة بعوض متمول على ما تقدم في محله، و على التقديرين لا يندرج البيع و غيره من

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 401، الباب 26 من أبواب أحكام العقود.

ص: 558

______________________________

العقود في الشرط الذي معناه الالتزام، و من المعلوم أنّ الإلزام أو الالتزام ليس معنى مطابقيا للمعاملات، و لا التزاميا لها. نعم بناء العقلاء على لزوم بعض المعاملات و إن كان مسلّما، لكنه غير كون المعاملة إلزاما و التزاما، كما هو مورد البحث، فدعوى تماميّة الاستدلال بناء على أعمية الشرط للشروط الابتدائية غير مسموعة.

نعم لو ثبت كون الشرط مطلق الجعل و القرار- أو مطلق الجعل المستتبع للإلزام و الضّيق كما عن بعض حواشي المتن- لكان البيع و نحوه داخلا فيه، و لصحّ التمسك بحديث:

المؤمنون عند شروطهم.

لكنهما ضعيفان، إذ لازم الأوّل صحة إطلاق الشرط على جعل النصب و الإشارات، و هو كما ترى.

و لازم الثاني صحة إطلاق الشرط على جعل الأمارة الشرعية المستتبعة للضيق و الإلزام، و لم يعهد هذا الإطلاق أصلا.

نعم يمكن إلغاء الخصوصية عرفا و التعدي إلى الشروط الابتدائية- بل الى مطلق الجعل و القرار- بمناسبة الحكم و الموضوع، بدعوى: أنّ العرف يفهم من مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«المؤمنون عند شروطهم» أن ما يكون المؤمن ملزما به هو نفس الجعل و قراره من غير دخالة لعنوان الشرط فيه، فالضمنيّة و الابتدائية و الشرط و سائر عهوده على السواء في ذلك، فيتجه الاستدلال حينئذ بحديث «المؤمنون عند شروطهم» على لزوم المعاطاة، هذا.

لكنه لا يخلو من تأمل، لأنّ إلغاء الخصوصيّة منوط بالعلم بوحدة المناط، أو ظهور اللفظ في العموم و لو بقرينة توجب كون اللفظ ظاهرا فيه عرفا. و الكل مفقود في المقام.

و مجرد الاحتمال غير مجد كما لا يخفى. فالاستدلال بالحديث لإثبات لزوم المعاطاة و كونها كالبيع بالصيغة غير وجيه. هذا.

فتلخص ممّا ذكرنا: أنّ الاستدلال بحديث «المؤمنون عند شروطهم» لا يستقيم بشي ء من الوجوه المزبورة: من أعمية الشرط للشروط الابتدائية، و من إلغاء خصوصية الشرط،

ص: 559

و الحاصل (1): أن الحكم باللزوم

______________________________

(1) لمّا فرغ المصنف قدّس سرّه من إقامة الدليل على أصالة اللزوم نبّه على ما تحصّل منها تمهيدا للمناقشة في ترتب الملك اللازم على خصوص المعاطاة في البيع. و حاصل تلك الأدلة الثمانية أمران:

الأوّل: أنّ الأصل في كل عقد مملّك هو اللزوم، سواء حصل بالبيع أم الصلح أم الهبة أم غيرها، و تزلزله منوط بدليل خاص.

الثاني: أنّ الأصل في خصوص البيع هو اللزوم، سواء أنشئ باللفظ أم بالتعاطي.

و عليه فلا يبقى مجال لسائر الأقوال في المسألة، مثل كون المعاطاة بيعا فاسدا كما في نهاية العلامة، و كونها مفيدة للإباحة المحضة كما نصّ عليه المشهور في كلماتهم، و كونها مفيدة للملك اللازم بشرط كون الدال على التراضي لفظا كما نقله الشهيد الثاني عن بعض مشايخه، و وافقه جمع.

و مقصود المصنف فعلا تمهيد الكلام لرفع اليد عن هذا الأمر الثاني، و أنّ أصالة اللزوم في العقود المملّكة و البيع اللفظي و إن كانت حجة، إلّا أنها في خصوص المعاطاة معارضة

______________________________

و من جعل الشرط مطلق الجعل أو خصوص الجعل المستتبع للإلزام و الضيق، و لا من إطلاق الشرط على البيع في بعض الروايات المتقدمة، و ذلك لما عرفت من المناقشة في الجميع.

ثم إنّ قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «المؤمنون عند شروطهم» جملة خبرية استعملت في مقام الإنشاء كسائر الجمل الخبرية المستعملة في الإنشاء، و المنشأ هو الوجوب كما يقتضيه الغلبة.

فدعوى: «كون المستفاد منها حكما أخلاقيا مسوقا لما يقتضيه الايمان و يقود إليه، نظير:

المؤمن إذا وعد وفى» كما أفاده المحقق الايرواني قدّس سرّه «1» غير مسموعة. فدلالة الحديث على وجوب الوفاء بالشروط مما لا مساغ لإنكاره. و بقية الكلام في هذا المقام موكولة إلى مبحث الشروط.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 81.

ص: 560

في مطلق الملك (1)، و في خصوص البيع (2) مما لا ينكر.

لكن (3) الظاهر فيما نحن فيه (4) قيام الإجماع

______________________________

بالإجماع على عدم لزوم الملك فيها، فلا بد من علاج المعارضة، و ستأتي تتمة الكلام في ذلك.

(1) كما اقتضته الأدلة العامة، و هي آيتا حرمة الأكل بالباطل و وجوب الوفاء بالعقود، و حديث السلطنة و الحل و الشرط، و الاستصحاب.

(2) كما اقتضاه أخبار خيار المجلس، لاختصاص مدلولها بلزوم عقد البيع.

(3) هذا شروع في الاشكال على القول بإفادة المعاطاة للملك اللّازم، و غرضه إقامة الدليل على تخصيص قاعدة اللزوم- في الملك و البيع- بالمعاطاة، و أنّ الملك الحاصل بالمعاطاة خارج عن حيّز هذه القاعدة، لوجوه:

أوّلها: الإجماع، و هو يقرّر تارة بنحو الإجماع البسيط، و أخرى بنحو الإجماع المركب.

ثانيها: دلالة بعض الأخبار على اعتبار اللفظ في إنشاء البيع.

ثالثها: السيرة على عدم الاكتفاء بالتعاطي في البيوع الخطيرة.

أمّا الإجماع فالظاهر تحققه، ففي الجواهر- لدى التعليق على قول المحقق: و لا يكفي التقابض- ما لفظه: «للأصل المقرّر بوجوه: الإجماع بقسميه أو الضرورة. و صدق البيع مثلا بعد التسليم و التجارة عن تراض لا يستلزم تحقق العقد الذي يترتب عليه اللزوم ..». «1»

و عليه لا بد من تخصيص أصالة اللزوم في الملك و البيع، و الالتزام بالملك المتزلزل الذي اختاره المحقق الثاني، و يتوقف لزوم المعاطاة على طروء بعض الملزمات من التلف و التصرف و نحوهما.

هذا كله في أصل تحقق الإجماع، و سيأتي بيان بعض الوجوه المؤيّدة له.

و أمّا سائر الأدلة فسيأتي بيانها بعد ذلك إن شاء اللّه تعالى.

(4) و هو المعاطاة.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 210.

ص: 561

على عدم لزوم المعاطاة (1) بل ادّعاه صريحا بعض (2) الأساطين في شرح القواعد.

و يعضده (3) الشهرة المحققة، بل لم يوجد به (4) قائل

______________________________

(1) هذا هو الإجماع البسيط على عدم لزوم المعاطاة، في مقابل الإجماع المركب الآتي.

(2) يعني: أنّ كاشف الغطاء قدّس سرّه ادّعى الإجماع على عدم لزوم المعاطاة، لا مجرّد الإجماع على اعتبار اللفظ في البيع، لاحتمال إرادة عدم الصحة لا عدم اللزوم. لوضوح أنّ الإجماع على اعتبار اللفظ يلتئم مع القول بالإباحة كما هو المشهور، و القول بالملك المتزلزل.

و بهذا ظهر وجه إضرابه عن ظهور الإجماع إلى صراحته في نفي اللزوم، حيث إنّ معقد إجماع مثل صاحب الجواهر مجرّد اعتبار اللفظ في البيع و العقود اللازمة. و معقد إجماع كاشف الغطاء نفي تأثير المعاطاة في الملك اللازم.

(3) أي: و تعضد الشهرة الإجماع، و غرضه تأييد دعواه الإجماع- على عدم لزوم المعاطاة- بأمور ثلاثة، و هي الشهرة و اجماعان منقولان:

فالأوّل هو الشهرة الفتوائية القطعية على عدم ترتب الملك اللازم على المعاطاة. قال الشهيد الثاني- في شرح قول المحقق: و لا يكفي التقابض- ما لفظه: «هذا هو المشهور بين الأصحاب، بل كاد أن يكون إجماعا، غير أنّ ظاهر المفيد رحمه اللّه يدل على الاكتفاء في تحقق البيع بما دلّ على الرّضا به ..» «1» فإنّ المشهور ينكرون لزوم الملك بالمعاطاة، سواء أبقيت عبائرهم على ظاهرها من الإباحة المحضة، أم حملت على الملك الجائز.

و على هذا فالإجماع المدّعى على عدم اللزوم يتأيّد بفتوى المشهور، و يشكل مخالفته بدعوى كونه منقولا بخبر الواحد.

(4) أي: بلزوم المعاطاة، و غرضه الترقّي عن الشهرة إلى دعوى الإجماع، يعني: أنّ الإجماع الذي ادّعاه كاشف الغطاء على عدم اللزوم ليس إجماعا حادثا، بل هو متلقّى من السلف الصالح، لذهاب الأصحاب طرّا- قبل عصر المحقق الأردبيلي- الى عدم اللزوم.

فان قلت: إنّ القائل باللزوم من القدماء هو المفيد، فلا إجماع منهم على عدم اللزوم،

______________________________

(1): مسالك الافهام، ج 3، ص 147.

ص: 562

إلى زمان بعض (1) متأخري المتأخرين، فإن (2) العبارة المحكيّة عن المفيد قدّس سرّه في المقنعة لا تدلّ على هذا القول كما عن المختلف الاعتراف به (3)، فإنّ المحكي عنه أنه قال: «ينعقد البيع على تراض بين الاثنين فيما يملكان التبايع له إذا عرفاه جميعا و تراضيا بالبيع و تقابضا و افترقا بالأبدان» «1» انتهى.

______________________________

و لا ينحصر القائل باللزوم في المحقق الأردبيلي و غيره ممن هو في طبقة متأخري المتأخرين.

________________________________________

جزائرى، سيد محمد جعفر مروج، هدى الطالب في شرح المكاسب، 7 جلد، مؤسسة دار الكتاب، قم - ايران، اول، 1416 ه ق

هدى الطالب في شرح المكاسب؛ ج 1، ص: 563

قلت: الظاهر اتفاق القدماء على عدم اللزوم، لعدم إحراز مخالفة الشيخ المفيد لهم، إذ في عبارته احتمالان، و ليس كلامه صريحا و لا ظاهرا في اللزوم حتّى يعدّ مخالفا للمشهور.

(1) و هو المحقق الأردبيلي و الكاشاني «2» و المحدث الجزائري قدّس سرّهم قال جدّنا الأجل السيد الجزائري قدّس سرّه في ذيل الكلام المتعلق بآية التجارة- على ما حكي عنه- ما لفظه: «و اعلم أنّه يمكن أن يستفاد من ظاهر الآية حكمان، أحدهما عدم توقف المبايعة و لزومها على العقد المصطلح بين فقهائنا من الإيجاب و القبول كميّة و كيفيّة، لأنّه جعل مناط الصحة هو التراضي، و هذا عن شيخنا المفيد طاب ثراه في تجويز بيع المعاطاة. و ثانيهما: فساد بيع الفضولي، لأنّه لم يقع عن تراض من أهل المال، و إليه ذهب الشيخ رحمه اللّه في المبسوط. و المشهور بين علمائنا الجواز تعويلا على رواية عروة، و ذكر مضمون الرواية، ثم قال: و فيه بعد تسليم الرواية جاز أن يكون ذلك لكون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وكّله وكالة مطلقة» «3» انتهى كلامه رفع مقامه.

و الشاهد في قوله: «عدم توقف المبايعة و لزومها على العقد المصطلح بين الفقهاء» لصراحة هذا الكلام في إفادة المعاطاة ملكا لازما.

(2) هذا دفع ما يتوهم من منافاة ما عن المفيد من اللزوم لقوله: «بل لم يوجد به قائل ..

إلخ» و قد تقدم توضيحه بقولنا: «ان قلت .. قلت».

(3) أي: الاعتراف بعدم الدلالة، قال العلامة في المختلف: «و لا تكفي المعاطاة في العقد،

______________________________

(1): المقنعة، ص 591.

(2) مجمع الفائدة و البرهان، ج 8، ص 142، مفاتيح الشرائع، ج 3، ص 48.

(3) غاية المرام في شرح تهذيب الاحكام، الجزء الثالث، مخطوط.

ص: 563

و يقوى (1) إرادة بيان شروط صحّة العقد الواقع بين اثنين و تأثيره في اللزوم، و كأنّه لذلك (2) حكى كاشف الرّموز عن المفيد و الشيخ رحمه اللّه: أنّه لا بدّ في البيع عندهما من لفظ مخصوص.

______________________________

ذهب إليه أكثر علمائنا، و للمفيد رحمه اللّه قول يوهم الجواز، فإنّه قال: و البيع ينعقد .. إلخ» ثم قال العلّامة: «و ليس في هذا تصريح بصحته، إلّا أنّه موهم». «1»

و مقصوده: أنّ العبارة المذكورة توهم صحة المعاطاة- عند المفيد- و إفادتها للملك، و ليست صريحة في ذلك حتى يعدّ المفيد مخالفا للقائلين بعدم لزوم المعاطاة.

(1) غرضه أنّ عبارة الشيخ المفيد قدّس سرّه تحتمل ضعيفا إرادة اللزوم بعد استجماع البيع للشروط التي ذكرها، و من المعلوم أنّ الصيغة لم تذكر من تلك الشروط، و مقتضى ذلك كون المعاطاة الجامعة لتلك الشرائط لازمة، فعليه يكون الشيخ المفيد قدّس سرّه مخالفا للمجمعين.

و لكن يحتمل في عبارته قويّا عدم إرادة انحصار شروط الصحة و اللزوم فيما ذكره حتى يقتضي عدم التصريح بشرط آخر انعقاد البيع و لزومه، بل مقصوده بيان شرائط الصحة كمعرفة العوضين، و التراضي بالبيع، و شرائط اللزوم كالتقابض المترتب على البيع، و الافتراق بالأبدان، و مقتضى شرطيّة شي ء هو فقدان المشروط بانتفائه، كشرطية الطهارة للصلاة، فإنّ مقتضى شرطيّتها هو انعدام الصلاة بانعدامها، و من المعلوم أنّ شرطية الطهارة لها لا تنافي شرطية شي ء آخر للصلاة كما لا يخفى.

و عليه فشرطيّة ما ذكره الشيخ المفيد رحمه اللّه لصحة البيع و لزومه لا تنافي شرطية غيره كالإيجاب و القبول.

و يؤيّده أنّ الشيخ المفيد لم يذكر الصيغة في عقد النكاح، مع أنّ اعتبارها فيه من القطعيّات، فحينئذ لا يمكن عدّ المفيد مخالفا.

فغرض المصنف من قوله: «و يقوى» هو عدم كون المفيد مخالفا للمجمعين.

(2) يعني: و لأجل كون مراد المفيد شروط صحة البيع و لزومه حكى كاشف الرموز .. إلخ، حيث بنى الفاضل الآبي قدّس سرّه صحة بيع الفضولي و بطلانه على اقتضاء النهي في المعاملات فساد

______________________________

(1): مختلف الشيعة، ج 5، ص 51.

ص: 564

و قد تقدّم (1) دعوى الإجماع من الغنية على عدم كونها بيعا (2)،

______________________________

المنهي عنه، و عدمه، فالقائل بالاقتضاء يلزمه القول بالفساد، إلّا أن يقول إنّ عقد البيع لا يستلزم لفظا مخصوصا، بل كلّ ما يدل على الانتقال فهو عقد، ثم قال: «و إذا تقرّر هذا فلا إشكال على شيخنا دام ظله- و هو المحقق الحلّي- لأنّ النهي عنده في المعاملات لا يقتضي الفساد، و لا للبيع لفظ مخصوص. بل يشكل على الشيخين، لأنّهما يخالفانه في المسألتين» «1».

و الشاهد في الجملة الأخيرة، حيث إنه نسب- جازما- إلى الشيخ المفيد و الطوسي قدّس سرّهما اعتبار لفظ مخصوص في عقد البيع، فيكون مختار الشيخ المفيد ما هو المشهور من اعتبار الصيغة المخصوصة في انعقاد البيع، و ليست المعاطاة بيعا.

و لعلّ إسناد كاشف الرموز اعتبار اللفظ المخصوص في البيع الى المفيد قدّس سرّه يكون لأجل اعتبار التقابض بعد قوله: «و ينعقد البيع» إذ لا معنى لشرطية التقابض للمعاطاة، لأنّ حقيقتها التقابض، و لا معنى لكون شي ء شرطا لنفسه، فلا بد أن يراد بالبيع بقوله: «و ينعقد البيع» خصوص القولي. و عليه فمورد كلام الشيخ المفيد هو البيع اللفظي، لا الأعم منه و من الفعلي، و لا خصوص الفعلي حتى يقال: إنّه قائل باللزوم، و مخالف للمجمعين القائلين بعدم لزوم المعاطاة.

(1) غرضه قدّس سرّه من الإشارة إلى كلام السيد ابن زهرة قدّس سرّه تأييد ما ادعاه بقوله: «بل لم يوجد به قائل إلى زمان بعض متأخري المتأخرين» و هذا معاضد ثان للإجماع المنقول الذي ادّعاه بعض الأساطين، فليس ذلك إجماعا منقولا بخبر الواحد حتى يرمى بعدم الاعتبار، بل هو إجماع متضافر النقل.

(2) حيث قال في عبارته المنقولة عند نقل الأقوال في المعاطاة: «و احترازا أيضا عن القول بانعقاده بالمعاطاة .. فإنّ ذلك ليس ببيع. يدلّ على ما قلناه الإجماع المشار إليه». «2»

______________________________

(1): كشف الرموز، ج 1، ص 445 و 446.

(2) غنية النزوع، ص 524 (الجوامع الفقهية).

ص: 565

و هو (1) نصّ في عدم اللزوم [1].

______________________________

(1) يعني: و إجماع السيد ابن زهرة على نفي بيعية المعاطاة نصّ في عدم لزومها بلحاظ القدر المتيقن منه.

فان قلت: لا وجه لجعل إجماع السيد مؤيّدا و معاضدا لإجماع بعض الأساطين على عدم ترتب الملك اللازم على المعاطاة، و ذلك لأنّ مقصود السيد من الإجماع على نفي بيعية المعاطاة نفي الماهية و الصحة، لقوله: «و إنّما هو إباحة التصرف» و عليه فالمعاطاة عند ابن زهرة بيع فاسد لا يفيد الملك أصلا لا متزلزلا و لا مستقرا، و تفيد الإباحة تعبدا، فلا ربط لكلامه بنفي الملك اللازم و إثبات الملك الجائز حتى يكون معاضدا لإجماع كاشف الغطاء على نفي اللزوم.

قلت: لا مانع من الاستشهاد بكلام السيد و جعل دعواه الإجماع مؤيّدا لعدم اللزوم، و ذلك لدلالة قوله: «ليس ببيع» على أمرين: أحدهما: نفي اللزوم، و الآخر: نفي الصحة.

و دلالته على الأوّل تكون بالصراحة، إذ الأثر الأقصى المترتب على البيع هو الملك اللازم، و هو غير مترتب على المعاطاة سواء قيل بإفادتها الإباحة أم بإفادتها الملك المتزلزل.

و دلالته على الثاني- و هو نفي طبيعة البيع عن المعاطاة- تكون بالظهور، لاحتمال إرادة نفي اللزوم خاصة. و حينئذ فيؤخذ بالقدر المتيقن من قول السيد: «ليس ببيع» و هو عدم مماثلة المعاطاة للبيع بالصيغة في اللزوم، و لا يؤخذ بظهور كلامه في نفي أصل بيعية المعاطاة.

و عليه يتجه ما أفاده المصنف قدّس سرّه من جعل إجماع الغنية موافقا لإجماع بعض الأساطين على عدم لزوم المعاطاة.

______________________________

[1] هذا غير ظاهر، لأنّ نفي البيعية لا يستلزم عدم اللزوم، لإمكان أن يكون المعاطاة إباحة لازمة عندهم، فنفي بيعية المعاطاة لا يدلّ- و لو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع- على نفي اللزوم.

إلّا أن يقال: انّ المدّعى. هو نفي الملك اللازم، و الإباحة اللازمة غير الملك اللازم.

ص: 566

و لا يقدح (1) كونه (2) ظاهرا في عدم الملكية الذي (3) لا نقول به.

و عن جامع المقاصد: «يعتبر اللفظ في العقود اللازمة بالإجماع» (4).

نعم (5) قول العلّامة رحمه اللّه في التذكرة: «انّ الأشهر عندنا: أنّه لا بدّ من الصيغة» «1»

______________________________

(1) يعني: لا يقدح ظهور كلام الغنية- في نفي بيعية المعاطاة- في المدّعى، و هو عدم لزوم المعاطاة.

وجه عدم القدح رفع اليد عن ظهور كلام السيد في نفي مملّكية المعاطاة، و ذلك لقيام الأدلة على إفادتها للملك الجائز، فهذا الظهور لا يمكن الأخذ به من جهة معارضة الأدلّة على مملّكية المعاطاة بمنعها صغرويّا. و قد تقدم توضيح وجه عدم القدح بقولنا: «فان قلت .. قلت».

(2) يعني: كون إجماع الغنية ظاهرا في نفي الموصوف و هو طبيعة البيع، لا خصوص الوصف و هو اللزوم.

(3) وصف لقوله: «عدم الملكية» يعني: لا نقول بعدم الملكية.

(4) هذا الإجماع معاضد ثالث لإجماع بعض الأساطين.

و قد تحصّل إلى هنا: أنّ الإجماع المتضافر نقله قد قام على عدم ترتب ملك لازم على المعاطاة، و عليه لا بدّ من تخصيص أصالة اللزوم- في الملك و البيع- بهذه الإجماعات المنقولة.

و سيشرع المصنف في هدم هذه الإجماعات، فانتظر.

(5) استدراك على قوله: «لكن الظاهر فيما نحن فيه قيام الإجماع على عدم لزوم المعاطاة» و مقصوده الإشكال على هذا الإجماع بوجهين:

أحدهما: منع تحققه في نفسه، لوجود المخالف المعتدّ به.

و ثانيهما: منع حجيته، لكونه فاقدا لمناط الاعتبار و هو الكشف عن رأي المعصوم عليه السّلام.

و توضيح الوجه الأوّل: أنّ كلام العلّامة في التذكرة: «أن الأشهر عندنا .. إلخ» يدلّ عرفا على وجود الخلاف المعتدّ به في المسألة، بحيث يقدح في دعوى الإجماع على عدم اللزوم، إذ لو كان المخالف شاذّا لعبّر العلامة بالمشهور، كما لا يخفى على العارف بمحاورات الفقهاء.

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462.

ص: 567

يدلّ (1) على وجود الخلاف المعتدّ به في المسألة. و لو كان المخالف شاذّا لعبّر بالمشهور.

و كذلك (2) نسبته في المختلف «1» إلى الأكثر.

و في التحرير: «أنّ الأقوى أنّ المعاطاة غير لازمة» «2».

ثم (3) لو فرضنا الاتفاق من العلماء على عدم لزومها مع ذهاب كثيرهم أو أكثرهم إلى أنّها ليست مملّكة، و إنّما تفيد الإباحة

______________________________

(1) خبر قوله: «قول العلّامة».

(2) يعني: و كذلك كلام العلامة في المختلف و التحرير يدل على وجود الخلاف المعتدّ به، و ذلك فإنّ نسبة عدم اللزوم إلى الأكثر في الأوّل- و جعله أقوى في الثاني- يدلّ أيضا على وجود الخلاف المعتدّ به القادح في دعوى الإجماع على عدم اللزوم في المعاطاة.

و مع دلالة هذه العبارات الثلاث- من التذكرة و المختلف و التحرير- على وجود الخلاف المعتدّ به كيف تصح دعوى الإجماع على اللزوم؟ فغرض المصنف من ذكر هذه العبائر الثلاث توهين الإجماع المدّعى على عدم اللزوم.

(3) هذا هو الوجه الثاني من الاشكال على الإجماع البسيط على عدم اللزوم، و حاصله: أنّ الإجماع على عدم اللزوم- بعد تسليمه و الإغماض عن وجود الخلاف المعتدّ به الذي استظهرناه من كلمات العلامة قدّس سرّه في التذكرة و المختلف و التحرير- غير مفيد، لذهاب كثير من القائلين بعدم اللزوم بل أكثرهم إلى كون المعاطاة مفيدة للإباحة، و هذا الإجماع لا يكشف عن إفادة المعاطاة للملك الجائز، لإمكان ذهاب كلّهم أو جلّهم إلى اللزوم على تقدير عدولهم عن الإباحة، و بنائهم على إفادة المعاطاة للملك. فالإجماع المفيد المطابق للمدّعى هو اتفاقهم على عدم اللزوم على تقدير إفادتها للملك، و هذا غير معلوم، فالإجماع المفيد غير متحقق، و المتحقق غير مفيد.

______________________________

(1): مختلف الشيعة، ج 5، ص 51.

(2) تحرير الأحكام، ج 1، ص 164.

ص: 568

لم يكن (1) هذا الاتفاق كاشفا (2)، إذ (3) القول باللزوم فرع الملكية، و لم (4) يقل بها إلّا بعض من تأخّر عن المحقق الثاني تبعا له. و هذا مما (5) يوهن حصول القطع بل الظنّ من الاتّفاق المذكور، لأنّ (6) قول الأكثر بعدم اللزوم سالبة بانتفاء الموضوع (7).

نعم (8) يمكن أن يقال:- بعد ثبوت الاتفاق المذكور- إنّ أصحابنا بين قائل

______________________________

(1) جواب «لو فرضنا».

(2) يعني: عن رأي المعصوم عليه السّلام بعدم لزوم الملك في المعاطاة، مع أنّ مناط حجيّة الإجماع عندنا هو الكشف عن رأيه عليه السّلام.

(3) تعليل لعدم كاشفية الإجماعات المتقدمة.

(4) يعني: و الحال أنّه لم يقل بالملكية إلّا بعض .. إلخ.

(5) يعني: و عدم القول بالملكية إلّا من بعض متأخري المتأخرين تبعا للمحقق الثاني يوهن حصول القطع أو الظن بقول المعصوم عليه السّلام من الاتفاق المزبور الذي ادّعاه السيد و المحقق الكركي، و المفروض أنّ مناط حجية الإجماع إنّما هو الكشف عن قوله عليه السّلام أو عن حجة معتبرة.

(6) تعليل لقوله: «يوهن» توضيحه: أنّ السالبة بانتفاء الموضوع لا تثبت السالبة بانتفاء المحمول التي هي مورد البحث، فإنّ نفي الملكية لا يثبت الملك الجائز على تقدير القول بإفادة المعاطاة للملك.

و إن شئت فقل: انّ الإجماع تقييدي، و هو غير كاشف عن كون إفادة المعاطاة للملك المتزلزل إجماعية، لأنّ نفي اللزوم و إن كان ظاهرا في سلب المحمول على ما هو الأصل في القضايا السلبية، إلّا أنّ هنا قرينة على إرادة سلب الموضوع، حيث إنّ الأكثر قائلون بإفادة المعاطاة للإباحة دون الملك، فالمراد بنفي اللزوم نفي الملك، لا نفي وصفه و هو اللزوم مع وجود أصل الملك.

(7) لكونهم قائلين بالإباحة، فلا بيع حتى يكون لازما أو جائزا.

(8) هذا بظاهره استدراك على مناقشته في الإجماع على عدم اللزوم، و لكنه في الحقيقة

ص: 569

بالملك الجائز (1) و بين قائل بعدم الملك رأسا (2) فالقول بالملك اللازم قول ثالث (3)، فتأمّل (4).

و كيف كان (5) فتحصيل (6) الإجماع على وجه استكشاف قول الامام عليه السّلام

______________________________

إشارة إلى الدليل الثاني على تخصيص قاعدة اللزوم في المعاطاة، و هو الإجماع المركّب.

و حاصل تقريبه: أنّ الأصحاب بين قائل بالملك الجائز و بين قائل بعدم الملك رأسا، بل بالإباحة، فهم على هذين القولين، و من المعلوم أنّ القول بالملك اللازم مخالف لهما معا، و يكون قولا ثالثا لا يجوز إبداعه.

و عليه فلا بدّ من الالتزام باختصاص الملك اللازم بالبيع القولي، دون المعاطاتي.

(1) كالمحقق الثاني و من تبعه.

(2) كما هو مذهب مشهور القدماء من القول بإباحة التصرف.

(3) يعني: فلا يجوز إحداثه، لكونه خرقا للإجماع المركّب.

(4) لعلّه إشارة إلى: أنّ عدم جواز إحداث القول الثالث مبنيّ على رجوع الإجماع المركّب إلى البسيط، بأن يكون الفريقان متّفقين على نفي الثالث، لا أن يكون نفي الثالث منتزعا منهما. و من المعلوم أنّه لم يثبت اتفاقهم هنا على نفي الثالث.

و عليه فدعوى الإجماع المركب غير مفيدة في المقام.

أو إشارة إلى: أنّه إذا كان المقصود نفي القول بالملك اللازم من دون قصد إلى إثبات الملك الجائز لم يكن حاجة حينئذ إلى التشبث بالإجماع المركب، لكفاية نفس الإجماع البسيط على عدم اللزوم في نفي الملك اللازم.

(5) يعني: سواء أريد تخصيص قاعدة اللزوم في المعاطاة بالإجماع البسيط أو المركّب، فإنّ كليهما ممنوع.

(6) هذا تقريب الاشكال على كلا تقريبي الإجماع على نفي اللزوم، و محصّله: عدم تحقق الاتفاق- بسيطا و مركّبا- لدلالة كلمات العلّامة في التذكرة و المختلف و التحرير على وجود الخلاف المعتدّ به في المسألة، و معه لا تصحّ دعوى الإجماع على عدم اللزوم في المعاطاة، إذ

ص: 570

من قول غيره من العلماء- كما هو طريق المتأخرين- مشكل (1)، لما ذكرنا (2)، و إن كان هذا (3) لا يقدح في الإجماع على طريق القدماء، كما بيّن في الأصول.

و بالجملة (4): فما ذكره في المسالك (5) من قوله- بعد ذكر قول من اعتبر مطلق اللفظ في اللزوم-: «ما أحسنه و ما أمتن دليله إن لم ينعقد الإجماع على خلافه» في غاية الحسن و المتانة.

______________________________

ليس اتفاق جماعة كاشفا عن قول المعصوم عليه السّلام كما هو مناط حجية الإجماع عند المتأخرين.

(1) خبر «و تحصيل».

(2) من عدم تحقق الاتفاق على عدم لزوم المعاطاة، بل المسألة خلافية.

(3) أي: ما ذكرناه من وجود الخلاف المعتدّ به، حاصله: أنّ الخلاف قادح في الإجماع على طريقة المتأخرين، و هي كشف قول المعصوم عليه السّلام حدسا عن قول المجمعين. و غير قادح فيه على طريقة القائلين بأنّ مناط حجية الإجماع دخول المعصوم عليه السّلام، فلا مانع حينئذ من تحقق الإجماع و لو مع مخالفة كثير منهم ممّن هو معلوم النسب، إذ المفروض وجود الامام عليه السّلام في غيرهم.

(4) هذه خلاصة ما ذكره من النقض و الإبرام حول الإجماع المدّعى على عدم اللزوم.

(5) حيث قال: «و الذي اختاره متأخرو الشافعية و جميع المالكية انعقاد البيع بكلّ ما دلّ على التراضي، و عدّه الناس بيعا، و هو قريب من قول المفيد و شيخنا المتقدم. و ما أحسنه و أمتن دليله إن لم ينعقد الإجماع على خلافه». «1»

و هذه العبارة و إن كانت ظاهرة في كفاية مطلق الكاشف لا خصوص اللفظ، لكن تعبيره ب «و هو قريب من قول المفيد و شيخنا المتقدم» قرينة على أنّ مراده من الحسن و المتانة هو ما نبّه عليه في أوّل بحث المعاطاة- بعد نقل كلام المفيد- بما لفظه: «و قد كان بعض مشايخنا المعاصرين يذهب إلى ذلك أيضا- أي إلى اللزوم- لكن يشترط في الدال كونه لفظا» «2».

و كيف كان فوجه المناسبة في نقل كلام المسالك هو: تأييد ما أفاده المصنف قدّس سرّه من

______________________________

(1): مسالك الافهام، ج 3، ص 152.

(2) المصدر، ص 147.

ص: 571

و الإجماع (1) و إن لم يكن محقّقا على وجه يوجب القطع، إلّا أنّ المظنون قويّا تحققه (2) على عدم اللزوم مع عدم لفظ دالّ على إنشاء التمليك، سواء لم يوجد لفظ أصلا (3) أم وجد و لكن لم ينشأ التمليك به (4)، بل كان من جملة القرائن على قصد التمليك بالتقابض (5) [1].

______________________________

التردد و التأمل في ثبوت الإجماع على إناطة لزوم الملك باللفظ، حيث إنّ ظاهر المسالك هو تردّده في ثبوت الإجماع، و مع التردد فيه يتعيّن التمسك بعموم ما دلّ على لزوم الملك.

(1) مقصوده قدّس سرّه- بعد أن منع آنفا من تحقق إجماع تعبدي على اعتبار الصيغة في لزوم الملك- التفصيل في المسألة، و تأييد الإجماع في صورتين، إذ الصّور ثلاث:

الأولى: أن لا يوجد لفظ دالّ على التمليك أصلا، بأن كانت المقاولة بالإشارة و الكتابة، ثم تحققت المعاطاة. و حكم هذه الصورة عدم اللزوم، للإجماع المظنون تحققه.

الثانية: أن يوجد لفظ دالّ على التراضي، و لكن كان في مقام المقاولة، لا في مقام إنشاء التمليك، فكان الإنشاء كالصورة السابقة بنفس التقابض. و هذه الصورة كالأولى في عدم اللزوم، للإجماع.

الثالثة: أن يوجد لفظ دال على التراضي و أنشئت المعاملة به، لا بنفس التقابض.

و حكم هذه الصورة اللزوم، لفرض تحقق الإنشاء بالصيغة، سواء أ كانت ملحونة مادة أو هيئة، أم صحيحة جامعة لشرائط الصحة و التأثير في الملك اللازم.

(2) و الظنّ و إن لم يغن من الحقّ شيئا، لكن لا بأس بالاعتماد عليه في الخروج عن مخالفة المشهور القائلين باعتبار الإنشاء القولي.

(3) أي: لا في مقام المقاولة و لا في مقام الإنشاء. و هذه اولى الصور الثلاث.

(4) أي: باللفظ، و هذا إشارة إلى الصورة الثانية.

(5) و بقيت صورة واحدة خارجة عن معقد الإجماع، و هي ما إذا كان إنشاء المعاملة باللفظ الملحون مثلا، فإنّه يؤثّر في اللزوم كالصيغة الجامعة للشرائط.

______________________________

[1] محصل الكلام: أنّ المدعى هو تخصيص عموم قاعدة لزوم الملك بالمعاطاة،

ص: 572

______________________________

فالمقصود هو كون المعاطاة مفيدة للملك الجائز، و من المعلوم أنّ الإجماع البسيط على هذا المدّعى غير ثابت، لأنّ جلّ القائلين بعدم اللزوم ذهبوا إلى أنّ المعاطاة لا تفيد الملك، بل تفيد الإباحة، و حيث إنّ مناط حجيّة الإجماع كشفه عن رأي المعصوم عليه السّلام لم يكن قول القائلين بالإباحة كاشفا عن كون رأيه عليه السّلام هو الملك الجائز، بل يكون كاشفا عن عدمه.

و أمّا قول غيرهم ممّن يقول بالملك الجائز فهو و إن كان مطابقا للمدّعى، لكنه ليس إجماعا كما هو ظاهر، فالإجماع البسيط المحصّل غير حاصل، و المنقول منه و إن كان ثابتا، لكنه ليس فيه طائل، لعدم اعتباره على ما ثبت في الأصول.

و أمّا الإجماع المركب فهو ما لم يرجع الى البسيط لا يكون حجة، و من المعلوم أنّ رجوعه إليه منوط بالعلم بذهاب كل من الطائفتين- على تقدير بطلان قوله- إلى قول الطائفة الأخرى حتى يثبت إجماعهم على نفي القول الثالث. و عدم ثبوته هنا بديهي، لكون مسألة المعاطاة ذات أقوال سبعة كما عرفت سابقا، فالإجماع بقسميه أعني البسيط و المركب غير حاصل.

ثم إنّه على فرض حصول الإجماع المحصّل لا سبيل الى القطع بكونه من الإجماع التعبدي، لقوة احتمال استناد المجمعين الى بعض الوجوه كالروايات التي زعموا دلالتها على اعتبار اللفظ في اللزوم.

و أمّا الشهرة على ثبوت الملك الجائز ففيها أوّلا: عدم حجيتها كما ثبت في الأصول.

و ثانيا: معارضتها لشهرة القدماء على إفادة المعاطاة للإباحة.

و أمّا ما أفاده المصنف قدّس سرّه من دعوى السيرة على عدم الاكتفاء في الأشياء الخطيرة بالمعاطاة، و إنّما يكتفون بها في المحقّرات التي لا يلتزمون بلزوم المعاملة فيها، ففيه أوّلا: عدم تحقق السيرة كذلك، بل السيرة في الكل على نهج واحد.

و ثانيا:- بعد تسليمها- تكون أخص من المدّعي الذي هو أعم من المعاطاة الواقعة على الأمتعة الخطيرة و الحقيرة.

و ثالثا: يمكن أن يكون الوجه في التفصيل احتمال عدم إمكان التعاطي من الطرفين

ص: 573

و قد يظهر (1) ذلك (2) من غير واحد من الأخبار (3)،

______________________________

(1) هذا إشارة إلى الدليل الثاني على لزوم تخصيص أصالة اللزوم في الملك بالمعاطاة، كما أنّ الإجماع المتقدم- من بسيطه و مركبة- هو الدليل الأوّل على التخصيص.

و محصّل هذا الوجه: دلالة طائفة من الأخبار على اعتبار اللفظ- في الجملة- في مقام إنشاء البيع، و عدم كفاية التعاطي العاري عنه.

(2) قال السيد الطباطبائي قدّس سرّه: «يعني: يظهر اشتراط اللزوم بكون إنشاء المعاملة باللفظ في الجملة» «1». و قال الفقيه المامقاني قدّس سرّه: «يعني: أنّه يظهر منها انتفاء اللزوم بانتفاء مطلق اللفظ الدال على الإنشاء، سواء لم يوجد أصلا أم وجد و لكن لم ينشأ به التمليك» «2».

و مفاد كلام كلا العلمين واحد بالتأمّل.

(3) قال السيد: «و لعلّ نظره في ذلك إلى ما أشرنا إليه سابقا من الخبر الوارد في بيع المصحف و أطنان القصب» «3» مثل قوله عليه السّلام في موثّق سماعة: «لا تشتر كتاب اللّه عزّ و جلّ، و لكن اشتر الحديد و الورق و الدفتين، و قل: أشتري منك هذا بكذا و كذا» «4».

______________________________

المعتبر في المعاطاة في مثل الدار و البستان و الدّكان و نحوها من غير المنقولات التي زعموا أنّه لا يتحقق فيها العطاء من الطرفين.

أو: احتمال عدم إفادة المعاطاة للملكية، بل للإباحة. و حيث إنّ بناءهم على التمليك اللازم في الأمتعة الخطيرة لئلّا يرجعوا فيها تشبّثوا في نقلها بالبيع القولي.

و مع هذه الاحتمالات لا تكشف السيرة عن اعتبار اللفظ في لزوم الملك حتى تصلح لتخصيص عموم أدلة لزوم الملك في المعاطاة كما لا يخفى.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 74.

(2) غاية الآمال، ص 186.

(3) حاشية المكاسب، ص 74.

(4) وسائل الشيعة، ج 12، ص 114، الباب 31 من أبواب ما يكتسب، الحديث: 2.

ص: 574

بل (1) يظهر منها أنّ إيجاب البيع باللفظ- دون مجرّد التعاطي- كان متعارفا بين أهل السّوق و التجار.

______________________________

و نحوه غيره من الروايات الواردة بهذا المضمون التي جمعها في الوسائل في باب عدم جواز بيع المصحف و جواز بيع الورق و الجلد «1».

و مثل رواية العجلي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل اشترى من رجل عشرة آلاف طن في أنبار بعضه على بعض من أجمة واحدة، و الأنبار فيه ثلاثون ألف طن، فقال البائع: قد بعتك من هذا القصب عشرة طن، فقال المشتري: قد قبلت و اشتريت و رضيت .. إلخ» «2» [1].

(1) قال الفقيه المامقاني قدّس سرّه ما لفظه: «هذا الظهور يحصل من ملاحظة أخبار متعدّدة، بمعنى: أنّ التعارف يستفاد من المجموع، لا أنّ كل واحد منها يدلّ عليه ..» ثم ذكر جملة من تلك الروايات:

منها: ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، قال «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السمسار أ يشتري بالأجر؟ فيدفع إليه الورق و يشترط عليه أنّك تأتي بما تشتري، فما شئت أخذته و ما شئت تركته، فيذهب و يشتري، ثم يأتي بالمتاع فيقول: خذ ما رضيت و دع ما كرهت. قال:

______________________________

[1] لكنّك خبير- بعد الغضّ عمّا في سند ما عدا الموثق من الضعف- بعدم الدلالة على اشتراط اللزوم بالصيغة، لقوة احتمال كونها في مقام بيان كيفية إنشاء القبول في البيع القولي، و من المعلوم عدم دلالتها حينئذ على اشتراط الصيغة في صحة البيع أو لزومه حتى تدلّ على عدم صحة أو لزوم البيع المعاطاتي، هذا.

مع أنّ ذلك في الخبر الأخير من كلام الراوي لا الامام عليه السّلام.

و بالجملة: فهذه الروايات و أمثالها لا تدل على اعتبار الصيغة في صحة البيع أو لزومه.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 114- 116، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به.

(2) وسائل الشيعة، ج 12، ص 272، الباب 19 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث: 1.

ص: 575

..........

______________________________

لا بأس» «1».

و منها: ما رواه إسحاق المدائني في جواز بيع المبيع قبل قبضه، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن القوم يدخلون السفينة يشترون الطعام، فيتساومون بها، ثم يشتريه رجل منهم، فيسألونه، فيعطيهم ما يريدون من الطعام، فيكون صاحب الطعام هو الذي يدفعه إليهم و يقبض الثمن. قال: لا بأس، ما أراهم إلّا و قد شركوه» الحديث «2».

ثم قال قدّس سرّه: «وجه الدلالة: أنّه ليس شي ء من المعاملتين على وجه وقع فيه الصيغة الخاصة المقرّرة، و إنّما وقع المقاولة كما لا يخفى على من تدبّر فيها. و يمكن استظهار ما ذكره المصنف رحمه اللّه من ملاحظة أخبار أخر في أبواب البيع» «3» [1].

______________________________

[1] لكن في دلالتها على كون المتعارف إيجاب البيع باللفظ تأمّل، بل منع، لأنّ ما وقع في تلك الروايات من الألفاظ بين المتبايعين إنّما وقع في مقام المقاولة، لا في مقام إنشاء البيع، و إلّا يلزم جواز بيع المجهول، إذ لا يعلم السمسار المقدار الذي يأخذه صاحب الورق. و أمّا إنشاؤه فهل وقع باللفظ أم بالفعل- أي التعاطي- فالروايات لا تدل عليه أصلا.

ثم إنّه على فرض دلالتها على التعارف المزبور فلا تنفي تعارف إنشاء البيع بالتعاطي أيضا.

و على تقدير دلالتها على عدم التعارف بالتعاطي لا تدلّ على عدم اعتبار التعاطي في مقام الإنشاء، كما لا توجب انصراف أدلة البيع و نفوذه عن البيع المنشأ بالفعل.

بل يظهر من بعض الأخبار عدم دخل اللفظ في اللزوم، كصحيحة جميل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل اشترى طعاما، كلّ كرّ بشي ء معلوم، فارتفع الطعام أو نقص، و قد اكتال

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 394، الباب 2 من أبواب أحكام العقود، الحديث: 2.

(2) وسائل الشيعة، ج 12، ص 388، الباب 16 من أبواب أحكام العقود، الحديث: 7.

(3) غاية الآمال، ص 186.

ص: 576

بل (1) يمكن دعوى السيرة على عدم الاكتفاء في البيوع الخطيرة

______________________________

و بهذا يظهر وجه إضراب المصنف عن قوله: «و قد يظهر ذلك» الى قوله: «بل يظهر» و ذلك لأنّ قوله: «قد يظهر» ربما يوهم ضعف ظهور بعض الأخبار في توقف لزوم الملك على اللفظ، فأراد قدّس سرّه التنبيه على قوة دلالة الأخبار على المدّعى، و وجه القوة: أنّ البيع بالصيغة إذا كان متعارفا بين أهل السوق و التجار في عصر التشريع اقتضى انصراف إطلاق أدلة الإمضاء- مثل آية حلّ البيع- الى خصوص البيع القولي، و خروج الفعلي عن حريم تلك الأدلة. فالمهمّ حينئذ إحراز صغرى التعارف، و المدّعى دلالة مجموع الأخبار على هذا التعارف من قبيل تراكم الظنون و إن كان كل واحد من الأخبار بخصوصه قاصرا عن إثباته.

(1) هذا دليل ثالث على خروج المعاطاة عن عموم قاعدة اللزوم في الملك- غير ما سبق من الإجماع و التعارف- و ظاهره الترقّي عن مجرّد تداول البيع القولي إلى قيام السيرة المستمرة

______________________________

بعضه، فأبى صاحب الطعام أن يسلّم له ما بقي، و قال: إنّما لك ما قبضت. فقال: إن كان يوم اشتراه ساعره على أنّه له، فله ما بقي. و إن كان إنّما اشتراه و لم يشترط ذلك، فإنّ له بقدر ما نقد» «1».

وجه الدلالة: أنّه عليه السّلام حكم باللزوم بمجرّد المساعرة و إن لم يكن إنشاء المعاملة باللفظ، فإطلاق «الاشتراء» يشمل الإنشاء باللفظ و الفعل، هذا.

لكن الظاهر أنّه ليس إلّا في مقام بيان حكم الباقي الذي لم يقبضه المشتري، و أنّه هل يستحق المشتري مطالبته من البائع أم لا؟ فأجاب عليه السّلام بأنّه إن كان يوم اشتراه قدّر المبيع بتمام ذلك الطعام فله المطالبة من البائع، و إلّا فلا. و أمّا كون إنشاء البيع باللفظ أو الفعل فليس الخبر في مقام بيانه حتى يصح التمسك بإطلاقه.

ثم إنّه بعد تسليم الدلالة على عدم التعارف المزبور يقع التعارض بينه و بين ما ذكره الفقيه المامقاني قدّس سرّه من الروايات التي ادعى رحمه اللّه دلالتها على التعارف المذكور، فيرجع الى إطلاق أدلة البيع سواء أ كان إنشاؤه باللفظ أم بالفعل.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 401، الباب 26 من أبواب أحكام العقود، الحديث: 3.

ص: 577

- التي (1) يراد بها عدم الرجوع- بمجرد (2)

______________________________

على إنشاء المعاملات الخطيرة بالصيغة، فلو لم يكن مجرّد تعارف البيع اللفظي موجبا لانصراف أدلة صحة البيع الى خصوص ما كان متداولا في ذلك العصر قلنا: إنّ قيام سيرة المتشرعة و العقلاء على عدم الإكتفاء بمجرد التعاطي كاف في اختصاص قاعدة لزوم الملك بالبيع اللفظي.

و الفرق بين هذا الدليل و سابقيه هو: أنّ الوجهين المتقدمين يدلّان على عدم كفاية التعاطي مطلقا سواء أ كان العوضان خطيرين أم حقيرين. و لكن هذا الدليل مخصوص بالأموال الخطيرة مع زيادة قيد، فهنا صور ثلاث:

الأولى: أن يكون العوضان من المحقّرات- و ربما يقدّر بما لا يبلغ حدّ القطع في السرقة- فهنا جرت سيرتهم على كفاية التعاطي و ترتب ملك جائز عليه، و جواز الرجوع فيه.

الثانية: أن يكون العوضان من الأموال الخطيرة كالدور و البساتين، و يجعل المتبايعان أو أحدهما خيارا فيه، فهذه كالصورة الأولى في بنائهم عملا على إنشاء المعاملة بالمعاطاة.

الثالثة: أن يكون العوضان من الأموال الخطيرة مع بنائهم على لزوم المعاملة و عدم جواز فسخها أصلا، و هذه الصورة مورد قيام سيرة المتشرعة و العقلاء على عدم الاقتصار بالفعل كالمصافقة، بل يلتزمون بالإنشاء اللفظي، بحيث يكون لزوم الملك بنظرهم متوقفا عليه.

و على هذا فالسيرة مخصّصة لعموم أدلة لزوم الملك في المعاطاة بالنسبة إلى الأموال الخطيرة التي لا يلتزم فيها بعدم الفسخ و الرجوع. و من المعلوم أنّ سيرة المتشرعة حجة بنفسها، لكونها متلقّاة من الشرع، و لا يطالب بدليل على إمضائها، فالمهم إحراز أصل السيرة التي هي إجماع عملي.

(1) هذه إشارة إلى الصورة الثالثة المتقدمة، و مفهومها يدلّ على الاكتفاء بالتعاطي في الأمور الخطيرة عند جعل الخيار لهما أو لأحدهما.

(2) متعلق بقوله: «الاكتفاء».

ص: 578

التراضي [1].

نعم (1) ربما يكتفون بالمصافقة، فيقول البائع: «بارك اللّه لك» أو ما أدّى هذا المعنى بالفارسية (2).

نعم (3) يكتفون بالتعاطي في المحقّرات، و لا يلتزمون بعدم جواز الرجوع فيها، بل ينكرون على الممتنع عن الرجوع مع بقاء العينين (4).

نعم (5) الاكتفاء في اللزوم بمطلق الإنشاء القولي غير بعيد،

______________________________

(1) مقصوده قدّس سرّه أنّ سيرتهم و إن استقرّت على إنشاء المعاملة باللفظ في البيوع الخطيرة، لكنّه لا ينافيها اكتفاؤهم في بعض الموارد بالمصافقة، و عدم الإتيان بالصيغة التامّة مادة و هيئة. و وجه عدم المنافاة واضح، إذ المناط في السيرة التزام أغلب المتشرعة و العقلاء، و لا يقدح مخالفة بعضهم في تحققها.

(2) كقول البائع: «خيرش را ببيني».

(3) هذا إشارة إلى الصورة الاولى من الصور الثلاث، و هي الاقتصار على التعاطي في المحقّرات، مع اعتقادهم جواز المعاملة و عدم لزومها ما دامت العينان باقيتين. و عليه فالاقتصار على المعاطاة في المحقّرات ليس بمعنى كونها عقدا لازما فيها، بل يلتزمون بكونها جائزة، يصحّ الرجوع فيها.

(4) و أمّا مع تلفهما فتصير لازمة قطعا.

(5) هذه كالتتمّة لما أفاده بقوله: «بل يمكن دعوى السيرة» و مقصوده أنّ البناء العملي على عدم الاكتفاء بمجرد التراضي- و لزوم الإتيان باللفظ- لا ينافي قيام السيرة العملية على

______________________________

[1] هذه الدعوى ممنوعة، بل دعوى جريان السيرة العقلائية على معاملة أموالهم بالمعاطاة من غير فرق بين الأموال الخطيرة و الحقيرة قريبة جدا. و على تقدير تسليم السيرة المزبورة يكفي في ردعها مثل أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و أَوْفُوا و نحوهما من أدلّة اللزوم. و مع هذا الردع كيف تكشف عن السنة حتى تخصص العمومات؟.

ص: 579

للسيرة (1) [1] و لغير واحد من الأخبار (2)، كما سيجي ء إن شاء اللّه تعالى في شروط الصيغة.

______________________________

الاقتصار بمطلق اللفظ في إنشاء البيع سواء أ كان واجدا لجميع ما يعتبر في الإيجاب و القبول مادّة و هيئة، أم كان فاقدا لبعض ما يعتبر فيهما. و على كلّ يثبت المقصود، و هو قيام السيرة على عدم الاكتفاء بمجرّد التراضي، و دخل اللفظ في اللزوم.

(1) أي: سيرة المتشرعة بما هم متشرّعة.

(2) التي تقدّم بعضها، و إليك بعضها الآخر:

فمنها: ما ورد في بيع العبد الآبق مع الضميمة، كموثقة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يشتري العبد، و هو آبق عن أهله؟ قال: لا يصلح، إلّا أن يشتري معه شيئا آخر، و يقول: أشتري منك هذا الشي ء و عبدك بكذا و كذا، فإن لم يقدر على العبد كان الذي نقده فيما اشترى منه» «1». بتقريب: أنّه عليه السّلام علّم السائل كيفية إنشاء شراء العبد الآبق مع ضميمته، فكأنّ أصل دخل اللفظ في اللزوم مستغن عن البيان.

و منها: ما ورد في بيع اللبن في الضّرع، كموثّقة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

«سألته عن اللّبن يشترى و هو في الضّرع، فقال: لا، إلّا أن يحلب لك منه أسكرجة، فيقول:

اشتر منّي هذا اللّبن الذي في الأسكرجة و ما في ضروعها بثمن مسمّى، فإن لم يكن في الضّرع شي ء كان ما في الاسكرجة» «2» و تقريب الدلالة كما تقدم.

و منها: فحوى الأخبار الواردة في النكاح المشتملة جميعا على الإيجاب و القبول بلفظ

______________________________

[1] هذه السيرة ممنوعة جدّا إن أريد بها سيرة العقلاء بما هم عقلاء. و إن أريد بها بما هم متشرعون فنمنع ثبوت هذه السيرة لهم أيضا. و على فرض الثبوت نمنع استقرارها على جنس اللفظ بل يراعون جميع الخصوصيات من الماضوية و العربية و تقديم الإيجاب على القبول.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 263، الباب 11 من أبواب عقد البيع، الحديث: 2.

(2) المصدر، ص 259، الباب 8 من أبواب عقد البيع، الحديث: 2.

ص: 580

بقي الكلام في الخبر الّذي تمسّك به في باب المعاطاة تارة على عدم إفادة المعاطاة إباحة التصرف (1)، و أخرى على عدم إفادتها اللزوم، جمعا (2) [1] بينه (3) و بين

______________________________

المضارع، و المشتملة على الإيجاب ب «نعم» و القبول بالأمر. «1»

هذا تمام الكلام في الوجوه الثلاثة الموجبة لخروج المعاطاة عن قاعدة اللزوم في الملك.

و قد استقرّ رأى المصنف قدّس سرّه أخيرا على اعتبار الإنشاء القولي في البيوع الخطيرة، و إن لم يكن جامعا لكلّ ما يعتبر في الصيغة، و سيأتي تتمة بحث أصالة اللزوم، و هي تحقيق مفاد الأخبار الدالة على حصر المحلّل و المحرّم في الكلام.

(1) و كونها بيعا فاسدا، و هذا مبني على أوّل الوجوه الأربعة التي سيذكرها المصنف قدّس سرّه في معنى قوله عليه السّلام: «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» و المراد بأوّل الوجوه هو:

أن يكون النطق و الكلام تمام المناط في تحليل شي ء و تحريمه، فلا يتحقق شي ء من الحلّ و الحرمة بالقصد المجرّد عن الكلام، و لا بالقصد المدلول عليه بالأفعال دون الأقوال. و عليه فلا تكون المعاطاة سببا للإباحة و لا للملك.

(2) قيد لقوله: «عدم إفادتها اللزوم» يعني: استدلّ بعضهم بهذا الخبر على إناطة اللزوم باللفظ، لا أصل صحة المعاطاة، و الوجه في هذا هو الجمع بين هذا الخبر و بين الأدلة المتقدمة على إفادة المعاطاة للملك.

(3) أي: بين الخبر و هو قوله عليه السّلام: «إنّما يحلل الكلام .. إلخ» و بين ما دلّ على صحة البيع مطلقا كقوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ فيجمع بينهما بحمل «إنما يحلّل الكلام» على أنّ

______________________________

[1] لكنه جمع تبرّعي لا شاهد له، و مقتضى القاعدة وقوع المعارضة بينهما، و حيث انّ النسبة بينهما عموم من وجه يرجع في المجمع- و هو البيع الفعلي المعاطاتي- إلى أصالة الفساد. و عليه فلا يؤثر المعاطاة في الملكية.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 14، ص 194، الباب 1 من أبواب عقد النكاح، الحديث: 3 و 10 و غيرهما.

ص: 581

ما دلّ على صحة مطلق البيع كما صنعه في الرياض (1)، و هو قوله عليه السّلام: «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» (2).

و توضيح المراد منه يتوقف (3) على بيان تمام الخبر، و هو ما رواه ثقة الإسلام في باب «بيع ما ليس عنده» و الشيخ (4) في باب «النقد و النسيئة» عن ابن أبي عمير عن يحيى بن الحجّاج عن خالد بن الحجّاج أو ابن نجيح، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرّجل يجيئني و يقول: اشتر لي هذا الثوب و أربحك كذا و كذا، فقال: أ ليس إن شاء أخذ، و إن شاء ترك؟ قلت: بلى، قال: لا بأس، إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» «1».

______________________________

اللزوم منوط بالكلام، فيراد بقوله عليه السّلام: «يحلّل الكلام» أنّه يلزم الكلام، فالمعاطاة و إن كانت صحيحة، لكنها غير لازمة، بل هي مفيدة للملك الجائز. أمّا الملكية فلكونها بيعا، و أمّا غير اللزوم فلعدم الكلام.

(1) و في مفتاح الكرامة و شرح كاشف الغطاء على القواعد و غيرهما أيضا. قال في الرياض: «ففي الصحيح و غيره من المعتبرة: أنه إنّما يحلل الكلام، و هي و إن اقتضت حرمة التصرف، إلّا أنّها محمولة على اللزوم و على ما بعد الرجوع، جمعا بينه و بين ما دلّ على الإباحة بالتراضي ..» «2».

(2) هذا المضمون ورد في روايات متعددة، و لكن المقصود فعلا التعرض لرواية خالد كما سينقله المصنف في المتن.

(3) وجه التوقف تطرّق احتمالات عديدة في الجملة المستدل بها، و هي «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» فلا بد من التأمل في جميع فقرات الرواية، عسى أن يكون صدرها قرينة معيّنة لما يراد من الذيل.

(4) ظاهر العطف يقتضي اتحاد طريقي الشيخ و الكليني، و اشتراك السند من

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 376، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، الحديث: 4.

(2) رياض المسائل، ج 1، ص 511، مفتاح الكرامة، ج 4، ص 157.

ص: 582

..........

______________________________

ابن أبي عمير الى الامام الصادق عليه السّلام، و نتيجة ذلك تردّد الراوي عن الإمام- في الكافي و التهذيب- بين «خالد بن الحجاج و خالد بن نجيح».

مع أنّ الأمر ليس كذلك، لعدم اختلاف نسخ التهذيب في هذا السند، بل الظاهر توافقها في ضبط الراوي بعنوان «خالد بن الحجاج». و إنّما حكي اختلاف نسخ الكافي المصحّحة، ففي بعضها «خالد بن نجيح» و في بعضها «خالد بن الحجاج».

و عليه كان المناسب أن يقتصر المصنف قدّس سرّه على سند الكافي الذي تردّد الراوي فيها بين ابن الحجاج و ابن نجيح، ثم تعقيبه بذكر سند الشيخ بأن يقول، «و رواه الشيخ في باب النقد و النسيئة عن خالد بن الحجاج».

و كيف كان فلا بأس بالإشارة إلى سند الرواية، ففي الكافي «عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن يحيى بن الحجاج عن خالد بن نجيح، قال: قلت لأبي عبد اللّه .. إلخ» «1».

و رواها شيخ الطائفة عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن يحيى بن الحجاج عن خالد بن الحجاج ..» «2».

و الظاهر اعتبار السند برواية الشيخ، لأنّ إسناده إلى الحسين بن سعيد صحيح، كما لا يخفى على من راجع مشيخة التهذيب «3».

و ابن أبي عمير معلوم الحال، و يحيى ابن الحجاج و خالد قد وثّقهما النجاشي بقوله في ترجمة يحيى: «ثقة، و أخوه خالد» «4» و عليه فلا شبهة في سند الرواية بنقل الشيخ.

إنّما الكلام في سندها بنقل الكافي، و منشأ الاشكال اختلاف نسخ الكتاب في الراوي عن الامام الصادق عليه السّلام كما ذكرناه، و المفروض عدم ثبوت وثاقة خالد بن نجيح بوجه

______________________________

(1): الكافي، ج 5، ص 201، الحديث: 6.

(2) تهذيب الاحكام، ج 7، ص 50، الحديث: 16.

(3) تهذيب الأحكام، ج 10، ص 63 من المشيخة.

(4) رجال النجاشي، ص 311، الطبعة الحجرية.

ص: 583

..........

______________________________

يعتمد عليه.

و في مثله إمّا أن يقال بترجيح النسخة المشتملة على «خالد بن الحجاج» و وقوع السهو من قبل نسّاخ الكافي، لقرينية وحدة متن الرواية- سؤالا و جوابا، و اتحاد الطريق من ابن أبي عمير إلى خالد، و كون المسؤول في كلا الطريقين الامام الصادق عليه السّلام- على ضبط الراوي في النسخة الأصليّة من الكافي بعنوان «خالد بن الحجاج».

و إمّا أن يقال- كما هو الظاهر- بأنّ ما ذكر من القرائن لا يورث الاطمئنان بضبط الراوي- في النسخة الأصلية من الكافي- ب «خالد بن الحجاج» بعد شهادة غير واحد من أهل الخبرة باشتمال بعض النسخ المصحّحة على «ابن نجيح»، و بعضها على «ابن خالد».

و حينئذ يشكل الاعتماد على سند الكافي، و يتعيّن الأخذ بسند الشيخ، و المفروض صحته كما أشرنا إليه.

و كم له من نظير، حيث يروى عن المعصوم عليه السّلام كلام واحد بطريقين أو أكثر، و يكفي صحة إحدى الطريقين في شمول أدلة حجية خبر الثقة له.

و ليكن المقام منها، فتكون الرواية ضعيفة بنقل ثقة الإسلام، و معتبرة بنقل شيخ الطائفة.

و أمّا احتمال سراية الضعف من سند الكافي إلى سند التهذيب فممّا لا وجه له.

نعم لو رواها الشيخ عن الكافي- كما في كثير من روايات كتابي التهذيب و الاستبصار- كان لذلك الاحتمال وجه بالنظر إلى أضبطية ثقة الإسلام من الشيخ، فتأمل. و أمّا في خصوص هذه الرواية فلا موضوع للبحث، لأنّ الشيخ رواها بإسناده عن الحسين بن سعيد، لا عن ثقة الإسلام.

فالنتيجة: أنّ الرواية معتبرة سندا، و العويصة كلّها في مفاد التعليل كما ستقف عليه إن شاء اللّه تعالى.

ص: 584

و قد ورد بمضمون هذا الخبر روايات أخر (1) مجرّدة عن قوله عليه السّلام: «إنّما يحلّل» كلّها تدلّ على: أنّه لا بأس بهذه المواعدة و المقاولة ما لم يوجب بيع المتاع قبل أن يشتريه من صاحبه.

______________________________

(1) رواها الشيخ الحرّ في الباب الثامن من أبواب العقود.

منها: معتبرة ابن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس بأن تبيع الرجل المتاع ليس عندك، تساومه، ثم تشتري له على الذي طلب، ثم توجبه على نفسك، ثم تبيعه منه بعد» «1».

و أمّا فقه رواية خالد سؤالا و جوابا- و بملاحظة رواية يحيى الآتية في المتن- فهو أنّ الغرض التوصّل إلى حلية الربح الذي يأخذه السمسار، و حلّية المتاع الذي يشتريه الرجل منه.

و توضيحه: أنّ المستفاد من السؤال أمران:

أحدهما: أنّ رجلا يراجع السمسار و يفاوضه على شراء ثوب منه، فيقول السمسار:

إنّه ليس لي، فيأمره الرجل بشرائه من مالكه حتى يشتريه هذا الرجل من السمسار بثمن أزيد، بأن تكون الزيادة ربح السمسار بإزاء عمله.

الثاني: أنّ مفروض الرواية شراء السمسار الثوب لنفسه ثم بيعه للرجل، لا كونه وكيلا عن الرجل في شراء الثوب من مالكه، و لا كونه أجيرا له، إذ لو كان السمسار وكيلا أو أجيرا للآمر لما افتقر الى عقد جديد بين السمسار و الآمر، بل كان الآمر مالكا للثوب بنفس شراء السمسار الثوب من مالكه. هذا ما يستفاد من السؤال.

و أمّا الجواب فقد استفصل فيه الامام عليه السّلام من السائل بأنّ الرجل الذي يريد الثوب- بعد استدعائه من السمسار شراء الثوب من مالكه- لا يخلو إمّا أن يكون ملزما بأخذ الثوب من السمسار، و إمّا أن يكون مخيّرا بين الأخذ و الانصراف.

فعلى الأوّل يبطل، لأنّ السمسار قد باع الثوب من الآمر قبل أن يشتريه من مالكه، و هو منهي عنه، لكونه من بيع ما ليس عنده.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 375، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، الحديث: 1.

ص: 585

و نقول: إن هذه الفقرة- مع قطع النظر (1) عن صدر الرواية- تحتمل وجوها: (2)

______________________________

و على الثاني يصح، لأنّ خياره بين الأخذ و الترك كاشف عن عدم وقوع البيع بين السمسار و الآمر، بل كان الواقع مجرّد مقاولة و مواعدة، و هما من مقدمات البيع لا نفسه، و حينئذ يجوز للسمسار أن يبيع الثوب من الآمر بعد أن يشتريه من مالكه، و يحلّ الربح للسمسار كما يحلّ الثوب للآمر.

و على هذا فما من شأنه تحليل الثوب و الربح هو مجرّد المقاولة بين السمسار و الآمر، و ما من شأنه تحريمهما هو إنشاء البيع اللازم. هذا كله مفاد السؤال و الجواب.

و قد علّل عليه السّلام هذا التفصيل بجملة «إنما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» و لمّا كان اللازم مناسبة هذا التعليل للحكم المعلّل به فينبغي أن يكون المراد من الكلام المحلّل هو المقاولة الواقعة بين الرجل و السمسار، و من الكلام المحرّم هو إنشاء البيع.

و بهذا يظهر أجنبية التعليل عن مقصود القائلين بتوقف صحة العقد أو لزومه على اللفظ، و لهذا أشار المصنف قدّس سرّه بقوله: «مع قطع النظر عن صدر الرواية» إلى أنّه لا بدّ من فرض جملة «انما يحلّل ..» منفصلة عن ذلك السؤال و الجواب حتى يتطرّق فيها احتمالات أربعة أو أزيد.

و أمّا لو أريد التحفظ على علّيته لجوابه عليه السّلام لم تجر الوجوه الأربعة فيه، بل يتعين وجه واحد و هو الاحتمال الثالث منها، كما سيأتي مشروحا.

(1) إذ مع النظر الى صدر الرواية لا يتطرّق إلّا وجه واحد لئلّا يكون تعليله عليه السّلام أجنبيا بالمرة عمّا علّله به من حلية المقاولة و المواعدة، و حرمة إنشاء البيع.

(2) مقصوده قدّس سرّه أنّ ذيل الرواية- مع قطع النظر عن صدرها- يبحث عنه في مقامين، أحدهما الثبوت، و الآخر الإثبات. فيقع الكلام أوّلا في محتملات فقه الذيل، ثم في استظهار

ص: 586

الأوّل (1): أن يراد من الكلام في المقامين (2) اللفظ الدال على التحريم و التحليل، بمعنى أنّ تحريم شي ء و تحليله لا يكون إلّا بالنطق بهما (3)، فلا يتحقق بالقصد المجرّد عن الكلام (4) و لا بالقصد المدلول عليه بالأفعال (5)

______________________________

أحدها إن لم يصر مجملا.

(1) هذا الاحتمال هو ظاهر الجملة بدوا، و قد استظهره كلّ من استدلّ بها على دخل الإنشاء القولي في اللزوم، بل مقتضى إناطة التحليل و التحريم بالكلام عدم تأثير المعاطاة في الإباحة فضلا عن الملك الجائز، لكنّهم رفعوا اليد عنه للجمع بين الأدلة كما تقدم في عبارة الرياض، و نحوها ما في مفتاح الكرامة و غيرها.

و كيف كان فمحصّل هذا الاحتمال الأوّل: أنّ الملحوظ هو نفس طبيعة الكلام مع الغضّ عن مدلوله. فموضوع التحليل و التحريم هو نفس اللفظ، بخلاف المعاني الآتية، فإنّ اللفظ لوحظ فيها حاكيا و مرآة، و لذا لا يكون جامع بين هذا المعنى الأوّل و بين سائر المعاني الآتية، لامتناع اجتماع اللحاظين الآلي و الاستقلالي.

فإن أمكن إرادة هذا المعنى من قوله عليه السّلام: «انما يحلل ..» صحّ الاستدلال به على المقام، لفقد الإنشاء اللفظي في المعاطاة حتى يوجب الإباحة أو الملكية، إذ القصد المجرّد عن الكلام- أو المبرز بغير اللفظ- لا يترتب عليه أثر.

(2) أي: في مقام التحريم و التحليل، فإذا كان شي ء حراما لم يحلّ بغير الكلام، و إن كان حلالا لم يحرم إلّا باللّفظ.

(3) أي: بالتحليل و التحريم، فلو لا النطق لا يحرّم الحلال، و لا يحللّ الحرام شي ء آخر من القصد، أو الكاشف الآخر كالكتابة و التقابض و الإشارة و نحوها.

(4) كالنذر، لإناطة وجوب الوفاء به بالتلفظ بصيغة النذر، و لا تكفي النية المجرّدة عنه.

على المشهور. و كذا الحال في الظهار و الطلاق.

(5) كما في المعاطاة، لوجود الكاشف عن القصد الى البيع و هو التعاطي، و لكنه غير

ص: 587

دون الأقوال [1].

______________________________

كاف، لتوقف حلية التصرف في المأخوذ بالمعاطاة على الإنشاء اللفظي المفقود حسب الفرض.

______________________________

[1] لا يخفى أنّه قد تقدّم سابقا عدم اختلاف بين الحلّ و الحرمة التكليفيّين و الوضعيّين في المفهوم، فالمراد بالمحلّلية و المحرّمية أعمّ من التكليف و الوضع، كإباحة وطي الأمة مثلا بقوله: «أحللت لك وطي أمتي» و كالملكية الحاصلة بقوله: «بعت». كما أنّ إطلاق مفهوم الحلّ و الحرمة يقتضي عدم الفرق بين التحليل و التحريم مع الواسطة و بدونها.

أمّا المحلل تكليفا بلا واسطة كتحليل مالك الأمة، و مع الواسطة كعقد النكاح الموجب لتحقق الزوجية التي هي توجب حلية الاستمتاعات.

و أمّا المحرّم تكليفا بلا واسطة كالظهار، و معها كالطلاق القاطع للزوجية، و الموجب لحدوث الأجنبية التي تترتب عليها حرمة الاستمتاعات.

و أمّا المحلّل الوضعي فكالعقود الصحيحة الموجبة للنفوذ و حصول الانتقال، أو غيره مما هو مقصود في المعاملة.

و أمّا المحرّم الوضعي فكالعقود الفاسدة كالبيع الربوي و الغرري، و كالشروط المفسدة لها.

بل مقتضى إطلاق موضوعية طبيعة الكلام هو كون كلام واحد محلّلا و محرّما كالفسخ، فإنّه يحرّم المثمن على المشتري، و الثمن على البائع، أو محلّلا فقط أو محرّما كذلك.

بل مقتضى الإطلاق المزبور شمول الكلام لكلام الشارع، فمحللية المعاطاة وضعا بواسطة الكلام هو عموم ما دلّ على وجوب الوفاء بالعقود و نحوه، فكلام الشارع في مقام

ص: 588

______________________________

الجعل قد يكون محلّلا كما في المعاطاة، و قد يكون محرّما كما في بيع المجهول و نحوه سواء أ كان مع الوسط أم بدونه.

و بالجملة: فيمكن الاستدلال على محلّلية المعاطاة وضعا بأنّ الكلام محلّل، و المراد بالكلام هو مثل قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.

و على هذا المعنى يندفع إشكال تخصيص الأكثر الآتي في كلام المصنف قدّس سرّه، إذ جميع المحرّمات و المحلّلات ترجع إلى سببية الكلام لهما، فإنّ تنجّس المأكولات و المشروبات يوجب حرمتهما بكلام دلّ عليها، كما أنّ حليّتهما بتطهيرهما أيضا مما دلّ عليه كلام الشارع.

و كذا محلّلية التذكية و ذهاب الثلثين، و تخليل الخمر، و استبراء الحيوان الجلّال و تخميس المال المختلط بالحرام، و غير ذلك من موارد التحليل. و كذا محرّمية موت الحيوان بغير التذكية، و غليان العصير، و الجلل، و خلط المال الحرام بالمال الحلال، إلى غير ذلك من موارد التحريم، فإن التحليل و التحريم في الجميع مما دلّ عليه كلام الشارع.

إلّا أن يقال: إنّه مع البناء على تعميم الكلام لكلام الشارع لا يستفاد الحصر أيضا، لأنّ الأحكام الثابتة بقاعدة الملازمة خارجة عن هذا الحصر، فالحصر الحقيقي لا يتصور في محلّليّة الكلام و محرّميّته، فلا بدّ من حمله على الحصر الإضافي.

و الحق أنّ دلالة كلمة «إنّما» على الحصر محلّ تأمل كما ذكر في محله.

لكن هذا التوجيه أجنبي عن مقالة المستدل بهذه الرواية على اعتبار اللفظ في إنشاء المعاملات. و عليه فتوجيه كلامه بأنّ المحلّلات و المحرّمات تنتهي بأسرها إلى بيان الشارع ممّا يأباه كلام المستدل جدّا.

ص: 589

الثاني (1): أن يراد بالكلام (2) اللّفظ مع مضمونه، كما في قولك: «هذا الكلام صحيح أو فاسد» (3)، لا مجرّد اللفظ أعني الصوت. و يكون المراد (4): أنّ المطلب الواحد يختلف حكمه الشرعي حلّا و حرمة باختلاف المضامين المؤدّاة بالكلام.

______________________________

(1) محصل هذا الاحتمال الثاني: أنّ المقصود الواحد يختلف حكمه باختلاف المضامين المؤدّاة بالكلام، يعني: أنّ المقصود الواحد إذا أدّى بعبارة مخصوصة صار حلالا، و إن أدّى بعبارات اخرى لم يحل، مثلا: يكون الغرض من النكاح السلطنة على بضع المرأة، و هو يحصل بقولها: «متعتك نفسي» و لا يحصل بقولها: «سلّطتك على بضعي أو آجرتك بضعي».

و كذا البينونة المقصودة بالطلاق، فإنّها تحصل بقول الزوج: «أنت طالق» و لا تتحقق بقوله: «أنت خليّة أو مسرّحة أو مطلّقة أو بريّة».

فملخص هذا الوجه هو ملاحظة المطلب الوحداني المقصود الذي يمكن أداؤه بمضامين متعددة، فيكون أداؤه بمضمون محرّما و بمضمون آخر محلّلا. و عليه فليس المراد في هذا الوجه الثاني محلّلية وجود اللفظ و محرّمية عدم اللفظ كما كان في الاحتمال الأوّل، إذ على الاحتمال الثاني يوجد اللفظ في الجميع، لكن المراد من «إنما يحرم و يحلل الكلام» هو محلليّة لفظ و محرّمية لفظ آخر، مع اشتراكهما في تأدية المطلب الواحد.

و يؤيّد إرادة هذا الاحتمال ما ورد في أخبار عقد المزارعة، و سيأتي بيانها.

(2) في قوله عليه السّلام: «انما يحلل الكلام و يحرم الكلام».

(3) حيث إنّ مقصود القائل: «هذا الكلام صحيح» هو صحة مضمونه، لا مجرّد صحة الألفاظ و الكلمات إعرابا و بناء، فالمنظور إليه هو المفاد و المدلول اللّذان يتوصل إليهما بالألفاظ.

(4) أي: و يكون المراد من محلّلية الكلام و محرّميته: أنّ المطلب الواحد .. إلخ.

ص: 590

مثلا المقصود الواحد- و هو التسليط على البضع مدة معيّنة- يتأتّى بقولها: «ملّكتك بضعي أو سلّطتك عليه أو آجرتك نفسي أو أحللتها لك» و بقولها: «متّعت نفسي بكذا» فما عدا الأخير موجب لتحريمه (1)، و الأخير محلّل.

و على هذا المعنى (2) ورد قوله عليه السّلام: «إنّما يحرّم الكلام» في عدة من روايات المزارعة:

منها (3): ما في التهذيب عن ابن محبوب عن خالد بن جرير عن أبي الربيع

______________________________

(1) المراد من إيجاب تلك العبارات لحرمة المرأة هو عدم تأثيرها شرعا في حلّية البضع، و إلّا فالحرمة ثابتة قبل هذه الألفاظ من جهة كونها أجنبيّة.

(2) أي: على هذا الوجه الثاني- من معنى الكلام المحلّل و المحرّم- ورد قوله عليه السّلام في روايات المزارعة: «إنّما يحرّم الكلام» و غرضه تأييد هذا الاحتمال الثاني.

و تقريب التأييد: أنّ قوله عليه السّلام: «إنّما يحرّم الكلام» في باب المزارعة هو نفس التعبير الوارد في رواية خالد بن نجيح من قوله عليه السّلام: «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» و حيث إنّ المقصود بالجملة الواردة في المزارعة واضح لا إجمال فيه، فليكن التعليل في رواية خالد- من جهة مطابقة المتن- محمولا على هذا الاحتمال الثاني الذي هو ظاهر رواية المزارعة أيضا.

و وجه ظهورها: أنّ مقصود المالك و العامل جعل حصة الأوّل ثلثا و حصّة الثاني ثلثين، و هذا المطلب الواحد إذا أنشئ باشتراط ثلث للبقر و ثلث للبذر لم يقع صحيحا، بل هو عقد فاسد، و إذا أنشئ بقول الزارع: «أزرع في أرضك و لك منها ثلث ولي ثلثان» كان صحيحا. ثم علّل عليه السّلام بطلان الإنشاء الأوّل بقوله: «فإنّما يحرّم الكلام» و من المعلوم أنّ مسانخة العلّة للحكم المعلّل بها ضرورية، فيتعيّن أن يراد بجملة «إنّما يحرّم الكلام» إنشاء عقد المزارعة بلفظ دون لفظ آخر.

و حيث إن رواية خالد قد اشتملت على هذا المتن كان المناسب حمل «الكلام» على هذا الاحتمال الثاني، و هو اللفظ مع مضمونه.

(3) و كذا يشتمل على التعليل روايتان أخريان:

ص: 591

الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّه سئل عن الرجل يزرع أرض رجل آخر، فيشترط عليه ثلثا للبذر و ثلثا للبقر، فقال: لا ينبغي له أن يسمّي بذرا و لا بقرا، و لكن يقول لصاحب الأرض: أزرع في أرضك، و لك منها كذا و كذا، نصف أو ثلث أو ما كان من شرط، و لا يسمّي بذرا و لا بقرا، فإنّما يحرّم الكلام» «1».

الثالث (1): أن يراد بالكلام في الفقرتين:

______________________________

الأولى: صحيحة الحلبي قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يزرع الأرض فيشترط للبذر ثلثا، و للبقر ثلثا، قال: لا ينبغي أن يسمّي شيئا، فإنّما يحرّم الكلام» «2».

الثانية: معتبرة سليمان بن خالد، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرّجل يزارع، فيزرع أرض آخر، فيشترط للبذر ثلثا و للبقر ثلثا، قال: لا ينبغي أن يسمّي بذرا و لا بقرا، فإنّما يحرّم الكلام» «3».

(1) هذا الاحتمال الثالث مبني على حمل «الكلام» في جملة التحريم و التحليل على تعبير واحد و جملة واحدة، مع كون محرميته و محلّليته بحسب تعدد المحلّ أو الوجود و العدم.

و يمكن توضيحه بوجهين:

الأوّل: ما يظهر من الفاضل النراقي «4»، و حكي عن المحقق القمي في جامع الشتات و سبقهما المحدث الكاشاني، حيث قال: «الكلام هو إيجاب البيع، و إنّما يحلّل نفيا، و إنّما يحرّم إثباتا» «5».

و محصله: أنّ المراد بالكلام في الفقرتين لفظ واحد يكون محرّما في حال وجوده، و محرّما في حال عدمه، أو بالعكس، بأن يكون وجوده محلّلا و عدمه محرّما. فالأوّل و هو

______________________________

(1): تهذيب الأحكام، ج 7، ص 194، باب المزارعة، الحديث: 857، وسائل الشيعة، ج 13، ص 201، الباب 8 من أبواب أحكام المزارعة و المساقاة الحديث: 10.

(2) وسائل الشيعة، ج 13، ص 199، الباب 8 من أبواب المزارعة و المساقاة، الحديث: 4.

(3) وسائل الشيعة، ج 13، ص 200، الباب 8 من أبواب المزارعة و المساقاة، الحديث: 6.

(4) مستند الشيعة، ج 1، ص 362.

(5) الوافي، ج 3، ص 59، الطبعة الحجرية.

ص: 592

الكلام الواحد (1)، و يكون تحريمه و تحليله باعتبار وجوده و عدمه، فيكون وجوده محلّلا و عدمه محرّما، أو بالعكس. أو (2) باعتبار محلّه و غير محلّه، فيحلّ في محلّه و يحرّم في غيره.

و يحتمل (3) هذا الوجه الروايات الواردة في المزارعة.

______________________________

محرّمية وجود الكلام نظير تسمية البذر و البقر في إنشاء المزارعة، فإنّه محرّم أي يوجب استمرار الحرمة السابقة على العقد، و عدم هذه التسمية محلّلة. و الثاني نظير إذن المالك- قولا- لغيره في التصرف في ماله، فإنّ وجود هذا اللفظ محلّل، و عدمه محرّم.

الثاني: أنّ المراد بالكلام وجوده، و يكون اتصافه بالمحلّلية و المحرّمية باعتبار وجوده في محلّ أو زمان، فاللفظ الواحد محرّم في محلّ و محلّل في محل آخر. مثلا: صيغة «أنكحت و قبلت» إن صدرت من المحرم كانت محرّما غير مؤثّر في حدوث علقة الزوجية، و إن صدرت من المحلّ كانت محلّلا و مؤثّرا في التزويج. و كالعقد على ذات العدّة، فإنّه محرّم أبدا، و على الخليّة محلّل.

(1) يعني: فالمتصف بالتحليل و التحريم حينئذ كلام واحد مع اتحاد مضمونه، و هذا هو الفارق بين هذا الوجه الثالث و بين سائر الوجوه. بخلاف الوجه السابق، فإنّ المتصف بهما كلامان، حيث إنّ تسمية البذر و البقر محرّم، و التعبير بالنصف أو الثلث كلام محلّل.

فالفرق بين هذا الوجه و سابقه هو: تعدد الكلام المتصف بالتحليل و التحريم هناك و اتحاده هنا.

كما أنّ فرق هذا الاحتمال مع الاحتمال الأوّل هو: أنّ المناط في التحريم و التحليل هناك كان في طبيعة الكلام في مقابل الفعل، لا بما أنّه كلام واحد أو متعدّد، و لا باعتبار وجوده في محلّ و عدمه في محل آخر.

(2) معطوف على «باعتبار» و هذا إشارة إلى الاحتمال الثاني المذكور في الوجه الثالث.

(3) أي: الوجه الثالث، فيقال: انّ وجود تسمية البذر و البقر محرّم، و عدمها محلّل. أو يقال: انّ قول الزارع للمالك: «لي الثلثان و لك الثلث» محلّل، و عدمه محرّم.

و أمّا تقريب احتمال حمل أخبار المزارعة على الوجه الثالث فهو: نهي الامام عليه السّلام عن

ص: 593

الرابع (1): أن يراد من الكلام المحلّل خصوص المقاولة و المواعدة، و من الكلام المحرّم إيجاب البيع

______________________________

تسمية ثلث للبذر و ثلث للبقر، فهذه التسمية محرّمة و موجبة لفساد العقد و حرمة التصرف، و عدم هذه التسمية محلّل، بأن يقول- كما علّمه عليه السّلام-: «لي الثلث و لك الثلثان» مثلا.

فإن قلت: إنّ احتمال إرادة هذا الوجه الثالث من روايات المزارعة ينافي تصريح المصنف قدّس سرّه في الوجه الثاني بقوله: «و على هذا المعنى ورد قوله عليه السّلام: إنّما يحرّم الكلام».

و المنافاة واضحة، لأن أخبار المزارعة إمّا أن تكون مجملة محتملة لكل من الوجه الثاني و الثالث، و إمّا أن تكون ظاهرة في خصوص الاحتمال الثاني، فإن كانت محتملة لكلا الوجهين لم يصحّ قوله في الوجه الثاني: «و على هذا المعنى ورد ..» و إن كانت ظاهرة في خصوص الاحتمال الثاني لم يصح قوله هنا: «و يحتمل هذا الوجه الروايات الواردة في المزارعة».

قلت: لا تنافي بين كلامي المصنف قدّس سرّه، لأنّ مدعاه في الاحتمال الثاني هو ظهور أخبار المزارعة فيه، و أنّ المطلب الواحد يمكن تأديته بعبارتين: إحداهما محلّلة و الأخرى محرّمة.

و من المعلوم أنّ هذا الظهور لا ينافي احتمال تنزيل تلك الأخبار على الوجه الثالث، بأن يقال:

إنّ وجود الكلام- أي تقييد حصّة العامل بالبذر و البقر- محرّم، و عدم هذا التقييد محلّل.

و الحاصل: أنّ ظهور الكلام في معنى لا ينافي احتمال إرادة معنى آخر منه. و إنما يتحقق التهافت بينهما إذا ادّعي تارة صراحة الكلام في مؤداه، و اخرى احتماله لمعنى آخر.

(1) محصّل هذا الوجه: أنّ المراد بالكلام المحلّل- بالنظر إلى صدر الرواية و مورد السؤال فيها- خصوص المقاولة، و بالكلام المحرّم إيجاب البيع، لأنّه بيع قبل الشراء، و هو غير جائز. و تقدم مزيد توضيح لهذا الوجه عند بيان فقه الرواية قبل الشروع في المقام الأوّل المنعقد لبيان محتملات التعليل.

ثم إنّه ينبغي تتميم الكلام ببيان فوارق هذه المحتملات الأربعة، فنقول: انّ الكلام في هذا الوجه الرابع متعدّد، لكون المقاولة التي هي الكلام المحلل مغايرة لإيجاب البيع الذي هو الكلام المحرّم. فهذا الوجه الرابع يغاير الوجه الثاني في أنّ المضمون فيه متعدد، إذ المواعدة غير الإيجاب.

و بعبارة أخرى: المقاولة و البيع مطلبان، لا مطلب واحد.

ص: 594

و إيقاعه (1) [1].

______________________________

بخلاف الوجه الثاني، فإنّ المقصود من الكلام شي ء واحد، و هو كون ثلثي الزرع للزارع، و الاختلاف إنّما يكون في التأدية، و عليه فيكون المعنى الرابع أخص من الثاني.

و يشارك هذا الوجه الرابع الوجه الثاني في تعدد الكلام الموضوع للتحليل و التحريم هذا.

و الوجه الرابع يغاير الوجه الثالث بالمباينة، لأنّ الكلام المحلّل و المحرّم متعدد في الرابع، و متّحد في الثالث.

كما أنّ هذا هو الفرق أيضا بين الوجه الثاني و الثالث، فإنّ الكلام المحلّل و المحرّم في الوجه الثاني متعدد، و في الثالث متّحد.

كما أنّه ظهر الفرق بين مجموع هذه الوجوه الثلاثة و بين الوجه الأوّل، بكون الملحوظ استقلالا في الأوّل هو اللفظ مع الغض عن معناه، بخلاف الوجوه الثلاثة، فإنّ الملحوظ فيها استقلالا هو المعنى، و اللفظ ملحوظ فيه آليّا، كما تقدم آنفا. فالفرق بين الوجه الأوّل و بينها هو التباين.

(1) فاللّام في قوله عليه السّلام: «الكلام» على هذا المعنى الرابع يكون للعهد، فلا يستفاد منه ضابط مطّرد في جميع الموارد.

هذا تمام الكلام في مقام الثبوت، و سيأتي الكلام في مقام الإثبات.

______________________________

[1] و في التعليل احتمال خامس و سادس، فالأوّل ما احتمله المحقق النائيني قدّس سرّه قال المقرر: «أن يراد من الكلام نفس معنى اللفظ، لا اللفظ بمعناه، فيصير حاصله: أنّ البيع قبل الشراء محرّم، و بعده محلّل. و هكذا في باب المزارعة، فإنّ جعل شي ء بإزاء البقر و البذر محرّم، و جعله بإزاء عمل الزارع محلّل» «1».

و قد سبقه إلى هذا المعنى صاحب الجواهر «2» و المحقق الخراساني و غيرهما «3».

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 66.

(2) جواهر الكلام، ج 22، ص 217.

(3) حاشية المكاسب، ص 15.

ص: 595

______________________________

و محصّل هذا الوجه: أنّ المراد بالكلام هو الالتزام المعاملي السالب عرفا للاختيار، و المراد بالتحريم و التحليل بالإضافة إلى شخصين، و هما البائع و المشتري، لا إلى كلامين من شخصين، بحيث يكون أحدهما محرّما و الآخر محلّلا، فإن المثمن يحرم على البائع بالتزامه المعاملي، و يحلّ للمشتري، و في الثمن بالعكس. و إطلاق الكلام على الالتزام شائع. و منه «كلام اللّيل يمحوه النهار» كما قد يطلق عليه القول، فيقال: «أعطيت قولا بذلك» و قوله تعالى وَ لٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّٰاسِ أَجْمَعِينَ «1».

و بعبارة أخرى: لا يراد بالكلام اللفظ، و لا دخله في الأثر، إذ المؤثّر هو المعنى، و الكلام بما أنّه فإن في معناه، إذ هو ما به ينظر لا فيه ينظر، فالكلام المحلّل و المحرّم هو الالتزام المعاملي المحرّم للمبيع على البائع و المحلّل له للمشتري.

و هذا المعنى الذي أفاده صاحب الجواهر قد يساعده الذوق الفقهي السليم، و يتأيّد بكثير من النصوص الواردة في بيع الدلّال، كصحيحة ابن سنان الآتية في المتن و غيرها ممّا رواها ثقة الإسلام في باب بيع ما ليس عنده، و أنّه إن كان مجرّد مفاوضة و مقاولة فلا بأس، و إن كان إيجاب البيع ففيه بأس.

لكن الإنصاف أنّ هذا الوجه يستلزم إسقاط خصوصية الكلام المأخوذ موضوعا للتحليل و التحريم، و لغوية ذكره، و هو بمكان من الفساد. فمقتضى ظاهر التعليل هو كون الكلام المنشأ به إيجاب البيع قبل الشراء محرّما، و بعده محلّلا، فالمناط في التحريم و التحليل هو الكلام، فيدل قوله عليه السّلام: «إنّما يحلل الكلام و يحرم الكلام» على كون إيجاب البيع المتحقق بالكلام دون غيره قبل الشراء محرّما، و بعده محلّلا، فلا عبرة بإيجاب البيع بغير الكلام كإنشائه بالمعاطاة.

و ما أفاده المحقق الايرواني قدّس سرّه في تأييده بإطلاق الكلام على الالتزام المجرّد عن

______________________________

(1): السجدة، الآية: 13.

ص: 596

______________________________

اللفظ استشهادا بمثل «كلام الليل يمحوه النهار» غير ظاهر، إذ لو سلّم الإطلاق المزبور لم يقتض سقوط أصالة الحقيقة في معنى الكلام، و حمله على الالتزام المجرّد عن النطق.

و لو كان المحلّل و المحرّم هو الالتزام البيعي لكان المناسب أن يقال: «يحلل البيع و يحرم البيع».

هذا مضافا إلى: لزوم جعل الحصر إضافيا، أي كون البيع محرّما بالإضافة إلى المقاولة التي ليست محرّمة، مع ظهور «انما» في حصر المحلّل في البيع بالإضافة الى كل شي ء.

الاحتمال السادس: ما أفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه و هو: «أنّ الإيجاب الصحيح في ذاته يؤثر تارة في الحلّ و اخرى في الحرمة، كالنكاح المؤثّر في الحلية، و الطلاق المؤثّر في الحرمة.

و المراد: أنّ السبب المؤثر تارة في الحلية و اخرى في الحرمة منحصر في الكلام. لا أنّ الصحيح المحلّل، و الفاسد المحرّم منحصر في الكلام حتى يورد عليه بالإشكال في المحلّلية و المحرّمية» «1».

و حاصله: أنّ الموصوف بالمحلّلية و المحرّمية هو خصوص الإنشاء الصحيح، و لا عبرة بالإنشاء الفاسد أصلا. فالكلام الصحيح المحلّل كالعقد في النكاح، و المحرّم كالطلاق.

و بعبارة أخرى: شأن طبيعة الكلام الصحيح: التحليل و التحريم، فهو ينقسم الى قسمين. لا أنّ الكلام الواحد محلّل وجودا و محرّم عدما. أو بالعكس. أو أنّ الكلام إن كان مقاولة فهو محلّل، و إن كان بيعا فهو محرّم، و غير ذلك من المحتملات.

و هذا ينطبق على مورد الرواية و هو بيع ما ليس عنده، فإنّ الدلّال إذا أوجب البيع قبل أن يتملّك المبيع كان إنشاؤه الصحيح محرّما، و إن أوجبه بعد تملكه له كان محلّلا، هذا.

و هذا الاستظهار و إن كان وجيها، لكن تطبيقه على مورد سؤال خالد لا يخلو من شي ء، لأنّه سأل عن حكم الربح و بيع الثوب من الآمر، فأجابه عليه السّلام- و كما في روايات أخرى- بأنّ الآمر إن كان بالخيار فلا بأس، و إلّا ففيه بأس، ثم علّله بمحلّلية الكلام و محرّميته.

و لا يبعد حمله على المعنى الثالث من عدم محرّمية المقاولة و محرّمية إيجاب البيع،

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 37.

ص: 597

ثم (1) إنّ الظاهر عدم إرادة المعنى الأوّل (2)، لأنّه (3)- مع لزوم تخصيص الأكثر،

______________________________

(1) هذا ناظر إلى المقام الثاني و هو الإثبات، و أنّ أيّ واحد من تلك الوجوه الأربعة يكون ظاهر الكلام و مرادا منه.

(2) مع أنّ المجدي للاستدلال بذيل رواية خالد بن الحجاج على عدم لزوم الملك بالمعاطاة هو إرادة هذا المعنى الأوّل.

(3) أي: لأن المعنى الأوّل يوجب، و هذا وجه عدم إرادة الاحتمال الأوّل، و هو يرجع إلى وجهين:

أحدهما: أنّ المعنى الأوّل يستلزم تخصيص الأكثر، لأنّ مقتضاه حصر المحلّل و المحرّم في الكلام، مع أنّه ليس كذلك، لكثرة المحرّمات و المحلّلات في الشريعة، مع عدم كون المحلّل و المحرّم فيها كلاما، كمحرّمية الغليان، و محلّلية ذهاب الثلثين، و محرّمية الموت بغير التذكية للحيوان القابل للتذكية، و محلّلية التذكية، و محرّمية الجلل، و محلّليّة الاستبراء منه، إلى غير ذلك.

ثانيهما: أنّ الفقرة المذكورة- أعني بها: محلّلية الكلام و محرّميته- علّة للحكم المذكور قبله، و إرادة المعنى الأوّل منها توجب عدم ارتباطها بالحكم المزبور و عدم انطباقها عليه، لأنّ الحكم- على ما يستفاد من جملة من الروايات- هو الجواز إذا لم يوجب السمسار البيع قبل الشراء من مالكه، و لا دخل للكلام في هذا الحكم أصلا، بل المدار في الجواز و عدمه هو الإيجاب قبل الشراء. و عدم الإيجاب قبله، فليس المدار في التحليل و التحريم هو النطق حتى يصحّ تعليل الحكم بالجواز و عدمه به، فإنّ إيجاب البيع من قبيل المعنى دون اللفظ، فلا يصحّ التعليل به.

______________________________

أو على المعنى الخامس. و أمّا مجرّد انقسام الكلام الصحيح إلى محلّل تارة و محرّم اخرى، فلا يظهر انطباقه على مورد السؤال.

و لعلّ الاعتراف بعدم وضوح أمر التطبيق أولى من التصرف في ظاهر التعليل، و اللّه العالم بحقائق الأمور.

ص: 598

حيث (1) إنّ ظاهره حصر أسباب التحليل و التحريم في الشريعة في اللفظ- يوجب (2) عدم ارتباطه بالحكم المذكور في الخبر جوابا عن السؤال، مع (3) كونه كالتعليل له، لأنّ ظاهر الحكم- كما يستفاد من عدة روايات أخر (4)- تخصيص الجواز (5) بما إذا لم يوجب البيع على الرجل قبل شراء المتاع من مالكه، و لا (6) دخل [1]

______________________________

(1) هذا تعليل للزوم محذور تخصيص الأكثر، يعني: أنّ ظهور التعليل في حصر سبب التحليل و التحريم الشرعيين في اللفظ يوجب ورود الاشكال عليه، و ذلك لكثرة الأسباب المحلّلة و المحرّمة التي لا دخل للفظ فيها أصلا، و هذا يكشف إنّا عن إباء التعليل عن الحمل على الاحتمال الأوّل، بل لا بد من إرادة معنى آخر منه لا يترتب عليه محذور تخصيص الأكثر و غيره.

(2) خبر «لأنه» و هذا إشارة إلى الوجه الثاني من وجهي الإشكال على الاحتمال الأوّل، و محصله: أجنبية التعليل عن الحكم المعلّل به، مع وضوح اعتبار المناسبة و السنخيّة بين الحكم الشرعي و علته.

(3) أي: و الحال أنّ قوله عليه السّلام: «إنّما يحلل الكلام و يحرم الكلام» يكون كالعلة لقوله عليه السّلام: «لا بأس» و هل يتصور تعليل حكم بأمر أجنبي عنه؟

(4) كمعتبرة ابن سنان المتقدمة في ص 585، و رواية يحيى ابن الحجاج الآتية في ص 607.

(5) المستفاد من قوله عليه السّلام: «لا بأس».

(6) يعني: و الحال أنّ الجواز المزبور لا دخل للفظ فيه حتى يعلّل بحصر المحلّل و المحرّم في الكلام.

______________________________

[1] بل له دخل في التحليل و التحريم، لما عرفت من دلالة قوله عليه السّلام: «انما يحلل الكلام» على كون مناط التحليل و التحريم هو الإيجاب المتحقق بالكلام قبل شراء الثوب من مالكه و بعده، دون غير الكلام من الفعل، فلا يتحقق بالمعاطاة بيع ما ليس عنده.

ص: 599

لاشتراط النطق في التحليل و التحريم في هذا الحكم أصلا، فكيف يعلّل به (1)؟

و كذا (2) المعنى الثاني، إذ ليس هنا (3) مطلب واحد حتى يكون تأديته بمضمون محلّلا و بآخر محرّما.

فتعيّن المعنى الثالث (4)، و هو: أنّ الكلام الدالّ على الالتزام بالبيع لا يحرّم

______________________________

(1) يعني: فكيف يكون «إنّما يحلّل» علّة لمشروعيّة المقاولة بين الدلّال و المشتري للثوب، و علّة لعدم مشروعية إيجاب البيع قبل شراء الثوب من مالكه؟

(2) معطوف على «المعنى الأوّل» أي: أنّ الظاهر عدم إرادة المعنى الثاني كعدم إرادة المعنى الأوّل، و وجه عدم إمكان حمل التعليل- في رواية خالد- على الاحتمال الثاني هو: أنّه لو كان في مورد الرواية مطلب واحد يؤدّى بتعبيرين أو أكثر كما في النكاح المنقطع أمكن تطبيق التعليل على الاحتمال الثاني، و لكن مورد السؤال و جواب الامام عليه السّلام مطلب واحد- و هو إيجاب بيع ما لا يملكه السمسار- و هذا يؤدّي بإنشاء واحد لا بكلامين حتى يكون أحدهما محلّلا و الآخر محرّما.

(3) يعني: ليس في مورد الرواية مطلب واحد حتى يكون أداؤه بمضمونه محرّما و بمضمون آخر محلّلا، بل الموجود في الرواية مطلب واحد يعبّر عنه بكلام واحد، غايته أنّ هذا الكلام الواحد عدمه محلّل و وجوده محرّم، يعني: أنّ إنشاء البيع- قبل أن يشتري السمسار الثوب من مالكه- محرّم، لكونه من بيع ما ليس عنده، و هو منهي عنه.

(4) أو المعنى الرابع، فإنّ مجرّد بطلان الوجهين الأوّلين غير كاف في تعيّن الاحتمال الثالث، بل لا بد من إبطال الاحتمال الرابع أيضا. و لكن مقصوده قدّس سرّه ملاءمة التعليل لمورد الرواية، و تطبيقه عليه سواء قلنا بالاحتمال الثالث، أم الرابع كما سيأتي تصريحه بقوله:

______________________________

و كذا يظهر دخل الكلام بناء على الاحتمال الثاني، لأنّ مقتضى حصر المحلّل و المحرّم في الكلام هو عدم تحقق بيع ما ليس عنده إلّا بالكلام، فهذا الحصر ينفي تحقق إيجابه بغير الكلام، و هذا كاف في إثبات عدم ترتب أثر على المعاطاة في غير هذا المورد.

ص: 600

هذه المعاملة، إلّا وجوده قبل شراء العين (1) التي يريدها الرجل، لأنّه بيع (2) ما ليس عنده، و لا يحلّل إلّا عدمه، إذ مع (3) عدم الكلام الموجب لالتزام البيع لم يحصل إلّا التواعد بالمبايعة، و هو (4) غير مؤثّر.

فحاصل الرواية: أنّ سبب التحليل و التحريم في هذه المعاملة منحصر في

______________________________

«أو المعنى الرابع».

(1) كالثوب الذي هو مورد رواية خالد بن الحجاج أو خالد بن نجيح.

(2) أي: لأنّ الكلام الدال على الالتزام بالبيع، و هذا تعليل لقوله: «لا يحرّم هذه المعاملة» و حاصله: أنّ الموجب لحرمة هذه المعاملة هو كونه من بيع ما ليس عنده، و من المعلوم أنّه لا يتحقق هذا العنوان إلّا بوجود الكلام الدال على البيع، فالمحرّمية إنّما تكون بوجود الكلام، و المحلّلية بعدمه قبل الشراء من المالك.

(3) تعليل لقوله: «و لا يحلّل إلّا عدمه» و حاصله: أنّ إسناد التحليل إلى عدم الكلام إنّما هو لأجل عدم تحقق الكلام الموجب للبيع، حيث إنّ الكلام الموجود كان هو التواعد بالمبايعة لا نفس البيع، و من المعلوم أنّ المواعدة ليست بيعا حتى تحرّم.

و بالجملة: فالمناسب لمورد الرواية إرادة المعنى الثالث، و هو كون وجود الكلام- أي إنشاء البيع- محرّما، و عدمه محلّلا.

و به يظهر أجنبية التعليل عن إناطة لزوم البيع بإنشائه باللفظ خاصة كما هو مراد المستدل بهذه الرواية على عدم لزوم المعاطاة.

ثم لا يخفى أنّ الاحتمال الثالث كان منحلّا الى وجهين: أحدهما: إناطة التحليل و التحريم بالوجود و العدم، و الآخر: إناطتهما معا بالوجود، غايته دخل الحال و الزمان في محلّلية إنشاء تارة و محرّمية نفس ذلك الإنشاء أخرى. و كلام المصنف هنا موافق للوجه الأوّل، لعدم تعرّضه لتطبيق التعليل على الوجه الثاني و إن كان ممكنا كما لا يخفى.

(4) يعني: و مجرد التواعد غير مؤثّر.

ص: 601

الكلام عدما (1) و وجودا (2).

أو (3) المعنى الرابع، و هو: أنّ المقاولة و المراضاة مع المشتري الثاني (4) قبل اشتراء العين محلّل للمعاملة، و إيجاب (5) البيع معه محرّم لها.

______________________________

(1) يعني: أنّ المحلّل هو عدم إنشاء البيع قبل أن يشتري السمسار الثوب من مالكه.

(2) يعني: أنّ المحرّم هو إنشاء البيع قبل شراء الثوب من مالكه، و وجه محرّميته هو كونه من بيع ما ليس عنده.

(3) معطوف على «الثالث» يعني: فتعيّن المعنى الرابع بعد بطلان المعنيين الأوّلين، و حاصله: أنّ المراد بالكلام المحلّل في مورد الرواية هو المقاولة و المواعدة، و بالكلام المحرّم إيجاب البيع، و هذا المعنى ينطبق على مورد الرواية كانطباق الاحتمال الثالث.

و على هذا الاحتمال الرابع يصير التعليل أجنبيا عن مرام القائل بتوقف لزوم الملك على اللفظ و عدم تأثير المعاطاة فيه.

فتحصل: أنّ المصنف قدّس سرّه رجّح من المعاني الأربعة اثنين، أحدهما المعنى الثالث و هو إضافة التحليل إلى عدم الكلام، و التحريم إلى وجوده. و الآخر المعنى الرابع، و هو كون الكلام المحلّل المقاولة، و المحرّم إيجاب البيع.

و استبعد إرادة المعنيين الأوّلين. إذ في أوّلهما: لزوم تخصيص الأكثر، و عدم ارتباط العلة بالحكم المعلّل.

و في ثانيهما: عدم مطلب واحد يمكن تأديته بمضمونين حتى يكون أحدهما محلّلا و الآخر محرّما، بل مطلب واحد لا يتأدّى إلّا بمضمون واحد، و هو إيجاب البيع قبل الشراء، فلا بدّ من إرادة المعنى الثالث أو الرابع.

هذا محصل ما أفاده المصنف في معنى الرواية.

(4) و هو الرجل الآمر، و المشتري الأوّل هو السمسار الذي يشتري الثوب من مالكه.

(5) معطوف على «المقاولة» يعني: و أنّ إيجاب السمسار البيع مع المشتري الثاني محرّم للمعاملة.

ص: 602

و على كلا المعنيين (1) يسقط (2) الخبر عن الدلالة على اعتبار الكلام في التحليل، كما هو المقصود في مسألة المعاطاة [1].

______________________________

(1) و هما المعنى الثالث و الرابع اللّذان يتعيّن حمل التعليل على أحدهما.

(2) أمّا وجه سقوطه بناء على المعنى الثالث فهو: أنّ المحلّل حينئذ في هذه المعاملة الخاصة منحصر بعدم الكلام البيعي الإنشائي قبل شراء الدلّال لنفسه، و المحرّم فيها هو وجود الكلام البيعي قبله، و لا يدلّ هذا على عدم كفاية غير الكلام- و منه المعاطاة- في جميع الموارد حتى في بيع إنسان مال نفسه.

و الحاصل: أنّ الرواية لا تدلّ إلّا على أنّ وجود إيجاب «بيع ما ليس عنده» محرّم قبل الشراء، و عدمه محلّل قبله.

و أمّا وجه سقوطه بناء على المعنى الرابع فهو: أنّ مفاده حينئذ هو: أنّ المحلّل في مورد الرواية منحصر في المقاولة و المواعدة، و المحرّم منحصر في الكلام الإنشائي، و من المعلوم أنّ هذا أيضا أجنبي عن اعتبار اللفظ في البيع في غير مورد الرواية، و هو بيع ما ليس عنده، و عدم كفاية المعاطاة فيه، فلا يدلّ على اعتبار اللفظ في بيع ما عنده حتى تكون دليلا على عدم تأثير المعاطاة في إنشاء البيع في جميع الموارد.

و كذا يسقط الخبر على المعنى الثاني، لأنّ اللفظ فيه ملحوظ أيضا آليّا لا استقلاليا فالاستدلال بالرواية على اعتبار الكلام في إنشاء البيع مبني على الوجه الأوّل الذي استظهره جمع من الفقهاء.

______________________________

[1] بل المصير إلى المعنى الثالث و الرابع بعيد أيضا، إذ يلزم في الثالث التفكيك بين الكلامين المتحدين سياقا، لأنّ الظاهر كون وجود الكلام في كلّ من الفقرتين محلّلا و محرّما، فجعل وجود أحدهما مؤثرا في الحل، و عدم الآخر مؤثّرا في الحرمة، أو العكس غير وجيه، هذا.

مضافا إلى: أنّ المؤثر في وجود الحلّ و الحرمة هو الوجود، لا العدم، فإسناد الحلّ أو الحرمة إلى العدم غير سديد كما هو ظاهر، فإنّ عدم الكلام لا يؤثّر في الحرمة، بل تستند الحرمة

ص: 603

______________________________

إلى حرمة التصرف في مال الغير، لا إلى عدم علّة ضده.

ففي باب المزارعة لا يكون حرمة التصرف في الثلثين من الزرع الموسومين للبذر و البقر مستندة إلى عدم الكلام، بل إلى ما دلّ على حرمة التصرف في مال الغير هذا.

و في الرابع: أنّه مع النظر الى الصدر لا مع الغض عنه كما هو المفروض في الاحتمالات الأربعة، فإنّ جعل الكلام المحلّل المواعدة و المحرّم إيجاب البيع هو عين مورد الرواية، كما هو واضح. فكيف يكون مع الغضّ عنه.

و لا تبعد دعوى: انسباق المعنى الثاني من المعاني المتقدمة من جملة «إنّما يحلّل الكلام و يحرم الكلام» في بيع ما ليس عنده، و من قوله عليه السّلام: «إنّما يحرم الكلام» في روايات المزارعة، إذ الظاهر أنّ الروايات في مقام جعل التحليل و التحريم للكلام، و أنّ المقاصد يختلف حكمها باختلاف المضامين المؤداة بالكلام.

ففي بيع ما ليس عنده- الذي يكون المقصود منه تمليك الشخص للمتاع بربح خاصّ- إذا عبّر عنه بالوعد كان محلّلا، و إذا عبّر عنه بإيجاب البيع كان محرما.

و في باب المزارعة يكون المقصود تملك الزارع ثلثي الزرع، فإن عبّر عن هذا المقصود بجعل ثلث للبقر و ثلث للبذر كان محرّما، و إن عبّر عنه بجعل الثلثين بإزاء عمل الزارع كان محلّلا.

إلّا أن يقال: إنّ المقاولة ليست كلاما محلّلا، إذ المحلّل هو إيجاب البيع بعد الشراء، فوجود المقاولة كعدمها. كما أنّ محرّمية جعل الثلث للبقر و الثلث للبذر أيضا غير صحيحة، لأنّ المحرم هو التصرف في مال الغير بدون إذنه، لا أنّ المحرّم هو جعل الثلث للبذر، نعم هو لغو.

فالأولى إرادة الشق الثاني من المعنى الثالث، و هو كون الكلام محرّما في مورد و محلّلا في غيره، كإيجاب بيع ما ليس عنده، فإنّه محرّم قبل الشراء، و محلّل بعده.

و إرادة المعنى الثاني في روايات المزارعة.

ص: 604

نعم (1) نعم يمكن استظهار اعتبار الكلام في إيجاب البيع

______________________________

(1) استدارك على قوله: «يسقط الخبر عن الدلالة» و مقصوده توجيه الاستدلال بالتعليل على عدم لزوم المعاطاة بناء على تطبيق التعليل على الاحتمال الثالث، و محصله: أنّ مقتضى حصر المحلّل و المحرّم في الكلام هو انحصار إيجاب البيع بالكلام، و عدم تحققه بغيره من الإشارة و المنابذة و المعاطاة، إذ لو تحقّق البيع بغير اللفظ كان مخالفا لمقتضى حصر المحلّل و المحرّم في الكلام.

و الفرق بين هذا التقريب و بين الوجه الأوّل حينئذ هو: ابتناء الوجه الأوّل على حصر جميع المحلّلات و المحرّمات في الكلام، سواء في العقود و الإيقاعات و غيرها، و لذا ناقش فيه المصنف قدّس سرّه بلزوم تخصيص الأكثر، من جهة عدم توقف الحلية و الحرمة على اللفظ في موارد كثيرة. بخلاف هذا الاحتمال الأخير، فإنّ المراد بالكلام بقرينة مورد السؤال هو إيجاب البيع، فالتعليل من أوّل الأمر مخصوص بباب البيع، فكأنّه عليه الصلاة و السّلام قال: «إنّما يحلّل الكلام البيعي و يحرّم كذلك» فإيجاب البيع محرّم للثوب و الربح إذا كان قبل شراء الدلّال، و إيجابه بعد شراء الثوب من مالكه محلّل لهما.

______________________________

و على كلّ حال لا يستفاد من الروايات المشتملة على قوله عليه السّلام: «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» عدم نفوذ المعاطاة، أو توقف لزومها على الكلام، لأنّ الاستدلال بها موقوف على الوجه الأوّل، مع دلالة كلمة «إنّما» على الحصر. و كلاهما محل النظر و المنع، هذا.

مضافا الى: ما في الحصرين من التنافي، لأنّ مقتضى حصر المحلّل في الكلام انتفاء الحلية بعدمه، فيلزم أن يكون عدم الكلام محرّما، و هذا ينافي حصر المحرّمية بالكلام، و كذا العكس، و هذا التنافي موجود سواء أ كان المراد بالكلام نفسه كما هو مقتضى المعنى الأوّل، أم مضمونه كما هو مقتضى المعاني الأخر، فلو عولج هذا التنافي بجعل الحصر إضافيّا بمعنى كون نوع من الكلام محلّلا لا محرّما، و نوع آخر منه محرّما لا محلّلا امتنع الاستدلال بالرواية حتى على المعنى الأوّل، إذ لا تثبت توقف الصحة كلّيّة على اللفظ. و دعوى عدم القول بالفصل تنافي القول بالانتفاء بمطلق الدالّ كما لا يخفى.

ص: 605

بوجه آخر (1) بعد ما عرفت من أنّ المراد بالكلام هو إيجاب البيع (2)، بأن (3) يقال: إنّ حصر المحلّل و المحرّم في الكلام لا يتأتى إلّا مع انحصار إيجاب البيع في الكلام، إذ لو وقع بغير الكلام لم ينحصر المحلّل و المحرّم في الكلام.

إلّا أن يقال (4): إنّ وجه انحصار إيجاب البيع في الكلام في مورد الرواية هو عدم إمكان المعاطاة في خصوص المورد (5)، إذ المفروض أنّ المبيع عند مالكه الأوّل، فتأمّل (6).

______________________________

و عليه فدلالة التعليل على توقف لزوم البيع على الكلام تامّة، و لا يترتب اللزوم على المعاطاة.

(1) يعني: غير الوجه الأوّل الذي تعذّر حمل التعليل عليه، لتخصيص الأكثر، و أجنبية الحكم عن التعليل.

(2) و هو المعنى الثالث.

(3) هذا تقريب الوجه الآخر المبني على الاحتمال الثالث الذي ارتضاه المصنف. و قد تقدم تقريبه آنفا.

(4) هذا إشكال على قوله: «نعم يمكن استظهار ..» و محصله: كون التوجيه المزبور مخصوصا بمورد الرواية مما لا تجري المعاطاة فيه، و لا يدلّ على اعتبار اللفظ في موارد اخرى يمكن تحقق البيع فيها بالتعاطي، و بيانه: أنّ حصر المحلّل و المحرّم في مورد الرواية في الكلام يكون لأجل نكتة، و هي: أنّ المعاطاة غير متحققة هنا، لأنّ المتاع- و هو الثوب- عند مالكه الأوّل، فلا يتحقق إيجاب البيع من الدلّال بالمعاطاة، بل لا بدّ من إنشائه بالقول.

(5) و أمّا في الموارد التي يكون المبيع فيها عند البائع و الثمن عند المشتري- و يمكن إنشاء البيع بالتعاطي- فلا تدل رواية خالد على اعتبار اللفظ في التحريم و التحليل، و عليه فالدليل أخصّ من المدّعى.

(6) إشارة إلى ضعف قوله: «الّا أن يقال» حاصله: إمكان المعاطاة في المورد أيضا، لظهور قوله: «اشتر لي هذا الثوب» في كون الثوب عند الدلّال، فيمكن المعاطاة فيه.

ص: 606

و كيف كان (1) فلا تخلو الرواية عن إشعار أو ظهور (2).

كما يشعر به (3) قوله عليه السّلام في رواية أخرى واردة في هذا الحكم (4) أيضا (5)، و هي رواية يحيى بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «عن رجل قال لي: اشتر لي هذا الثوب أو هذه الدابة، و بعنيها، أربحك فيها كذا و كذا، قال لا بأس بذلك، اشترها، و لا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها أو تشتريها» «1» (6).

فإنّ (7) الظاهر أنّ المراد من مواجبة البيع

______________________________

و لو سلّم عدم كون المتاع عند الدلّال أمكن أن يقال بكفاية المعاطاة بإعطاء الثمن من جانب و الأخذ من آخر، كما سيأتي تحقيقه في التنبيه الثاني إن شاء اللّه تعالى.

(1) أي: سواء تمّ هذا التوجيه المبني على الوجه الثالث، أم لم يتم.

(2) في اعتبار الكلام في التحليل و التحريم بملاحظة الاستظهار المزبور.

(3) أي: يشعر بانحصار إيجاب البيع في الكلام قول أبي عبد اللّه عليه الصلاة و السّلام في رواية يحيى بن الحجاج.

(4) و هو التفصيل في شراء المتاع من الدلّال بين تحققه قبل أن يشتريه الدلّال من مالكه، فيبطل، و بين تحققه بعده فيصح.

(5) يعني: كما ورد هذا الحكم في رواية خالد بن الحجاج أو خالد بن نجيح، و مقصود المصنف أنّ الحكم المزبور يدلّ عليه أكثر من رواية، و لا ينحصر الدليل عليه في رواية خالد المتقدمة. نعم لا ظهور للرواية في اعتبار اللفظ، و إنّما هو مجرد إشعار.

(6) يعني: إلى أن تشتريها، و حاصله: أنّه لا تبعه الدابة إلّا بعد أن تشتريها من مالكها.

(7) مقصوده بالظاهر هو الإشعار، لأنّه جعل هذه الرواية مشعرة باعتبار اللفظ في لزوم البيع، و محصّله: أنّه يلزم من هذه الرواية أنّ الامام عليه السّلام أمره بإيجاب البيع باللفظ، و أنّ نهيه عليه السّلام عن مواجبة البيع قبل شراء العين من المالك ظاهر في النهي عن إنشائه، لا مجرّد النهي عن إعطاء العين إلى المشتري قبل أن يشتريها السمسار من مالكها.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 378، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، الحديث: 13.

ص: 607

ليس مجرّد إعطاء العين للمشتري (1).

و يشعر به (2) أيضا (3) رواية العلاء الواردة في نسبة الربح إلى أصل المال، قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرّجل يريد أن يبيع بيعا، فيقول: أبيعك بده دوازده، أو:

ده يازده، فقال: لا بأس، إنّما هذه المراوضة (4)، فإذا جمع البيع جعله جملة واحدة» «1».

فإنّ ظاهره- على ما فهمه بعض الشرّاح (5)- أنّه لا يكون ذلك في المقاولة التي قبل العقد، و إنّما يكره حين العقد.

و في صحيحة ابن سنان: «لا بأس بأن تبيع الرجل المتاع ليس عندك، تساومه، ثم تشتري له (6) نحو الذي طلب، ثم توجبه على نفسك، ثم تبيعه منه بعد» «2».

______________________________

(1) حتى يحتمل كفاية المعاطاة.

(2) أي: و تشعر رواية العلاء بانحصار إيجاب البيع في اللفظ.

(3) كما أشعرت رواية يحيى بن الحجاج و خالد بن نجيح بالانحصار المزبور.

(4) قال في مجمع البحرين: «نتراوض على أمر، نستقرّ على أمر» «3» و المراد بجمع البيع هو العزم عليه، يعني فإذا عزم على البيع جعل رأس المال و الربح جملة واحدة، و يسمّيها.

(5) و هو سيدنا الجد المحدّث السيد نعمة اللّه الجزائري قدّس سرّه، و حاصله: أنّ تسمية الربح مكروهة في نفس العقد، لا في المقاولة و المراوضة التي ليست هي بيعا، فكأنّ اعتبار اللفظ في إنشاء البيع مفروغ عنه، و إنّما كان السؤال عن جواز بيان نسبة الربح في الإيجاب، فأجابه عليه السّلام بعدم البأس ببيانه في المقاولة التي هي من مقدمات أصل البيع.

(6) أي: تشتري لذلك الرجل، و توضيحه: أنّ شراء السمسار متاعا من مالكه يكون تارة بفرض نفسه وكيلا عن الرجل الذي يريد ذلك المتاع، فيتملّكه الرجل بمجرّد أن اشتراه

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 386، الباب 14 من أبواب أحكام العقود، الحديث: 5.

(2) وسائل الشيعة، ج 12، ص 375، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، الحديث: 1.

(3) مجمع البحرين، ج 4، ص 211 و 212.

ص: 608

..........

______________________________

السمسار من مالكه و يكون اخرى بشرائه لنفسه، فيبيعه بعده للرجل.

و مورد الرواية هو الثاني، بقرينة قوله عليه السّلام: «ثم توجبه على نفسك» أي: تشتريه لنفسك، و بعد تملّكه تبيعه للرجل.

و على كل تقدير لا بدّ من حمل «تشتري» على مقدمات الشراء، لدلالة «توجبه على نفسك» على الشراء من مالكه.

هذا تمام الكلام في الأخبار التي ادّعى المصنف قدّس سرّه إشعارها بدخل اللفظ في لزوم البيع [1]، و بذلك ينتهي البحث في إفادة المعاطاة للملك اللازم، و يقع الكلام في التنبيهات.

______________________________

[1] لكنّ إشعار هذه الأخبار باعتبار الإنشاء القولي- فضلا عن ظهورها فيه- محل تأمل.

أمّا قوله عليه السّلام في رواية يحيى بن الحجاج: «و لا تواجبه البيع قبل أن تشتريها» فلأنّه لو كان المراد منه إيجاب البيع باللفظ كان مقتضى عطف «تشتريها» ب «أو» على «تستوجبها» إرادة الاشتراء معاطاة، فتكون الرواية من هذه الجهة دليلا على صحة المعاطاة، فلا دلالة و لا إشعار فيها على اعتبار اللفظ في اللزوم.

و عليه فما استظهره المصنف بقوله: «فإنّ الظاهر أن المراد من مواجبة البيع ليس مجرد إعطاء العين للمشتري» و إن كان صحيحا، إلّا أنّه غير مجد، ضرورة عدم دلالة مواجبة البيع على اعتبار اللفظ في انعقاده، لأنّ إيجاب البيع لا ينحصر عرفا باللفظ، فيمكن أن تكون هذه الرواية دليلا على صحة المعاطاة.

و أمّا قوله عليه السّلام في رواية العلاء: «فإذا جمع البيع جعله جملة واحدة» فلا إشعار فيه أيضا بعدم تحقق إيجاب البيع بغير اللفظ، لإمكان حصوله بالفعل، بأن يجمع رأس المال مع الربح، و يعطي المجموع في قبال المبيع. و لا يستفاد اعتبار جمعها في عبارة واحدة، فإذا كان رأس المال ثمانية و الربح اثنين وجب عليه الجمع بينهما بأن يقول: «بعتك المتاع الفلاني

ص: 609

______________________________

بعشرة دنانير» أو يعطي المجموع للمشتري.

نعم إذا كان المراد بالجملة ما اصطلح عليه النحاة- من الكلام المفيد لفائدة يصح السكوت عليه- كان دالّا على اعتبار اللفظ في إيجاب البيع، لكنه كما ترى.

و أمّا صحيحة ابن سنان فكذا لا دلالة فيها على المدعى، و لا إشعار به، لأنّ قوله عليه السّلام:

«توجبه على نفسك ثم تبيعه منه» لا يستفاد منه حصر الإيجاب المؤثّر في اللفظ.

فالحق أنّ هذه الروايات الثلاث مسوقة لبيان أحكام أخرى، و ليست ناظرة إلى توقف اللزوم على الإنشاء القولي.

و قد يستدل لاعتبار اللفظ في إيجاب البيع بالروايات الواردة في بيع المصحف كرواية سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن بيع المصاحف و شرائها، فقال: لا تشتر كتاب اللّه و لكن اشتر الحديد و الورق و الدفتين، و قل: اشتري منك هذا بكذا و كذا» «1».

تقريب الاستدلال بها هو: أنّ قوله عليه السّلام: «قل أشتري» ظاهر في الوجوب الوضعي، فلا يتحقق الشراء إلّا باللفظ، و بإلقاء خصوصية المورد يتعدى الى مطلق البيع، بل و سائر المعاملات، فيعتبر الكلام في إنشاء جميعها، هذا.

لكنك خبير بما فيه أوّلا: من عدم دلالة قوله عليه السّلام: «قل أشتري» على إرادة الإيجاب و إيقاع المعاملة، بل ظاهره أنّه في مقام المقاولة قبل البيع، من دون نظر إلى إنشاء البيع باللفظ أو المعاطاة.

و ثانيا: من أنّه لا بأس بالالتزام باعتبار إيقاع البيع باللفظ في مثل المورد من المجموع الذي يراد بيع بعضه، فإنّه لا بدّ من ذكر ما يقع عليه البيع، لتوقف ارتفاع الجهالة على ذكره، ففي مثله لا بأس بالالتزام بإيجاب البيع باللفظ. لكن اعتبار اللفظ فيه لا يدلّ على اعتباره في غيره من سائر الموارد كما هو مورد البحث.

إلّا أن يقال: إن الجهالة ترتفع بالمقاولة، و لا يتوقف ارتفاعها على إيقاع البيع باللفظ.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 114، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 2.

ص: 610

______________________________

و ثالثا: من أنّ الرواية ليست في مقام بيان اعتبار اللفظ في البيع و عدمه، بل في مقام بيان عدم جواز بيع نفس المصحف، و أنّ الجائز بيعه هو الحديد و نحوه، فقوله عليه السّلام: «قل اشتري منك نفس .. إلخ» كناية عن إيقاع البيع على الحديد و نحوه، لا أنّه يراد به وجوب التلفظ، فتأمّل.

و رابعا: من أنّه- بعد تسليم كونه في مقام إيجاب البيع بما ذكر في الرواية- لا يدل إلّا على اعتبار كون الإيجاب القولي على النحو المزبور، و ذلك لا ينفي إنشاء البيع بغير اللفظ، كما لا يخفى.

________________________________________

جزائرى، سيد محمد جعفر مروج، هدى الطالب في شرح المكاسب، 7 جلد، مؤسسة دار الكتاب، قم - ايران، اول، 1416 ه ق

ص: 611

ص: 612

صورة

ص: 613

صورة

ص: 614

صورة

ص: 615

صورة

ص: 616

صورة

ص: 617

صورة

ص: 618

صورة

ص: 619

صورة

ص: 620

صورة

ص: 621

صورة

ص: 622

صورة

ص: 623

صورة

ص: 624

صورة

ص: 625

صورة

ص: 626

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.